(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: 211- كتاب الصلاة (101) الرخصة في ترك الجماعة
صباح الثلاثاء 12 ربيع الثاني 1446 هـ
فصل في الرخصة في ترك حضور الجماعة
"تقدم في باب آداب المساجد قوله ﷺ: "من أكل ثومًا أو بصلًا فلا يقربن مسجدنا"، وقول عائشة -رضي الله عنها-: آخر طعام أكله رسول الله ﷺ كان فيه بصل، وتقدم في باب الأذان: أنه ﷺ كان يأمر المنادي بالصلاة أن يقول في الليلة الباردة والمطيرة بدل الحيعلتين: "ألا صلوا في رحالكم سفرًا وحضرًا"، وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يأمر بذلك المنادي في الجمعة ويقول: "إن الجمعة عزمة وإني كرهت أن أحرجكم فتمشوا في الطين والدحض".
وكان ﷺ يقول: "إذا كان أحدكم على الطعام فلا يعجل حتى يقضي حاجته منه وإن أقيمت الصلاة"، وكان ﷺ يرخص في ترك الحضور للمريض، ولما مرض ﷺ تخلف عن الخروج ثلاثة أيام، وكان ﷺ يقول: "لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافع الأخبثين، فإذا أقيمت الصلاة ووجد أحدكم الخلاء فليبدأ به قبل الصلاة"، وكان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول: من فقه الرجل إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ، وتقدم بسط ذلك في باب المواقيت والله -سبحانه وتعالى- أعلم".
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مكرمنا بشريعته؛ وبيانها على لسان خير برية عبده وصفوته، سيدنا محمد بن عبد الله الرحمة المهداة والنعمة المسداة، صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه وأهل ولايته ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرة الرحمن تعالى في خليقته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد،،
فيذكر الإمام الشعراني -عليه رحمة الله- في هذا الفصل الأعذار عن التخلف عن الجماعة؛ وهي كذلك تكون عذراً في التخلف عن الجمعة.
هذا باب "فصل في الرخصة في ترك حضور الجماعة"، وذلك لما علمنا:
كان هذا شأنهم حتى قال ابن مسعود: "وَلقَدْ رَأَيْتُنا وَما يَتَخَلَّفُ عَنْها إلّا مُنافِقٌ مَعْلُومُ النِّفاقِ".
ولكن هناك أعذار ما بين أن تسقطِ اللوم عن الخروج؛ وما بين ما يكتب معه الثواب:
فذكر لنا من الأحاديث ما إذا تلطخ الإنسان برائحة كريهة تنفر منها الملائكة وطباع البشر، وإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم فيما يتعلق بالروائح ونحوها.
فيقول: "من أكل ثومًا أو بصلًا فلا يقربن مسجدنا"، فإذا لم يكن متعمداً وأكل الثوم والبصل فبقيت رائحته في فمه؛ فجأة حضرت وقت الصلاة ووقت الجماعة؛ وقال: كيف أعمل؟ يقول: مادامت هذه الرائحة تفوح من فمك فلا خروج لك إلى المسجد، واطلب الجماعة في بيتك مهما وجدت أحداً يصلي معك. فهذا عذراً من الحضور في المسجد ما لم يتعمد ذلك؛ أما إذا تعمد وأكله قريب وقت الصلاة فهذا يعلم الله تعالى نيته وقصده وليس دين الله بالحيلِ.
ومن ذلك أيضاً رائحة -السجائر- الدخان الخبيث كذلك؛ فإذا نفحَ في فمه وصار يؤذي من يصلي بجنبه فلا يقرب المسجد، ولا يدخل مع المصليين فهو برائحة كريهة تنفر منها الملائكة والطباع السليمة كلها؛ فلا يجوز له أن يؤذيَ الناس بمثل ذلك؛ على أن تناول ذلك الدخان ما بين مكروه وما بين حرام على حسب اجتهاد فقهاء الشرع المصون، فهو مزرٍ، وهو مضر، وهو أيضاً ذو رائحة كريهة ينفر منها الملائكة والآدميون ذوي الطباع السليمة.
"من أكل ثومًا أو بصلًا فلا يقربن مسجدنا"، وهذا فيه تعظيم المساجد وأماكن العبادة وأن تعظم، قال الله تعالى: (فِی بُیُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَیُذۡكَرَ فِیهَا ٱسۡمُهُۥ) [النور:36] تعظم وتوقر وتميز على غيرها.
