(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: كتاب الصلاة (1) فرض الصلاة
صباح السبت: 10 جمادى الآخرة 1445هـ
كتاب الصلاة
"قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "فرضت الصلاة على رسول الله ﷺ ليلة الإسراء خمسين صلاة وذلك قبل أن يهاجر رسول الله ﷺ بسنة، ثم نقصت حتى جعلت خمسًا ثم نودي: يا محمد إنه لا يبدل القول لدي وإن لك بهذه الخمس خمسين، وكانت الصلاة قبل ليلة الإسراء حين نسخ ما في سورة المزمل صلاتين فقط: صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة بعد غروبها".
وكانت عائشة -رضي الله عنها- إذا سُئلت عن أول فرض الصلاة تقول: إن الله تعالى افترض أوّلًا القيام المذكور أول سورة المزمل فقام ﷺ هو وأصحابه حولًا حتى انتفخت أقدامهم، ثم أنزل الله تعالى التخفيف المذكور آخر السورة بعد اثنى عشر شهرًا، فصار قيام الليل تطوعًا بعد فرضه، وكانت -رضي الله عنها- تقول أيضًا : فُرضت الصلاة ركعتين ركعتين بمكة ثم هاجر رسول الله ﷺ ففرضت أربعًا وتُركت صلاة السفر على الأول فكان ﷺ إذا سافر يصلي صلاته التي فرضت أولًا.
وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- وغيره من الصحابة يقولون : إنما فرضت الصلاة بمكة أربعًا لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- الآتي أول المواقيت: "أمَّني جبريل عند البيت مرتين فصلى بي الظهر أربعًا"، قال أنس -رضي الله عنه-: وكان رسول الله ﷺ يُعلم الأعراب الأهم فالأهم من أمر دينهم. "وجاء مرة ﷺ أعرابي فعلمه فرائض الإسلام فقال: هل علي غيرها؟ قال : لا إلا أن تطَّوَّع".
وقال وائلة بن الأسقع -رضي الله عنه-: "أتى رجل من أهل اليمن إلى رسول الله ﷺ وكان ذلك الرجل أكثف أحول أوقص أحنف أسحم أعسر أفحج ، فقال يا رسول الله: أخبرني بما فرض الله علي؟ فلما أخبره قال: إني أعاهد الله تعالى أن لا أزيد على فريضة؟ قال: ولِمَ ذلك؟ لأنه خلقني فشوَّه خلقي، ثم أدبر الرجل فنزل جبريل -عليه السلام- فقال: يا محمد أين العاتب؟ إنه عاتب رباً كريماً فأعتبه، قال قل له: ألا ترضى أن يبعثك ربك في صورة جبريل يوم القيامة؟ فبعث رسول الله ﷺ إلى الرجل فقال له: إنك عاتبت ربًا كريمًا فأعتبك أفلا ترضى أن يبعثك في صورة جبريل؟ قال: بلى يا رسول الله، قال الرجل: فإني أعاهد الله أن لا يقوى جسدي على شيء من مرضاة الله إلا عملته". وكان رسول الله ﷺ يعظم أمر الصلاة حتى كان يقول فيمن سئل في قتله من المنافقين: "لا تقتلوه فإني نُهيت عن قتل المصلين".
وكان ﷺ يقول: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة فمن تركها فقد کفر، ولا يحافظ على صلاة العشاء والفجر منافق".
وكان الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم أجمعين- لا يرون شيئًا تركه كفر غير الصلاة. وسيأتي في كتاب الصوم قوله ﷺ: "عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أُسِّسَ الإسلام من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم والمال: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان".
وكان ﷺ يقول: "من حافظ على الصلاة كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهاناً ولا نجاة، وكان مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف"، وفي رواية: "من ضيعهن فليس له عهد عند الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له". وكان ﷺ يقول: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة المكتوبة فإن أتمها وإلا قيل انظروا هل له من تطوّع فإن كان له تطوّع أكملت الفريضة من تطوعه ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك".
وكان ﷺ يقول: "خير أعمالكم الصلاة ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن"، وكان ﷺ يقول: "إن لله تعالى ملكًا ينادي عند كل صلاة: يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فاطفئوها". وكان ﷺ يقول: "إن كل صلاة تحط ما بين يديها من خطيئة"، وكان ﷺ يقول: "إذا قام العبد يصلي أُتِىَ بذنوبه كلها فوضعت على رأسه وعاتقيه فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه حتى ينصرف وليس عليه ذنب".
وكان ﷺ يقول: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم، وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون".
