شرح الموطأ -91- كتاب قصر الصلاة في السفر: متابعة باب جامع الصلاة

شرح الموطأ -91- كتاب الصلاة، باب جامع الصلاة، من حديث: (اللهم لا تَجْعَل قَبْري وَثَناً يُعْبَد..)
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب قصر الصلاة في السفر، متابعة باب جامع الصلاة.

فجر الأربعاء 18 ربيع الأول 1442هـ.

متابعة باب جَامِعِ الصَّلاَةِ

477- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَناً يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ".

478- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَاري، أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ وَهُوَ أَعْمَى، وَأَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إِنَّهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ وَالْمَطَرُ وَالسَّيْلُ، وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ، فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي مَكَاناً أَتَّخِذْهُ مُصَلًّى، فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ؟" فَأَشَارَ لَهُ إِلَى مَكَانٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمدُ لله مُكْرِمِنا بالبيان الواضح على لسان عبده الحبيب النَّاصح، الذي دعانا إلى حقائق المنافع والمصالح سيِّدنا مُحمَّد صلُى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه، وعلى آله وأصحابه ومَنْ سار في دربه مِنْ كُلّ صادق مع الحقّ -جلَّ جلاله- مُستقيمًا على ذلك المنهج القويم الواضح، وعلى آبائه وإخوانه مِنَ الأنبياء والمُرسلين، أصل الصّلاح لكُل صالح، وعلى آلهم وصحبهم، والملائكة المُقربين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الرّاحمين. 

ويروي لنا الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- في الأحاديث المُتعلقة بالصَّلاة، شأن الصَّلاة على القُبور واتخاذها مساجد، أو الصَّلاة إلى القُبور قصدًا. كما يندرج فيه بعد ذلك حُكم الصَّلاة في المقابر، أو عند القُبور إذا لم يكُن في ذلك قصدٌ مُعيّنٌ لأجل القبر وما إلى ذلك. فيقول: عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَناً يُعْبَدُ". ودُعاؤه -عليه الصَّلاة والسَّلام- واضح في أدبه وعُبوديته وخُضوعه للربّ، وصفاء دعوته ﷺ العِبادَ إلى عبادة ربّ العِباد. وتحذيرًا مما صنع بعض أهل الكتاب مِنْ اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، بأنْ يسجدوا عليها ويُصلون فوقها، أو يُصلون إليها قاصدين الصَّلاة لها، حتى تجاوزوا الحدّ، وادّعوا البُنوة لله. (وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ …) [التوبة:30]. وعبدوهم مِنْ دون الله -تبارك وتعالى-. فكان دُعاؤه ﷺ دُعاء المُستجاب، وهو المُتفق مع إخباره أنَّ الله تعالى أكرمه في أُمته أنْ لا يكون فيهم مَنْ يُشرك بالله تعالى مِنَ المُصلين، وأنْ لا يعبدوا وثنًا ولا شمسًا ولا قمرًا، ولكنه تدخل عليهم مداخل الشّر مِنَ الأهواء والتّنافُس على مظاهر الدُّنيا وأموالها وسُلطاتها وما إلى ذلك. "فإنَّ الشَّيطان قد أيس أنْ يعبده المُصلون في جزيرة العرب، فإنْ يطمع في شيء ففي التّحريش بينهم"، وقال ﷺ: أما إنّي لست أقول يعبدون شمسًا ولا قمرًا ولا وثنًا، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم. فبذلك بيّن لنا ﷺ في دُعائه، ثُمَّ في دعوته، ثُمَّ في خبره، ونبأه ما به نبتعد كُلّ البُعد عن أنْ نعبُد شيئًا غير الله، كائنًا ما كان ظاهرًا وباطنًا. وأنْ نعلم كذلك أنَّ هذه الأُمة حُفِظت مِنْ هذا الشِّرك في مُصليّها إلى آخر الزمان، وأنَّ قبره لا يُمكن أنْ يتحول إلى وَثنٍ يُصلّى إليه أو يُعبد مِنْ دون الله تبارك وتعالى. بل تُصلّي الأُمة عند ما امتد مسجده، -فحوى قبره الشّريف، وقبريّ صاحبيه الكريمين-، فتُصلّي الأُمة يمينه ويساره وأمامه وخلفه، لله -تبارك وتعالى-، لا يتوجه أحد مِنْهم لقصد قبر ولا غيره، ولكن يقصِدون الاقتداء بصاحب القبر ﷺ في ما سنَّه -عليه الصَّلاة والسَّلام- لأُمته، مِنْ احترام قبور المُسلمين، ومِنَ التّردُد عليها للسلام عليهم والدُّعاء عندهم، ولقد صحّ عنه إطالة قيامه ووقوفه على قبور المُسلمين -صلوات ربي وسلامه عليه-، بذلك اتضح السبيل. وجاء بعض أهل البِدعة في الأُمة، وبرزوا في القرن الماضي، وحمّلوا هذا الحديث وغيره فوق ما يَحمل، وبالغوا في الإنكار ورمي العِباد بالكُفر والشِّرك والعياذ بالله تبارك وتعالى. 

