(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: خطبة الكتاب + باب كيف كان بدء الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
- الإمام الشعراني وحديثه عن أحكام الشريعة
- توضيح ما يتعلق بالمذاهب واجتهاد الأتباع
- سبب بدء الكتاب في باب بدء الوحي
- الوحي للأنبياء، وهل يكون لغيرهم
- من خصائص وحي الله لنبيه محمد ﷺ
- كيف يظهر جبريل بين الناس
- مجيء الوحي بعدة طرق أشدها صلصلة الجرس
- ما هي أجزاء النبوة؟
- قصة غار حراء وأول نزول القرآن
- معنى قوله ﷺ: لقد خشيت على نفسي
- موقف ورقة ابن نوفل مع النبي
الحمدالله مكرمنا بالشريعة الغراء، وبيانها الكامل التام النقي الواضح على لسان خير الورى، عبده المصطفى سيدنا محمد صلى الله وسلم، وبارك وكرّم عليه وعلى آله في كل لمحة ونفسٍ عدد ما وسعه علمه وأحاط بعلمه، وعلى آله وأهل بيته من حُبُوا بهِ طهرًا، وعلى أصحابه من رفع الله لهم بهِ قدرًا، وعلى من والاه واتبعه بإحسانٍ سراً وجهرً، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم منه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.
وبعدُ: فنبتدئ في كتاب كشف الغمة عن جميع الأمة لسيدنا الإمام الشعراني عليه رحمة الله - تبارك وتعالى-، وهو الذي توسعت آفاق نفعه للأمة؛ بعد أن رسخت قدمه في العلوم والمعارف وبالمواهب؛ سيدي عبد الوهاب بن علي الشعراني؛ أعلى الله درجاته وجمعنا به في أعلى جناته.
حتى اشتهر عند كثير من صالحي الأمة، يقول: إن الإمام الغزالي غزل الشريعة المطهرة والإمام الشعراني نسجها؛ وذلك لما أجرى الله على يده من تبيان لكثير من الحقائق؛ وكثير من الدقائق؛ فيما يتعلق بأحكام الشريعة المطهرة الغراء، التي أصلها وأساسها كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ثم الإجماع والقياس، وهذه الشريعة في عظمتها تحدَّث عليه رحمة الله في المقدمة عن عظمة الشريعة وعن ميزان في الشرع المصون، وعن أن أتباع المجتهدين من الأئمة خالفوا هديَ الأئمة في أخذهم لهذه الإجتهادات، سنبين ذلك بعض البيان؛ لأنه أسهب عليه رحمة الله تعالى، وبسط القول في هذا، فنأتي بخلاصته، فنقرأ الخطبة لكتابه أولها ونذكر الخلاصة؛ ثم نبتدأ قراءتنا له وشرحنا من أول كتاب فيه، وهو كيف كان بدء الوحي لرسول الله ﷺ.
فهو في المقدمة يقول: بسم الله الرحمن الرحيم "الحمد لله الذي جعل الشريعة المطهرة بحرًا يتفجر منه جميع بحار العلوم والخلجان،" جمع (خليج)، "وأجرى جداوله على أرض القلوب حتى روى منها قلب القاسي والدان، ومنّ على من شاء من عباده المختصين بالإشراف على ينبوع الشريعة لجمع أخبارها وآثارها المنتشرة في البلدان، حتى شهدها بعد جمع أحاديثها في قلبه جاءت شريعةً واسعة جامعة لمراتب الإسلام والإيمان والإحسان، لا حرج فيها ولا ضيق على أحدٍ من المسلمين، ومن شهد ذلك" أي: شهد الحرج والضيق "فشهوده تنطُّعٌ وبهتان فإن الله تعالى يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] ومن ادّعى الحرج في الدين فقد كذّب القرآن، فإذًا الشريعة كالشجرة العظيمة المنتشرة وأقوال علمائها كالفروع والأغصان، وكل من شهد تناقضًا في أخبارها أو خطأً في أقوال علمائها فإنما هو لقصوره عن درجة العرفان. فإن الشريعة قد جاءت على مرتبتين تخفيف وتشديد ولكل منهما رجال لا على مرتبة واحدة كما سيأتي إيضاحه في الميزان، ومن عسر عليه الجمع بين حديثين منها أو قولين من أقوال علمائها فليجعل المائل للاحتياط منهما في مرتبة الأولية والمائل إلى الرخصة في مرتبة خلاف الأولى يطلع على ما قلناه من الفرقان."
