(535)
(390)
(611)
(339)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الصدقة: باب مَا جَاءَ فِي التَّعَفُّفِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، وباب مَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّدَقَةِ.
فجر الإثنين 28 شعبان 1444هـ.
باب مَا جَاءَ فِي التَّعَفُّفِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ.
2873- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، ثُمَّ قَالَ: "مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ".
2874- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ: "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ".
2875- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِعَطَاءٍ، فَرَدَّهُ عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لِمَ رَدَدْتَهُ؟". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ أَخْبَرْتَنَا أَنَّ خَيْراً لأَحَدِنَا أَنْ لاَ يَأْخُذَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئاً؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّمَا ذَلِكَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ يَرْزُقُكَهُ اللَّهُ". فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ أَسْأَلُ أَحَداً شَيْئاً، وَلاَ يَأْتِينِي شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ أَخَذْتُهُ.
2876- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، ليَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلاً أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ".
2877- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، أَنَّهُ قَالَ: نَزَلْتُ أَنَا وَأَهْلِي بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَقَالَ لِي أَهْلِي: اذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَاسْأَلْهُ لَنَا شَيْئاً نَأْكُلُهُ. وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ مِنْ حَاجَتِهِمْ، فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَوَجَدْتُ عِنْدَهُ رَجُلاً يَسْأَلُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "لاَ أَجِدُ مَا أُعْطِيكَ". فَتَوَلَّى الرَّجُلُ عَنْهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ، وَهُوَ يَقُولُ: لَعَمْرِي إِنَّكَ لَتُعْطِي مَنْ شِئْتَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّهُ لَيَغْضَبُ عَلَيَّ أَنْ لاَ أَجِدَ مَا أُعْطِيهِ، مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عَدْلُهَا، فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافاً". قَالَ الأَسَدِيُّ: فَقُلْتُ لَلَقْحَةٌ لَنَا خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ.
قَالَ مَالِكٌ: وَالأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَماً. قَالَ: فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسْأَلْهُ، فَقُدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَعِيرٍ وَزَبِيبٍ، فَقَسَمَ لَنَا مِنْهُ حَتَّى أَغْنَانَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
2878- وَعَنْ مَالِكٍ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْداً بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ عَبْدٌ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ. قَالَ مَالِكٌ: لاَ أَدْرِي أَيُرْفَعُ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَمْ لاَ.
باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّدَقَةِ
2879- حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لآلِ مُحَمَّدٍ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ".
2880- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنْ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ سَأَلَهُ إِبِلاً مِنَ الصَّدَقَةِ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى عُرِفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، وَكَانَ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ أَنْ تَحْمَرَّ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَسْأَلُنِي مَا لاَ يَصْلُحُ لِي وَلاَ لَهُ، فَإِنْ مَنَعْتُهُ كَرِهْتُ الْمَنْعَ، وَإِنْ أَعْطَيْتُهُ أَعْطَيْتُهُ مَا لاَ يَصْلُحُ لِي وَلاَ لَهُ". فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ أَسْأَلُكَ مِنْهَا شَيْئاً أَبَداً.
2881- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الأَرْقَمِ: ادْلُلْنِي عَلَى بَعِيرٍ مِنَ الْمَطَايَا أَسْتَحْمِلُ عَلَيْهِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقُلْتُ: نَعَمْ جَمَلاً مِنَ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الأَرْقَمِ: أَتُحِبُّ أَنَّ رَجُلاً بَادِناً فِي يَوْمٍ حَارٍّ، غَسَلَ لَكَ مَا تَحْتَ إِزَارِهِ وَرُفْغَيْهِ، ثُمَّ أَعْطَاكَهُ فَشَرِبْتَهُ؟ قَالَ: فَغَضِبْتُ وَقُلْتُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، أَتَقُولُ لِي مِثْلَ هَذَا؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الأَرْقَمِ: إِنَّمَا الصَّدَقَةُ أَوْسَاخُ النَّاسِ يَغْسِلُونَهَا عَنْهُمْ.
الحمد لله مُكرِمِنا بالشريعة الغرَّاء وبيانها على لسان عبده وحبيبه خير الورى، سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله المُطهّرين وأصحابه الكبراء، ومن تبعهم ووالاهم بإحسان سِرًّا وجهرًا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين الرَّاقين في الفضل أعلى الذُّرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المُقرّبين وعلى جميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
فيتحدث الإمام مالك -عليه رضوان الله- عما يتعلّق بالمسألة والتعفّف فيها وما يُكره منها؛ والمراد سؤال الخلق للتحصُّل على شيء من المال. وذكر التَّعَفُّفِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ وحث رسول الله ﷺ أُمته على التَّعَفُّفِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ حتى لا تحل المسألة إلا لذي الضرورة.