يقول: "اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَناً يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ". واتخاذ القبر مسجد؛ أنْ يُتخذ محل سجود؛ فيسجد على القبر، أو ينوي -والعياذ بالله- أنْ يسجد لصاحب القبر أو لغيره. وبقي الفرق الواسع بين السُّجود لشيء أو الصَّلاة إلى شيء؛ أمّا الصَّلاة إلى شيء، فالواجب على جميع المؤمنين أنْ يُصلوا إلى الكعبة المُشرفة. وقال لهم ربُّهم: (… فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ …) [البقرة:150]. فكُلهم يُصلون إلى الكعبة، وليس فيهم مَنْ يعبُد الكعبة بحمد الله تعالى في الأول والآخر، ولكنهم يعلمون أنَّها البُنية المُعظّمة عند الربّ، وأنَّها التي شرعها لهم قِبلة للصلاة، فلا تصح صلاتهم حتى يتوجهوا إليها.

 وقد جاءنا في الأحاديث الصحيحة، أنَّه ﷺ كانت تُركز له عكزة مِنَ العصا، يُصلي إليها. وندب أُمته أنْ يُصلون إلى شيء أمامهم، فلا يكونوا بينهم وبين القِبلة فراغ، فيُصلون إلى شيءٍ أمامهم، وهو الشاخص الذي يوضع أمام المُصلي. وكان مِنْ أصحابه مَنْ يُصلي إلى الرّاحلة. وكان ﷺ يُصلي على الرّاحلة النّافلة في السّفر.  فعُلِم بذلك واتضح وجه كيفية العبادة، ومفاد ومسار التحذير النّبوي مما هو أو مما يكون، وليس مجرّد الصَّلاة إلى شيء عبادة له، وإلا لكانت الصَّلاة إلى الكعبة عبادة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. وذلك لا يقول به عاقل، ولا يقول به مُسلم، ولكن تعظيم شعائر الله -تبارك وتعالى- مِنْ تقوى القلوب.

ويقول ﷺ في شأن القُبور: "لأنْ يَجْلِسَ أحدُكم على جَمرةٍ، فتحرِق ثيابه، فتخلُص إلى جِلده، خيرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَجْلِسَ على قبرٍ". فأمر باحترام القُبور. وذكر أنّ الجُلوس على جمرة أحسن مِنَ الاستخفاف بالقبر، والجُلوس فوق قبر. "لأنْ يَجْلِسَ أحدُكم على جَمرةٍ، فتحرِق ثيابه، فتخلُص إلى جسده، خيرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَجْلِسَ على قبر". فحذّر ﷺ مما بالغ فيه اليهود والنّصارى، ثُمَّ ادّعوا البُنوّة لله، تعالى أنْ يكون لله ولد أو والد، (...لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص:3-4] جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه. وجاء بعد ذلك كلام الفُقهاء في الصَّلاة في المقبرة أو عند القُبور. كما أنَّ لما حدث توسعة المسجد في عهد الصَّحابة، وأيام عُمَر بن عبد العزيز، فوسّعوا المسجد النَّبوي، فأدخلوا الحُجرات فيه، فدخلت الثَّلاثة القبور وسط المسجد، ولم يروا في ذلك حرجًا. ووسّع سيِّدنا عُثمان مِنْ جهة الجنوب إلى جهة القِبْلة توسعة، فكان النَّاس يُصلون أمام القُبور، وعن يمينها وعن يسارها ومِنْ خلفها. ولم تزل جماعاتهم على ذلك مِنَ القرن الثاني، قرنًا بعد قرنٍ، بعد قرنٍ، لا أحد يستنكر ذلك، ولا أحد يرى في ذلك بأسًا.