قال: "أحمده -سبحانه وتعالى- حمد من كرع من بحر الشريعة حتى شبع وروا منه الجسم والجنان، وأشكره شكر من علم كمال شريعة" عبده سيدنا "محمد ﷺ فوقف عند ما صرحت به ولم يزد عليها شيئا من طريق الكشف والاستحسان، فإن هذين الطريقين" أي؛ طريق الكشف والاستحسان "لو رُخِّصَ في العمل بما نتج منهما فلا عصمة فيه ولا آمان" أي: ولو كان مرخَّص في العمل بهما من جهة شرع الاجتهاد، وجعل الأجر للمجتهد الذي أخطأ، والأجران للمجتهد الذي أصاب، ولكن "لا عصمة فيه ولا آمان" العصمة في النص؛ في ما قال الله وقال رسوله قال: "وأسلم إليه تسليم من رزقه الله عز وجل حسن الظن بالأئمة ومقلديهم، وأقام لجميع أقولهم الدليل والبرهان فجازاهُ الله عز وجل بذلك الرضا عنه في الدنيا والآخرة وبوّأهُ ما شاء من غرف الجنان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من علم أن الله تعالى أعلم بمصالحه من نفسه" أي: أعلم بمصالح العبد، العبد يعلم أن الله أعلم بمصالحه؛ بمصالح ذلك العبد؛ الله أعلم به من نفس ذلك العبد. "وأنه تعالى ما سكت عن أي شيء إلا رحمة بخلقه لا لذهول ولا نسيان. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله وحبيبه وخليله الذي فضله على كافة خلقه وجعل إجماع أمته ملحقًا في العمل بالسنة والقرآن" لأن القرآن والسنة أثبتا حُجِّيَة الإجماع كما أثبتت حُجِّيَة القياس. "اللهم فصلِّ وسلِّم على سيدنا محمد وعلى جميع إخوانه من النبيين وآلهم وأصحابهم والتابعين لهم بإحسان."
فهذه الخطبة ثم ذكر في المقدمة شيئين وأمرين عظيمين، الأمر الأول أنه حصل له مُساءلة من كثير من المتوجهين إلى الله -تبارك وتعالى- ومن أهل السير إلى الحق، ومن أهل الإرادة للعمل بالشريعة وتطبيقها، أنهم وقعوا في تشويش بما سمعوا من المنتسبين إلى فقه علم الشريعة؛ أن كل منهم ينصر القول الذي ذهب إليه إمامه ومذهبه ويردُّ على الآخرين، فأحدث عندهم تشويشًا، ويريدون ما جاء عن الله وعن رسوله ﷺ، فحدثهم أن اعتقادنا معاشرَ أهل السنة والجماعة المؤمنين "أن جميع أقوال المجتهدين التي استنبطوها مأخوذة من شعاع نور الشريعة ومتفرعة عنها". وضرب لهم في ذلك أمثال، وقال: علمنا هذا، ولكن واقعنا الآن نحن محتاجون إلى شيء من الخلاصة والبصيرة في المشي في أمرنا، فجمع لهم في كل باب من أبواب الفقه ما استدل به الأئمة من الأحاديث الواردة عنه عليه الصلاة والسلام، ليكون لهم نورًا وبصيرة وبيِّنَة، ثم الأمر الثاني الذي ذكر في ذلك أو في ضمن ذلك وفي ما يشير إليه ما ذكره؛ أن أتباع هؤلاء الأئمة هم الذين غاب عن وعيهم حقيقة اجتهاد الأئمة، وكيف استنبطوا؟ أن الحق سبحانه وتعالى هيَّأَ من يأخذ عنهم اجتهاداتهم في مختلف المسائل حتى ضُبِطَتْ وَأُدِّيَتْ ولم يكونُوا عليهم رضوان الله -تبارك وتعالى- إلا محلَّ اتباع واقتداء واهتدى ومرجعٍ إلى أصلٍ واحد، وكانوا فيما ينتهون إليه من الاجتهادات؛ وبعضهم يقعُ في الاجتهاد فيما يتعلق بالعزيمة؛ وبعضهم فيما يتعلق بالرخصة في الشريعة المطهرة؛ فكان المجموع هو مجموع إشارة الشارع، ودلالة الشارع، وكلام الشارع، لا واحد منهم، لكن مجموعهم؛ جمعوا إشارة الشارع ﷺ فيما بلَّغَهُ عن الله، وكانوا على أدبٍ وافر فيما بينهم البين، وتعظيمًا لبعضهم البعض، ولم يكونوا يتعمدون الرد على بعضهم البعض، ولا يخالفونه؛ ولا يدّعي أحد منهم أن ما وصل إليه باجتهاده، وهو أهل الاجتهاد الصحيح الثابت المدعم بالأدلة أنه يردُّ اجتهاد الآخر ولا ينقص من قدره، ولا يجعل اجتهاد الآخر باطلاً، فما كان عندهم شيء من هذا أصلا؛ كما هو حال الصحابة والتابعين عليهم الرضوان.
وقد كانت الفتاوى بين القليل من الصحابة، ولم يشتغل بالفتوى منهم إلا القليل مختلفة من واحد لآخر، ولم يحدث ذلك خلافًا، ولا يحدث ذلك شقاقًا ولا نزاعًا، ولا ردًا من بعضهم على بعض ولا طعنًا لبعضهم على بعض، بل كما كان الحال في حياته ﷺ، ويفهم قول لطائفة من الصحابة بمعنى، ويفهم للآخرين بمعنى آخر، وكان يُقِرُّ الجميع، ولا يعنِّف أحد، ومن تبَيَّن خطأه بيَّنَهُ له ﷺ، كالمشهور من صلاتهم العصر، عندما أمر المنادي أن ينادي:" ألا لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة"، فلما أدركت الصحابة، الذين كل من سمع النداء منهم خرج؛ أدركتهم وقت صلاة العصر، فقالوا: إن نحن لم نصلي إلا في بني قريظة خرجَ وقت العصر ودخل المغرب، ونكون أخَّرنا الصلاة عن وقتها، وليس مراد نبينا إلا أننا نسرع بالخروج، فنصلِّي ونلحقه، قالت طائفة أخرى منهم: بل قال لنا لا تصلوا إلا في بني قريظة، فما نصلي..، دخل الوقت ما دخل، خرج ما خرج، ما لنا دخل، نحنُ نتَّبِع أمره، فطائفة منهم صلُّوا في الطريق، وطائفة أخَّروا حتى وصلوا لبني قريظة وصلَّوا، وعرض الأمر على النبي فلم يُعَنِّف أحد، ولم يعاتب أحد، ولم يخطِّأْ أحدًا منهم، ما منهم أحد كان بهواه ولا بشهوته قال ولكن كل منهم اجتهد في تطبيق النص، في العمل بالنص، فهذا فهم منه كذا، وهذا فهم منه كذا، وكلهم حاولوا فهم مراد رسول الله ﷺ في هذا.