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلِّمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مكرمنا بشريعته الغراء وبيانها على لسانِ عبده وحبيبه سيدنا خير الورى محمد بن عبد الله صلى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار في سبيله سرًا وجهرًا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الراقين في الفضل والمجد والكرم أعلى الذُرى وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وابتدأ الشيخ -عليه رحمة الله- يذكر الأحاديث المتعلقة بالصلاة وفي كتاب الصلاة التي جاءت هي معناها في اللغة: الدعاء وصلى بمعنى: دعا فتكون الصلاة بمعنى الدعاء كما قال سبحانه لنبيه: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ…) [التوبة:103]. وهكذا قال ﷺ: "إذا دُعِيَ أحدكم.." يعني: إلى وليمة أو طعام "فليجب، فإن كان صائمًا فليصلِّ وإن كان مفطرًا فليَطعم" هذا في صحيح مسلم.
ما معنى فليصلِّ؟إن كان صائمًا فليصلِّ يعني: يدعو لأرباب الطعام؛ فليس من الواجب أن يأكل ولكن الواجب أن يلبي الدعوة ويحضر إلى عندهم ثم يدعو لهم ويستأذنهم وينصرف.
وقال الشافعي: إن كان صائمًا صوم نفلٍ وأراد أهل الضيافة والدعوة أن يأكل من طعامهم؛ فتنجبر بذلك خواطرهم ففطره من صوم النفل أفضل.
فالصلاة بالنسبة لوضع الشرع: هي أقوال وأفعال مفتتحة بالتكريم مختتمة بالتسليم مع النية بشرائط مخصوصة، فهذه الأفعال المعلومة التي تُلقيت عنه ﷺ من قيام وركوع وسجود يُطلقُ عليها: الصلاة.
والصلاة ذات مكانةٍ ومنزلةٍ لدى الرَّحمن -جلَّ جلاله- فهي آكد الفروض بعد الشهادتين وهي أفضل الأعمال، فرضها أفضل الفروض ونفلها أفضل النوافل، تعبَّدَ الله بها ملائكته في السماوات وتعبد بها أنبياءه ورسله وأتباعهم فكانت الصلاة معلومة بينهم؛ قبل فرض الصلوات الخمس قد صلّى ﷺ في ليلة الإسراء المعراج قبل فرضها بالأنبياء في بيت المقدس، وقد كان يأتي إلى عند الكعبة ويصلي ﷺ؛ فأصل الصلاة كان معروفًا في الشرائع كلها، ثم فُرِضت الصلوات الخمس في اليوم والليلة بأوقاتها وأركانها وشروطها على هذا النحو، فكانت واجب هؤلاء المؤمنين أن يؤدوها على الوجه الذي يرضيه -جلَّ جلاله- من إقامتها.
وقال الإمام الغزالي: أنه لم يعبِّر بصلُّوا ولكن أقيموا الصلاة، وأقمِ الصلاة؛ ويقيم الصلاة؛ لأن إقامة شيء غير مجرد فعله وإنما إقامته: أداؤه على التمام وعلى الكمال وعلى ما يليق وينبغي به، فكم من مصلٍ ليس مُقيمًا للصلاة؛ هو يصلي ولكن ما يقيم الصلاة؛ يصلي ويغفل،؛ يصلي ويهمل؛ يصلي ويترك واجبات؛ يصلي ويفعل مبطلات؛ هذا غير مقيم للصلاة وإن كان مصلي فليس كل مصلٍ مقيم للصلاة. والواجب علينا إقام الصلاة يعني: أداءها بشروطها وأركانها وتجنب مبطلاتها على الوجه الذي يليق.
يقول: "قال ابن عباس -رضي الله عنه-: فرضت الصلاة على رسول الله ﷺ ليلة الإسراء.." وذلك في السنة الحادية عشر من البعثة قبل هجرته ﷺ بسنة وأشهر، بعد وفاة السيدة خديجة وأبو طالب؛ وبعد خروجه إلى الطائف يطلب النُّصرة لدين الله ومن يمنعه؛ ليبلغ شريعة الله فردوا عليه ورموه بالحجارةﷺ.
ثم جاءت كرامة الإسراء والمعراج (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء:1]، خلَّص الله بيت المقدس من سلطة المعتدين والفاسدين والظالمين.
يقول: "ليلة الإسراء خمسين صلاة، وذلك قبل أن يهاجر ﷺ بسنة.." أي: وأشهر "ثم نقصت،.." أي: من حيث العدد "حتى ُجعلت خمسًا ثم نودي يا محمد إنه لا يبدل القول لدي؛ وإن لك بهذه الخمس خمسين" هنَّ خمسٌ ولهنَّ أجر الخمسين.
قال: "وكانت الصلاة قبل ليلة الإسراء حين نُسِخَ ما في سورة المزمِّل صلاتين فقط: صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة بعد غروبها".
"وكانت عاشة -رضي الله عنها- إذا سُئلت عن أول فرض صلاة تقول: الله تعالى افترض أول القيام المذكورة أول سورة المزمِّل.."؛ وفي هذا نظر هل سورة المزمِّل مدنية أو مكية؟ وفُرِضَ القيام مدة سنة وهذا لا يكون إلا بعد هجرته ﷺ، ثم نُسخ ذلك بقوله تعالى:(…فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ…) [المُزمّل:20] وبقي فرضًا في حقه ﷺ عند الأكثرين؛ أي: أنه بقي فرضًا عليه ﷺ، وهو على أمتهِ سُنَّة له مكانته عند الله -تبارك وتعالى-.
كما عظمت مكانة الصلاة: حتى لم يقل أحد من الصحابة ولا من بعدهم بكفر تارك عبادة وعمل وفرض إلا الصلاة.
ففيهم من قال:
قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون:4-5]؛ يؤخرون الصلاة عن وقتها فلهم الويل؛ بتأخير الصلاة فكيف بتركها من أصلها؟!! مجرد تأخيرها عن وقتها يتعرض الإنسان للويل وهو: كلمة تهديدٍ وردعٍ وزجر، وقيل أن ويل: اسم وادٍ أيضًا في النار لو سُيِّرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حره، ومسكن المتهاونين بالصلاة؛ المتهاونين:الذين يؤخرونها عن وقتها، فما أعظم فريضة الصلاة.
وسماها ﷺ عمود الدين فقال: "رأسُ الأمرِ الإسلام، وعمودُه الصَّلاةُ، وذِروةُ سَنامِهِ الجِهادُ.." في سبيل الله، وقال ﷺ: "أنَّ أول ما يحاسب بهِ العبدُ يومَ القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر" كما رواه الترمذي بسندٍ حسن.
وكانت آخر وصية نبينا ﷺ لأمته عند وفاته "الصلاة"، فيقول: "الصَّلاةَ وما ملَكَت أيمانُكم، الصَّلاةَ وما مَلَكت أيمانُكم"، فكان آخر ما وصَّى به عند موته ﷺ.
والصلاة آخر ما يُفقد من الدين ويضيع، الصلاة، "لَتُنتَقَضَنَّ عُرى الإسلامِ عُروةً عُروةً،…فأَوَّلُهنَّ نَقضًا الحُكمُ، وآخِرُهنَّ الصَّلاةُ". ما عاد يبقى إلا هي؛ فإذا انتهت انتهى الدين كله، فهي من الإسلام بمنزلة الرأس من الجسد،
فهي من الإسلام ** كالرأس للأجسام
وهل ترى في الناس** حيًا بغير رأس
لا اله الا الله!
فاقتل لتاركيها ** واحكم لمنكريها
بالكفر والعصيانِ ** والنار والهوانِ
-والعياذ بالله تعالى- أعاذنا الله من كل سوء، ورزقنا وأهلينا وولدنا إقامَ الصلاة، قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ) [ طه:132].
وهي العبادة التي لا تسقط على المسلم ما دام عقله فيه، ولا يجوز تركها لمن عقل إن قدر قائمًا وإلا فقاعد وإلا فمضطجع وإلا فمستلقيًا، ويؤدي الأركان ولو بالإشارة برأسه أو بعينيه، وما دام عاقل فالصلاة فريضة لازمة عليه.
وكان هذا بداية فرضها كما قرأنا وَوُقِّتَتْ لها الأوقات قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) [النساء:103]، قال جلّ جلاله.:( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ…) [هود:114].
طرفي النهار: صلاة الفجر في الطرف الأول؛ وفي الطرف الثاني يؤدى صلاة الظهر والعصر.
وزلفًا من الليل: يأتي المغرب والعشاء.
(أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ…) [الإسراء:78].
من معاني دلوك الشمس: زوالها؛ زوال الشمس، فيأتي الظهر والعصر إلى غسق الليل: يأتي المغرب والعشاء، وقرآن الفجر: تأتي صلاة الفجر. قال ﷺ: "اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وحجوا بيتكم وأدوا زكاة أموالكم طيبةً بها أنفسكم تدخلوا جنة ربكم".