وهكذا بل قصَّ الحقّ -تبارك وتعالى- علينا في القُرآن عمل المؤمنين الذين غلبوا على أهل الكهف، وقال: (...قَالَ ٱلَّذِینَ غَلَبُوا۟ عَلَىٰۤ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَیۡهِم مَّسۡجِدࣰا) [الكهف:21]؛ أيّ: بجوارهم وقربهم. لا أنْ يتخذوا القبور مَسجد، يسجدون فوقها، أو يسجدون لها، ولكن بجوارهم تبرُكًا، (... لَنَتَّخِذَنَّ عَلَیۡهِم مَّسۡجِدࣰا). فذكر لنا الحقُّ تعالى ما نوى أولئك المؤمنون وعزموا عليه، ولم يُنكِر عليهم -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- (... قَالَ ٱلَّذِینَ غَلَبُوا۟ عَلَىٰۤ أَمۡرِهِمۡ…)؛ أيّ: مِنَ المؤمنين الذين والوا هؤلاء مِنْ أجل الله تعالى (... لَنَتَّخِذَنَّ عَلَیۡهِم مَّسۡجِدࣰا). (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ…) [الكهف:22] وما إلى ذلك. ومِنْ هُنا فرّق الأئمة بين ما كان مِنْ مقبرة منبوشة وغير منبوشة. والذين يقولون بنجاسة جُثث الموتى، إذا اختلطت بالصديد، وأثر أكل الدّود والتُراب لها. فجعلوا الصَّلاة في المقبرة المنبوشة لا بُدّ أنْ يكون ساتر بينه وبين النَّجاسة، بخلاف غير المنبوشة. 

     وتحدثوا عن المساكن أيضًا في المساجد، وإذا اتخذ مسجدًا؛ 

  • إذا أوقفه، فيكون ما فوقه كُلّه مسجد.
  • فإذا أوقف السطح أو ما فوق، كان له أنْ يسكُن في الأسفل وينتفع به، كما يقول المالكية والشَّافعية وغيرهم: 
    • إذا اتخذ منزل للسكن فيه تحت المسجد، جاز له. 
    • ولم يُجيزوا له أنْ يتخذه فوقه لأنّه إذا أُوقف الأرض أو الطابق الأدنى؛ وُقِفَ ما فوقه كُلّه؛ فصار مسجدًا.
  • وهكذا يقول الحنابلة: إنْ جعل أسفل بيته مسجدًا، لم ينتفع بسطحه. وإنْ جعل سطحه مسجدًا، انتفع بأسفله. قال الإمام أحمد: لأنّ السطح لا يحتاج إلى أسفل.
  • وكذلك يقول الحنفية: إذا جعل السُفلى مسجدًا، وعلى ظهره مسكن، فهو مسجد؛ لأنَّ المسجد مما يتأبد ولذلك لا يتحقق في السفل دون العلو.
  • ويُروى عنهم -عن الحنفية- عند مُحمَّد عكس هذا؛ قال: لأنَّ المسجد مُعظّم. وإذا كان فوقه مسكن يتعذر تعظيمه، فلا بُدّ أنْ يكون كُلّه مُعظمًا.
  • وهكذا جاء في رواية عن أبي حنيفة: إذا جعل السُفل مسجدًا دون العلو، جاز لأنّه يتأبد. 
  • وقال الأئمة أيضًا: يُكره قصد بناء المسجد على القبر، فلا يُجعل أيّ قبر مِنَ القبور مسجدًا؛ أيّ: مكانًا تسجد عليه. فمِنْ باب أولى أنْ يُسجد له، فلا يُسجد لشيء غير الله -تبارك وتعالى-. 

والشّريعة عندنا حرّمت الانحناء ولو للتَحية والإكرام، ولا يكون إلا في رُكوعٍ أو سُجودٍ لله تعالى. وإنْ لم يكُن ذلك في حدّ ذاته شرك، وإنّما الشّرك أنْ يعتقد مَن ينحني أنَّ الذي انحنى له إله وشريك مع الله -تبارك وتعالى-. ولذلك كانت التّحية بالسجود جائزةً ومُباحة في شرائع الأنبياء قبل، وجميع الشرائع لم تُبح شِركًا أصلًا، بلا ريب ولا شك. وبذلك أيضًا جاء الأمر مِنَ الله للملائكة بالسُجود لآدم، فكان سجودهم لآدم تعظيمًا لأمر الله -تبارك وتعالى- وتمجيدًا لمَن أمر الله بتمجيده وهو آدم عليه السَّلام، فما كان فيه عبادة إلا لله، والذي تأبّى أنْ يسجد؛ دُحِر ولُعِن، كما أخبر الحقّ جلّ جلاله.

 ثُمَّ ذكر أنَّ الأنبياء يستعملون السُّجود للتحية، فقال سبحانه وتعالى على سيِّدنا يُوسف: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا …) [يوسف:99-100]. خرّوا له سُجدًا -سيِّدنا يعقوب، وزوجته، وإخوة يُوسف-. (..وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا..)، يُحيّونه تعظيمًا له. مَنْ قال أنّه مُشرك، فقد كفر -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وخروا له سُجدًا ( … وَقَالَ یَـٰۤأَبَتِ هَـٰذَا تَأۡوِیلُ رُءۡیَـٰیَ مِن قَبۡلُ …)؛ أنا صغير قُلت لك (... إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَٰجِدِينَ) [يوسف:4]. هذا الآن تحقق، هو وزوجته (ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ)، وإحدى عشر (إخوانه) (... إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَٰجِدِينَ)، (... وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا …). (...وَقَالَ یَـٰۤأَبَتِ هَـٰذَا تَأۡوِیلُ رُءۡیَـٰیَ مِن قَبۡل قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّی حَقࣰّـاۖ وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِیۤ إِذۡ أَخۡرَجَنِی مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَاۤءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ بَیۡنِی وَبَیۡنَ إِخۡوَتِیۤۚ إِنَّ رَبِّی لَطِیفࣱ لِّمَا یَشَاۤءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِیمُ ٱلۡحَكِیمُ) [يوسف:100].

  • وفرّق الشَّافعي بين المقبرة المنبوشة وغيرها، قال: إذا كانت المُختلطة بالتراب مِنْ لحوم الموتى وصديدهم وما يخرج مِنهم، لم تجُز الصَّلاة للنجاسة. فإنْ صلَّى رجُل في مكان طاهر، أجزأته صلاته. 
  • ولم يرَ مالك بالصلاة في المقبرة بأسًا. وحكى أبو مُصعب عن مالك كراهة الصلاة في المقبرة في الرواية الأخرى، كقول الجُمهور.
  • قال الإمام العيني في عُمدة القاري في شرح البخاري وكذلك في شرح التِّرمذي: حكى أصحابنا اختلافًا في الحكمة في النَّهي عن الصَّلاة في المقبرة، والمعنى فيه: ما تحت مُصلاه مِنَ النَّجاسة.
  • قال الرَّافعي: لو فرش فوق النجاسة شيئًا وصلَّى عليه؛ صحّت صلاته. وبقيت الكراهة، لكونه مُصليًا على النَّجاسة، وإنْ كان بينهما حائل. 
  • وقال القاضي حسين: لا كراهة مع الفرش على النَّجاسة مُطلقًا. 
  • وحكى ابن الرفعة: الذي دلّ عليه الكلام أنَّ الكراهة لحُرمة الموتى. وعلى كل تقدير مِنْ هذين المعنين، ينبغي أنْ يُقيّد الكراهة بما إذا حاذى الميت. أما إذا وقف بين القبور بحيث لا يكون تحته ميّت ولا نجاسة، فلا كراهة. 
  • إلا أنّ ابن الرفعة بعد أنْ حكى المعنيين قال: لا فرق في الكراهة بين أنْ يُصلي على القبر أو بجانبه أو إليه. 
  • وكذلك نقل عن الأئمة الآخرين، وذكر في البدائع: إنما نُهيَ ذلك لما فيه مِن التّشبُه باليهود.

 قالوا: وعلى هذا تجوز الصَّلاة وتُكره، وقيل معنى النَّهي أنَّ المقابر لا تخلو عن النَّجاسات. وذكر عن شرح المنهاج: علّته محاذاته للنجاسة سواء ما تحته أو أمامه أو بجانبه. وفي حديث آخر يقول: "ولا تُصلوا إليها"؛ أيّ: تقصدون استقبالها ولكن تستقبلون القِبْلة.

كما تقدّم معنا أحاديث في الصَّلاة في أعطان الإبل. وعموم قوله ﷺ: "... جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا …"

○ ويقول ابن جُريج، قلت لنافع: أكان ابن عُمر يكره أنْ يُصلّي وسط القبور؟ قال: لقد صلّينا على عائشة وأُمّ سلمة -رضي الله عنهما- وسط البقيع، والإمام يوم صلينا على عائشة: أبو هُريرة، وحضر ذلك عبد الله بن عُمر رضي الله عنهما.

○ وجاء في صحيح الإمام البُخاري، أنّ عُمر -رضي الله عنه- رأى أنس بن مالك يُصلي عند القَبر، فقال: القبر، القبر. ولم يأمره بالإعادة. وأنس بن مالك خادم المُصطفى ﷺ، ولصيقه في كثير مِنْ شؤونه وأحواله.

ثُمَّ لم يزل يحكي لنا تبرّك الصَّحابة بمكان صلاة النَّبي، فيما روى أن "عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ وَهُوَ أَعْمَى"، ففيه جواز إمامة الأعمى. واختلفوا فيها وفي البصير، فقالوا:

○ إنَّ في البصير خصوصية الاحتراز عن النَّجاسة أحسن مِنَ الأعمى. 

○ وفي الأعمى قوة الخُشوع وتوفّر الحُضور أكثر مِنَ البصير.

فلكُلّ واحد مِنْهما ميزة. فاختلف العُلماء في الأعمى،

  • وقال الإمام الغزالي والمروزي: إمامة الأعمى أفضل لأنّه أكثر خُشوعًا مِنَ البصير. 
  • ورجّح البعض الآخر، إمامة البصير لأنّه أشدّ توقيًا للنجاسة.

وعلى كُلٍّ فقد كان ﷺ قد يستخلف على الصَّلاة على النَّاس سيِّدنا عبد الله بن مكتوم -وهو أعمى- في عدد مِنْ رحلاته وأسفاره. ولَّى على الصَّلاة بالنَّاس عبد الله بن مكتوم، وكان أعمى، فولّاه على الصَّلاة بالإمامة بالنَّاس؛ وهذا يُرجِّح عدم الكراهة في صلاة الأعمى. فسيِّدنا عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ يقول لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ"؛ يعني موانع تمنعنا عن الحُضور في المسجد، "وَالْمَطَرُ وَالسَّيْلُ، وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ"؛ أيّ: ناقصه، "فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي مَكَاناً أَتَّخِذْهُ مُصَلًّى"، وقد سَمِع قول ربّه: (... وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى…) [البقرة:125]. ومقام إبراهيم، حجرٌ كان يقوم عليه، فأمرنا أنْ نتخذ مِنه مُصلى. "فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ" ومعه أبو بكر وعُمَر ونفر مِنَ الصَّحابة إلى بيت سيِّدنا "عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ؟" أين المحل الذي تُريد أنْ أُصلي فيه لتتخِذه مِنْ بعدي؟ أين المحل الذي ستُهيئه للصلاة؟ تتخذه مصلى دائمًا؟ في بعض الروايات: "لأصلي لك فيه"؛ يعني مِنْ أجلك، أُصلي لك مِنْ أجل تتخذه تبركًا مِنْ بعدي. "فَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ". وصلّوا خلفه ساداتنا الصَّحابة الذين حضروا معه، مِنْهم أبو بكر وعُمَر. وفيه أنّ الزائر إذا أذِن له صاحب البيت، فيكون هو الإمام، وإلا فصاحب البيت هو الذي يؤم النَّاس. ولكن مَنْ يتقدّم على رسول الله ﷺ؟ ولكن أيضًا الحُكم لغيره كذلك إذا أذِن له صاحب البيت كان له الحقّ في الإمامة. ورضي الله عن عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ، ووافقه ﷺ على أنْ يأتي، فيُصلي في المكان الذي عَيّن له مِنْ بيته ليتخذه مِنْ بعده مُصلّى. ولم يقل له، إنَّ في هذا مُبالغة، يؤدي إلى الشّرك ولا هذا بدعة، ولم يقل له لماذا تريدنني أن أصلي؟ الصلاة لله تعالى صلِّ في أيّ محل! ولكن جاء بنفسه ﷺ، وأين تُريد أنْ أُصلي لك؟ في هذا المكان، فصلَّى في ذلك المكان ﷺ؛ فاتخذه مِنْ بعده عِتْبَانَ مُصلى.

رزقنا الله المُتابعة لهذا الحبيب، والقُرب مع أهل التقريب، ووفّر لنا مِنَه الحظ والنَّصيب بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

20 ربيع الأول 1442

تاريخ النشر الميلادي

05 نوفمبر 2020

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام