(535)
 (364)
 (604)
الدرس الثاني للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ في شرح كتاب: قامع الطغيان على منظومة شعب الإيمان، للعلامة محمد نووي بن عمر البنتني الجاوي
في مسجد الولاية الكبير، مدينة كوالالمبور، ماليزيا، فجر الثلاثاء 22 ربيع الثاني 1447هـ
شرح الإيمان بفناء العالم الدنيوي وباليوم الآخر، الإيمان بيوم البعث.
لتحميل: (قامع الطغيان على منظومة شعب الإيمان) PDF
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل إلى الإمام محمد نووي بن عمر البنتني الجاوي على منظومة شعب الإيمان للإمام العلّامة زين الدين بن علي المليباري في كتابه "قامع الطغيان على منظومة شعب الإيمان"، نفعنا الله به وبعلومه وعلومكم في الدّارين آمين، ورضي الله تعالى عنه وعنكم إلى أن قال:
الشعبة الخامسة
الإيمان بفَناءِ العالم الدُّنيوي وباليومِ الآخر
يجبُ على كل مُكلّفٍ الإيمانُ بفَناءِ العالمِ الدُّنيوي العُلويّ والسُّفليّ، وباليوم الآخر مع ما اشتمَلَ عليه من الجَزاء والحِساب والميزان والـصِّراط والجـنَّة والنَّار.
فقولُ النَّاظمِ: بربِّكَ بفتح الكاف. وقوله: والملاَئِكِ بكسر الكاف مع حَذف الهاء. وقوله: وبيوم، بالجرّ مع حذف التنوين وهو أفصَحُ لإضافتها للجُملة الفِعلية المُعربة، ويجوز بناؤها على الفَتح في محلِّ جر.
قال الناظم:
والبعثِ والقَدَرِ الجَليلِ وجَمعِنا *** في مَحْشَرٍ فيهِ الخَلاَئقُ تَحْشَمُ
ذكر الناظم في هذا البيت ثلاث شُعَب، فقال على نسقِ ما تقدَّم.
الشعبة السادسة
الإيمان بيوم البَعث
وهو أنْ نُؤمنَ بأنَّ الله يبعثُ الموتى، سواء كانوا مَقبورين أو غرقى أو غير ذلك. والمبعوث هو عينُ هذا البَدَن، لا مِثلهُ إجماعا قال الله تعالى: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا ۚ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) [التغابن:7] . قال تعالى: (قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) [الجاثية:26].
ولحديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في الصَّحيح في حديث الإيمان: "الإيمانُ أن تؤمنَ باللهِ وملائكَتِه وكتبهِ ورسلهِ ، وتؤمنَ بالجنةِ والنار والميزانِ ، وتؤمنَ بالبعثِ بعد الموتِ ، وتؤمنَ بالقدرِ خيرهِ وشرهِ".
الحمد لله جَمَعنا وإيّاكم بفضله في بيتٍ من بيوته، مُتعرِّضين لرحماتِه ونفحاتِه، مُقبلين بالوُجهة عليه، مُقتدين بعبدِه وحبيبه وصفوته سيدنا محمد صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم، الذي أشادَ الله لنا به المساجِد، وعرَّفَنا حقيقة الرُّكوع والسُّجود والقِيامِ بين يدي الملكِ المعبود جلَّ جلالُه وتعالىٰ في عُلاه. فنسأل الله تعالى أن يُصلِّي ويُسلّم على هادينا إليه وداعينا إليه عبده المُختار سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومَنْ سارَ في دربِه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين وآلهم وصَحبِهم وتابِعيهم، وعلى ملائكة الله المُقرَّبين وعلى جميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وذكر لنا الإمام المُؤلِّف -رحمه الله تبارك وتعالى- من شُعَب الإيمان: الإيمان بفناء هذا العالم، وبمجيء اليوم الآخر، وبالبعث والنشور.
