(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: 213- كتاب الصلاة (103) صفة الأئمة
صباح الثلاثاء 19 ربيع الثاني 1446 هـ
"وكان ﷺ يقول للاثنين: "إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما"، وكان ﷺ يقول: "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤم قومًا إلا بإذنهم، ولا يخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم"، وكان ﷺ إذا رأى إنسانًا يخص نفسه بالدعاء يضرب على منكبه ويقول له: "عَمِّم، ففضل ما بين العموم والخصوص كما بين السماء والأرض"
وكان ﷺ يرخص في إمامة الأعمى، واستخلف ﷺ ابن أم مكتوم على المدينة مرتين يصلي بهم وهو أعمى، وكان عتبان بن مالك -رضي الله عنه- يؤم قومه وهو أعمى، وقال يومًا لرسول الله ﷺ: "يا رسول الله ﷺ إنها تكون الظلمة والسيل وأنا رجل ضرير البصر، فصل يا رسول الله في بيتي مكانًا أتخذه مصلى. فجاء رسول الله ﷺ فقال: أين تحب أن أصلي لك؟ فأشار إلى مكان في البيت فصلى فيه رسول الله ﷺ"، وكان عمر -رضي الله عنه- يكره إمامة الأعمى حين رأى الناس مرة يقدمونه للقبلة حتى يقف.
وكان -رضي الله عنه- يؤخر من تقدم للإمامة وهو أعجمي اللسان أو يلحن".
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مكرمنا بشريعته العظيمة، وبيانها على لسان حبيبه الهادي إلى المسالك المستقيمة، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى جميع ملائكة الله المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
و بعد؛
فيواصل الشيخ الشعراني -عليه رحمة الله- ذكر الأحاديث المتعلقة بالإمامة وصلاة الجماعة.
"وكان ﷺ يقول للاثنين: "إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما".
ففيه انعقاد الجماعة بالاثنين؛ وإن كان لفظ الجمع يطلق في العربية على ثلاثة فما فوق، ويقال للاثنين: مثنى، ولكن صلاة الجماعة تنعقد بإمام ومأموم، وهو متفق عليه بين الفقهاء: أنه تصح الصلاة بجماعة من بين اثنين، وقد جاء في حديث عن سيدنا أبي موسى عن النبي ﷺ: " اثنانِ فما فوقَهُما جماعَةٌ" أخرجه ابن ماجه والبيهقي؛ ولكن هل يُشترط البلوغ وهو الذي تقدم الكلام فيه؟
يقول: "وكان ﷺ يقول: "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤمّ قوماً إلا بإذنهم، ولا يخص نفسه بدعوة دونهم".
ففيه ما أشرنا إليه في الدرس الماضي من إمامة الإمام والمأمومون به راضون، فهذا علامة صلاح الإمام ومحل رجاء القبول عند الله تعالى؛ فلا ينبغي أن يتصدى للإمامة من يكرهه القوم لما جاء في الحديث الذي هو عند الإمام الترمذي وقال حديث حسن قوله ﷺ: "ثلاثةٌ لا تُجاوزُ صلاتَهم آذانَهم: العبدُ الآبقُ حتى يرجعَ، وامرأةٌ باتتْ وزوجُها عليها ساخطٌ، ورجل أمَّ قومٍ -وفي لفظ وإمام قوم أمَّهُم- وهم له كارهون"، والمراد أيضًا من هذا: أن الإنسان يكون مكروهًا بين قومه وإمامته إذا عُرِف بسوء أو بشرٍّ أو بسوء خلق أو بأذىً للناس فيكرهون أن يؤمهم.
ويقول الحنفية: إن كان القوم يكرهونه لفساد فيه؛ أو لأنهم أحق بالإمامة منه كُرِه له أن يتقدم كراهة تحريم عندهم؛ وإن كان هو الأحق بالإمامة قالوا: فلا كراهة عليه؛ يقول الحنفية: والكراهة عليهم، أمر راجع إليهم.
ويقول المالكية: إن كرهه أقل القوم ولو غير ذوي الفضل منهم لتلبسه بالأمور المزرية الموجبة للزهد فيه، أو لتساهله في ترك السنن مثل: الوتر، والعيدين، وترك النوافل؛ كُرِهَت إِمامته؛ أما إذا كرهه كل القوم، أو جلُّهُم، أو ذوي الفضل منهم، وإن قَلُّوا فتحرم إمامته؛ يحرم عليه أن يتقدم للحديث الذي ورد وقول سيدنا عمر: "لأَن تُضرب عنقي أَحبُّ إلي من أن أؤمَّ قومًا فيهم أبو بكر".
فإذًا فهمنا قول الحنفية: إن كان هذا الإمام يكرهونه لفساد فيه أو لأنهم أحق بالإمامة منه فيُكرَه تحريمًا إمامته لهم؛ أمَّا إن كان هو أحق بالإمامة فلا عبرة، ويوشك أيضاً إذا كان المأمومون هم على انحراف في فكرهم أو في عقيدتهم فكرهوه بغير علم وبغير فساد من الإمام فلا عبرة بهم.
قلنا يقول المالكية: إن كرهه أقل القوم؛ أو غير ذوي الفضل فيهم لتلبسه بالأمور المزرية الموجبة للزهد فيه؛ فإذاً إمامته مكروهة؛ أمَّا إذا كرهه القوم كلهم أو ذوا الفضل فيهم وإن قَلُّوا -أهل العلم والصلاح فيهم يكرهون إمامته- فتحرم إمامته لما جاء في حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-: " لا تُجاوِزَ صلاتُهم آذانَهم"، وجاء في لفظ آخر: "لا تُرفَعُ صلاتُهُم فَوقَ رؤوسِهِم شِبرًا" أي: لا يقبلون عند الله تعالى.
وهكذا يقول الشافعية: يكره كراهة تنزيه أن يؤمَّ رجل قومًا أكثرهم له كارهون لأمر مذموم شرعًا، مثل ظالم فاسق متغلب على الإمامة لا يستحقها، أو من لا يحترز من النجاسة، أو من يتعاطى معيشة مذمومة، أو من يعاشر الفسقة والمجرمين؛ قال لهذا الحديث: "لا تُجاوِزَ صلاتُهم آذانَهم"؛ والأكثر في حُكم الكل، بخلاف إذا كان يكرهه الأقل فيُعتَبَر قول الأكثر؛ مادام الأكثر يحبون إمامته فلا شيء عليه.
ويقول الحنابلة كذلك: يُكره أن يؤمَّ قومًا أكثرهم له كارهون إذا كانت كراهتهم له بحق لخلل في دينه أو في فضله، فإن كرهوه بغير حق -هكذا- لم يُكره أن يؤمهم إذا كان هو ذا دين وسنة، وإن كان ذولا هم مخالفين وكذا! فلا عبرة بهم؛ وهكذا جاء يقول منصور: فسألنا عن أمر الإمام؟ فقيل لنا: إنما عنى بهذا أئمة ظلمة، فأما من أقام السنة فإنما الإثمُ على من كرهه، لا عليه.
أما الأقل من القوم قال الإمام أحمد: إذا كرهه واحد أو اثنين أو ثلاثة فلا بأس حتى يكرهه أكثر القوم فلا مبالاة بالأقل؛ كما قال الشافعية: ما نقدم الأقل على الأكثر إذا الأكثر راضون به.
وراعى المالكية ذوو الفضل منهم قالوا: ولو كانوا أقل ولكنهم أهل الفضل والعلم فيحرم إمامته.
كذلك ما أشار إليه الحديث: من أن الإمام لا يخصص الدعاء لنفسه؛ بل يدعو لمن معه؛ بل ينبغي للداعي في الصلاة وخارجها أن يدعو للمسلمين أجمعين؛ وهذا فيما لم يرد؛ أما ما جاء الحديث فيه مثل "ربي اغفر لي وارحمني واجبرني" في بين السجدتين فلا إشكال فيه؛ ولكن إذا اخترع دعاء من عنده يُكره له الإفراد، أما إذا جاء بمأثور فيتبع لفظه، وفي غير ما يكون فيه الجهر من مثل القنوت، القنوت لها معنى وإن ورد "اللهم اهدني فيمن هديت" فإذا كان إمام يقول: اللهم اهدِنا وعافنا، وهكذا.. ولا يخص نفسه بالدعاء والمأمومين يؤمّنون بس؛ يقولون آمين وهو يقول اهدني وعافني وهم ماشي لهم؟! فلا يخص نفسه بالدعاء؛ وقد جاءت الفاتحة بالدعاء فيها بلفظ العموم، ولفظ الجمع: (ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَ ٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ) [الفاتحة: 6]، ما قال: اهدني، (ٱهۡدِنَا).
بل كان جماعة من علماء ومن الصلحاء يحبون في مثل دعاء القنوت ولو صلوا فرادى في الوتر مثلًا أن يأتوا بلفظ الجمع، وهو منفرد يقول: اللهم اهدِنا وعافنا فيمن عافيت، ويقول وينوي معه أهله وقرابته وأصحابه والمسلمين؛ اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت؛ فيأتي بلفظ الجمع.
وفي الخبر يقول ﷺ: الفرق ما بين الخاص والعام في الدعاء كما بين السماء والأرض؛ يعني: ذاك أقرب للإجابة وأحب إلى الله تعالى أن يدعو للعموم ولا يخص نفسه بالدعوة، فيكره للإمام تخصيص نفسه بالدعاء بدعاء القنوت لأنه يجهر به؛ أما غير دعاء القنوت مما يدعو به في سجوده أو ما بين السجدتين فإن جاء بوارد فليتبع لفظ الوارد وإن اخترع من عنده دعاء فليعمم.
قال: "ولا يخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم"، وكان ﷺ إذا رأى إنساناً يخص نفسه بالدعاء يضرب على منكبه ويقول له: "عمم ففضلُ ما بين العموم والخصوص كما السماء والأرض"، لا إله إلا الله أخرجه أبو داود في المراسيل في السنن الكبرى.
قال: "وكان ﷺ يرخص في إمامة الأعمى"، فيمكن أن يكون الإمام أعمى، وعليه عامة الفقهاء أنه يصح الاقتداء بالأعمى وبالأصم كذلك؛ لأن العمى والصمم لا يخلان بشيء من أفعال الصلاة ولا بشروطها.
وهكذا لما كان الحبيب أحمد بن حسن العطاس -عليه رحمة الله- أعمى، وحضر مجلس مع شيخ الأزهر الشيخ محمد الأنبابي -عليه رحمة الله-، وفيه جماعة من العلماء في بيت شيخ الأزهر، وحضر وقت المغرب؛ فأذنوا وأقاموا وقال شيخ الأزهر للحبيب تقدم، فقال: لا يُؤمُّ الرجل في بيته، قال: أذنت لكم، قال: أنتم أحق منا علما وإحسان، قال: وإن كان، قال: لا يخفاكم ما قيل في إمامة الأعمى، قال: وإن كان، فتقدم وصلى بهم، بعد الصلاة كان يقول شيخ الأزهر: الذي سمعناه عن المتقدمين في حسن الأداء وحسن الصوت سمعناه من هذا السيد -لا إله إلا الله-.
عرفنا قال الحنفية والحنابلة: بكراهة إمامة الأعمى إلا أن يكون أعلم القوم.
ويقول المالكية: إذا استووا في الفضل فالبصير مقدم على الأعمى.
قال الشافعية: هما سواء لتعارض فضليهما، الأعمى لا ينظر ما يشغله فهو أخشع؛ والبصير ينظر الخبث فهو أقدر على الاحتراز من النجاسة؛ إلا أن يكون الأعمى كغيره متبذل غير محترز من النجاسات فهذا حكمه حكم غيره ما هو من أجل العمى، وأما مادامه محترز في نفسه ما يقدر عليه؛ فالأصل ما هناك إلا الطهارة وهكذا لا إله إلا الله.
قال: "واستخلف ﷺ ابن أم مكتوم على المدينة مرتين يصلي بهم". فاستخلفه على الصلاة فقط في المدينة -ما استخلفه على الحكم والقضاء- استخلفه على الصلاة؛ على أن يصلي بالناس في مسجده ﷺ؛ لأن أيضًا الخلافة أشد في القضاء فما كان استعماله إلا على الصلاة في المسجد لا على القضاء؛ فكان يعيّن آخر للقضاء ويعين ابن أم مكتوم للإمامة في مسجده الشريف.
"وكان عتبان بن مالك رضي الله عنه يؤم قومه وهو أعمى، وقال يوماً لرسول الله ﷺ: يا رسول الله ﷺ إنها تكون الظلمة والسيل وأنا رجل ضرير البصر فصلّ يا رسول الله في بيتي مكاناً أتخذه مصلى؟ فجاء رسول الله ﷺ -إلى بيته- فقال: "أين تحب أن أصلي لك"؟ فأشار إلى مكان في البيت فصلى فيه رسول الله ﷺ"، كما جاء في البخاري وغيره.
"وكان عمر -رضي الله عنه- يكره إمامة الأعمى حين رأى الناس مرة يقدمونه للقبلة حتى يقف، وكان -رضي الله عنه- يؤخر من تقدم للإمامة وهو أعجمي اللسان أو يلحن".
ومن هنا يأتي كلام الفقهاء على ما بين الأُمِّي والقارئ الذي يتقن الفاتحة:
فيقول الجمهور من الفقهاء: أنه لا يجوز اقتداء القارئ بالأُمِّي؛ الأُمِّي: هو الذي لا يحسن حرفًا من حروف الفاتحة؛ يعني: القراءة التي تتوقف الصلاة عليها، لا يُخِلْ بشيء من حروفها، فإذا أخلّ بشيء من حروفها فهو الأُمِّي، فإذا كان يغير حرفًا من حروف الفاتحة ويبدله بحرف ثاني وما إلى ذلك؛ أو يلحن لحن يغير المعنى في الصلاة؛ فتصح صلاة أمّي مثله خلفه.
يقول الحنابلة إن أمَّ أميٌّ أمِّيًا وقارئًا:
صلى الله على سيدنا محمد وآله.
واجعلنا من الهداة المهتدين، واجعلنا من مقيمي الصلاة على الوجه المرضي له تعالى في علاه، واجعل سر إقامة الصلاة فينا وأولادنا وذرارينا ما تناسلوا، وألهَمَ المسلمين إقامة الصلاة على الوجه الأحب، وأصلح لنا ولهم الحال في الدنيا وفي المنقلب، واجعلنا ممن يحفظوا الصلاة وتدعوا له بالحفظ، ويعيذنا من الإخلال فيها والتقصير فيها، واجعلنا من القائمين بحقها في عافية.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
19 ربيع الثاني 1446