فعلى هذا مضى حال الأئمة عليهم رضوان الله -تبارك وتعالى-، ومعروف في سيرهم وتاريخهم أدبهم لبعضهم البعض، وأخذهم عن بعضهم البعض، فحصل عند الأتباع بعد ذلك خروج عن هذا المسلك، وصار كلٌّ يحب أن يدعم ما انتهى إليه سواء إمام مذهبه أو من خلفه من بعده من أصحابه، ومن أتباعهم والوجهاء فيهم والعلماء، وأن يجعلوا هذا القول هو القول الوحيد أو المؤيد أو الأكثر، ويردون على الآخرين، فكان هذا المسلك فيه انحراف عن مسلك الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان عليهم رضوان الله -تبارك وتعالى-. وهذا الذي بسببه تشوشوا السالكين في عصر الإمام الشعراني، وجاءوا وقالوا: (كلما جلسنا عند..) وقال لهم: اجلسوا عند ذا وعند ذا وعند ذا، قالوا: جلسنا، وكلما نجلس عند واحد يحمّل الرد على الآخرين، وما عاد درينا - ما علمنا - أين الأمر؟! فاحتاج لجمع هذا الكتاب. الأمر الثاني الذي ذكره ذكر الميزان، والميزان أن الشريعة بعمومها جاءت من الله على يد رسوله فيها عزيمة ورخصة، فيها حكمٌ للأقوياء القادرين، وفيها حكمٌ للضعفاء، سواء ضعفاء البنية، وضعفاء القدرات المختلفة، وضعفاء العزيمة والإيمان، فجاءت جميع أقوال المجتهدين الإجتهاد الصحيح ترجع إما إلى العزيمة وإلى الرخصة، إما إلى التشديد على القوي القادر، أو إلى التخفيف على الضعيف العاجز.
وهذا هو الذي يؤول الأمر إليه، فيكون من اشترط في أي عبادة أو في أي معاملة من المعاملات شرطًا باجتهاد؛ أن يكون هذا الشرط محل للعزيمة، إذا كان غيره لم يقل بهذا الشرط من المجتهدين، فيكون الذي لم يقل بهذا الشرط محل للرخصة، فيكون الأولى وللقادرين على توفير هذا الشرط أن يقوموا بهذا الشرط، والذي يصعب عليهم، ويحرج عليهم القيام به ويضعفون عنه، فيكفيهم الأخذ بالثانية الذي هو كخلاف الأولى، ولكنه اللائق بحقِّ الضعيف وبحقِّ العاجز وما إلى ذلك. فيتبين بذلك أن المذاهب الصحيحة المعتبرة كلها وجهٌ واحد لشريعةٍ واحدة، ولأصلٍ واحد، ولما جاء عنه عليه الصلاة والسلام. وعلى هذا كانوا يقررون ويقولون: والشافعي ومالك والنعمان، وأحمد بن حنبل وابن سفيان وغيرهم من سائر الأئمة على هدًى، والاختلاف بينهم رحمة، أي: يُبَيِّن رحمة الله في سعة هذه الشريعة؛ لتحملَ الضعيف والقوي، وتسع الكل، وتسع الكل. فذكر هذا الميزان والذي ألف بعد ذلك فيه كتابًا خاصًا سمَّاهُ الميزان الكبرى، ورتَّبَ فيه تفصيل المسائل في كل باب، ورجوعها اجتهاد الأئمة إلى مرتبتي الميزان، ما بين تشديد وهو الذي يقال له العزيمة، وما بين تخفيفٍ وهو الذي يقال له الرخصة، وأن هذا للأقوياء، وأن هذا للضعفاء، ولا يخاطب الضعفاء بخطاب الأقوياء، ولا يجوز للقويِّ أن ينزل من غير عذرٍ ولا حاجة إلى خطاب الضعفاء، ويكون الخطاب شامل كامل وكلُّه للجميع، وكلٌّ يقوم بحقِّهِ وواجبِه.