والإيمان أعلى وأجلّ ما اكتَسبَ الإنسان وجميع المُكلَّفين على ظَهرِ هذه الأرض، لا يوجد أغلى منه يُعطاه أحدٌ من الخَلق، وإذا قَوِيَ وتَمَّ وكَمُلَ سُمِّيَ باليقين. قال سيدنا عبد الله بن مسعود كما جاء في صحيح الإمام البخاري: "اليقين الإيمانُ كُلُّه". وما قال أهل المعرفة بالله: وما نزل من السماء إلى الأرض أشرف من اليقين. فنسأل الله ان يزيدنا إيمانًا ويقينًا.
تكلّم عن فَناءِ هذا العالم والخلائقُ، وكلُّهم يُشاهدون فناءَ آحادهم ثمَّ أجيالهم جيلًا بعد جيل في زمنٍ بعد زمن. فالأمر مُشاهَدٌ أنه لا يدوم منهم أحد، وأنهم يَتفانُون جيلًا بعد جيل، وأمّةً بعد أمّة، وطائفةً بعد طائفة. وحياتُهم ومماتُهم من أقوى الأدِلّة على عظمة الخالق المُكوِّن -جلَّ جلاله-
ثم إنَّهم بما يحدُث لهم في هذا العالم مِنْ تمييز ومدارِك وأحاسيس، كما أشار الحقُّ- تبارك وتعالى- أننا نخرجُ إلى هذا العالم من غير عِلمِ شيء، قال: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78]. فيتجدّد عند الإنسان العِلم بالأشياء، فهذه الأشياء المُشاهَدة يُشاهدُها، أمّا عِلمُه بالبداية، والعِلم بفَناءِ هذه الحياة والكون كلُّه وتبدُّل الأرض غيرَ الأرض والسماوات غير السماوات، فهو مِنْ علمِ الغَيبِ الذي أوحاهُ الله إلى أنبيائه، وبلَّغهُ الأنبياء والرُّسُل إلى أُمَمِهم، حتى بلَّغنا ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم عن الله سبحانه وتعالى؛ بذلك يأتي لنا خبرُ ما بعدَ الموتِ وما يجبُ الإيمانُ به من ذلك الغَيب.
وتأتي ميزةُ المُؤمن بامتِدادِ نظَرِهِ وإدراكِهِ ومعرِفتِهِ ببداية الخَلقِ مِنْ حيثُ علَّمَنا الخالقُ وأوحى، والنِّهاية والمَصير والمرجِع بعد هذا العالم أيضًا. وهذه الميزة الإيمانية التي يتميَّزُ بها المُؤمن عمّن كَفر، بالكُفرِ بها؛ ينحبِسُ هذا الإنسان في هذا العالم، في شؤون هذه النُّقطة الوسَط بين البداية وبين النهاية؛ فينحصِرُ في شؤون ما يُشاهده ويُحِسُّه، وبذلك يكون قاصِرَ النَّظرِ، قاصِرَ الفكر، ويكون مُقصِّراً أيضا حتى في النَّظرِ إلى ما تدلُّه عليه الحياة التي يَحياها والمشاهِدُ التي يشهَدُها في نفسِه، وفي الكون مِن حواليه، يكون مُتَعَامِيًا عن دَلالتِها، فهو بذلك قاصِر؛ فما من مُكذِّبٍ بالله واليوم الآخر إلا وهو قاصِرٌ في نظرِهِ وفي فِكرِه وفي إدراكِ الحقيقة.
ولذا وجَّه نبينا محمد -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- دعوته لهذه الأمة في الإيمان بالبعث واليوم الآخر، وقال: "واللَّهِ لتَموتُنَّ كما تَنامونَ، ولتُبعثنَّ كما تستيقِظونَ"، أي: أمامكم في الحياة القصيرة مما تُعاينونه وتشاهدونه ما يَدلُّكم على قدرة الخالق الذي فَطَر، وأنه يبعثكم إليه كما يتوفاكم بالنوم، ويبعثكم بعده إلى ظاهر هذه الحياة.
وعَلَّمَنا من آداب النوم والاستيقاظ منه، الذكر الذي نذكره؛ فنزداد به إيمانًا ويُقوِّي لنا يقيننا بقولنا: "الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أحْيانا بَعْدَ ما أماتَنا، وإلَيْهِ النُّشُورُ" وبذلك يقول خيار هذه الأمة:
الله ينوِّر لنا قلوبنا ويُحيِيها ويُديم لنا يقظتها حتى نلقاه.
وذَكر أنه: "يَفنى العالم الدُّنيوي، العُلوي والسُفلي" والمراد بـ"العُلوي والسُفلي" هنا اعتبارات:
والسماوات والأرض وجميع أعمال الخلق الصالحة والسيئة؛ تَفنَى وتَتلاشى وتَنقضِي وتَنتهِي، كما تنتهي ذواتهم أيضًا.
فيشمل الموت:
فما في السماوات وما في الأرض؛ مجالُ اعتبارٍ عند المؤمن، لا مجالَ فيه إلى الاغترارِ به، والركونِ عليه؛ فكلُّه مما يَفنَى ويَتلاشَى..
وفي نقصان عِلم المحصُورين في شؤون هذه الأجسام الظاهرة؛ قال تعالى: (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم:6-7].
وقال الله تعالى لنبيِّه عن هؤلاء القوم الذين ارتضوا أن يُحصَروا في هذا النظر القاصر:
(فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يا ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ) [النجم:29-30]، أي: أنهم قاصرون في معارفِهم ومداركِهم.
فالحمد لله على نعمة الإسلام والإيمان، والله يزيدنا إسلامًا وإيمانًا.
يقول: "وباليوم الآخر"، وهو يوم القيامة، سُمّيَ اليوم الآخر؛ لأنه لا ليل بعده، أي: النظام الموجود في عالمنا الدُّنياوي من الليل والنهار يَنتهي في ذلك اليوم، وتكوير الشمس وقربها من رؤوس الخلائق، ونزول العرق منهم في موقف القيامة؛ فاليوم الآخر: من عند النفخة الثانية في الصور إلى أن يدخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ.
وقد ذَكر الرحمنُ لنا النفختين في القرآن؛ النفخة الأولى، والنفخة الثانية، في أكثر من آية من كتابه، منها قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ) [الزمر:68].
ما بين النفختين مقدار أربعين، كما جاء في الحديث، وقال الراوي: ما أدري أربعين يومًا أو أربعين شهرًا أو أربعين سنةً.
وفي خلال ما بين النفختين؛ يُعيد الله تعالى الأجسام التي تَفرَّقت وتَمزَّقت، سواء بأكل التراب لها، أو بأكل السباع لها، أو بأي معنىً من معاني تلاشيها..
أما الأجساد المُكرَّمة التي لا تأكلها الأرض؛ فهي كما هي في مواضعها ما بين النفختين، حتى يُنفخ النفخة الثانية؛ فتأتي إليها أرواحُها؛ فتقوم..
وقد جاءنا في الأحاديث: أن خمسة أصناف من الناس لا تأكل الأرض أجسادهم:
وبالنفخة الأولى يَصعق مَن في السماوات، ومَن في الأرض، بمن فيهم أهل البرزخ؛ يُصعقون، وإن كانوا في حياة البرزخ؛ فيكونون في الصعقة إلى وقت النفخة الثانية.
وفي هذا يقول الحق -تبارك وتعالى-: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ..) أي: القبور (..إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا). [يس:51-52]، عَنُوا بالمَرقَد: ما بين النفختين؛ فإنهم صُعقوا في تلك المدة؛ فيتمنَى الكافرون والفاسقون أنهم بَقُوا في الصعقة، ولم يخرجوا منها، ويقولون: (مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا..) فتقول الملائكة (..هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52].
ومن حكمة الله تعالى أن جعل في هذه الأجساد المكوَّنة، في آخر العمود الفقري لكل حيوان مكوَّن له فقرات؛ أن يجعل في آخر ذلك العمود الفقري قطعة صغيرة تسمى عَجب الذَّنَب، مثل حبة الذرة، من طبيعتها في تكوين الله لها أنها لا تنهضم ولا تنطحن ولا تفنى وتبقى. فإذا كان بين النفختين، أنزل الله ماء؛ فمن عجب الذنب يعود الجسد الذي كان مركبًا على ذلك الإنسان الذي هذا عجب ذنبه.
وذكر الشيخ أن الأجساد بعينها تعود، وذلك فيما يتعلق بقدرة الله المطلقة؛ أن التكوين الذي كُوِّن عليه جسد هذا الإنسان في عالم الدنيا تعود أجزاؤه من حيثما ذهبت بقدرة الله تبارك وتعالى، بنفس النسبة من العناصر المركبة منها، وبنفس الشكل والحجم، حتى قال ﷺ: "يُبعَثُ كُلُّ عَبْدٍ على ما ماتَ عليهِ"؛ وبذلك تستشهد الأعضاء وتتكلم الأيدي والأرجل والجلود كما ذكر الله في القرآن، فلو لم تكن هي التي عاشت في الدنيا كيف تذكر ذلك؟!
وقد ذكر لنا ﷺ أن من الناس من يُحشر من بطون السِّباع والوحوش، وهو من أكلته السباع. وقال عن عمه سيدنا حمزة: لولا أن صفية -أخت سيدنا حمزة عليها رضوان الله تبارك وتعالى- تجزع؛ لتركتُ حمزة حتى يُحشر من بطون السِّباع يوم القيامة.
وعند بعث الخلائق وهو: نشرهم، أي: إخراجهم وإقامتهم من القبور، ثم حشرهم أي: جمعهم بعد تبديل هذه الأرض وامتدادها، فيبدأ التجمع في المحشر وقد اتسعت الأرض وامتدت وكانت غير الأرض، من أكناف بيت المقدس؛ فهناك أرض المحشر الذي يبدأ تجمع الخلائق فيه عند القيام من القبور. فالقيام من القبور هو النشور، والجمع في المكان الذي يتجمع فيه أهل الخلق يوم القيامة هو الحشر؛ فالحشر: هو الجمع، والنشر: هو الإخراج من القبور، قال تعالىم: (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ..) أي: القبور (..كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ) [القمر:7].
ولا فَرقَ في قدرة الله الخلَّاق أن يُخرِجَ ويعيد الأجساد من القبور ويخرجها، او من حيث ما تمزقت أو اكلتها السباع أو غير ذلك، فالأمر سيَّان عند الله تعالى، (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [يسٓ:82].
ويُحشَرُ المؤمنون والاخيار في نور، ومنهم من تأتيه الملائكة بالنجائب يركبُ عليها الى مكانه في ظلِّ العرش، ويُحشَر الكفار والمنافقون وأهل الفساد؛ في الظلمة لا يَكادُ يرى يدَه من شِدَّة الظلمة.
ومن لطائف تعريف الله بفضل نبيه أن عرض لنا دعوة سيدنا الخليل إبراهيم عليه السلام في قوله:( وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء:87-89] ثم قال في حق نبيه المصطفى محمد: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)[التحريم:8]، نسأل الله أن يجعلنا معه.
ويبقى الناس في أرض المحشر، وأهل ظل العرش في ظل العرش، إلى أن تأتي الشفاعة العظمى لنبينا محمد، فتُرفَعُ الشمس عن رؤوس أهل المحشر، وينتقلون لأرض الحساب والجزاء.
فيحاسب المكلفون على ما نووا وعلى ما قالوا وعلى ما فعلوا وعلى ما نظروا وعلى ما تحركوا وعلى ما سكنوا، وينقسمون فيه إلى:
والحساب اليسير: مجرد عرض الأعمال من دون نقاش؛ فإنه يُعرَض على الإنسان كل صغير وكبير مما قال أو فعل أو نوى أو تحرك أو سكن أو نظر أو سمع، قال سبحانه وتعالى: (وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء:47].
والجزاء: هو المجازاة على ما عمل الإنسان، على حد ما قال -جل جلاله-:
ويكون في موقف القيامة العَرض على الله -تبارك وتعالى- وتطاير الصحف؛ فيستلم كلٌّ كتابه إما بيمينه وإما بشماله، "والميزان، والصراط" وينادِي المُنادي على كل مكلَّف: ليقوم فلان بن فلان للعرض على الله.. ليقوم فلان بن فلان للعرض على الله.. ليقوم فلان بن فلان للعرض على الله، ولا يُترَك أحد قط ممن كُلِّف ولو ساعة من ليل أو نهار، قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ)[الحاقة:18].
ثم تُنثَر الصُّحف، وهي ما كُتب فيه أعمال المُكلفين من يوم التكليف إلى يوم الوفاة؛ فتُنشر وتُنثر لهم من قِبل العرش.
ثُم يُوضَع الميزان: وهو كفَّتان؛ كل كفَّة أوسع من السماء والأرض، تُوزَن فيها النيات والمقاصد والأقوال والأفعال؛ فتُجسَّم المعنويّات بحسب قدرها عند الله تعالى، سواء من الحسنات أو السيِّئات؛ فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة، (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ* فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ* وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ* فَأُمُّهُ..) فَأُمُّهُ: أي مصيره (..هَاوِيَةٌ*وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ* نَارٌ حَامِيَةٌ)[القارعة:6-11]، أجارنا الله منها، ثقّل الله موازين حسناتنا، وأدخلنا جنّته بغير حساب.
وأمّا الصراط: فجسرٌ يمدّه الله على متن جهنم، بعد أن يُؤتى بالنّار فتُحيط بأهل الموقف من كل جانب، ثُمّ يوضع عليها هذا الجسر المُسمّى بالصراط؛ "أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ"، يؤمر الخلائق بالمرور عليه، فلا يكون المرور إلا على قدر إيمانهم وأعمالهم.
ومن أشد المواقف بعد العرض على الله؛ موقف الميزان وموقف الصراط، حتى أنَّ عامة الناس هناك لا يعرف أحدٌ أحدا ولا يذكرُ أحدًا؛ حتى ينظر أيخفّ ميزانه أم يثقُل، وهل تثبت قدمه على الصراط أم يسقط في النار.
وقد صحَّ في الحديث أن سيدنا أنس بن مالك قال لنبينا ﷺ: "خُوَيْدِمُكَ أَنَسٌ اشْفَعْ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"؛ "فقال: أنا فاعلٌ إن شاء اللهُ تعالَى. قلتُ: فأين أطلُبُك قال: أوَّلَ ما تطلُبُني على الصِّراطِ. قلتُ: فإن لم ألْقَك على الصِّراطِ. قال: فاطلُبْني عند الميزانِ. قلتُ: فإن لم ألْقَك عند الميزانِ قال: فاطلُبْني عند الحوْضِ ، فإنِّي لا أُخطِئُ هذه الثَّلاثَ مواطنَ".
فانظر رحمته بالأمة، وحضوره ما بين الصراط وما بين الميزان، أشد المواقف؛ ليشفع ﷺ؛ وعلى الحوض؛ ليسقيَ من ذلك الحوض، أورَدَنا الله عليه.
نتوجه إلى الرحمن الذي جمعنا، كما جمعنا هنا أن يجمعنا في ظل عرشه، وتحت لواء الحمد، وعلى الحوض المورود، وفي جنات الكرامة والخلود.
فيَا رَبِّ واجْمَعنَا وأحْبَابًا لنَا *** في داركَ الفِردَوْسِ أَطيَبِ مَوْضِعِ
ولقد قال نبيّك المصطفى ﷺ: "مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ، أَوْ رَاحَ، أَعَدَّ اللهُ لَهُ نُزُلًا فِي الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ"؛ وقد غدونا، وغدا كل واحد من أحبابنا هؤلاء إلى المسجد، نريدك ونريد قربك ورضاك، فأعدَّ لنا منزلًا في الجنة، واجمعنا في أعلى الجنة.
اللهم اجمع لنا الخيرات، واكتب لنا كمال السعادات، ورقِّنا عليَّ الدرجات. اللهم نقِّنا عن جميع الشائبات. اللهم اجمعنا في يوم الميقات في زمرة سيد الكائنات. اللهم لا تفرِّق بيننا وبينه، ولا تباعِد بيننا وبينه، ولا تخذلنا، ولا تقطعنا عن ركبه ولا عن حزبه، وأوردنا موارده، واجعلنا من رفقائه، وأسعِدنا بلقائه. اللهم املأ قلوبنا بالإيمان واليقين.
اللهم أصلح ماليزيا وأهل ماليزيا، وأهل هذه البلاد وآسيا كلها، والمسلمين في المشارق والمغارب، صلاحًا من عندك، تقينا به وتكفينا شرور الدارين، وكل سوءٍ أحاط به علمك، وشرور الفاجرين والكافرين، ثبِّت لنا الإيمان واليقين، ورقِّنا أعلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين.
اللهم لا صرفتنا من المجمع إلا والقلوب عليك مجموعة، بإقبال صادق عليك، مقبول لديك، نحوز به إقبالك بوجهك الكريم على كل منَّا.. يا أرحم الراحمين.
اللهم فرِّج كروب الأمة، واكشف الغمة، وأجلِ الظُلمة، وادفع البلايا، وأصلح الظواهر والخفايا.
اللهم وأمد أهل غزة وأهل الضفَّة الغربية وأهل أكناف بيت المقدس بتأييد وتسديد وتوفيق وصلاح وفلاح ونجاح ونُصرة من عندك.. يا أرحم الراحمين.
وانصر المسلمين، وخلِّص المظلومين ومن اُنتهِكت حرماتهم في جميع أقطار الأرض، وحوِّل الأحوال إلى أحسنها.. يا محول الأحوال، حوِّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال، وعافنا من أحوال أهل الضلال وفعل الجهال.
يا إلهنا،،
في مواقف القيامة.. اذكرنا برأفتك ورحمتك، واجعلنا من المسعودين برضاك وعفوك ومغفرتك وتجاوزك وعجائب عطاياك ومِنَحِك، واجعلنا من قومٍ يبشَّرون في ذلك اليوم، وتخاطبهم ملائكتك: (هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)[الأنبياء:103].
اللهم اجعلنا من خواصِّ المُكرَمين عليك في ذلك اليوم، وألحقنا بخيارِ القوم، ونقِّنا عن الشوائب كلها، ولا تفضحنا بشيء من سيئاتنا ولا من قبائح أعمالنا وزلَّاتنا ولا من معاصينا وذنوبنا.. يا غافر الذنوب، يا كاشف الكروب، يا حي يا قيوم، تُب علينا لنتوب، واجمعنا بحبيبك المحبوب، واجعلنا في مواقف القيامة في مرافقة له، وفي دار الكرامة في مرافقة له، وفي ساحة النظر إلى وجهك الكريم في مرافقة له، أعلى مراتب المرافقة لحبيبك المصطفى المختار.. يا كريم يا منان، يا وهاب يا غفار.
كفِّر عنَّا جميع الذنوب والأوزار، وتولَّنا بما أنت أهله في السر والإجهار، واختم لنا أجمعين بأكمل حسن الخاتمة، واجعل آخر كلام كل واحدٍ منَّا من حياته الدنيا، لا إله إلا الله محمد رسول الله، متحقِّقون بحقائقها.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد ﷺ
الفاتحة.
22 ربيع الثاني 1447