(608)
(379)
(535)
الدرس السادس للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ في شرح كتاب: قامع الطغيان على منظومة شعب الإيمان، للعلامة محمد نووي بن عمر البنتني الجاوي، في مسجد الاستقلال، جاكرتا، إندونيسيا، فجر الأحد 27 ربيع الثاني 1447هـ
شرح شُعب الإيمان، الشعبة 17: طلب العلم، الشعبة 18: نشر العلم الشرعي، الشعبة 19: تعظيم القرآن واحترامه، الشعبة 20: الطهارة.
لتحميل: (قامع الطغيان على منظومة شعب الإيمان) PDF
................ ثم التحقق بحقائق الإنابة إليك، وصدق الإقبال عليك في كل شأن، في العبودية المحضة الخالصة والرابطة التي تقوى في كل لمحة ونفس على حبيبك المختار سيدنا محمد، وارزقنا كمال المتابعة له ظاهراً وباطناً في عافية وسلامة، وانظر إلينا وإلى أمته نظرة تزيل بها عنا البلايا والآفات، وتدفع بها عنا جميع الشرور والبليات، وتنظمنا بها في سلك العنايات والرعايات، وتجمع بها شمل المسلمين وقلوبهم على ما تحب وترضى، وعلّيِ الدرجات للمتقدمين في هذا المسجد من أهل لا إله إلا الله، وتقبل جميع حسناتهم مضاعفةً لهم، وتجاوز عن جميع سيئاتهم، واجمعنا بهم في دار الكرامة وأنت راضٍ عنا.
اللهم وأصلح أهل إندونيسيا وأحوال أهل إندونيسيا، وادفع البلايا والآفات والشرور عنهم، والأشرار والفجار والكفار وأعداءك أعداء الدين، ولا تبلّغ أمراء السوء مرادهم فينا ولا في أهل إندونيسيا ولا في أحد من المسلمين.
عجّل بالفرج لأهل غزة ولأهل فلسطين والمؤمنين في الشام واليمن والشرق والغرب، يا كاشف كل كرب، أصلح لنا كل قالب وقلب، واربطنا بحبيبك المصطفى ربطاً لا ينحل أبداً، فثبتنا على ما تحبه منا وترضى به عنا.
نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة:201]
(رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)[الكهف:10]
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)[آل عمران:147]
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)[الحشر:10]
(رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)[الكهف:10]
نسألك لنا وللأمة من خير ما سألك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد وعبادك الصالحون، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد وعبادك الصالحون، وأنت المستعان وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ، الفاتحة.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات:180-182]
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل إلى الإمام محمد نووي بن عمر البنتني الجاوي على منظومة شعب الإيمان للإمام العلّامة زين الدين بن علي المليباري في كتابه "قامع الطغيان على منظومة شعب الإيمان"، نفعنا الله به وبعلومه وعلومكم في الدّارين آمين، ورضي الله تعالى عنه وعنكم إلى أن قال:
الشعبة السابعة عشرة
طلب العلم
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: "من تعلم باباً من العلم ينتفع به في آخرته ودنياه، كان خيراً له من عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، صيام نهارها وقيام لياليها مقبولاً غير مردود".
وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله ﷺ: "تعلّموا العلم، فإن تَعَلُّمَه لله حسنة، ودراسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه عبادة، وتعليمه صدقة، وبذله لأهله قربة، والفكر في العلم يعدل الصيام، ومذاكرته تعدل القيام".
وقال رسول الله ﷺ: "اطلبوا العلم ولو بينك وبينه بحر من نار".
وقال ﷺ: "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد"، أي: إن تعلم العلم فرض في جميع الأوقات والحالات.
وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا".
وقال بعض السلف: العلوم أربعة: الفقه للأديان، والطب للأبدان، والنجوم للأزمان، والنحو للسان. واعلم أن تحصيل العلم على نوعين: كسبي وسماعي، فالكسبي هو العلم الحاصل بمداومة الدرس والقراءة على الأستاذ، والسماعي هو التعلم من العلماء بالسماع في أمور الدين والدنيا، وهذا لا يحصل إلا بمحبة العلماء والاختلاط معهم والمجالسة لهم والاستفسار منهم.
ويجب على المتعلم أن ينوي بتحصيل العلم رضا الله تعالى والدار الآخرة، وإزالة الجهل عن نفسه وعن سائر الجهال، وإحياء الدين وإبقاء الإسلام بالعلم، وينوي به الشكر على نعمة العقل وصحة البدن، ولا ينوي به إقبال الناس إليه واستجلاب متاع الدنيا والإكرام عند السلطان وغيره.
قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[المجادلة:11].
وقوله: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر:9].
الحمد لله فاتح أبواب مواهبه للمقبلين عليه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يَصُبُّ فيضَ مِنَنِهِ على المتوجهين إليه، ونشهد أن سيدنا ونبينا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، أكرم الخلق عليه وأعظمهم منزلة لديه، أعلم الخلق بالله وأسرار حكمته في المُلك والملكوت، أحسنهم تعليماً وهداية إلى ما يُوجِب الفوز والسعادةَ في الحياة الدنيا وبعد الموت.
اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم على عبدك المختار سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وتابعي دربه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيذكر الإمام المؤلف -رحمه الله ونفعنا به- في شُعَب الإيمان "شُعبة العلم" وهذه شُعبة من الأساس في دين الله تعالى، فإن العلم الشرعي هو:
وعرّفه الإمام الغزالي عليه رحمة الله بقوله: ما استُفِيدَ من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولا يُرشِد العقل إليه كالحساب، ولا التجربة كالطب.
وهذا العلم هو أصل العلوم، وتحتاج إليه العلوم كلها، بمعنى أن أي علم كان من غير العلوم الضارة، لا يمكن حسن الاستفادة منه إلا أن يكون استعماله موافقاً لعلم الشريعة المطهرة.
وأنواع العلوم الموجودة في الدنيا والعالم اليوم، نرى آثار ونتائج استعمالها كيف تكون، نرى في واقع الأمة أنه من نتائج هذه العلوم حصلت كثير من الإشكالات ومن المفاسد، بل ومن الأضرار، بل ومن القتال، فالمفسدون الظالمون على ظهر الأرض استخدموا هذه العلوم في ظُلم الغير وأخذ حق الغير وفي الطغيان. وأنواع العصابات الشريرة على ظهر الأرض استخدمت التكنولوجيا والأجهزة أيضاً في مفاسدهم وشرورهم وفي أخذهم حق الغير
وهكذا كل علم استُعمل على خلاف حكم علم الشريعة يضر الناس ولا ينفعهم، وإذا لم يخالف علم الشريعة؛ امتَنعَ الضُرُّ عنه، فإن وافق ما جاء في علم الشريعة حصلت منه المنافع. وهذه المنافع:
أما بالنسبة لعلوم الشريعة المستفادة من الأنبياء، فمنها
فهذا يجب على كل مسلم أن يحصِّله ويكتسبه، حتى إن لم يجد من يعلِّمه إياه في بلده وجب عليه أن يرحل حيث يتعلم هذا العلم الواجب. وهو بحمد الله يسير يمكن تحصيله في أقرب وقت وبكلفة يسيرة، ومع ذلك فنشاهد تقصير الأمة فيه، فمنهم أفراد الأسرة في البيت ما بين زوج وزوجة وأبناء وبنات، قد يكون بعضهم عنده هذا العلم الواجب وبعضهم لم يأخذ هذا العلم الواجب، ولا يُعلّم هذا هذا ولا يتعلم هذا من هذا.
وكذلك ما بين الجيران في كل مجتمع، وقد نَصَّ على ذلك ﷺ في الحديث: "ليتعلمنَّ قوم من جيرانهم، وليعلّمنَّ قوم جيرانهم، أو ليعمنّهم الله بعذاب من عنده".
أما إذا نظرنا إلى قرى المسلمين والبوادي، فنجد الجهل بالعلم الواجب كثيراً منتشراً، وأهل العلم عندهم تقصير في إيصال هذا العلم إلى تلك الجهات، فيجب حسن الفكر، وصدق الجهد في إكمال هذا النَّقص وتلافي هذا التقصير بين المسلمين.
إلى أن يوجد في كل قُطر من عنده من فقه الشريعة ما يكفي لتعليم الناس، والفتوى في الأحوال التي تحصل لهم غالباً في تلك البلاد.
قد قال الله لأعْلَم الخلق به وبأحكامه: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)[طه:114]، ولما رُؤي الإمام أحمد بن حنبل في شيخوخته حاملاً المَحْبرة والقلم ليكتب فوائد العلم، قيل له: يا إمام، إلى متى مع المَحْبرة؟ فقال: مع المَحْبرة إلى المقبرة.
وذكر الإمام المؤلف العلامة محمد نووي الجاوي عليه رضوان الله عدداً من الأحاديث في هذه الشعبة، منها حديث معاذ بن جبل قال: قال رسول الله ﷺ: "تعلّموا العلم، فإن تعلمه لله حسنة، ودراسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه عبادة، وتعليمه صدقة، وبذله لأهله قُربة، والفكر في العلم يعدل الصيام، ومذاكرته تعدل القيام"، وجاء أيضاً في حديث معاذ: "يُلهَمُه السعداءُ ويُحرَمُه الأشقياءُ".
وذكر حديث الصحيحين "إن الله -سبحانه وتعالى بفضله- "لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس" أي: لا ينزع العلم من قلوب العلماء ولا يقبضه انتزاعا ينتزعه منهم، "ولكن بقبض العلماء" أي: بموتهم مع عدم التلقِّي عنهم من حواليهم.
وذكر في تحصيل العلم درجتين:
قال سيدنا لقمان لابنه: يا بني، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة كما يُحيي الأرض بوابل السماء.
وقال سيدنا عليّ في آداب المتعلم مع العالم: أن لا يشبع من طول مجالسته، فإنما هو كالشجرة، لا تدري متى تلقي إليك الثمرة، فبصحبة أهل العلم؛ ينساق نور إلى القلب يدرك به الإنسان دقائق في المعاني. وهذه الدرجة الثانية تهيئ الإنسان لنيل العلم اللَّدُنِّي: وهو ما يفتح الله به على قلب الصادق المخلص من المعاني والعلوم واللطائف.
وقال تعالى في سيدنا الخضر -عليه السلام-: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا)[الكهف:65].
وفي هذه الآيات أيضاً إقامة الأسس في طلب العلم، وإن سيدنا موسى -عليه السلام- لما أخبره الله أن عند الخضر علماً ليس عنده، فطلب لقاء هذا الإنسان، وقال: أين يوجَد عبدك خَضِر هذا يارب؟ فقال: ارحل إلى مَجْمَع البحرين وهناك تجده، قال موسى لفتاهُ يُوشَع: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)[الكهف:60]، يعني؛ زماناً طويلاً حتى أصل، في تعظيم العلم والرحلة من أجل طلب العلم، فلما لقيه قال: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)[الكهف:66] وفي قراءة (رَشَدًا)، انظر إلى هذا التواضع والتذلل.
قال سيدنا ابن عباس: ذٌلِّلّتُ طالباً، فَعُزّزّتُ مطلوباً.
قال الإمام الشافعي:
ومن لم يذق ذُلّ التعلم ساعة *** تجرع ذل الجهل طول حياته.
ثم نبَّهَ على النية في تحصيل العلم؛
لكن علم الشريعة لا يجوز أن يكون القصد به كسبُ المال ولا الجاه، والعلم الأعز الأشرف لا يُبتغَى به إلا وجه الله.
وذكر من أعظم النيات في طلب العلم إحياء الدين وإبقاء الإسلام ونشره في العالم. وقد صح في الحديث عنه ﷺ: " من جاءَه الموتُ وهو يطلبُ العلمَ ليُحْيِيَ به الإسلامَ فبينَه وبين الأنبياءِ في الجنةِ درجةٌ واحدةٌ"، ولذا مات كثير من صلحاء الأمة وهو يعلّم أو حاضرٌ مجلسَ العلم، وكان بعضهم في سكرات الموت يقول لإبنه: اطرح الكتاب فوق صدري، وأخذ يقلِّب عينيه ليموت وهو يطلب العلم ليُحيي به الإسلام؛ إشارة إلى الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَلسِ) - وفي قراءة المجالس- (فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشِزُوا) -وفي قراءة انشُزوا- (فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)
وقد نزلت في أهل بدر، فكانوا من مظاهر أهل العلم في الأمة المحمدية، فإذا دخل أحدهم إلى المجلس قال النبي: افسحوا له، فإن ضاق المكان قال: قم يا فلان، فلما ثَقُلَ بعضهم أنزل الله الآية: (وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[المجادلة:11]
قال ابن عباس أن للعلماء فوق المؤمنين؛ ثلاثمائة درجة، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض.
الشعبة الثامنة عشرة
نشر العلم الشرعي
قال ﷺ: "ليُبلّغ الشاهدُ منكمُ الغائبَ" أي: يجب على السامع ما أقول منكم أن يُبلّغه مَن لَم يَسمَعه.
وهذا الحديث خطابٌ للصحابة، ثم لمَن بعدهم إلى يوم القيامة؛ فيجب التبليغ على أهل العلم.
فكلّ مَن تَعلّم مسألة واحدة؛ فهو من أهل العلم بها، وكل عاميّ عَرَف شروط الصلاة؛ فعليه أن يُعرِّف غيره، وإلا فهو شريكه في الإثم.
ويجب في كل مسجد ومحلّة من البلد؛ فقيهٌ يُعلِّم الناس ويُفَهِّمهم، وكذا في كل قرية، ويجب على كل فقيه فَرَغ من فَرضِ عينِه -على سبيل فرض الكفاية- أن يَخرُج إلى مَن يجاور بلده ويُعلّمهم دينَهم وفرائضَ شرائعهم، ويَستصحب مع نفسه زادًا يأكلُه ولا يأكل من أطعِمتهم. فإن قام به واحدٌ سَقطَ الحرجُ عن الباقين، وإلَّا عمَّ الحرَجُ الكافة أجمعين، أما العالِم؛ فلتقصيره في الخروج إلى ذلك البلد، وأما الجاهل؛ فلتقصيره في ترك التعلُّم، هكذا قال أحمد السُّحيميّ نقلًا عن الغزالي.
ثُم اعلَم أن لعالِم الآخرة ثلاث علامات؛
- إحداها: أن لا يَطلب الدنيا بعلمه.
- والثانية: أن يَقصد بالاشتغال بالعلوم السعادة الأخروية؛ فيكون مهتمًّا بعِلم الباطن لسياسة القلب.
- والثالثة: أن يكون مُعتمدًا في علومه على التقليد لصاحب الشريعة في أقواله وأفعاله.
ثُم إنّ لعَدم طلب الدنيا بالعِلم خمس علامات؛
- الأولى: أن لا يُخالف قولُه ما يفعله؛ فيكون هو أول فاعلٌ للمأمورات وتاركٌ للمنهيات.
- والثانية: أن يَعتني بالعِلم على حسب طاقته، ويَرغب في الطاعة، ويَتوقَّى عن علمٍ يُكثِر الجدال.
- والثالثة: أن يَجتنب تَرفُّه طعامٌ ومسكنٌ وأثاثٌ ولباسٌ.
- والرابعة: أن يَنقبض عن مخالطة السلطان؛ إلا للنّصح له، أو لدفع مظلمة، أو للشفاعة في مرضاة الله تعالى.
- والخامسة: أن لا يسارع إلى الفتوى؛ بل يقول احتياطًا: اسأل من يكون أهلًا للفتوى، وأن يَمتنع عن الاجتهاد إذا لم يَتعيَّن عليه، بل يقول: لا أدري إذا لَم يَسهُل الإجتهاد عليه.
قال تعالى: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران :187] .
وقوله (وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) [التوبة:122]
ولحديث الحارث المُحاسبيّ -رحمه الله تعالى-: "العلم يُورث الخشية، والزهد يُورث الراحة، والمعرفة تُورث الإنابة."
وعن الحسن البصري -رحمه الله تعالى- قال: أنه مرّ عليه رجلٌ؛ فقيل: هذا فقيه. فقال: أوَ تَدرون مَن الفقيه؟ إنّما الفقيه العالِم في دينه، الزاهد في دنياه، القائم على عبادة ربه.
الله أكبر، يقول في "شعبة نشر العلم الشرعي" وبثه بين الناس، "قال ﷺ: "ليُبلّغ الشاهدُ منكمُ الغائبَ".
ثم ذكر:
أن هذا الخِطاب وإن كان صادرًا للصحابة، فحكمه باقٍ في الأمة زمنًا بعد زمن، في كل مَن عَلِم شيئًا مما بُعث به رسول الله، وأن مَن تَعلّم مسألةً؛ فأتقنها.. فهو من أهل العلم بها؛ فيَعمل بها، ويُعلِّمها.
إنّما يَحذَر من الفتوى بغير علم، وما لم يُتيقّنه بأخذه عن أهله؛ فإنّ أجرأَ الناسِ على الفتوى.. أجرأهم على النار.
ونقل أيضًا ما ذكره الإمام الغزالي -رضي الله تعالى عنه- مِن وجوب أن يكون "في كل مسجد ومحلّة من البلد؛ فقيهٌ يُعلِّم الناس ويُفَهِّمهم"، ووجوب الخروج إلى مَن يجاور البلد لمَن عَلِم ليُعلِّمهم.
قال سيدنا عيسى بن مريم -عليه السلام: من علِم وعمِل وعلَّم، فذلك يُدعى عظيمًا في ملكوت السماوات.
وذَكر "لعالِم الآخرة ثلاث علامات"، وقد فصَّل هذه العلامات الإمام الغزالي في كتاب (العِلم) من (إحياء علوم الدين)":
وذلك أن علوم الشريعة قابَلَها الصحابة والتابعون وتابعوهم بحُسن النظر فيها، وقامت اجتهاداتهم فيما اختلفت فيه الأدلة أو سكت عنه الشارع؛ فنتج من ذلك اجتهادات صحيحة من الذين هم أهلٌ للاجتهاد.
وأظهر الله بين أهل السنة اجتهادات هؤلاء الأئمة الأربعة:
وخدَم مذاهبهم مَن تَلقّى عنهم وفرَّعوا المسائل؛ فلا بد من التَّلقّي عن شيخٍ أحْكَمَ التَّلقِّي عمَّن قَبله.. وهكذا؛ متصلًا سنَده إلى الأئمة إلى رسول الله ﷺ.
ثم قال: ما علامة أنه لا يَطلب بالعلم الدنيا؟ بل يريد وجه الله والدار الآخرة؟
فذكر خمس علامات:
والثانية: أن يربُط عِلمه بالطاعات والعبادات، ويَبتعد عن كثرة الجدال والمنازعات، قال ﷺ: "ما ضلَّ قومٌ بعد هدى كانوا عليه إلا أُوتوا الجَدَل".
فالواجب: بيان العلم وبيان الأدلة من دون الجدال العقيم، بل لا جدال إلا بالتي هي أحسن.
كان يقول بعض العارفين في القرون الأولى: إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا فتح له باب العمل وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد بعبدٍ شرًّا فتح له باب الجدل وأغلق عنه باب العمل.
ويكون أُنس الصادق المُخلِص بالجلوس مع الضعفاء والمساكين ومَن لا يُؤبه له.
كان مارًّا في الطريق على بغلته -يومًا- سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب، فوَجد في الطريق جماعة من المساكين وجمعوا كِسَرًا لهم وجلسوا يتغدون، فسلَّم عليهم؛ فقالوا: هلُمَّ إلى الغداء يا ابن بنت رسول الله. فنزل عن بغلته قائلًا: إن الله لا يحب المتكبرين، فجَلس معهم حتى أكل معهم وجبر خواطرهم. قال: قد دعوتموني فأجبتكم، فأنا أدعوكم غدًا للغداء عندي فأجيبوني. قالوا: لبيك يا ابن بنت رسول الله. فأعد لهم الغداء والهدايا والمواساة في اليوم الثاني، وأعطى كل واحدٍ منهم ما يَستغني به. الحسين تربى في بيت رسول الله وفاطمة وعلي، فأورثته هذه الأخلاق.
قال:
الشعبة التاسعة عشرة
تعظيم القرآن واحترامه
فمن ذلك أن يقرأه وهو على طهارة، وأن لا يمسه إلا طاهرًا، وأن يستاك ويتخلل عند إرادة قراءته، وأن يَستويَ لقرائته قاعدًا إن كان في غير صلاة، ولا يكون متكئًا، وأن يلبس ثياب التجمُّل لأنه مُناجٍ ربه، وأن يستقبل القبلة لقراءته، وأن يتمضمض كلما تنخم، وأن يُمسك عن القراءة إذا تثاءب، وأن يقرأه على تؤدة وترتيل، وأن يؤدي لكل حرفٍ حقه من الأداء، وأن لا يَترك الصحيفة منثورة إذا وضعها، وأن لا يضع فوقه شيئًا من الكتب حتى يكون أبدًا عاليًا على سائر الكتب، وأن يضعه في حجره إذا قرأه أو على شيءٍ بين يديه ولا يضعه بالأرض، وأن لا يمحوه من اللوح بالبزاق؛ بل يغسله بالماء وأن لا يَتخذ الصحيفة إذا بُليَت ودَرسَت وقاية للكتب؛ فإن ذلك جفاءٌ عظيمٌ، ولكن يمحوها بالماء، وأن لا يقرأ في الأسواق ولا في مواطن اللَّغط واللَّغو ومَجمع السفهاء، وأن لا َيصب غسالته على كناسة إذا اغتسل بكتابته مُستشفيًا من سقم ولا في مَوضع نجاسة ولا على موضع يِوطأ، ولكن على ناحيةٍ من الأرض في بقعةٍ لايَطؤها الناس أو يَحفر حفيرة في موضعٍ طاهرٍ حتى يَصب من جسده في تلك الحفيرة ثم يسكبها أو في نهرٍ كبيرٍ يختلط بمائه فيجري، وأن يُسمِّي الله على كل نَفَس إذا كتبه أو شربه ويُعظِّم النية في ذلك؛ فإن الله يؤتيه على قدْر نيته.
قال تعالى : لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [الحشر:21]
و قال تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة:77-79]
وقال النبي ﷺ فيما رواه البخاري عن عثمان رضي الله عنه: "أفضلُكم -أو خيرُكم- من تعلَّم القرآن وعلمه الناس".
وعن عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله هذا الكتاب فقام به آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالا فهو يتصدق به آناء الليل والنهار".
ما شاء الله..
يذكر الشيخ عليه رحمة الله في هذه الشعبة، "شعبة القرآن"، أحوال المؤمن مع القرآن وكيفية تعظيمه، وشعائر الله تبارك وتعالى هي معالم دينه، وأعظم شعائر الله خمس:
فهذه الخمس أعظم شعائر الله، (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32].
أعظمها: القرآن، ومحمد رسول الله، ثم الكعبة المشرفة، والصلوات الخمس، ورمضان.
وفي الحديث: من جعل القرآن أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار.
وكان عكرمة إذا نُووِل القرآنَ يقوم من أجْل القرآن، ثم يضعه على وجهه ويقول: "كلام ربي، كلام ربي، كلام ربي"، ويبكي، وقد يغشى عليه.
ولمّا قالوا لبعض الأولياء وكان معتزلًا: ألا تستوحش وحدك في هذا المكان؟ فقال: كيف أستوحش وأنا إذا أردت أن أكلّم ربي كلمتِه، وإذا أردتُ أن يكلّمني كلّمني تعالى! قالوا: كيف ذلك؟! قال: إذا أردتُ أن يكلّمني قرأتُ القرآن، وإذا أردتُ أن أكلّمه قمتُ إلى الصلاة. فمَن كان يكلّمه ربُه ويكلّم ربَه، كيف يستوحش؟
قال بعضهم لشيخ شيوخنا الحبيب علوي بن شهاب: عسى ما عندكم ضيق؟ قال: كيف يكون عندي ضيق وعندي كتاب الله تعالى وكتب العالمين بكلام الله؟
وكان القرآن من أعظم نعم الله علينا.
فإذا لم تنفتح الصفحة؛ فليعالجها حتى تنفتح، أو يستعين بماء لا بريقه، ثم بعد القرآن؛ كتب الحديث وكتب العلم، لا ينبغي أن يبلها بريقه.
ثم القرآن وغيره من أمور الشريعة؛ استفادة المؤمن منه على قدْر تعظيم قلبه له، وذكر حديث البخاري عن سيدنا عثمان عن رسول الله ﷺ: "خيرُكم مَن تعلَّم القرآنَ وعلَّمه".
الشعبة العشرون
الطهارة
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ) [المائدة:6]
وقال رسول الله ﷺ: "الطُّهور شطْر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والله أكبر تملآن -أو تملأ- ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدو، فبايعٌ نفسه فمُعتِقها أو مُوبِقها".
ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما في صحيح مسلم أيضا: "لا يَقبَل الله عز وجل صلاةً بغير طُهور، ولا صدقةً من غُلول".
وقال عمر رضي الله عنه: إن الوُضوء الصالح يطرد عنك الشيطان.
ثم قال السُّحَيميّ: "الطُّهور" -بضم الطاء-، أي: الوُضوء الظاهريّ والباطنيّ "نصف الإيمان" باعتبار الثواب.
قال حاتم الأصم لعاصم بن يوسف رضي الله عنه: إذا حضر وقت الصلاة توضأ وُضوءين: وُضوء ظاهري ووُضوء باطني. قال عاصم: كيف ذلك؟ قال: أمّا وضوء الظاهر؛ فتَعلَم، وأمّا وُضوء الباطن؛ فالتوبة والندامة وترك الغل والغش والشك والكبْر وترك حب الدنيا وثناء الخلق والرياسة.
وقول الناظم: "تُعصَمُ" -بضم الميم- وهو بإضمار المبتدأ في محل جزم جواب الأمر، التقدير: فأنت تُعصم من البلاء؛ فإن الطهارة تمنع ذلك، كما رويَ عن بعضهم.
وقال عمر رضي الله عنه: إن الوُضوء الصالح يطرد عنك الشيطان.
قال الناظم:
صلِّ الصلاة وزكِّ مالك ثم صُمْ *** واعتكف وحُجَّ وجاهدَن.
ذكر الناظم في هذا البيت ست شعب، فيقال على نسق ما تقدَّم.
ما شاء الله... "شعبة الطهارة"، طهَّرنا الله وإياكم ظاهرًا وباطنًا.
"الطُّهور شطْر الإيمان"، يعني: جزءٌ منه مهم، والمُتَوضئ أبعد عن أن تصيبه العين، أو أن يصيبه السحر.
ومن وظائف المريد السائر لله تعالى؛ أن يحافظ على الطهارة، كلما أحدث توضأ.
وإحسان الوضوء يترتب عليه إحسان الصلاة. قالت سيدتنا نفيسة مُثْنية على الإمام الشافعي عند موته: رحمه الله، إنه كان يُحسن الوضوء.
وذكر قول سيدنا حاتم لعاصم: إذا حضَر وقت الصلاة توضأ وضوءين؛ ظاهر وباطن.
قال: كيف ذلك؟ قال: قد علمت وضوء الظاهر،
والوضوء الباطن:
فنتذكر من فرْض الله علينا تغسيل أعضائنا الظاهرة؛ أن نغسل قلبنا الباطن، جعلنا الله ممَّن يُحسِن الوضوء ويُحسِن الصلاة ويُتابِع في كل ذلك رسول الله.
فإن من اعتنائه بالوضوء، كان يتوضأ كثيرًا أمام الصحابة، كان بعض الصحابة يقول للتابعين: ألا أرِيكم كيف كان يتوضأ رسول الله؟ فيتوضأ أمامهم كما رأى النبي ﷺ، وكانوا يَعتنون بحفظ ماء وضوئه ﷺ، فإذا أَكمل الوضوء أقبلوا يتزاحمون عليه، حتى جاء في صحيح البخاري عن بعض الصحابة: فرأيتُ مَن لَم يَجد شيئًا أَخذ من بَلَل صاحبه فتمسح به.
فلو نَظر إليهم مَن لا يعرف حقيقة الدين من الجهّال والمُبتدعين لقال: هؤلاء صوفية مبالِغون، يكادون يَقتتلون على ماء وُضوئه! ومَن لَم يَجد شيئًا أَخذ من بلَل صاحبه وتمسَّح به!
لكنّا نقول:
هذه عقيدة الصحابة، وهذا مذهب الصحابة، وهذا منهج الصحابة، وأمامهم زين الوجود يراهم، فمن كان عنده عقيدة ومذهب غير هذا؛ فليأخذه له ولا يغرَّنا به، فما نريد إلا ما كان عليه رسول الله وأصحابه.
ثبتنا الله على دَربِهم وحَشرنا في زمرتهم.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد ﷺ
الفاتحة.
30 ربيع الثاني 1447