شرح موطأ الإمام مالك - 341 - كتاب البيوع: باب السُّلْفَةِ في الطَّعَام

شرح موطأ الإمام مالك - 341 - كتاب البيوع: باب السُّلْفَةِ فِي الطَّعَامِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب السُّلْفَةِ فِي الطَّعَامِ.

فجر الثلاثاء 5 شعبان 1443هـ.

باب السُّلْفَةِ فِي الطَّعَامِ

1881 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يُسَلِّفَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي الطَّعَامِ الْمَوْصُوفِ، بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى, أَجَلٍ مُسَمًّى، مَا لَمْ يَكُنْ فِي زَرْعٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ، أَوْ تَمْرٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ.

1882 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ سَلَّفَ فِي طَعَامٍ بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَحَلَّ الأَجَلُ، فَلَمْ يَجِدِ الْمُبْتَاعُ عِنْدَ الْبَائِعِ وَفَاءً مِمَّا ابْتَاعَ مِنْهُ فَأَقَالَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ إِلاَّ وَرِقَهُ، أَوْ ذَهَبَهُ، أَوِ الثَّمَنَ الَّذِي دَفَعَ إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّهُ لاَ يَشْتَرِي مِنْهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ شَيْئاً حَتَّى يَقْبِضَهُ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ غَيْرَ الثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَ إِلَيْهِ، أَوْ صَرَفَهُ فِي سِلْعَةٍ غَيْرِ الطَّعَامِ الَّذِي ابْتَاعَ مِنْهُ، فَهُوَ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى.

قَالَ مَالِكٌ: وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى.

قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ نَدِمَ الْمُشْتَرِي فَقَالَ لِلْبَائِعِ: أَقِلْنِي وَأُنْظِرُكَ بِالثَّمَنِ الَّذِي دَفَعْتُ إِلَيْكَ. فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَنْهَوْنَ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا حَلَّ الطَّعَامُ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ، أَخَّرَ عَنْهُ حَقَّهُ، عَلَى أَنْ يُقِيلَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ بَيْعَ الطَّعَامِ إِلَى أَجَلٍ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى.

قَالَ مَالِكٌ: وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ حِينَ حَلَّ الأَجَلُ، وَكَرِهَ الطَّعَامَ، أَخَذَ بِهِ دِينَاراً إِلَى أَجَلٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالإِقَالَةِ، وَإِنَّمَا الإِقَالَةُ مَا لَمْ يَزْدَدْ فِيهِ الْبَائِعُ وَلاَ الْمُشْتَرِى، فَإِذَا وَقَعَتْ فِيهِ الزِّيَادَةُ بِنَسِيئَةٍ إِلَى أَجَلٍ، أَوْ بِشَىْءٍ يَزْدَادُهُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، أَوْ بِشَيْءٍ يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِالإِقَالَةِ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ الإِقَالَةُ إِذَا فَعَلاَ ذَلِكَ بَيْعاً، وَإِنَّمَا أُرْخِصَ فِي الإِقَالَةِ وَالشِّرْكِ وَالتَّوْلِيَةِ مَا لَمْ يَدْخُلْ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ، أَوْ نَظِرَةٌ، فَإِنْ دَخَلَ ذَلِكَ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ، أَوْ نَظِرَةٌ، صَارَ بَيْعاً يُحِلُّهُ مَا يُحِلُّ الْبَيْعَ، وَيُحَرِّمُهُ مَا يُحَرِّمُ الْبَيْعَ.