وأنه إنما يكون السؤال لذي الحاجة ومن غير إلحاح ولا إيذاء للمسؤول.
وقال: "عَنْ سيِّدنا أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-، أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ" ثانيًا، "حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ" وفي رواية، جاء قوله ثلاثًا حتى نفذ ما عنده، "ثُمَّ قَالَ ﷺ: مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ"؛ أي: مال ومتاع "فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ"؛ أي: لن أحبسه، ولن أخبئه، ولن أتركه لي ولا أكتنزه. "وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ" عن المسألة، يستعفف عن جميع المكروهات، يستعفف عن جميع المحرمات؛ أي: يطلب العفة بالعزيمة والصدق والالتجاء إلى الله تعالى، "يُعِفَّهُ اللَّهُ"؛ فإن الله تعالى يُعفه؛ أي: يحفظه ويسلمه من المكروهات ومن المخالفات باستعفافه. وكذلك استعفافه عن السؤال، فيعطيه تعالى القناعة وييسر له ما يكفيه وما يحتاج إليه، وإن كان قد يكون بعد صبرٍ وبعد معاناة ولكن يسوق إليه ما يحتاج إليه. "وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ" وفي الرواية: "ومن يستعفف يعفه الله"؛ أي يكرمه بالعفاف ويوفقه له. "وَمَنْ يَسْتَغْنِ"، يستغنِ؛ أن يظهر الغنى، بالاستغناء عن الناس والتعفف عن السؤال "يُغْنِهِ اللَّهُ" -جل جلاله- يجعله غني القلب وييسر له ما يحتاج إليه من هنا ومن هناك.
"وَمَنْ يَتَصَبَّرْ"؛ يطلب أن يكون صبورًا ولا يمشي مع نفسه الحرون التي تقول له، أنت ما تقدر على الصبر. "وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ" احمل نفسك على الصبر وتصبّر فيعطيك الله الصبر ويجعلك من الصابرين. وأما تتبع هواك وتنبعث مع نفسك كلما ارتكزت وتقول ما عندي صبر! ما عندك صبر لأنك غير متصبّر، لو تصبرت لصبرك الله ولكنت من الصابرين، ولكنك لقِل حيائك وأدبك مع الله تعالى تستفزك نفسك وتمشي وراءها وتقول ما عندي صبر لأنك قليل عقل، قليل مجاهدة، قليل تصبّر، قليل أدب، ولو عندك الأدب والعقل؛ تصبّرت ولصبّرك الله سبحانه وتعالى.
"وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ"؛ أي: يعطيه تعالى الصبر على المشاق ويسهلها عليه. فهكذا، "وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ". (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10]، (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى:43]، (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:153]، (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ) [البقرة:45]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200]، فهذه عطية الصبر عطية كبيرة. قال الإمام الحداد:
يا صابرًا أبشر وبشّر مَن صبر *** بالنصر والفرج القريب وبالظّفَر
نال الصبور بصبره ما يرتجي *** وصَفَت له الأوقات من بعد الكدر
فاصبر على المحن القواصد وانتظر *** فرجًا تدول به على دول القَدَر
وحالِفِ الصبر واعلم أن أوّله *** مُرٌّ وآخره كالشهد والضَّرْبِ
وهكذا قال سبحانه وتعالى في ارتقاء مرتبة الإمامة في الدين، أنها قائمة على الصبر: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24]، (إِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ)؛ صبر وقام بهن، (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) [البقرة:124]، فصار إمامًا للناس، فصار جميع من بعده ممَن يتدين، ينتسبون إليه، وسمَّى الله الملة ملة إبراهيم وقال: (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) [الحج:78]. وهكذا يثمر الصبر عطايا كبيرة، "وإن من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر"، ومَن أوتي حظه منهما فلا يبالي ما فاته، يقين وعزيمة الصبر. (لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24].