وقال ﷺ: "إني نُهيتُ عن قتل المصلين"، "والعهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" وقال: "مَن صلى صلاتَنا ، واسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنا ، وأكل ذبيحتَنا ، فذَاكُمُ المسلمُ له ذِمَّةُ اللهِ ، وذِمَّةُ رسولِه ، فلا تُخْفِرُوا اللهَ في ذِمَّتِه" كما جاء في البخاري وغيره.
"قال: ثم أنزل الله تعالى التخفيف.." فإنه لما فُرِضَ عليهم قيام الليل نصفه أو يزيد؛ خافوا أن ينقصوا عن النصف، فصاروا يحتاطون فيقومون كل الليل حتى انتفخت أقدامهم، ثم خفّف الله عليهم وقال: (عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل:20].
قال: "فصار قيام الليل تطوعًا بعد فرضه، وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول أيضًا : "فُرضت الصلاة ركعتين ركعتين بمكة ثم هاجر رسول الله ﷺ ففرضت أربعًا .." وهذا أيضا فيه خلاف بين أهل العلم: هل فُرِضَت الصلاة أربعا؟ الظهر والعصر والعشاء؟ ثم خُفِّفَت للمسافر أو فُرِضَت ركعتين؟ ثم أُقِرّت للمسافر وزِيدَ في الحضَر؟
على قول عائشة أنه: عند الهجرة صارت الظهر أربع والعصر أربع والعشاء أربع، وأُقِرَّت الركعتين في السفر.
وقال الجمهور: بل فُرِضَت الظهر أربعا والعصر أربعا، ثم رُخِّصَ للمسافر أن يصليها ركعتين ركعتين.
وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- وغيره من الصحابة يقولون : إنما فرضت الصلاة بمكة أربعًا.." وهذا رأي الجمهور ، ثم خُفِّفت على المسافر "..لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- الآتي أول المواقيت: "أمَّني جبريل عند البيت مرتين فصلى بي الظهر أربعًا،.." أوّل ما فُرِضَت الصلاة.
ولمَّا علَّم ﷺ الأعرابي الفرائض "..قال أنس -رضي الله عنه-: وكان رسول الله ﷺ يُعلم الأعراب الأهم فالأهم من أمر دينهم" -يقول سيدنا أنس- "وجاء مرة ﷺ أعرابي فعلمه فرائض الإسلام فقال: هل علي غيرها؟ قال : لا إلا أن تطَّوَّع". وهذا الدليل أنه لا يُفرَض شيء غير الصلوات الخمس؛ بحكم الشرع. إلّا مَن نَذَر شيئا صار فرضا عليه من النوافل. وقال الحنفية: وواجب مع الفرائض الخمس: صلاة الوتر، فهي عندهم واجبة يأثم مَن طلع عليه الفجر ولم يصلِّ الوتر، وعليه أن يقضيه. فينبغي الاعتناء بالوتر والمحافظة عليها، ومن خاف أن لا يستيقظ من الليل فليصلِّ أول الليل صلاة الوتر، وقد وصّى ﷺ بعض أصحابه أن يوتِرَ قبل أن ينام.
وذكر حديث وائل بن الأسقع، وهذا الحديث فيه راوى شديد الضعف، وقال الحافظ أنه منكر الحديث؛ أنه رجل وفي بعض الروايات أنه كان من اليمن "وكان ذلك الرجل أكثف أحول أوقص أحنف أسحم أعسر أفحج.." مُشَوَّه الخِلْقَة "..فقال يا رسول الله: أخبرني بما فرض الله علي؟ فلما أخبره قال: إني أعاهد الله تعالى أن لا أزيد على فريضة؟" ولا عاد بأطوّع بشيء "..قال : ولِمَ ذلك؟ لأنه خلقني فشوَّه خلقي، ثم أدبر الرجل فنزل جبريل -عليه السلام- فقال: يا محمد أين العاتب؟ إنه عاتب رباً كريماً فأعتبه.." أي: سَمِعَ منه وقَبِل، قال: "فأعتبه" أي: رَحِمَه، وبشّره: "ألا ترضى أن يبعثك ربك في صورة جبريل يوم القيامة؟ فبعث رسول الله ﷺ إلى الرجل فقال له: إنك عاتبت ربًا كريمًا فأعتبك أفلا ترضى أن يبعثك في صورة جبريل؟ قال: بلى يا رسول الله، قال الرجل : فإني أعاهد الله أن لا يقوى جسدي على شيء من مرضاة الله إلا عملته". ولله حكمة في كل خلق وتصوير، وتقديم وتأخير، وتعيين وتقدير؛ فيجب على العباد أن يعلموا عَظَمَة المعبود المُوجِد، وأن يبذلوا وسعهم في طاعته، وهذا الحديث كما سمعنا شديد الضعف، وقال الحافظ بن حجر أنه منكر.
"وكان رسول الله ﷺ يعظم أمر الصلاة، حتى كان يقول فيمن سئل في قتله من المنافقين:.." أي لمَّا عرضوا عليه يقتلوا بعض المنافقين "..لا تقتلوه فإني نُهيت عن قتل المصلين. وكان ﷺ يقول:بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة فمن تركها فقد کفر، ولا يحافظ على صلاة العشاء والفجر.." يعني في الجماعة "..منافق"، فهي أثقل صلاة على المنافقين؛ صلاة العشاء في جماعة وصلاة الفجر في جماعة.
قال: "وسيأتي في كتاب الصوم قوله ﷺ : "عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أُسِّسَ الإسلام من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم والمال : شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، -أي: المفروضة- وصوم رمضان".
وكان ﷺ يقول: "من حافظ على الصلاة كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة،.." وفيه أنَّ المراد بالعهد في قوله: (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا) [مريم:87]، أداء الصلوات الخمس (لَّا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا) [مريم:87]، قال: "ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهاناً ولا نجاة، وكان مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف" وفي رواية: "من ضيعهن فليس له عهد عند الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. وكان ﷺ يقول: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة المكتوبة فإن أتمها وإلا قيل انظروا هل له من تطوّع.." وهذا من فضل الله ورحمته؛ يَجبُر الفرائض بالنوافل "..فإن كان له تطوّع أُكمِلَت الفريضة من تطوعه ثم يُفعَلُ بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك"، فنوافل الصدقات تُكَفِّر التقصير في الزكاة، ونوافل الصوم تكفر التقصير في الفرض الصوم في صوم رمضان، وهكذا كل نافلة تُكَفِّر التقصير في الفرض.
قال: وكان ﷺ يقول: "خير أعمالكم الصلاة ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن"، أي: يُدِيم الوضوء كلما أَحْدَث توضّأ، هذا لا يَقْوَى المنافق عليه، فيحافظ على الوضوء إلا مؤمن، "..وكان ﷺ يقول : "إن لله تعالى ملكًا ينادي عند كل صلاة: يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها.." يعني الذنوب "..فأطفئوها" أي: بالصلاة.
وكذلك جاء موقوفا عن سيدنا أبي بكر: "إذا حضرت الصلاة قال: قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها" "..وكان ﷺ يقول: "إن كل صلاة تحط ما بين يديها من خطيئة" كما قال: "الصلاة إلى الصلاة والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بينهنّ إذا اُجتِنَبَت الكبائر"، وكان ﷺ يقول: "إذا قام العبد يصلي أُتِىَ بذنوبه كلها فوضعت على رأسه وعاتقيه فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه حتى ينصرف وليس عليه ذنب".
وذكر تعاقب الملائكة فينا، واجتماعهم في صلاة الفجر وصلاة العصر، فإذا طلع ملائكة الليل في وقت الفجر يسألهم الله؟ "...فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون". يعني: حضرنا معهم صلاة العصر وتركناهم في صلاة الفجر، ثم تقول ملائكة النهار: "أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون". يعني حضرنا معهم صلاة الفجر وتركناهم في صلاة العصر. فمن لم يحضر في الصلاتين فماذا يقال عنه؟! ليس من الذين أتوهم وهم يُصلّون! ولا تركهم وهم يصلون!
رزقنا الله تعظيم الصلاة، واتباع حبيبه ومصطفاه، وأحيا فينا نور الصلاة، وسر الصلاة، وبركة الصلاة، وعظمة الصلاة، وآداب الصلاة، وحقَّقنا بحقائق الحضور معه فيها، وجعلنا في المفلحين (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون:2]، بوجاهة الأمين المأمون.
وأعلى درجات المُنتقل إلى رحمة الله في إندونيسيا: عارف الرحمن بن سليمان يغفر له ويرحمه، ويتجاوز عنه ويجعل قبره روضة من رياض الجنة، ويجعل له من عذابه وقاية وَجُنَّة، ويجمعنا وأحبابنا في دار الكرامة ومستقر الرحمة، من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب، ويرحم موتانا وأحيانا بالرحمة الوسيعة، ويرفعنا وإياهم مراتب القرب الرفيعة، ويختم لنا بالحسنى وهو راض عَنَّا..
بسرّ الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه
الفاتحة
12 جمادى الآخر 1445