1883 - قَالَ مَالِكٌ: مَنْ سَلَّفَ فِي حِنْطَةٍ شَامِيَّةٍ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ مَحْمُولَةً بَعْدَ مَحِلِّ الأَجَلِ. قَالَ مَالِكٌ : وَكَذَلِكَ مَنْ سَلَّفَ فِي صِنْفٍ مِنَ الأَصْنَافِ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ خَيْراً مِمَّا سَلَّفَ فِيهِ، أَوْ أَدْنَى بَعْدَ مَحِلِّ الأَجَلِ. وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنْ يُسَلِّفَ الرَّجُلُ فِي حِنْطَةٍ مَحْمُولَةٍ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ شَعِيراً، أَوْ شَامِيَّةً، وَإِنْ سَلَّفَ فِي تَمْرٍ عَجْوَةٍ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ صَيْحَانِيًّا، أَوْ جَمْعاً، وَإِنْ سَلَّفَ فِي زَبِيبٍ أَحْمَرَ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ أَسْوَدَ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بَعْدَ مَحِلِّ الأَجَلِ، إِذَا كَانَتْ مَكِيلَةُ ذَلِكَ سَوَاءً، بِمِثْلِ كَيْلِ مَا سَلَّفَ فِيهِ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحَمدُ لله مُكرمنا بشريعته وبيانها على لسان خير بريّته، سيدنا محمد عبد الله وصفوته، صلى الله عليه وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحابته، وعلى أهل ولائه ومتابعته وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المرتقين في محبة الله تعالى والقرب منه والفهم عنه أعلى ذروته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

ويذكر الإمام مَالِك -عليه رحمة الله- بهذا الباب، باب ما يسمى بالسَّلَمِ أو السَّلَفُ، والسَّلَمِ والسَّلَفُ بمعنى: أن يأخذ منجَّزًا شيئًا من المال بمالٍ أو بمقابل يكون إلى أجل غالبًا.

 فهذا هو الدَّيْن بعمومه، فيدخل أحكام السَّلَمِ في أحكام الدين، مندرجة تحت قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ)[البقرة:282]، وجاءنا أيضًا في الحديث ذكرُ السَّلَم فجاءنا عنه ﷺ أنه لما قدمَ المدينة، والناس يُسْلفون في التمر سنتين وثلاث، فقال: عليه الصلاة والسلام "من أسلفَ في شيءٍ فليُسلِفْ في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ إلى أجَلٍ معلومٍ".

فثبت بالكتاب وبالسنة وبالإجماع كذلك، فمسألة الدين عمومًا والسَّلَم في أن يُعطيه نقدًا في بضاعةٍ يأتي بها من طعام وغيره، مما يُكال أو يوزن أو يضبط بوصفٍ معلوم فيصحُّ فيه السَّلم. فيحتاج الناس إلى هذا، فجاءت الشريعة بتشريع هذا الأمر لحاجة الناس، فقد يكون صاحب الأرض أو الخبير بالزراعة، يحتاج إلى توفير بذر وآلات سقيًَ إلى غير ذلك من الحاجات ولا تكون عنده، والناس يحتاجون إلى الطعام الذي ينتج من مزرعته، فيأتي إلى عند صاحب المال فيأخذ منه مالاً في ذكرِ نوع معينٍ من الطعام، فيأخذ منه مال فيعد عدّته في مزرعته ويتمها، فإذا جاء الأجل جاءه بالطعام الذي قد تمّ وصفه وكيلُه بوصفٍ معلوم وقدرٍ معلوم فيُسْلمه إليه.

ويحتاج إلى ذلك أيضاً صاحب الخياطة وصانع الأواني وما إلى ذلك، فيحتاج إلى مال قبل أن يبدأ العمل، حتى يتوفر له العمل وتحصيل الربح، ولا يكون المال عنده، فيذهب إلى صاحب المال ويأخذ منه المال مقابل أن يسلِّمَ له في وقت معين شيئًا من البضاعة، وممّا يكون في يديه إلى ذلك من عموم المصلحة والمنفعة. وفيها قال أهل العلم: إن في السَّلَم مندوحة عن الربا، حرّم الله الربا وأحلَّ البيع، وأحلَ هذا الدَّيْنَ والسَّلَم والسلف، ليشمل مصالح الناس وحاجاتهم.