ثم ذكر لنا: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ"؛ يعني: يحث على الصدقة، يحث عليها الأغنياء، والتعفف "عَنِ الْمَسْأَلَةِ" يذكر التعفف فيحض الفقراء على التعفف عن المسألة، ويحض الأغنياء على الحرص على الصدقة، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. ويقول: "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى"؛ يعني: أكثر ثوابًا. والغالب تسمى يد المعطي العليا لأنه أرفع درجة ومحلًا في الدُّنيا والآخرة. "وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ"؛ التي تخرج المال وتخرج الصدقة. وفسره بعضهم بأن اليد العليا هي المتعففة، "وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ". فاليد العليا هي المُتعففة، أعطيت أو لم تعطَ؛ فهذه عليا. وهكذا، وهناك أوصاف وأحوال تقترن بالسائل والمعطي، بوجود هذه الأحوال الشريفة الطيبة تكون اليد العليا سواءً كانت للسائل أو للمعطي.
وكذلك يختلف السؤال للنفس والسؤال للغير أو لمصلحة عامة أو لمصلحة من مصالح الدين، فيختلف الأمر فيها، وهكذا كان حكم السؤال والتعرُّض له. فلو أظهر الفاقة وظنّه الدافع متصف بهذا، لم يملك ما أخذه لأنه قبضه من غير وجهه.
والجواز لمَن كان له فقر أو زمانة وعجز عن الكسب، يجوز له السؤال بقدر الحاجة. فإن كان علم أن باعث المعطي الحياء من السائل أو من الحاضرين، قال: لا يجوز له ويحرُم أخذه ويجب عليه رده لأن الأخذ بالحياء كالأخذ بالسيف. ويرتفع شأن المؤمن وحاله بسؤاله الرَّب -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه- وإنزال حاجته بمولاه.
واختلفوا فيما يتعلق بالمسجد:
وهكذا يقول أما إعطاء السائل في المسجد
يقول: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَرْسَلَ إِلَى سيِّدنا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِعَطَاءٍ"؛ ما كان يقسمه ﷺ على الصحابة، "فَرَدَّهُ" سيِّدنا "عُمَرُ" بن الخطاب، رد العطاء، وفي لفظ قال: أعطِه مَن هو أفقر إليه مني. فما كان عطاؤه من أجل الفقر ولكن كانت مواساته ﷺ لصحابته. "فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لِمَ رَدَدْتَهُ؟"؛ العطاء الذي أرسلناه إليك، "فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ أَخْبَرْتَنَا أَنَّ خَيْراً لأَحَدِنَا أَنْ لاَ يَأْخُذَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئاً؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّمَا ذَلِكَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ"؛ لا تأخذ من الناس عن مسألة. وجاء له في رواية قال له: "ما أتاك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف نفس فخذه، فما احتجت إليه فكله وإلا فتصدق به". ما أتاك من غير مسألة ولا إشراف نفس، قال: "فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ يَرْزُقُكَهُ اللَّهُ". عز وجلّ. يقول: خذه فتموّله أو تصدق به. هكذا أي إذا لم تكن محتاجًا إليه فتصدق به، ما دام جاءك من غير سؤال؛ يعني ما فهمته من النهي عن الأخذ من الناس إنما ذلك ما كان عن إشراف نفس وعن سؤال. وأما ما لم يكن، "فَقَالَ سيِّدنا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ أَسْأَلُ أَحَداً شَيْئاً، وَلاَ يَأْتِينِي شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ أَخَذْتُهُ." عملًا بإرشاده ﷺ، ولذلك كان عامة أحوال أهل الخير أن يقولوا: لا نسأل، ولا نرد، ولا ندخر؛ هذا مسلكهم في عامة أحوالهم. لا نسأل، ولا نرد، ولا ندخر، والناس يختلفون في أحوالهم في ذلك.
وإنما يكون الرد:
وما إلى ذلك، فيأتي الرد عندئذ.
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، ليَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ"؛ يأتي بالحطب من الجبل وحيث يوجد يبيعه "خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلاً أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ". أحسن له أن يكتسب، ومادام قادرًا على الكسب ويأخذ ما ييسره الله له من عمل يده، وذلك خير من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه.
ويذكر لنا بعد ذلك: "عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، أَنَّهُ قَالَ: نَزَلْتُ أَنَا وَأَهْلِي بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ"، الغرقد هذا نوع من الشجر، من العضاه وشجر الشوك، والغرقد واحدة. ولذا قيل: لمقبرة المدينة بقيع الغرقد لأنه كان فيه غرقد فقُطع، فسُميّت مقبرة المدينة بقيع الغرقد لأن شجر الغرقد كان هناك. ويقال: أنه العوسج. ويقال: إن شجرة الغرقد هذه صاحبة اليهود، وأنه عندما يجيء الوقت الذي يقاتل فيه اليهود المسلمون، فيختبئ اليهود وراء الشجر والحجر، فيتكلم الحجر والشجر ويقول: يا مسلم، هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، إلا الغرقد، مَن تخبأ وراء الغرقد ما يتكلم، ما يفضحه الغرقد ولا يكشفه. وقالوا: إن اليهود يحبون شجر الغرقد وأنهم يغرسونه كثيرًا لكن ما ينفع غرس الغرقد ولا غيره إذا جاء وقت قتلهم قُتلوا، إذا جاء وقت إجلائهم أُجْلوا. وإنما الأمور قائمة على حِكَم إلهية في تدبير الخلق، وما نهاية الظالمين والغاصبين والفاسقين إلا الندم والخسارة في الدُّنيا والآخرة. وقد يعاقب الله المسلمين بما يصدر منهم من استخفاف بأمر الدين أو ترك للواجب أو فعل للمحرَّم، فيسلط عليهم مَن يسلط من أعدائه في وقت من الأوقات حتى يعودوا إلى رشدهم وتوبتهم، فيصرفهم عنهم جلّ جلاله.
"فَقَالَ لِي أَهْلِي: اذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَاسْأَلْهُ لَنَا شَيْئاً نَأْكُلُهُ. وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ مِنْ حَاجَتِهِمْ" لاحتياجهم إلى ما يأكلونه من شأن الأسدي هذا الذي أرسلوه، يذكر ذلك للنبي ﷺ. "فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَوَجَدْتُ عِنْدَهُ رَجُلاً يَسْأَلُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لاَ أَجِدُ مَا أُعْطِيكَ، فَتَوَلَّى"؛ أدبر وذهب "الرَّجُلُ عَنْهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ، وَهُوَ يَقُولُ: لَعَمْرِي إِنَّكَ لَتُعْطِي مَنْ شِئْتَ." أنت تعطي الذي تريد، وهكذا اتهام النُّفوس المريضة للأنبياء وللصالحين! ووصف الله جماعة من آل النفاق قال: (وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) [التوبة:58]، وذكر الله الطريق الصحيح لأهل الإيمان: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ) [التوبة:59].
يقول: هو يذكر حاجة هؤلاء الذي أرسلوه، فوجد هذا يسأل النَّبي والنَّبي قال ليس عندي ما أعطيك، فتولى وهو مغضب. "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّهُ لَيَغْضَبُ عَلَيَّ أَنْ لاَ أَجِدَ مَا أُعْطِيهِ، مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عَدْلُهَا"؛ أربعون درهمًا من الفضة "فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافاً"؛ حيث سأل سؤالًا منهيًا عنه. "لا تُلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئًا فتُخرج له مسألتُه مني شيئًا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته"؛ يعني: إذا سألني وأعطيته وأنا كاره للعطاء؛ لا يبارك له فيما أخذه أبدًا ولا تحصل له فيه الفائدة. "قَالَ الأَسَدِيُّ: فَقُلْتُ لَلَقْحَةٌ"؛ يعني: ناقة ذات لبن "لَنَا خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ."؛ يعني: قيمتها أفضل من أوقية؛ أربعين درهم، ونحن عندنا لقحة، فما لي طريق أسأل.
"قَالَ مَالِكٌ: وَالأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَماً. قَالَ: فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسْأَلْهُ"؛ لأنه قد شاف الرجل قبله يسأل النَّبي، قال ما عندي شيء أعطيك إياه. "فَقُدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَعِيرٍ وَزَبِيبٍ، فَقَسَمَ لَنَا مِنْهُ حَتَّى أَغْنَانَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ." رجع عن المسألة وما سأل فساق الله لهم، ومَن يستعفّ يعفه الله. فلما جاء النَّبي ﷺ الشعير والزبيب، قسم منه وقسم ما أعطى هؤلاء الجماعة الذين أرسلوه، خلاص واغتنوا بذلك من دون سؤال. مَن استغنى أغناه الله، ومَن استعفف أعفه الله، ومَن استكفى كفاه الله، ومَن سأل وله أوقية فقد ألحف. فقلت ناقتي خير من أوقية، فرجعت ولم أسأله، ثم يسّر الله تعالى لهم.