هذا خلاصة ما ذكره في هذه المقدمة الطويلة، ثم ابتدأ الكتاب بذكر كيف كان بدء الوحي:
بسم الله الرحمن الرحيم وبسندكم المتصل إلى الإمام الشعراني من كتاب كشف الغمة عن جميع الأمة، قال رضي الله عنكم:
"باب كيف كان بدء الوحي على رسول الله ﷺ"
"كانت عائشة رضي الله عنها تقول سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ما رأيت جبريل في الصورة التي خلق فيها غير مرتين، رأيته منهبطا من السماء سادًا عظم خلقه ما بين السماء والأرض، وما أتاني في صورة إلا وأنا أعرفه فيها، إلا حين أتاني وسألني عن الإسلام والإيمان والإحسان". قال أنس رضي الله عنه: وكان رسول الله ﷺ إذا كان في انتظار الوحي ربما قال لعائشة: "أصلحي لنا المجلس فإن جبريل نازل الساعة إن شاء الله تعالى". وقال ﷺ لأم سلمة مرة: "أصلحي لنا المجلس فإنه ينزل ملكٌ إلى الأرض لم ينزل إليها قط". وكان أبو رافع رضي الله عنه يقول: "كان جبريل عليه السلام إذا أتى النبي ﷺ يقف على الباب ثم يستأذن رسول الله ﷺ، فكان رسول الله ﷺ إذا سمعه عرف صوته فيخرج مهرولًا فيأخذه ويدخل به البيت، وربما يقف معه على الباب حتى ينقضي الوحي ولم يدخل". وكنا نظن أن جبريل من بعض الرجال والوافدين على رسول الله ﷺ حتى كان يخبرنا عنه ويقول: "إنه جبريل فلو سلمتم عليه لرد عليكم السلام"، وقالت عائشة رضي الله عنها: "سأل الحارث بن هشام رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله ﷺ: أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدُّهُ علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا فيكلمني فأعي ما يقول. قالت ولقد رأيته ﷺ ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا".
وكانت رضي الله عنها تقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "الرؤيا الصادقة جزء من ست وأربعين جزء من النبوة". قال شيخنا رضي الله عنه: يعني من نبوته ﷺ لكونه كان يرى الرؤيا الصادقة قبل بعثته مدة ستة أشهر، ونسبتها إلى مدة الوحي الذي هو ثلاث وعشرون جزءا من ستةٍ وأربعين فافهم، ولو قدر أن تكون مدة الوحي ثلاثين سنة مثلًا لقال جزء من ستين جزءًا من النبوة وهكذا. وكانت رضي الله عنها تقول: "أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق صبح ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه، وهو التعبد، الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق:1-3] فرجع بها رسول الله ﷺ يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوع فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت: خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبدًا إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة ابن نوفل بن أسد بن عبد العزى وكان ابن عم خديجة، وكان امرءًا تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله ﷺ خبر ما رأى فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّله الله على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول اللهﷺ:أو مخرجيَّ هم؟ قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفترَ الوحي.
قال رسول الله ﷺ وهو يحدث عن فترة الوحي: "بينما أنا أمشي إذا سمعت صوتًا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرُعبت منه فرجعت فقلت: زملوني زملوني فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:1-5] فحَمِيَ الوحي وتتابع" ."
ابتدأ الشيخ -عليه رحمة الله- كلامه بكيف كان بدء الوحي على رسول الله؟ ثم ذكر كتاب الإيمان، ثم ذكر أبواب الفقه في الشريعة، وعرَّجَ على ذكر بعض الأخلاق. وهو في هذه البداية اتبع اختيار الإمام البخاري -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- في صحيحه وابتدأ بكيف كان بدء الوحي؛ لأن الإيمان كله مرتب على هذا الوحي، ومجيء هذا الوحي، وكما يترتب على الإيمان العمل بعد ذلك بجميع الأحكام وبجميع الأبواب، فكان الأصل في الإيمان الوحي المنزل على الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-، والوحي: الإعلام في خفاء، ويطلق على معاني كثيرة، فالمعنى الذي يختص بالأنبياء: التنزيل من الله تبارك وتعالى وبواسطة الملك، أو بواسطة الكلام من وراء حجاب، أو بواسطة إلقاء النفث في الرّوع ، هذا فيما يتعلق بالتشريع، التشريع: التحليل والتحريم والإيجاب والنهي؛ هذا مخصوص بالأنبياء هذا الوحي، ما يكون إلا على الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم-، وأمَّا عموم الوحي وهو يرجع إلى معنى: الإعلام في خفاء؛ فيأتي منه الإلهام؛ وهذا يمتد فيكون على وجه خاص بالنسبة للعقلاء من بني آدم، كما يقول تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [سورة القصص:7].
هذه أمور غرائب وعجائب وفيها إطلاق ما فيها تحريم شيء ولا نهي عن شيء، ما في شريعة فيها، ولكن فيها أخبار عجيبة غريبة وحكم إلى يوحانذ أم سيدنا موسى، سيدتنا يوحانذ -عليها رضوان الله تبارك وتعالى- أوحى الله تعالى إليها بهذه الأخبار؛ {أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ..} في البحر، {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} وسيكون رسول، فهذا الوحي الذي فيه إنباء عن أشياء ستكون وحوادث ستكون وشؤون تتعلق بمسار الحياة من دون تشريع يحصل لغير الأنبياء صلوات الله وسلامه كما هو النص الذي قرأناه في كتاب الله جل جلاله وتعالى في علاه. وأقلُّ منه ما يحصل أيضًا حتى للحيوانات من إلهام الله لهم ومن إرشاد لمصالحهم، كما قال أيضا في نص القرآن: {وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا..} [النحل:68-69]، ومن سرِّ هذا الوحي إليها، ومشيها فيما أوحى الله قال: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ..} [النحل:69] وكل من أحسن اتباع أمر الله تبارك وتعالى يأتي بمنافع للناس ويكون شفاءً للناس؛ حتى النحل لما مشى فيما وضع الحق له من الخطة؛ صار ينتج بهذا الشراب الذي يستحليه الناس وفيه شفاء لمختلف أمراضهم، وكل من أحسن اتباع أمر الله وقام كما شرع له الواحد؛ يصيرُ للناس نفعًا وشفاءً وفائدةً وبركة. يقول: هذا الوحي الذي ذكره الله تعالى للحيوان، والوحي الذي ذكره الله سبحانه وتعالى للإنسان، وبقي الوحي المخصوص بالأنبياء {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [النساء:163].
فهذا الوحي بالتشريع، هذا الوحي بالتشريع انقطع بوفاته ﷺ. وتحدث عن ذلك سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر وغيرهم بانقطاع الوحي بوفاته ﷺ، وهذا الوحي المراد الوحي بالشريعة، فإذا نزل سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام أيضًا يوحى إليه! يوحى إليه؛ لكن ليس بشريعة ثانية، يوحي له بعد نزوله؛ يوحي إليه بأن يُؤمَر بأن يتحرك للمكان الفلاني، بأن يعمل العمل الفلاني، لكن الأحكام لم يعد فيها تغيير هي التي نزلت على محمد هيَ هيَ وهو يتبعها صلوات الله عليه وعلى نبينا، فإذًا لم يعد هناك وحي بالشريعة بعد رسول الله ﷺ هذا الوحي، يقول: كيف كان بدء الوحي على سيدنا رسول الله خاتم النبيين؟ أعظم من أوحى الله إليهم وخصصه بوحيٍ لم يكن مثله للأنبياء والمرسلين، أوحى إليهِ ما يبلِّغْهُ للعالمين، وأوحى إليهِ ما يبقيه إلى يوم الدين، وأوحى إليهِ ما يجمع مصالح الخلق إلى أن تقوم الساعة، وهذا من خصائص وحيِهِ ﷺ. فذكر لنا أحاديث وردت في ذلك، ومنها يقول: ما رأيت جبريل في الصورة التي خُلق فيها غير مرتين؛ فإن الملائكة تتصور للناس بالصور الطيبة الحسنة، وقال الله في سيدنا جبريل لما تصوّر لسيدتنا مريم بنت عمران فأرسلنا إليها روحنا أي جبريل الأمين فتمثّل لها بشرًا سويا جاء في صورة بشر في صورة الإنسان فتمثل لها بشرٍا سويا وهكذا حتى للأنبياء يظهرون لهم في صورة لائقة، وعلى نفس الصورة التي خلق عليها له ستمائة جناح، كل جناح يسدُ ما بين الأفق مرتين، مرة وهو في الأرض ﷺ رآه بهذه الصورة؛ حتى يُذْكَر أنه أغمي عليه، قال ﷺ :"رأيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّماءِ سادًّا عِظَمُ خلقِهِ ما بين السَّماءِ و الأرضِ.." ، سيدنا جبريل غطاه كله..!!! على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام. والمرة الثانية عند سدرة المنتهى، فيها قال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ} [النجم:13-14] فتصور جبريل وتظهر بنفس الهيئة التي خلقه الله تبارك وتعالى عليها، لما انتهى إلى سدرة المنتهى ورأى من جلال الله تعالى وتجليه الخاص عاد إلى صورته وهيئته وسجد للرب -جل جلاله-، وتأخر وما عاد يقدر يقدم، والحبيب ﷺ تقدم، قال له: اطلع يا جبريل، قال: لا، خلاص.
{وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات:164] إلى هنا حدِّي، لا أتجاوز هذا الحد، فتقدَّم ﷺ. سبحان الله. ففي هاتين المرتين كانت رؤيته ﷺ ببصره الشريف لسيدنا جبريل على نفس هيئته التي خلقه الله عليها، وهي صور ما يطيقُ الناس بتكوينهم هذا الجسماني النظر إليها والرؤية لها، ولو رأوا لصَعِقوا؛ ولكن الله -سبحانه وتعالى- سترها عنهم، وأبرز الملائكة لهم تتشكَّل في صور يقدرون على رؤيتها؛ حتى كان الصحابة يظنّونه رجل من الناس يجيء إلى عند النبي؛ حتى قال له النبي ﷺ كما نقرأ " "أنه جبريل ولو سلّمتم عليه لردّ عليكم السلام" ". يقول: "وما أتاني في صورة إلا وأنا أعرفه فيها." بأي صورة يتصوَّر يدركُ أنَّ هذا جبريل، " "إلا حين أتاني وسألني عن الإسلام والإيمان والإحسان" ". دخل بين الناس فجاء بصورة سائل، وقد ذكر بعض العارفين أنه سأل الله أن يخفيه عن نبيه؛ ليتمَّ له السؤال ويتمَّ له الجواب؛ كأنه تلميذ من التلاميذ يتلقَّى عن رسول الله ﷺ فأخفاه، وقال ما أتاني مرة إلا وأنا أعرفه، غير هذه المرة التي ذكرها، لما دخل وسأله أخبرني عن الإسلام أخبرني عن الإيمان وأخبرني عن الإيمان، وعن الإحسان؟ وأخبرني عن الساعة، وما المسؤول بأعلم من السائل، هذه المرة ما عرف أنه جبريل إلا بعد ما خرج، لمَّا خرج وقام أدرك ﷺ قال: ردوا عليّ الرجل؟! ذهب ولا له أثر في المدينة كلها، قال: "فذاك جبريل أتاكم يعلّمكم دينكم". هو سأل الله تعالى أن يخفيه عن نبيه فخفيَ عن رسول الله ﷺ فنال منزلة التلقّي، كأنه واحد من الناس يتلقَّى عن رسول الله ﷺ ويأخُذ عنه، "قال أنس رضي الله عنه:وكان رسول ﷺ إذا كان في انتظار الوحي ربما قال لعائشة: أصلحي لنا المجلس، فإن جبريل نازلٌ الساعة إن شاء الله تعالى." قالوا: حتى طريقة طرقه للباب ميَّزته سيدتنا عائشة؛ من كثرة ما كان يتردد للنبي، فنوع من الطرق تعرف أن هذا جبريل، إذا حسَّت هذا الحس تعلم أنه هذا ما هو إنسان عادي الذي طَرَق الباب، وأن هذا جبريل، فكانت تُمَيّز طرقه الباب، وتميّز استئذانه من استئذان غيره صلى الله على نبينا وعليه وعليهم أجمعين وسلَّم.
"وقال لأم سلمة مرة: "أصلحي لنا المجلس فإنه ينزل ملَكٌ للأرض لم ينزل إليها قط"." وعدد من الملائكة الذين لم ينزلوا للأرض قبل نزلوا في أيامه ﷺ لمهام معينة، وجاء في هذا الحديث أنه أيضا قال لها: "أوتدري بما قال لي؟ -بعدما نزل الملك- قال: "إنه أمرني عن الله أن أُزَوِّجَ فاطمة من علي". وخرج ملك مخصوص ما خرج إلا في تلك المرة إلى الأرض، يأمره بهذا الأمر. "وكان أبو رافع -رضي الله تعالى عنه- يقول: "كان جبريل عليه السلام إذا أتى النبي ﷺ يقفُ على الباب ثم يستأذن رسول الله ﷺ فكان رسول الله ﷺ إذا سمعه عرف صوته فيخرج مهرولًا" أي: مُسرِعًا إليه "فيأخذهُ ويدخل به البيت، وربما يقفُ معه على الباب حتى ينقضيَ الوحي ولم يدخل"." وأحيانا على الباب يُبلّغه ما جاء من أجله والرسالة ويرجع، وأحيانا يأخذ بيده ويدخله معه البيت يجلس معه ويكلمه حتى ينقضي الوحي ﷺ.
يقول أبو رافع: "وكنا نظن أن جبريل من بعض الرجال الوافدين على رسول الله ﷺ حتى كان يخبرنا عنه" وأحيانًا ما يرونه، ويدخل يكلم النبي -صلى الله عليه وسلم- النبي يراه ويخاطبه وهم ما يشاهدونه، وأحيانا يظهر عليهم ويظنونه أحد من الناس، وكثيرا ما ظهر عليهم بصورة سيدنا دِحيَة الكَلْبي، فالصحابة يظنونه دِحْيَة وهو جبريل -عليه السلام-، وحتى لما خرج في نفس غزوة بني قريظة بعد ما كلمه وقال: "إني ذاهب إليهم، أزلزل بهم، ومضى على فرس، فخرج النبي -ﷺ وراء ذلك، فالصحابة الذين على الطريق مر عليهم قال لهم: هل مر هنا أحد؟ قالوا: دِحيَة الكلبي على فرس يا رسول الله، قال ذاكم جبريل، هيّا الحقونا إلى بني قريظة". فهم شاهدوه وظنّوا أنه دحية الكلبي، كان دحية الكلبي حسن الصورة، فكان يتصوَّر بصورته جبريل عدد من المرات، والملائكةُ لا يتصوَّرون إلا بصوَرٍ حَسَنَة. كما أنَّ الله أعطى أرواح الجنّ القدرة على التَّشَكُّل، تتشكَّل بصوَر حسنة وبصور سيئة خبيثة قبيحة، حتى يتصوّر بصوَرْ حيوان وغيره، وقد يغلب عليه الصورة التي فيها لم يعد يقدر أن يرجع إلى شكله الأصلي بالنسبة للجن، والملائكة لا يتصوَّرون إلا بصورة حسنة للحاجة ثم يعودون إلى نفس صورهم التي خلقهم الله -تبارك وتعالى- عليها. لا إله إلا هو، وهو القادر على كل شيء.
يقول: "وقالت عائشة: سأل الحارث بن هشام رسول الله ﷺ: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: "أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس" " أي: صوته المتتابع، فيكون كالتنبيه؛ ليستجمع قُوَاه لسماعِ ما يحصل. فالبداية صوته المتتابع مثل صوت الجرس حتى ينتبه ويحضر؛ فيتبَيَّن له الوحي الذي قيل له ﷺ، يقول:" "وهو أشده عليَّ" " يعني: يأخذ منه جهد قوي؛ لأنه لا يأتي في الصورة العادية صورة البشر، هذا أهون عليه. يقول: " "فيفصم عني" " أي: ينقطع ويكمل " "وقد وعيْتُ ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملَك رجلا" " وهذا سهل، يتصوَّر رجل فيكلمني " "فأعي ما يقول قالت: وقد رأيته ﷺ ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد" " فشدَّة البرد لا يأتي عند الناس بعرق، في عرق في البرد؟ العرق يأتي في الحر؛ لكن بسبب شدة الوحي وعظمته يحمَى جسده الشريف فيعرَق ﷺ "فيتفصَّد جبينه عرقًا ﷺ" أي: ينفصل العرق عن جبينه الشريف -صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله-، ولو كان في شدة البرد والمدينة لها برد في أيام البرد شديدة خصوصا في تلك الآونة، "وكانت -رضي الله عنها- تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الرؤية الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة".".
وذكر هنا عن شيخه، ويعني به: علي الخَوَّاص، وجه من الوجوه؛ كونها "جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة" أنه كان يرى الرؤية الصادقة ﷺ من ربيع الأول؛ لمَّا وصل الأربعين إلى رمضان؛ ستة أشهر، ثم نزل الوحي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] في رمضان، واستمر ثلاثًا وعشرين سنة، فهناك ستة أشهر وهنا ثلاثة وعشرين سنة؛ نسبة الستة الأشهر لثلاثة وعشرين؛ جزء من ستة وأربعين؛ لأن الستة أشهر نصف سنة، وعندنا ثلاثة وعشرين سنة؛ فإذا قسمناها أنصاف صارت ستة وأربعين، ثلاث وعشرين وثلاث وعشرين ستٌ وأربعين ، كل ستة أشهر جزء؛ والست أشهر الثانية جزء؛ فالسنة صارت جزئين؛ فالثلاثة والعشرين صارت ستة وأربعين، ومن ربيع أول إلى رمضان ستة أشهر كان الرؤيا فمدة الرؤيا جزء من ستة وأربعين من مدة الوحي. فهذا وجه، وله أوجه كثيرة ومعاني عظيمة.
يقول: "يعني من نبوته ﷺ لكونه كان يرى الرؤيا الصادقة قبل بعثته مدة ستة أشهر، ونسبتها إلى مدة الوحي الذي هو ثلاث وعشرون جزءًا من ستة وأربعين فافهم، ولو قُدِّر أن تكون مدة الوحي ثلاثين سنة مثلا لقال جزء من ستين جزءا من النبوة". لأن الثلاثين السنة ما دام مدة الرؤية ستة أشهر، فالثلاثين السنة إذا قسمناها ستة، ستة، ستة أشهر، ستة أشهر، ستة أشهر فتبلغ الثلاثين ستين، ستين جزء، ويقول: لكن ما كان الوحي إلا ثلاث وعشرين سنة؛ فقال " "جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة" "؛ فهذا وجه من معاني هذه الجزئية، والإحاطة بسرِّ هذه الجزئية ما يكون إلا له ﷺ. فهذا ما ابتدأ به الشيخ -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- أيضا قرأنا بعده الحديث ببدء الوحي الذي جاء في الصحيح، لا إله إلا الله.. يقول أن: "أول ما بُدِء به الرسول ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح" أي: واضحة بيِّنة.
"ثم حُبِّبَ إليه الخلاء" الخلوة في العبادة لله تعالى، "وكان يخلو بغار حراء" يذهب إلى هذا الغار قريب ثلاثة أميال من المدينة، ويطلع؛ وكان اختار الغار هذا من مكة المكرمة ثلاثة أميال من محل المساكن حواليّ الكعبة، يطلع إليه، واختاره في فتحة فجوة تُشرِف على الكعبة، فحديد البصر منها يرى الكعبة المكرمة، فكان يقف في هذا الغار ويعبد الله -تبارك وتعالى- ما بين عشر ليالي إلى خمسة عشر إلى شهر، ثم يعود ليأخذ شيء من الزاد ويرجع ثاني مرة إلى الغار، فاستمر على ذلك مدة ﷺ حتى فاجأه الوحي -صلوات ربي وسلامه عليه-، "وكان يخلو بغار حراء يتحنَّث،" قالوا والتحنُّث: "هوالتعبد الليالي ذوات العدد قبل أن يَنزِعَ إلى أهله ويتزوَّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة ويتزوَّد لمثلها، حتى جاءه الحق.." الوحي، وفي بعض المرات تواعده وتقول له: هذا الزَّاد سيكفيك إلى يوم كذا وأنا في يوم كذا سأقرب منك؛ أُقَرِّب لك الطريق وألقاك في المحل الفلاني وسأُحَضِّر لك الزَّاد، فتحضّر له الزَّاد ويجيء إلى مكان يبيت معها ويأخذ الزَّاد، يصعد هو إلى الجبل وهي ترجع."، وفي ذاك المكان عُلِم وبنوا فيه مسجد؟ و "حتى جاءه الحق وهو في غار حراء،" أي: وحي الله -تعالى- على يد جبرائيل، "فجاءه الملك فقال: اقرأ" فهذا أول ما نزل من القرآن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]. "قال: "ما أنا بقارئ؟". قال: فأخذني فغطَّني " ما معنى ما أنا بقارئ؟ أي: ما الذي سأقرأه؟ تريدني أقرأ ماذا؟ " "ما أنا بقارئ؟" " ماذا أقرأ ؟ هو ما أعطاه كتاب يقول له اقرأ؛ حتى يقول ما أنا بقارئ، يعني ما أنا استخرجه له؛ لكن "يقول: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ" يعني: ما الذي اقرأه؟ ما الذي أنا بقارئه؟ أقرأ ايش؟ " "فأخذني فغطَّني حتى بلغ مني الجهد" " ﷺ ويأتي معنى " "غطَّني" " يعني: عصرني، ضمَّني ضمّ شديد، غطُّه: ضغطه. " "حتى بلغ مني الجهد" " يعني: مبلغهُ؛ الشدة. لا إله إلا الله. وكرر ذلك ثلاثاً، ثم تلا عليه: "{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5]." خمس آيات هذه أول ما نزل، وقالوا وأخبره: أنت رسول من الله إلى عباده لتنقذهم.
"فرجع بها رسول الله ﷺ يرجفُ فؤاده" من عظمة الوحي، واستحضاره عظمة الأمانة في بلاغ أمة كاملة إلى أن تقوم الساعة؛ وهو واحد! والنبي يُبعَث إلى قومه خاصة؛ وهذا مبعوث إلى العالمين، وجاء الآن وقت أداء الرسالة، ولهذا جاءت رجفة الفؤاد؛ لتعظيمه لأمر الله ﷺ، وهيبته في كيفية القيام به وأداءه على وجهه -عليه الصلاة والسلام-. "فدخل على خديجة بنت خويلد قال: "زملوني زملوني! " فزملوه" يعني:غطوه، "حتى ذهب عنه الرَّوْعُ" أي: هيبة الوحي، "فقال لخديجة وأخبرها الخبر: " لقد خشيتُ على نفسي" " ما هي الخشية؟ خشية أن تنهدَّ قواه الحِسِّيَّة؛ أو يُقصِّرَ في أداء الرسالة والقيام بالبلاغ؛ هذه خشيته ﷺ، وهذه خشيته أدبٍ مع الرحمن -جَلَّ جلاله- ومعرفةٍ خاصة بالرحمن. "فقالت خديجة: كلا والله" أنت سيُعَرِّضك الله لهلاك؛ وإلا ستقصر عن القيام بأمره؟! ما أنت كذا، ما يفعل الله بمثلك هكذا، "كلا والله" فكان توفيق لها من الله -سبحانه وتعالى- وقالت له أن فيك صفات؛ عادة الرحمن ما يخزي أصحابها، وأنت الصفات فيك ﷺ (كلا لا يخزيك الله) الخزي: معناه الفضيحة والهوان. "إنك لتصل الرحم" تُحسن إلى الأقارب لا إله إلا الله "وتحمل الكلّ" أصل الكلّ: الثقل. {..وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ..} [النحل:76]. ويدخل في حمل الكَلْ : الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال؛ وذلك من صاحب الكَلَال، وهو الإعياء. "وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم" تعطيه النفقة "وتقري الضيف" تكرمه "وتعين على نوائب الحق" إذا حصلت بالناس نائبة قمت بوسعك فيها.
"وانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل" وهذا من أجلها هي، ومن أجل قوة يقينها وإيمانها، "حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى كان ابن عم خديجة، وكان أمرأً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني" يعني: من الإنجيل "فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب" و يفسره بالعربية "وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، قالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟" وقد كان يرى الآثار والعلامات فيه من خلال ما قرأ في الإنجيل حتى يقول لخديجة لأنها كانت تراه، ارقبي-راقبي- لي محمد، وانظري ما يقول، فلعله هو صاحب النبوة كان يقول، لهذا جاءت لعنده بعد هذا لتطمئن هي، وكان عالم من علماء النصارى وحتى له أبيات فيها يخاطب يقول لها هاتي خبر من محمد وهل قد جاءه الأمر والوحي أم ما نزل عليه، وهذا من قبل، ولما جاء الوحي ذهبت به إليه، قال له: قل لي فأخبره بالخبر، قال: في النوم رأيت هذا؟ قال: لا بل يقظة قال: الله أكبر "هذا الناموس الأكبر الذي نزله الله على موسى يا ليتني فيه جَذَعٌ" شاب صغير، لا إله إلا الله "يا ليتني فيه جذع" شاب جذع يعني: شاب قوي أقوم بنصرتك "يا ليتني فيه جذع، وليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك"!
وكان مشهور بين قومه بالأمين والصادق الأمين ويحبونه كلهم قال له: "أوَ مُخرجيَّ هم؟ قال: نعم لم يأتي رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي" ما من نبي أو ولي صالح نشرت له الرايات إلا عودي قال الله تعالى: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ۖ ..} [غافر:5] بيقتلون الرسل {..وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ ۖ } [غافر:5] فلولا شر النفوس هذه وغلواها؛ ما كان يقابلون الأنبياء إلا بالترحيب والإكرام وينقذونهم ويرشدونهم ويسعدونهم؛ ولكن النفوس هكذا، الله يكفينا شر النفوس. قال: "وإن يدركني يومك أنصرك" بما أقدر عليه "نصرًا مؤزرًا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفترَ الوحي". وبذلك عدَّهُ بعضهم من الصحابة؛ لأنه آمن بالنبي ﷺ. "وقال ﷺ وهو يحدث عن فترة الوحي: بينما أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه" أي: هبته "فرجعت فقلت: زملوني زملوني فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} " والدثار: الغطاء فوق الغطاء، فالذي يلي الجسد يقال له؛ الشعار، والذي فوقه دِثار فيقول: دثروني دثروني "فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:1-5] قال: فحمي الوحي وتتابع" أي: استمر ودام نزوله شيئًا فشيئًا عليه ﷺ، والله أعلم.
رزقنا الله الاتباع والاهتداء بهديه والاقتداء به والسير في دربه، والشرب من شربه ،وحشرنا في زمرة وهو راضٍعنا في خير ولطف وعافية، بسرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
11 شوّال 1444