 إذا فهذا السَّلَم أو السلفُ، لاختلاف الشروط فيه عند الأئمة جاءت تعريفاتهم مطابقةً لما اشترطوه من الشروط: 

  • فيقول الحنفية والحنابلة في تعريفهم للسَّلَم: أنه شراء آجلٍ بعاجل، أو عقدٌ على موصوفٍ في الذمة مؤجّل بثمنٍ مقبوض في مجلس العقد؛ لأنهم اشترطوا في صحته قبض رأس المال في مجلس العقد، وكذلك يشترط الحنفية هؤلاء والحنابلة أن يكون المسلّم فيه مؤجلًا.

  • والشافعية  اشترطوا أن يكون تسليم المال في مجلس العقد، وما اشترطوا أن يكون المسلّم فيه معجّلاً ولا مؤجلا، ليس شرط ان يكون مؤجل، فلذلك قالوا في تعريفهم للسَّلَم: عقد على موصوفٍ في الذِّمة ببدلٍ يُعطى عاجلا، وأمثال ذلك من العبائر التي يُعرّفون بها السَّلَم.

  • ولم يشترط المالكية تسليم رأس المال في مجلس العقد و أجازوا تأجيله يومين وثلاثة، فقالوا في تعريف السَّلَم: بيعٌ معلومٌ في الذِّمة محصورٌ بالصفة بعينٍ حاضرة أو ما هو في حكمها أو إلى أجلٍ معلوم.

اذاً فهذا هو السَّلَم أو السَّلَفُ الثابت بالكتاب والسنة والإجماع، لاستيعابِ حاجات الناس في تبادل بضائعهم التي يحتاجون إليها في حياتهم الدنيا، فالشريعة شاملة كاملةٌ، ونظامٌ ربانيٌّ رفيعٌ عظيمٌ لا يمكن أن يُؤتى بمثله، فضلاً عن خير منه أحسن، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[المائدة:50].

 ولأجل هذه الحاجة جاءت هذه الشريعة، وبعد ذلك من المعاملات فيه كالمعاملة في غيرها من الأبواب منها ما هو مجمع عليه ومنها ما هو مختلف فيه. 

 ذكر لنا حديث عبد الله بن عمر أنه "لاَ بَأْسَ بِأَنْ يُسَلِّفَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي الطَّعَامِ الْمَوْصُوفِ، بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى, أَجَلٍ مُسَمًّى"؛ يعني: ذلك من الجائز المشروع في الشريعة المطهرة والدِّين القويم. 

  • قال الأئمة الثلاثة: أنه إلى أجل مسمى شرط، شرط رابع؛ أن يكون إلى أجل مسمى.

  •  وقال الشافعي: يصح أن يكون إلى أجل مسمى وأن يسلمه في الحال إذا باعه موصوفًا في الذِّمة، بلفظ السَّلَم أو السلف، ولذلك اشترط أيضا الشافعية في الصيغة أن تكون بلفظ السَّلَم أو السلف، وأنه لا ينعقد السَّلَم بلفظ البيع. 

  • ولكن عند غيرهم ينعقد بلفظ البيع، بقول: بعتكَ طعاما من برٍّ وصف كذا مقدار كذا مكيال كذا بكذا وكذا. 

فاشترط الأئمة أن يكون التسليم مؤجلاً، واشترط الشافعية أن يكون بلفظ السَّلَم أو السلف.

في الحديث: "من أسلفَ في شيءٍ فليُسلِفْ في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ إلى أجَلٍ معلومٍ" كما قرأنا، والحديث في الصحيحين وعند أبي داود أن ﷺ لما قدم المدينة قال لهم ذلك، وذلك أن الزرع في المدينة متوفر وكثير من الناس يتعاملون فبيَّنَ ﷺ الجائز والشروط للسَّلَم. 

قال: مَا لَمْ يَكُنْ فِي زَرْعٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ"؛ لم يظهر، أَوْ تَمْرٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ"؛ يعني: لا يجوز تعليق السَّلَم؛ يعني: ما يُدرى هذا الزرع هل يأتي منه ذلك الطعام أم لا؟ فلا يُعلقه بزرع معين، فيكون السَّلَم إما مطلق في الذِّمة، وقد يُضاف إلى بلدة أو إلى زرع معين. 

  • فأما المطلق في الذِّمة يُسْلِم إليه في بُرٍّ في تمرٍ بوصفِ كذا وكذا ومقدار كذا وكذا… ما يُشترطه من موضع معين ولا بلد معين.

  • والثاني يضيفه إلى بلدة يقول من قمح مصر أو الشام، فإذا أضاف ذلك إلى موضع واسع وكبير، بلد معروفة بإنتاج مثل هذا وتوفره فيها فلا يضر، فإذا أضافه إلى شيء صغير مزرعة معينة يمكن أن تُثمر هذا ويمكن أن تحصل لها جائحة ولا يأتي منها هذا الثمر فلا يصح ذلك.

يقول: "قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي مَن سَلَّفَ فِي طَعَامٍ بِسِعْرٍ مَعْلُوم إلى أجلٍ مُسَمَّى فَحَلَّ الْأَجْل فَلَمْ يَجْدِ الْمُبْتَاعَ"؛ يعني: رب السَّلَم "عِنْدَ الْبَائع" المسلّم إليه، "وَفَاءً مما ابتاع مِنْهُ فَأَقَالَهُ"؛ أي: أراد الإقالة، "فَإِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لَهُ"؛ يعني: لا يجوز لرب السَّلَم، "أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ إِلاَّ وَرِقَهُ"؛ أي: فضته التي سلم إليها، "أَوْ ذَهَبَهُ، أَوِ الثَّمَنَ الَّذِي دَفَعَ إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ" إن كان الثمن موجود عنده فحينئذ يردُّ نفسَ الثمن، وإلا فمقابلها.

"وَإِنَّهُ لاَ يَشْتَرِي مِنْهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ شَيْئاً" آخر غير المُسْلَم فيه "حَتَّى يَقْبِضَهُ مِنْهُ" أولاً، "وَذَلِكَ" سبب عدم الجواز، "أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ ربُّ السلّم "غَيْرَ الثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَ إِلَيْهِ، أَوْ صَرَفَهُ"؛ يعني: الثمن "فِي سِلْعَةٍ غَيْرِ الطَّعَامِ الَّذِي ابْتَاعَ مِنْهُ"، والذي أسلمه فيه " فَهُوَ" حينئذٍ يكون "بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى"؛ أي: قبل أن يُقبض فلذلك مُنِع، "وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى." 

فإذًا؛ 

  • بيع المسلَم فيه قبل قبضه لا يجوز، بالاتفاق، كما نهى النبي ﷺ عن بيع الطعام قبل قبضه وعن ربح ما لم يضمن.

"فَإِنْ نَدِمَ الْمُشْتَرِي فَقَالَ لِلْبَائِعِ: أَقِلْنِي وَأُنْظِرُكَ بِالثَّمَنِ الَّذِي دَفَعْتُ إِلَيْكَ." قال: "فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ"؛ أي: لا يجوز،  "وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَنْهَوْنَ عنه" ويرجع لأنه "لَمَّا حَلَّ الطَّعَامُ لِلْمُشْتَرِي"؛ يعني: حان وقت الأداء، "عَلَى الْبَائِعِ، أَخَّرَ" المشتري "عَنْهُ"؛ أي: عن البائع "حَقَّهُ، عَلَى" شرط "أَنْ يُقِيلَهُ، البائع فَكَانَ ذَلِكَ بَيْعَ الطَّعَامِ إِلَى أَجَلٍ" من المشتري "قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى."، فكأن المشتري يبيع هذا الطعام الواجب له بيد البائع بثمن مؤجل.