ومع تعظيم هذه الشريعة أيضاً ينبغي أن نختار الروائح الطيبة، فمن الزينة المستحبة للمؤمن عند الصلاة عامة وعند الجمعة خاصة استعمال الطيب والعطر والرايحة الطيبة، فذلك أيضاً من أسباب هدوء النفس والروح بل وتزكية العقل، حتى كان يقول سيدنا الشافعي: من طابت رائحته زكى عقله، ولذا وجدوا أن الذي ينشأ على شم الروائح الطيبة من مثل الورد هذا الطبيعي ونحوه يكون ذاكرته وفهمه ذكاءهُ قوي، والذي ينشأ يشم الروائح الكريهة والخبيثة يكون فيه بلادة وبلاهة غالباً ،فللرائحة الطيبة أثر في تزكية الفهم والعقل عند الإنسان، فينبغي أن يحرص على الرايحة الطيبة؛ حتى قال من قال من الفقهاء: أنه لو أنفق ربع ماله أو ثلث ماله في الطيب لم يعد مبذراً ولا مسرفاً ولا سفيهاً ولا يحجر عليه -لو كان يصرف ثلث ماله في الطيب- ومعلوم أن ذلك مع النية الصالحة؛ وهي قصد وجه الله الكريم، فيتطيب لأجل الصلاة ولأجل تعظيم حرومات المساجد وتعظيم حرومة المؤمنين ولأجل لا يؤذي الملائكة ولا يؤذي أحد من الناس، ولا يكون له قصد غير ذلك؛ فإذا خرج إلى قصد التفاخر وقصد التعالي؛ أو إلى قصد خبيث آخر فقد خرج عن السنة من أصلها إلى الأمر الذي يخشى عليه العقاب، وقد جاء في الحديث: "من تطيَّب للهِ تعالى جاء يومَ القيامةِ وريحُه أطيَبُ من المِسكِ، ومن تطيَّب لغيرِ اللهِ جاء يومَ القيامةِ أنتنَ من الجِيفةِ" -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، فيأتي بالروائح الكريهة في القيامة جزاء ما استعمل الروائح الطيبة للمقاصد السيئة الخبيثة فإذا تطيب لله -سبحانه وتعالى-.
"وقول عائشة -رضي الله عنها-: آخر طعام أكله رسول الله ﷺ كان فيه بصل"، ولكن هذا محمول على أن البصل مطبوخ طبخا جيدا فلم تبقَ له رائحة، ومن المعلوم أنه كان يتجنب أكل الطعام الذي فيه تنبع رائحته أو تنفح رائحته بثومٍ أو بصل؛ فقال لسيدنا أبي أيوب خالد الأنصاري -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- الذي نزل في بيته أول أيام وصوله إلى المدينة المنورة؛ فكانوا يقدمون إليه العشاء فيتعشى، قال: ثم أتسابق أنا وأم أيوب على مواضع أصابعه ﷺ، -أي: يتباركون بذلك- قال: فقدّمنا له العشاء ليلة فلم نرَ له أثراً، ففزعنا، فجئت إليه أسأله لم يتناول من عشائنا، قال: إني وجدت فيه رائحة ثوم فكلوه أنتم؛ فإني أناجي من لا تناجون، يعني: أكلم ملائكة وأرواح، فقال سيدنا أبي أيوب فكان آخر يوم دخل فيه ثوم بيتنا، ما دخل ثوم بيتهم أصلاً. وكان سيدنا عمر يقول: "ما أَرَاهُما إلا خَبِيثَتَيْن: -يقصد من حيث الرائحة- البَصَل، والثُّوم، فمن أكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا." أي: يذهب أثر الرائحة بحسن الطبخ.
وقال: "وتقدم في باب الأذان: أنه ﷺ كان يأمر المنادي بالصلاة أن يقول في الليلة الباردة والمطيرة بدل الحيعلتين: "ألا صلوا في رحالكم سفرًا وحضرًا"، فإذا وُجِد شدة برد أو مطر يصعب معه الحضور إلى مكان الجماعة، فيسن للمؤذن أن يقول هذا إذا نادي -حي على الصلاة ، حي على الفلاح-: "ألا صلوا في رحالكم" إعلانًا للعذر لهم.
"وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يأمر بذلك المنادي في الجمعة ويقول: "إن الجمعة عزمة وإني كرهت أن أحرجكم فتمشوا في الطين والدحض".
فهو عذر؛ ولكن من تمكن بعد ذلك من الحضور فثوابه أكبر، وإذا اشتد الأمر بحيث لا يستطيع أصلاً فله ثوابه وهو في مكانه.
إذن فهنا أعذارٌ للتخلف عن الجماعة منها:
وهكذا وجاء عن ابن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلتَ أشهد أن لاإله إلا الله وأشهد أن محمدًأ رسول الله فلا تقل حي على الصلاة؛ قل: "صلوا في بيوتكم" فكان الناس استنكروا ذلك منه فقال: "أتعجبون من ذاك قد فعل ذاك من هو خير مني" -يقصد النبي ﷺ- "إن الجمعة عزمة وإني كرهت أن أحرجكم فتمشوا في الطين والدحض" أي: الزلق، فهذه أعذار عامة.
وتكون هناك أعذار خاصة:
والقصد أن ما عظَّمه الله يجب أن يُعظَّم، وأن الأعذار لذوي العذر مُسقِطة للملام، ومنها ما يُكتب معه الثواب إذا كان صادق النية في الحضور لولا عدم قدرته واستطاعته.
يقول: "وكان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول: من فقه الرجل إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ"، (فَإِذَا ٱطۡمَأۡنَنتُمۡ فَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَۚ) [النساء:103].
رزقنا الله إقامتها على الوجه المرضي لديه، والمحبوب له ولرسوله ﷺ، مع اقتداء تام بخير الأنام، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أصلح الله شؤوننا بما أصلح به شؤون الصالحين مع استقامة، وأتحفنا بأنواع الكرامة، ودَفَع البلاء عنَّا وعن الأمة في المشارق والمغارب، وحوَّل الأحوال إلى أحسنها.
بسر الفاتحة إلى حضرة النبي
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
17 ربيع الثاني 1446