قال: "عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ"، بل يطرح الله البركة للمُتصدق فيُنمي له ماله ويبارك له فيه. "وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْداً بِعَفْوٍ"؛ أي: بسبب عفوه وتجاوزه عن الانتقام مع قدرته على الانتصار في حق يثبت له من الحقوق، فما يزيده الله "إِلاَّ عِزًّا"؛ أي: رفعة في الدُّنيا قبل الآخرة. "وَمَا تَوَاضَعَ عَبْدٌ"؛ لله تذلل وخضع "إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ." تعالى في الدُّنيا يجعل له عز وشرف، وفي الآخرة يرفعه درجات في الجنَّة "قَالَ مَالِكٌ: لاَ أَدْرِي أَيُرْفَعُ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَمْ لاَ." لكنه قد جاء في روايات. وقال ﷺ في رواية: ثَلاثٌ أحلف عَلَيهِنَّ: مَا نَقَصَ مَالٌ مِن صَدَقَةٍ، وما ازداد عبدٌ بعفو إلا عزًّا، وَلا فَتَحَ أحدٌ على نفسه بَابَ مَسأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ. قال أحلف عليهن، وهو الصَّادق عليه الصَّلاة والسَّلام.
يقول: "مَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّدَقَةِ"؛ أي: مكروهة في حق بعض الناس تحريمًا أو تنزيهًا لأنها من أوساخ الناس، وأنه ﷺ قال: "لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لآلِ مُحَمَّدٍ"
والمراد بالصدقة المفروضة عند جماهير العلماء، عمّم بعضهم الصدقة المفروضة والمستحبة.
يقول: قال رسول الله ﷺ: "لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لآلِ مُحَمَّدٍ"، فالمعتمد أنهم بنو هاشم وبنو المطلب، ولا خلاف في بني هاشم. وبنو المطلب جاء في رواية عن الإمام أحمد والإمام أبي حنيفة، أنه يجوز لبعضهم إعطاؤهم من الزكاة، فمذهب الحنفية والمشهور عند المالكية وإحدى روايات الإمام أحمد بن حنبل، أنهم يأخذون من الزكاة.
وخرج بنو هاشم لقوله: إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، وما قاسوا بني المطلب ولكن الإمام الشافعي وغيره من العلماء قال إن رسول الله ﷺ قال: نحن وبنو المطلب شيء واحد في الجاهلية والإسلام، فهم داخلون في الآل فلا تجوز لهم الصدقة المفروضة؛ الزكاة. وكذلك كان هو الإمام الشافعي من بني المطلب، فهو في مذهبه لا يجوز له الأخذ من الزكاة.
وأما صدقة التطوع:
قال: "إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ". تطهر أموالهم ونفوسهم من الشُّح والبخل، وتكفر ذنوبهم؛ فهي طيبة للفقير وللمحتاج من غير بني هاشم وبني المطلب. ويقول ﷺ في الرواية: فإن في خُمس الخمس ما يكفيهم. وهو خمس الخمس من الغنائم، يُصرف هذا الخمس الخمس لبني هاشم وبني المطلب؛ فيكفيهم هذا ويغنيهم عن المسألة وعن قبول الزكاة.
وعند انقطاع ذلك كما هو الحال من قرون، فما صاروا يعطَون من خُمس الخمس ولا دخل لهم.
يقول: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنْ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ عَلَى الصَّدَقَةِ"؛ أي يبعثه ليجمع الصدقات من الإبل والبقر والغنم عند أهلها، وكان أكثر مالهم الإبل. "فَلَمَّا قَدِمَ" رجع وجاء بالزكاة، "سَأَلَهُ" سأل النَّبي "إِبِلاً مِنَ الصَّدَقَةِ". قال: أعطنا منها، هذه التي جمعتها لك. إنما يصرفه ﷺ من حيث أمره الله، (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [التوبة:60]. "فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ" عندما سأل هذا الرجل "حَتَّى عُرِفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ" وكان يُعرف باحمرار عينيه وبعرق بين عينيه يدُره الغضب، "وَكَانَ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ أَنْ تَحْمَرَّ عَيْنَاهُ" ﷺ.
"ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَسْأَلُنِي" شيئًا "مَا لاَ يَصْلُحُ لِي وَلاَ لَهُ" لا يصلح لي أن أعطيه ولا يجوز له أن يسأل مني. "فَإِنْ مَنَعْتُهُ كَرِهْتُ الْمَنْعَ" لأني مجبول على الجود والسخاء والكرم يشق عليّ المنع "وَإِنْ أَعْطَيْتُهُ" لسؤاله "أَعْطَيْتُهُ مَا لاَ يَصْلُحُ لِي" عطاؤه "وَلاَ لَهُ" أخذه. "فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ أَسْأَلُكَ"؛ يعني: من الصدقة "مِنْهَا شَيْئاً أَبَداً." فقبل الموعظة من رسول الله ﷺ، ووُفق للاتصاف بالوصف الحسن، فتاب من هذه الرغبة في إبل الصدقة توبةً نصوحًا.
وجاء في الرواية أنه قال: يا رسول الله، أعطني من الصدقة. فقال: إن الله لم يكل قسمها -قسمة الصدقة- إلى مَلَك مقرَّب ولا نبي مرسل حتى جزأها ثمانية أجزاء بنفسه في كتابه: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [التوبة:60]. فإن كنت جزء منها أعطيتك، وإن كنت غنيًا عنها، فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن. يقول: "لا تلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئًا فتخرج له مسألته مني شيئًا وأنا له كاره فيبارك له فيه"؛ يعني ما يبارك له فيه أبدًا فيما أعطيته.
وذكر عن: "عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الأَرْقَمِ: ادْلُلْنِي عَلَى بَعِيرٍ مِنَ الْمَطَايَا أَسْتَحْمِلُ عَلَيْهِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقُلْتُ: نَعَمْ جَمَلاً مِنَ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الأَرْقَمِ: أَتُحِبُّ أَنَّ رَجُلاً بَادِناً" يعني: سمينًا "فِي يَوْمٍ حَارٍّ" وهو يتعرّض للعرق الكثير، رجل سمين في وقت الحر "غَسَلَ لَكَ مَا تَحْتَ إِزَارِهِ وَرُفْغَيْهِ"؛ يعني غسول فخذيه "ثُمَّ أَعْطَاكَهُ فَشَرِبْتَهُ؟" أعطاك إياه لتشربه!!! "قَالَ: فَغَضِبْتُ وَقُلْتُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، أَتَقُولُ لِي مِثْلَ هَذَا؟" ما هذا الكلام؟ قال: إي، قلت له: أنت ستعطيني من إبل الصدقة؟ "فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الأَرْقَمِ: إِنَّمَا الصَّدَقَةُ أَوْسَاخُ النَّاسِ يَغْسِلُونَهَا عَنْهُمْ." فأنت الآن تقول لي أعطيك واحد من إبل الصدقة، فهذا أنت مثل واحد أخرج لك العرق من بين رجليه وقال لك خذ اشرب، ترضى بهذا؟! قلت: أستغفر الله. قال: هذه أوساخ الناس، لماذا تقول لي أعطيك من إبل الصدقة؟ وقال: ولماذا تقول لي هذا؟ ما هذا الكلام؟ قال: وأنت ما تقول؟ هذا هو الكلام نفسه. أجبته: هذا كهذا. هذه أوساخ حسية وهذه أوساخ معنوية. "إنما الصدقة أوساخ الناس يغسلونها عنهم".
فلأنه كان مراده أن يدله على بعير من غير إبل الصدقة يطلبه من سيِّدنا عُمَر بن الخطاب. قال له: شوف هذا بعير جاء من إبل الصدقة، قل لعُمر يعطيك إياه. قال: أنا آخذ من إبل الصدقة؟ يسرك أنه في حر شديد رجل بدين أخرج لك العرق، وقال لك: خذ اشرب؟ قال: لماذا تقول هكذا؟ قلت له: وأنت لماذا تقول هكذا؟ لماذا تقول لي من إبل الصدقة؟ أنا ما أردت من إبل الصدقة ولا أريد أن آخذ شيئًا من هذه الزكاة، هي لا تصلح لي.
وعندنا ختم الكتاب في الغد إن شاء الله، نختم كتاب موطأ الإمام مالك، نفعنا الله به وبعلومه وبأسراره وبكتبه وبالصالحين وعلومهم وأسرارهم.
الله يكتب لنا القبول، ينيلنا غايات السول، يجمعنا بسيِّدنا الرسول، يزكي لنا العقول، ويهيأ بهذه الخيرات لرمضان ولياليه وأيامه، ويجعلنا من خواصّ أهله، ويوفر حظنا من ليلة النظرة أول ليلة من ليالي رمضان، ويوفر حظنا من نظره إلى محبوبيه وما يخص به أحدًا من العباد من كريم النظر، يخصنا بأجمل ذلك وأجله، وأكمله، وأفضله، وأعلاه، وأصفاه، وأهناه، وأزكاه، وأنوره، وأبركه، في خير ولطف وعافية، بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.
28 شَعبان 1444