"قَالَ مَالِكٌ: وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ حِينَ حَلَّ الأَجَلُ" جاء وقته، "وَكَرِه" المشتري، "الطَّعَامَ، أَخَذَ بِهِ دِينَاراً" هو ثمن السَّلم "إِلَى أَجَل" وهو الأجل الذي يمهل إليه البائع، يقول: له أنظرك؛ يعني: أُأَخرك بالثمن دفعت إليك. "وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالإِقَالَةِ، وَإِنَّمَا الإِقَالَةُ مَا لَمْ يَزْدَدْ فِيهِ"؛ أي: في الإقالة "الْبَائِعُ وَلاَ الْمُشْتَرِي" شيئاً زائداً على ما عقدوا عليه العقد، "فَإِذَا وَقَعَتْ فِيهِ"؛ أي: في الإقالة، "الزِّيَادَةُ بِنَسِيئَةٍ إِلَى أَجَلٍ، أَوْ بِشَيءٍ يَزْدَادُهُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ"، "أَوْ" وقعت الزيادة  "بِشَيْءٍ يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِالإِقَالَةِ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ الإِقَالَةُ إِذَا فَعَلاَ ذَلِكَ بَيْعاً" سابقًا من دون شرط.

إذًا؛ 

  • الإقالة في المسلم فيه جائزة لأنها فسخ، وهذا متفق عليه أن الإقالة في جميع ما أسلم فيه جائزة، أنها فسخ للعقد وليست بيعًا. 

"وَإِنَّمَا أُرْخِصَ فِي الإِقَالَةِ وَالشِّرْكِ وَالتَّوْلِيَةِ مَا لَمْ يَدْخُلْ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ"؛ أي: الإقالة والتولية والشركة، "زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ، أَوْ نَظِرَةٌ"؛ يعني: التأخير والإمهال، " فَإِنْ دَخَلَ ذَلِكَ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ، أَوْ نَظِرَةٌ" تأخير "صَارَ" ذلك "بَيْعاً" مستأنَفًا، "يُحِلُّهُ مَا يُحِلُّ الْبَيْعَ،  وَيُحَرِّمُهُ مَا يُحَرِّمُ الْبَيْعَ"؛ يعني: يُشترط له شروط البيع من الإباحة والتحريم. 

إذًا؛ الإقالة في الطعام المُسْلَم فيه جائزة:

  •  وهو متفق عليه عند مالك وأبي حنيفة والشافعي.

  •  ومشهور قول مالك أيضًا: أنه يجوز التولية والشركة.

  •  ومنعها الشافعي وأبو حنيفة. وكذلك في قول آخر عند الإمام مالك بمنع الشركة.

  • وإنما الإقالة هي التي يُتَّفق عليه، لأن الشركة والتولية بيع، فهي ممنوعة كما هي عند أكثر أهل العلم.

"قَالَ مَالِكٌ: "مَنْ سَلَّفَ فِي حِنْطَةٍ شَامِيَّةٍ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ" بدلها يعني حنطة، "مَحْمُولَةً"؛ يعني: غير الحنطة الشامية، أردى من الشامية، الحنطة المحمولة حنطة غير كبيرة الحب، يُقال لها: محمولة، " بَعْدَ مَحِلِّ الأَجَلِ"؛ إذا قد حل الأجل، فكأنه أحسن إليه في اقتضاء ما عليه ورضيَ بهذا الدون، فما دام رضيَ به المُسْلِم -يعني: المسلّف- فذلك جائز.

 قال: "وَكَذَلِكَ مَنْ سَلَّفَ فِي صِنْفٍ مِنَ الأَصْنَافِ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ خَيْراً مِمَّا سَلَّفَ فِيهِ، أَوْ أَدْنَى بَعْدَ مَحِلِّ الأَجَلِ، وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنْ يُسَلِّفَ الرَّجُلُ فِي حِنْطَةٍ مَحْمُولَةٍ"، وهي أردى من الحنطة الشامية حنطة تكون حبوبها صغيرة، " فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ شَعِيراً" بدل الحنطة. 

  • فهذا مسلك الإمام مالك: أن الحنطة والشعير عنده جنس واحد. 

  • وقال الأئمة الثلاثة والجمهور: لا، الحنطة شيء والشعير شيء آخر.

"أَوْ شَامِيَّةً" من نفس الحنطة لأن كلتيهما جنس واحد، "وَإِنْ سَلَّفَ فِي تَمْرٍ عَجْوَةٍ" مثلًا، نوع من أجود أنواع التمر، "فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ صَيْحَانِيًّا"؛ نوع ثاني من التمر جيد، فالصيحاني من تمر المدينة منسوب إلى صيحان، فسمي التمر صيحانيا لأنه كان اسم كبش يكثر الصياح مربوط عند ذاك النخل أو عند هذا النوع من النخل، فاشتهر بالصيحاني كنوع من أنواع التمر. "وَإِنْ سَلَّفَ فِي زَبِيبٍ أَحْمَرَ, فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ أَسْوَدَ" لأنه من نفس الجنس، "إِذَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بَعْدَ مَحِلِّ الأَجَلِ، إِذَا كَانَتْ مَكِيلَةُ ذَلِكَ سَوَاءً، بِمِثْلِ كَيْلِ مَا سَلَّفَ فِيهِ"، بنفس النوع.

 على هذا أيضًا يترتب النظر في الشروط التي اشترطها الأئمة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى- في صحة السَّلم: 

  • فأن يكون المسلم فيه مما ينضبط بالصفات فلابد من ذلك، كل ما كيل وموزون أو مزروع يمكن ضبط صفاته مثل الأوراق والحديد والنحاس والأدهان… فأجمعوا على جوازه في كل ما يكال أو يوزن.

  •  وكذلك العروض التي تنضبط بالصفة؛ جمهور العلماء على جواز الإسلاف فيها.

 إذًا السلف في الطعام جائز بالإجماع بإجماع أهل العلم، وكذلك جوازه في الثياب. 

أما ما لا يضبط بالصفة كالجواهر واللؤلؤ والياقوت والعقيق والبلور، لأن أثمانها تختلف باختلاف متباين بالصغر والكبر وحسن التدوير فهذا لا يصح السَّلم فيه كما هو قول الشافعي والإمام أبي حنيفة -عليهم رضوان الله-، وجاءت رواية عن مالك في صحة السلم فيها.

  • ولكن ما لا يتأتى ضبطه بصفة فلا خلاف من أنه لا يجوز السلم فيه فلا يكون السلم إلا في مكيل أو موزون، أو ما يتأتى ضبطه هذا الشرط الأول.

  •  والشرط الثاني أن يضبطه بصفاته التي يختلف الثمن بها ظاهرًا؛ لأن المستلم فيه عِوَض، فلابد من كونه معلوم، كما أشار الحديث الشريف أن يكون معلومًا مضبوطًا من جهة الجنس والنوع والجودة والرداءة فهذه لابد من ضبطها.

  • كذلك معرفة مقدار المُسْلَم فيه بالكيل إن كان مكيلاً، وبالوزن إن كان موزوناً، وبالعدد إن كان معدودًا، وهذا بالاتفاق لابد من معرفة مقدار الذي يُسْلَم فيه. فيجوز في الثياب بذرعٍ معلوم.

  • وما يتأتى الضبط فيه مما لا يتباين كثيراً بالضبط بالعدد، مثل غالبًا الجوز والبيض ونحوهما يُسْلَم فيه.

    • وقال الشافعي: مثل هذا يسلم فيه وزناً أو كيلاً، ولا يجوز بالعدد؛ لأنه يتباين فيه كبير وفي أصغر منه.

  • وكذلك ما يكثر التفاوت فيه: 

    • فبالاتفاق لابد من ضبطه بغير العدد مثل الرمان والخيار فلا يُسْلَم فيه عددًا، إلا أن يكون مضبوطًا بقوله صغيرًا وكبيرًا أو متوسطًا. 

    • والقول الثاني وهو قول الإمام الشافعي و أبو حنيفة: لا يُسْلم فيه إلا وزنًا؛ لأنه كثير التباين فلا بد من ضبطه بالوزن.

كذلك أن يكون مؤجل بأجل معلوم هذا عند الأئمة الثلاثة؛ لابد أن يكون المُسْلَم فيه مؤجل بأجل معلوم. وعلمنا قول الإمام الشافعي: يجوز في أن يكون في الحال يُسْلِمه في الحال. 

وأن يكون الأجل معلوم مؤجل بأجل معلوم.. 

  • يقال: من ساعة فما فوقها. 

  • وقال بعض المالكية: أنه لا يكون أقل من نصف يوم. 

  • وقالوا أيضًا: يكره أن يكون أقل من يومين.

  •  وعن الليث: خمسة عشر يوم.

 فشرط الأجل يكون مدة لها وَقعٌ في الثمن مثل شهر وما قاربه عند الحنابلة. 

وبعد ذلك لابد من أن يكون المُسْلَم فيه متوفر في العادة في وقت التسليم، واشترط الحنفية أن يكون موجودًا من وقت العقد إلى وقت الأجل الذي يُسْلِم فيه، وما راعى غيرهم  ذلك وإنما راعوا وقت التسليم؛ أي: وقت الأجل الذي حددوه يكون متوفر: 

  • فإذا كان في ذلك الوقت متوفر غالبًا يصح.

  • وأما يسلمه في شيء من الفاكهة في غير أوانها؛ وقت الذي لا توجد فيه غالبًا ويحدًدون هذا الأجل فهذا باطل؛ لأن هذا الوقت ما توجد فيه هذه البضاعة وما تتوفر، وإذا يخزنها عنده في فريزر حقه يكون غشّه وجاء بها في غير محلّها بحيلة تحيّل بها،  ليس بطريق ولا مأخوذة على وجهها.

فهذه الشروط التي تتعلق بالسَّلَم ومنها: 

  • أن يقبض رأس المال في مجلس العقد، فإذا تفرقا قبل ذلك لا يصح. 

    • فلا يجوز عند أبي حنيفة والإمام الشافعي والإمام أحمد أن يتأجل تسليم الثمن عن مجلس عقد السَّلَم. 

    • وكما سمعنا عند المالكية قالو: لا بأس بالتأجيل يوم أو يومين ثم يسلمه الثمن على هذا العقد .

جعلنا الله من المستقيمين على الشريعة، المترقِّين بمراقيها إلى المراتب الرفيعة، المتبّعين لحبيبه ﷺ في الأمر جميعه، ووقانا الأسواء  والأدواء وأصلح لنا شؤوننا في السِرّ والنجوى، وحقّقنا بحقائق التقوى ببركة جوده الأسمى، ورعانا بعين عنايته حيثما كنا وأينما كنا، وحفظ زائري النبيّ الله هود في الذهاب وفي العود، وكتب لهم التوفيق والقبول، وفتح بهذه الزيارة أبواب الفرج للمسلمين والغياث للمسلمين والصلاح المسلمين، وجمع قلوب المسلمين على صدق الوجهة إليه، والإقبال عليه، وتعظيم أمره وأمر كتابه وأمر رسوله ﷺ،  وتخليصهم من تبعيّات الفجار والفساق والأشرار والأهواء والشهوات والقواطع عنه ظاهرًا وباطنًا بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

20 شَعبان 1443

تاريخ النشر الميلادي

23 مارس 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام