منظومة شعب الإيمان - 5 | الرجاء لرحمة الله والتوكل، ومحبة النبي ﷺ وتعظيم قدره
الدرس الخامس للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ في شرح كتاب: قامع الطغيان على منظومة شعب الإيمان، للعلامة محمد نووي بن عمر البنتني الجاوي، في مسجد الاستقلال، جاكرتا، إندونيسيا، فجر السبت 26 ربيع الثاني 1447هـ.
شرح شُعب الإيمان، الشعبة 12 : الرجاء في رحمة الله، الشعبة 13: التوكل عليه، الشعبة 14: بيان محبة النبي ﷺ، الشعبة 15: تعظيم قدر النبي، الشعبة 16: البخل بدين الإسلام.
لتحميل: (قامع الطغيان على منظومة شعب الإيمان) PDF
نص الدرس مكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل إلى الإمام محمد نووي بن عمر البنتني الجاوي على منظومة شعب الإيمان للإمام العلّامة زين الدين بن علي المليباري في كتابه "قامع الطغيان على منظومة شعب الإيمان"، نفعنا الله به وبعلومه وعلومكم في الدّارين آمين، ورضي الله تعالى عنه وعنكم إلى أن قال:
الشعبة الثانية عشرة
الرجاء لرحمة الله تعالى
"قال الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ)[الزمر: 53]
قال رسول الله ﷺ: "الْفَاجِرُ الرَّاجِي لِرَحْمَةِ الله تَعَالَى أَقْرَبُ إلى الله تعالى مِنَ الْعَابِدِ المُقْنِطِ".
ورُوي عن عمر عن زيد بن أسلم: أن رجلًا كان في الأمم الماضية يجتهد في العبادة ويشدِّد على نفسه ويقنِّط الناس من رحمة الله تعالى؛ ثم مات، فقال: يا رب ما لي عندك؟ فقال: لك النار، فقال: يا رب؛ فأين عبادتي واجتهادي؟ فقال: إنك تقنِّط الناس من رحمتي في الدنيا، فأنا أقنِّطك اليوم من رحمتي!
وحقيقة الرجاء هو: ارتياح القلب لانتظاره ما هو محبوب عنده؛ ولكن ذلك المحبوب المتوقع لا بد وأن يكون بسبب، فإن انخرمت أسبابه فهو الغرور والحمق، وإن لم تكن الأسباب معلومة الوجود ولا معلومة الانتفاء فهو التمنِّي. فإذا خطر ببالك موجودٌ فيما مضى سُمِّي تذكُّرًا، وإن كان ما خطر ببالك موجودًا في الحال سُمِّي وجدًا وذوقًا وإدراكًا، وإن كان قد خطر ببالك وجود شيء في الاستقبال وغلب ذلك على قلبك سُمِّي انتظارًا وتوقعًا، فإن كان المنتظر مكروهًا حصل منه ألم في القلب سُمِّي خوفًا وإشفاقًا، وإن كان محبوبًا حصل من انتظاره لذة في القلب وارتياح يسُمِّي ذلك الإرتياح رجاءً؛ كذا في الإحياء. قال تعالى: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)[الإسراء: 57]، وقال تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)[الأعراف: 56]
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين: "لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمَعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ". ولحديث جابر في صحيح مسلم: "لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ"، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين: "يَقُولُ اللهُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي".. وذكر الحديث."
الحمدلله خالقنا، الموجدِ لكل شيء. وإلهنا الذي إليه مرجع كل شىء، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جمعنا في بيت من بيوته لتلقِّي رحمته، وتوقِّي عذابه وشدَّته، مُلبِّين لدعوته، مُقتدين برسول الله وسنته. ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، وحبيبه وصفيُّه وخليله، أعرف الخلائق بالله الخالق، فهو أخوفهم من الله، وهو أرجاهم لله، وهو أتقاهم لله.
صلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك المصطفى سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم والتابعين، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعد،،
فيا حاضرين بين يدي الله في بيتٍ من بيوته لقصد تعلُّم العلم، أحضِروا قلوبكم، وقد صح في الحديث: "مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يُعَلِّمَهُ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامٍّ حَجَّتُةُ".. الله يكتب لنا هذا الثواب بفضله.
وصحَّ في الحديث فيما روى الإمام الترمذي وغيره: "مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ". فكل من حضر في المجْمع وقصده طلب العلم، وعَلِمَ الله ذلك من قصده، فهو من حين خروجه كالمجاهد في سبيل الله، وأعماله تضاعَف إلى سبعمائة حتى يرجع.
وقد حدّثنا الشيخ العلامة محمد النووي الجاوي -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- البنتني في كتابه هذا عن شعبة من شعب الإيمان، وهي "شعبة الرجاء"
والرجاء: توقُّع مطلوب وأمر حسن مع القيام بأسباب تحصيله، ويكون على قدر المعرفة بالله -تبارك وتعالى- وقوة الإيمان به، وهو ملازم للخوف من الله؛ لأن كلاهما نتيجة معرفة الله. والمراد به المعرفة الخاصة.
والمعرفة الخاصة: الوصول من علم اليقين إلى عين اليقين. والمعرفة الخاصة ألذ شيء يجده روح المؤمن بالله من أهل أرضه وأهل سماواته.. فنسأل الله الرحمن أن يتعرف إلينا ويوفِّر حظ كلٍّ منا من معرفته. فمن عرف الله؛ رجاه ضرورة، وخافه ضرورة، وتوكِّل عليه ضرورة.
ويُقوِّي الخوف:
- قراءة آيات الوعيد وما ذكر الله -تبارك وتعالى- من أهوال القيامة والآخرة.
- وما ذكر رسوله ﷺ في ذلك.
- وتأمُّل أحوال الخائفين من النبيين والصديقين.
- وقراءة أحوال خوفهم مع الله تعالى.
كذلك أسباب قوة الرجاء:
- تأمل ما ورد عن الله ورسوله من أخبار الوعد والفضل والإحسان والمسامحة والعفو والكرم والمغفرة ونعيم الآخرة.
ومن اجتهد في ترك الذنوب والمعاصي، وأقبل على فعل الواجبات ثم المندوبات؛ فرجاؤه صحيح؛ ومَثَلُه كمن أراد وجود فاكهةٍ فجاء ببذرها، وغرسه في الأرض وسقاه وتعهَّده حتى تكبر الشجرة وتُثمر. ومن استرسل في فعل المعاصي -صغيرها أو كبيرها- وترك الواجبات وأهمل الطاعات، ثم قال إنَّه راجٍ؛ فهو كذاب بل هو متمنٍ، كمن لم يبذر ولم يسقِ ولم يتعاطَى أسباب البذر وأسباب طلوع الشجرة، ثم رجا أن تحصل له الفاكهة من الشجرة؛ وهذا ما قرره القرآن، وقرره رسول الله ﷺ.
- يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ..)[البقرة: 218]، أي: هؤلاء يصح منهم الرجاء ويكون الرجاء مستقيمًا.
- وقال -تعالى-: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ..﴾، وقال -سبحانه وتعالى- بعد ذلك: ﴿..قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[الزمر:9]، مشيرًا إلى أن أهل العلم هم الذين يقومون بالليل قانتين لربهم ساجدين وقائمين يحذرون الآخرة ويرجون رحمة الله.
وفي ذلك قالوا:
العلم خشية كُلّه *** يُعرَفْ بذاك أهلُه
العلم بالأعمالِ *** يزكو وبالأحوالِ
وليس بالأقوالِ *** وكثرة الجدالِ
ويقول النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-: "الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ -أي حاسبها- وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالأَحْمَقُ الْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ثُمَّ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأمَانِي".
وكما أن الخوف واجب من واجبات الإيمان ومقام من مقامات اليقين، والرجاء كذلك واجب من واجبات الإيمان ومقام من مقامات اليقين. فإن الأمن من مكر الله من الكبائر، وإن اليأس من رحمة الله والقنوط من كبائر الذنوب والمعاصي.
- والقانط: هو الذي يعتقد أن رحمة الله لا تَسَعُهُ، ويجزم على نفسه بالهلاك والنار والعذاب؛ فكأنه يعتقد أن ذنوبه ومعاصيه أكبر من عفو الله ورحمته؛ وبذلك كان في كبيرة من كبائر الذنوب.
- والآمن من مكر الله -تبارك وتعالى-: هو الذي يجزم لنفسه بالخير، من غير أن يكون له سعي في الخير، ويجزم بألَّا يُصيبه شيء من العذاب، فكأنَّه يُدلُّ على الله، وكأنَّ الله لا يقدِر على أن يعذبه.
- قال تعالى-: (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)[الأعراف: 99].
- وقال-تبارك وتعالى-: (وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ)[الحجر: 56].
- وقال: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف:87]، فالله يزيدنا إيمانًا وخوفًا ورجاءً.
وينبغي أن يعتدل خوف المؤمن ورجاؤه في أكثر حياته، إلا عند قرب الموت والأجَل فينبغي أن يكثر ويغلِّب الرجاء على الخوف. قال ﷺ: "لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلّا وَهو يُحْسِنُ الظَّنَّ باللَّهِ". ودخل على شاب من الصحابة وهو في النزع في سكرات الموت فقال: كيف تجدك؟ قال: يا رسول الله، أرجو ربي وأخاف ذنبي. قال: ما اجتمعا في قلب مؤمن في مثل هذا الموطن؛ إلا آتاه الله ما يرجو وأمَّنه مما يخاف.
والذي يقصّر في كثير من الأمور ولكنه مملوء القلب برجاء الله -تبارك وتعالى- أقرب إلى رحمة الله، مِن الذي يكثر الطاعات ويقنِّط من رحمة الله.
الله أكبر!
وذلك؛
- لأن المقصِّر عصى الله بجوارحه.
- والقانط من رحمة الله عصى الله بقلبه.
ومعصية القلب أعظم من معاصي الجوارح. فاحذر أن تعصي الله تعالى بالأمن من مكره أو أن تعصيه باليأس من رحمته، فربك أحق أن يُخاف منه كل شيء.
وجاء زائر إلى الإمام التابعي طاؤوس اليماني عليه رحمة الله تبارك وتعالى، فكلمه ابنه عند باب بيته، فقال: أنت الشيخ طاؤوس؟ قال: لا، أنا ابنه، قال: أنت ابنه وأنت شايب، فربما كان أبوك لا يعي، قال: إن والدي كامل الوعي، إن المؤمن لا يخرَف، قال: فاستأذن لي أدخل عليه فدخل، ولكن قال له: يقول أبي ادخل ولا تُطِي الكلام لأنه في آخر عمره وما بقي إلا القليل فلا يضيع وقته، اختصر كلامك. فلما دخل عليه وسلم ورد عليه السلام، قال: جئت أريد منك نصيحة تنصحني بها، قال: تريد أن أجمع لك التوراة والإنجيل والزبور والقرآن في ثلاث كلمات؟ قال: ياحبَّذا، فقال:
- خَف من الله حتى لا يكون شيء أخوف عليك منه.
- وارجُهُ أكثر من خوفك منه.
- وأحبَّ للناس ما تحب لنفسك.
اذهب فإنك إن عملت بهذه الثلاث فقد عملت بما في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن. اللهم وفقنا لها وارزقنا العمل بها.
- وعلامة صحة الرجاء: الرغبة في كثرة الأعمال الصالحة.
- وعلامة صحة الخوف: البعد عن الذنوب والاجتناب لها.
وكل ما ادُّعي أنه رجاء ولا يحمل على كثرة الطاعات؛ فهو حديث نفس وصورة لا حقيقة للرجاء. وكل خوف لا يبعد عن الذنوب والمعاصي؛ فهو حديث نفس وخيال بعيد عن حقيقة الخوف.
وذكر عن الإمام الغزالي رضي الله -تبارك وتعالى-عنه: "فإذا خطر ببالك موجودٌ فيما مضى سُمِّي تذكُّرًا، وإن كان ما خطر ببالك موجودًا في الحال سُمِّي وجدًا وذوقًا وإدراكًا، وإن كان قد خطر ببالك وجود شيء في الاستقبال وغلب ذلك على قلبك سُمِّي انتظارًا وتوقعًا،فإن كان المنتظر مكروهًا حصل منه ألم في القلب سُمِّي خوفًا وإشفاقًا، وإن كان محبوبًا -مطلوبا- حصل من انتظاره -فرحا واستبشارا؛ هذا الفرح والاستبشار هو- الرجاء".
"وقال تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)[الأعراف: 56]"
وما عند الله تعالى أكبر مما يتصور الخلائق، ولذلك جاء الحديث: "لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمَعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ".
الشعبة الثالثة عشرة
التوكل
قال الله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[المائدة:23]. والتوكل ثلاث درجات:
- الأولى: أن يكون حاله في حق الله تعالى وفي الثقة بكفالته وعنايته كحاله في الثقة بالوكيل.
- الثانية: أن يكون حاله مع الله تعالى كحال الطفل في حق أمه فانه لا يعرف غيرها ولايفزع إلى أحد سواها ولايعتمد إلا إياها؛ فإن رآها تعلق بها في كل حال، وإن نابه أمر في غيبتها كان أول سابق إلى لسانه: يا أماه، وأول خاطر على قلبه أمه؛ فانه قد وثق بكفالتها وشفقتها ثقة تامة.
- الثالثة: أن يكون بين يدي الله في حركاته وسكناته مثل الميت بين يدي الغاسل لا يفارقه إلا أن يرى نفسه ميتا تحركه القدرة الأزلية كما تحرك يد الغاسل وهو الذي قوي إيمانه بأنه تعالى مجرٍ للحركة وهذا أعلى الدرجات والأولى أدناه والثانية أقوى من الأولى.
قال الناظم:
وَاحْبُبْ نَبِيَّكَ ثُمَّ عَظِّمْ قَدْرَهُ *** وَابْخَلْ بِدِيْنِكَ مَا يَرَى بِكَ مَأْثَمُ
ذكر الناظم في هذا البيت ثلاث شعب. فيقال على نسق ما تقدم:
وهكذا يتحدث عن "شعبة التوكل على الله تعالى" ومعناها: الثقة به والاعتماد عليه، وألا يركن ولا يعتمد على فعله ولا على قوله ولا على أحد من الخلائق أجمعين، موقنًا بأنهم لو اجتمعوا على شيء لم يرده الله لا يكون، ولو اجتمعوا على إبعاد شيء أراده الله فلا يقدرون أن يبعدوه.فـ"ماشاء اللهُ كان، وما لم يَشَأْ لم يَكُنْ"، وقال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[المائدة:23]، مشيرًا إلى أن من ضرورة الإيمان التوكل على الله، وعلى قدر قوة الإيمان تكون قوة التوكل، وكلها راجعة إلى الثقة به والاعتماد عليه والركون إليه سبحانه وتعالى دون من سواه.
قال الله لِأعرَفِ الخلق به وهو نبينا محمد:
- (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا)[الأحزاب:3]، فهو سيد المتوكلين على الله.
- وقال له: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران:159].
وكل معتمد على غير الله فهو في وهم وظن وخيال؛ لأن الحقيقة أن (مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[فاطر:2].
ولما سأل الأعرابي رسول الله: هل أعقل ناقتي أو أتوكل؟ قال: "اعقِلها وتوَكَّلْ"؛ مشيرًا إلى أن من أمكنه الله ويسر له أن يقوم بسببٍ فليس ترك السبب من التوكل على الله -تبارك وتعالى-، بل القيام به من العبودية لله والأدب مع الله. وهكذا يكون فعل السبب من غير اعتماد عليه ولا ركون ولا استناد. وما ضعف عنه قوة الإنسان من الأسباب فيعتمد على الله -تبارك وتعالى- ولا لوم عليه في ترك السبب لأنه لا يقدر عليه.
وذكر درجات التوكل وأن عموم المؤمنين؛
- يكون أحدهم كمن يتوكل على محامٍ له في قضية يعلم قوة هذا المحامي وقوة حجته وخبرته بالمحاماة وأنه يقوم معه بكُلِّيَّته ويصدق في خدمته، فحاله في التوكل مع الله كحال من يثق بإنسان يعلم قدرة هذا الإنسان ويعلم أيضًا علم هذا الإنسان ويعلم أيضًا إرادة هذا الإنسان الخير به ومحبته.
- وأعلى منه من يحمله الإيمان القوي والمعرفة بالله تبارك وتعالى على أن يكون في جميع أحواله وشؤونه ملتجئًا إلى الله ومعتمدًا عليه، أول ما يخطر على باله عند إرادة أي شيء أو الخوف من أي شيء؛ الله تعالى، وسؤال الله -تبارك وتعالى-؛ فيكون حاله كحال الصبي الصغير الذي لا يعرف إلا أمه ويثق بشفقتها ويرى أنها قادرة على ما هو عاجز عنه؛ فيتعلق بها في أحواله وكل ما أصابه شيء ينادي: يا أماه، يا أماه في كل ما يريد وفي كل ما يخاف منه يقول: يا أماه. وهذه درجة أعلى من الأولى.
وبذلك تعلم أن الذين يخافون من أي شيء في الحياة ثم يركنون إلى الناس وإلى الاعتماد عليهم أنهم ناقصو الإيمان وأنهم مسيئو الأدب مع الرحمن -جل جلاله-.
وقال تعالى: (إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[آل عمران:175]، فالشيطان يخوف المؤمنين من أوليائه أي من الكفار، ويقول عندهم قوة وعندهم قدرة ولا تقدرون عليهم وأمثال ذلك من الوهم والظن والخيال، وحرَّم الله علينا أن َّنصدقه. قال: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
وبين الله لنا حال أصحاب نبينا ﷺ عندما خُوِّفوا من بعض الكفار، فأرسل أبو سفيان في أيام كفره إلى المدينة المنورة من يخوف الصحابة ويقول: إن أبا سفيان جمع لكم جموعًا من قبائل العرب كثيرة بأسلحة كبيرة لا تقدرون عليهم، فاحذروا أن تخرجوا. فكلما كلَّم الذي بعثه أبو سفيان أحدًا من الصحابة قال له: حسبنا الله ونعم الوكيل.. والثاني والثالث كلما يُكلِّم واحدًا يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، فيقول: ما بال هؤلاء لا يخافون؟! فأنزل الله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[آل عمران:173]، فكيف كانت النتيجة؟ خرج النبي ومعه الصحابة، ووجدوا المشركين قد خافوا وما جاءوا، ورجعوا. (فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)[آل عمران:174].
وأمام كل ما يخوِّفنا الشيطان من الفقر أو الانقطاع عن سبيل الله أو تسلُّط الكفار علينا، نقول جميعًا: "حسبنا الله ونعم الوكيل" ج فنقولها سبع مرات بألسنتنا وقلوبنا صادقين مع الله -تبارك وتعالى-، لنا ولأهلنا ولأهل إندونيسيا وللمسلمين في المشارق والمغارب فنقول جميعا: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [7مرات] (فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)، اجعلنا ممن ينقلب بالنعمة ولا يمسنا سوء، وتفضل علينا يا ذا الفضل العظيم.
الشعبة الرابعة عشرة
محبة النبي محمد ﷺ
قال رسول الله ﷺ: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله ووالده والناس أجمعين"، والمراد بالناس غير هؤلاء المذكورين من القرابة والمعارف والجيران والأصحاب وغيرهم. وحب الرسول هو عين حب الله تعالى، وكذلك حب العلماء والأتقياء لأن الله تعالى يحبهم وهم يحبونه، وكل ذلك يرجع إلى حب الأصل فلا يتجاوزه إلى غيره، فلا محبوب بالحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله تعالى، ولا مستحق للمحبة سواه.
ولحديث أنس في الصحيحين: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما...". قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال: "ما أعددت لها؟" قال: ما أعددت لها كثير صيام ولا صدقة، إلا أني أحب الله ورسوله. قال: "أنت مع من أحببت".
الله أكبر!
وهذه شعبة عظيمة من شعب الإيمان؛ الحب في الله -تبارك وتعالى-، بمعنى: ألا تحب أحدًا من الخلق إلا من أجل الله.
وبذلك تعلم أن؛
- أحق من تحب من الخلق؛ هم أهل طاعة وأهل قربة.
- وأعظمهم الملائكة والأنبياء والمرسلون.
- وأعظم هؤلاء أجمعين عبد الله وحبيبه محمد.
ولا يجوز أن نقدم في المحبة من أجل الله أحدًا من الخلق على سيدنا رسول الله، ولو كانوا آباءنا أو أمهاتنا أو كانت أنفسنا؛ فذلك أن الله لم يحب أحدًا كما أحب محمدًا، ولا أحب منا أن نحب أحدًا من الخلق كما نحب عبده محمدًا.
وبين ذلك واضحًا في القرآن العظيم: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ..) تهديد عظيم! قال: (..وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[التوبة:24] فالمعنى: من قدَّم شيئًا من هذا على محبة الله ورسوله فهو فاسق خارج عن الطريق الصحيح.
وهذا الأمر العظيم الذي تميز به الصحابة، فكان رسول الله أحب إليهم من أنفسهم وأهلهم وأموالهم وأولادهم وآبائهم وأمهاتهم. حتى لما شاهدهم يوم صلح الحديبية عروة بن مسعود الثقفي، رجع إلى قريش وهو من خلال ساعة شاهدهم فيها أيقن بقوة محبتهم للنبي فقال لقريش: إن معه قومًا لا يسلمونه أبدًا، لقد وفدتُ على كسرى في ملكه، وعلى قيصر في ملكه، وعلى النجاشي في ملكه، فما رأيتُ أحدًا يحب أحدًا كما يحب أصحاب محمدٍ محمدًا، وما رأيت أحدًا يعظِّم أحدًا كما يعظم أصحاب محمدٍ محمدًا، يجلسون بين يديه كأن على رؤوسهم الطير، وما يحدُّون النظر إليه تعظيمًا له، إذا أمر أمرًا ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه.
الشعبة الخامسة عشرة
تعظيم قدر نبينا محمد ﷺ
"والتعظيم بأن يعرف علوَ قدره، ويراعي الأدب عند ذكره وسماع اسمه وحديثه، ويُكثِرَ الصلاة والسلام عليه، ويعتني باتباع سنته.
- قال الله تعالى: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)[الحجرات:2].
- وقال تعالى: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ)[الفتح:9].
- وقال تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ)[الأعراف:157].
- وقال تعالى: (لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا)[النور:63]."
ميَّزَه الله تعالى على جميع من سواه من جميع الخلق، فيجب على أمته أن تعرف إكرام الله لهم بأن جعلهم من أمته، وأن يقوموا بتعظيمه من أجل الله.
ولنتأمل قول ربنا: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ..)، لكن ينال عظيمها وكبيرها من؟ قال تعالى: (..فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)، ومن هؤلاء؟ قال: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ..) يعني: أوصافه (..فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ)، آمنا برسول الله، قال: (وَعَزَّرُوهُ)، يعني: عظَّموه واحترموه وبجّلوه، (..وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ..)، اللهم كما أنعمت علينا بالإيمان به فأنعم علينا بتعظيمه وتوقيره وارزقنا حسن متابعته، وارزقنا نصرته والقيام بنصرته في أنفسنا وأهلينا وأولادنا وكل ما عندنا، فاجعلنا من المفلحين (..فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الأعراف:156-157].
وذكر الآيات في الأدب مع النبي ﷺ:
- قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)[الحجرات:1] وما أحد يقدر يتقدم على الله، لكن الله جعل الذي يتقدم على رسوله كأنه تقدم عليه -جل جلاله- ثم قال:(لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ..) يعني: من رفع صوته وجهر له بالقول أن يحبط عمله (..أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)[الحجرات:2] فتحبط الصلوات والزكوات والحج والجهاد في سبيله، وكل الأعمال الصالحة تُحبط إذا أساء الأدب على رسول الله. فلا يحبط جميع الأعمال الصالحة إلا الكفر أو إساءة الأدب مع رسول الله، الله أكبر!
- وقال في الآية الأخرى: (لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا)[النور:63]، وبعد نزول الآية السابقة، كان لا يكاد يُسمع في حضرة النبي صوت أبي بكر ولا صوت سيدنا عمر، كانوا يخاطبونه بخفض الصوت، حتى أنه مع قوة سمعه أحيانًا لا يسمع بعض كلامهم فيقول له: ماذا قلت؟ وأنزل الله فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ..) أي: عَلِم أن في قلوبهم حقيقة التقوى له تعالى: (..لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)[الحجرات:3]، وهذه المعاني التي كان يتكلم عنها البارحة شيخ أبوبكر بن أحمد مفتي كيرلا في جنوب الهند.
وقد كانوا في تعظيمهم له صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ومحبتهم له، يذكره أحدهم وهو بين أهله وولده فلا يصبر حتى يخرج يترقب أن ينظر إلى وجهه الكريم، ويتذكرون الآخرة وأنها حياة الأبد ويقولون: ماذا تفيدنا الجنة إن دخلناها وهو في منزلة أعلى فلا نراه؟ حتى بسبب محبتهم هذه؛ أنزل الله الآية: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ)[النساء:69]، فصَلُحَت أحوالهم وبلغوا فوق آمالهم، ولن يصلُحَ آخر هذه الأمة إلا بما صَلُح به أولها، فاثبتوا على تعظيم الله ورسوله، وصدق المحبة لله ورسوله، ولأهل بيته وصحابته، وأولياء وعلماء أمته خاصة، والمؤمنين عامة؛ فهذا المسلك الصحيح. وبتفويته تذهب حقائق الإيمان، وكل ما تسمعونه من إساءة أدب مع الصحابة أو آل البيت أو العلماء؛ فاعلموا أن أصله من عدو الله إبليس ليقطعكم عن الله.
ويجند إبليس كثيرًا من الجن والإنس؛ لأجل قطع أدبهم مع الله ورسوله، وبعضهم يتبين ذلك ويُصرُّ بهواه، وكثير منهم مغتر بزخرف القول من كلام هذا وهذا وينطلق، ولا عذر لهم عند الله.
الشعبة السادسة عشرة
البخل بدين الإسلام
كأن يكون القتل والإدخال في النار أحب إليه من الدخول في الكفر، ويعرف أن دينه أعزَّ عليه من جميع أولاده وأمواله. حُكيَ أن عمر بن عبد العزيز في وقت خلافته أرسل جماعة إلى الروم لأجل الغزو، فانهزموا وأُسر عشرون شخصًا منهم، وأمر قيصر الروم واحدًا منهم أن يدخل في دينه ويعبد الصنم، وقال: إنْ دخلتَ في ديني وسجدت للصنم أجعلك أميرًا في بلدة عظيمة، وأعطيك العَلَم والخِلَع والكؤوس والبوق، وإنْ لم تدخل في ديني أقتلك وأضرب عنقك بالسيف، فقال: لا أبيع الدين بالدنيا، فأمر بقتله، فقُتل في الميدان وضُرب عنقه بالسيف، فدار رأسه في الميدان وكان يقرأ هذه الآية: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي)[الفجر:27-30]، فغضب القيصر وأخذ الثاني وقال: ادخل في ديني أجعلك أميرًا في مِصر كذا، وإلا أقطع عنقك كما قطعتُ عنق صاحبك، فقال: لا أبيع الدين بالدنيا، فإن كان لك ولاية قطع الرأس فليس لك ولاية قطع الإيمان، فأمر بقطع رأسه فقُطع، ودار كما دار رأس صاحبه ثلاث مرات وكان الرأس يقول هذه الآية: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ)[الحاقة:21-23]، فوقف عند رأس الأول، فغضب قيصر غضبًا شديدًا وأمر أن يؤخذ الثالث وقال: ما تقول أنت؟ هل تدخل في ديني وأجعلك أميرًا؟ فأدركته الشقاوة وقال: دخلت في دينك واخترت الدنيا على الآخرة، فقال قيصر لوزيره: اكتب له مثالًا وأعطه خلعًا وكؤوسًا وعلمًا، فقال وزيره: يا ملك، كيف أعطيه بغير تجربة؟ فقال الوزير: قل له إن كنت صادقًا في كلامك فاقتل رجلًا من أصحابك نصدق كلامك، فأخذ الملعون واحدًا من أصحابه فقتله، فأمر الملك الوزير أن يكتب له المثال، فقال الوزير للملك: هذا ليس من العقل أن تصدق كلامه، فإنه ما رعى حق أخيه الذي وُلد معه ونشأ معه، فكيف يرعى حقنا؟! فأمر بقتله، فقُطع رأسه ودار في الميدان ثلاث مرات وكان الرأس يقرأ هذه الآية: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ)[الزمر:19]، فوقف في طرف الميدان ولم يحضر عند الرأسين، فصار إلى عذاب الله، نعوذ بالله من الضلال.
قال الناظم:
واطلُب بعلمٍ ثم لَقِّنهُ الوَرَى *** عظِّم كلام الرب واطْهُر تُعصَمُ
نعوذ بالله من الضلال، ونسأله تعظيم دينه والحرص على هذا الدين.
قالوا لسيدنا أبي بكر الصديق: كيف تقاتل الآن من يمنع الزكاة والناس في شدة مع حرب الكفار وأهل الردة؟ فقال: لو لم أجد إلا الشجر والحجر لقاتلتهم به، أما أن ينقص الدين وأنا حي فلا! فيجب أن نعظم ديننا دين الحق، ونوقن أنه أعز من الدنيا وما فيها! بل التسبيحة الواحدة خير من الدنيا وما فيها! فكيف بالفريضة؟ فكيف بالدين كله؟ ثبتنا الله على الإسلام.
اللهم كما أنعمت علينا بالإسلام فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالإيمان فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالعافية فزدنا منها، وكما أنعمت علينا بالعمر فبارك لنا فيه.
اللهم انظر إلينا في جمعنا هذا، وزدنا إيمانًا ويقينًا، وارفعنا مراتب قربك مع المقربين، ومراتب حبك مع المحبين المحبوبين. اللهم اقبلنا في جمعنا، واجمع الخير لنا، واجمع شملنا بنبينا، واجمعنا في ظل عرشك يوم القيامة، واحشرنا تحت لواء الحمد، وأوردنا الحوض المورود.
اللهم ادفع البلاء عن إندونيسيا وأهلها في جميع الأحوال كلها، وادفع البلاء عن جميع المؤمنين والمؤمنات في جميع الجهات، رُدَّ كيد المجرمين والطاغين والظالمين، واجمع شمل المسلمين، ثبتنا على الحق فيما نقول، ثبتنا على الحق فيما نفعل.
اللهم اعصمنا من الشرك واغفر لنا ما دون ذلك، اللهم يا من وفق أهل الخير للخيرِ وأعانهم عليه وتقبله منهم وفقنا للخير وأعنا عليه واقبله منا.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، برحمتك يا أرحم الراحمين، نسألك لنا ولأهل المجمع ولمن يسمع من خير ما سألك منه عبدك نبيك سيدنا محمد، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك.
ربنا اقبلنا على ما فينا، وأقبل بوجهك علينا، وأصلح شأننا كله، واختم لنا بأكمل الحسنى،
بسِرِّ الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد ﷺ
الفاتحة.
27 ربيع الثاني 1447

