(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب مسح الحَصْباء في الصلاة، وباب ما جاء في تسوية الصفوف.
فجر الأحد 1 ربيع الأول 1442هـ.
باب مَسْحِ الْحَصْبَاءِ فِي الصَّلاَةِ
434 - حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي جَعْفَرٍ الْقَارِئِ، أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ إِذَا أَهْوَى لِيَسْجُدَ، مَسَحَ الْحَصْبَاءَ لِمَوْضِعِ جَبْهَتِهِ، مَسْحًا خَفِيفًا.
435 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ يَقُولُ: مَسْحُ الْحَصْبَاءِ مَسْحَةً وَاحِدَةً، وَتَرْكُهَا خَيْرٌ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ.
باب مَا جَاءَ فِي تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ
436 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَأْمُرُ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ، فَإِذَا جَاءُوهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنْ قَدِ اسْتَوَتْ كَبَّرَ.
437 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَمِّهِ أبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَامَتِ الصَّلاَةُ وَأَنَا أُكَلِّمُهُ فِي أَنْ يَفْرِضَ لِي، فَلَمْ أَزَلْ أُكَلِّمُهُ، وَهُوَ يُسَوِّي الْحَصْبَاءَ بِنَعْلَيْهِ، حَتَّى جَاءَهُ رِجَالٌ، قَدْ كَانَ وَكَلَهُمْ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الصُّفُوفَ قَدِ اسْتَوَتْ، فَقَالَ لِي: اسْتَوِ فِي الصَّفِّ, ثُمَّ كَبَّرَ.
الحمد لله مُكرمنا بأحسن البيان، على لسان عبده المصطفى سيد الأكوان، محمد بن عبد الله المنزَل عليه القرآن. اللهم أدِم صلواتك على عبدك المصطفى سيدنا محمدٍ في كل آن، وعلى آله وأصحابه الغرّ الأعيان، وعلى من تبعهم بالصدق والإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل القرب والعرفان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وملائكتك المقرّبين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعدُ،
يواصل الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- في الموطأ ذكر الأحاديث المتعلقة بالعمل في الصلاة، ويقول: "باب مَسْحِ الْحَصْبَاءِ فِي الصَّلاَةِ"، والحصباء كانوا يصلون عليها، فتكون فيها الحجارة الصغيرة، فيسجدون عليها، وقد ترتفع بعض الحصى على بعض، فيصعب في ذلك كمال السجود، أو يمتنع أن يتمكّن من وضع جبهته وأنفه كما ينبغي، فيحتاج لتسوية المكان.
وكان لأن الصلاة إقبالٌ تام كامل على الله -جل جلاله- يحتاج إلى أن يصلح ذلك إذا احتاج إلى إصلاحه قبل أن يحرم بالصلاة، وقبل أن يدخل في الصلاة، حتى لا يشتغل بعد إحرامه بشيء غير أفعال الصلاة وسننها، ولا يشتغل قلبه بشيءٍ غير المعبود الذي توجّه بوجه قلبه إليه، وأقبل عليه جلّ جلاله، فإن الرحمن يُقبل على العبد المصلي إذا قام إلى الصلاة مقبِلًا عليه -جلّ جلاله وتعالى في علاه- وينبغي أن يُحسِنَ الأدب في القيام في الصلاة، فلا يشتغل بأي شيء.
فمنه ما يتعلق بمسح الحصباء:
فهكذا، الاشتغال بتسوية مكان السجود يكون خارجًا عن الأدب في الصلاة، وعن واجب الاشتغال بسُننها وآدابها، فكيف بالاشتغال بشيءٍ آخر من ملابسه وأدواته؟ فيكون ذلك خارج عن الأدب، بل يكون في الكراهة بمنزلة، بل يكون كما هو عند الحنفية: إذا كان يُرى ويقطع الرأي أنه ليس في صلاة من حركته، فإن صلاته باطلة عندهم.
فمن السوء والقبيح يدخل إلى الصلاة وعنده أمامه، أو في جيبه جوال شغال يتعرّض للرنين في أثناء الصلاة، ويكون أسوأ منه أن يكون الرنين نوع من الموسيقى، فيُسمّع المصلين الموسيقى وهم في حضرة ربهم -جلّ جلاله- متوجهين إليه، من بلاهته وغفلته! إذا ما بعّدته نهائيًا، فاجعله مغلق أو صامت يا متغافل! يامتجاهل! ما تعرف قدر الصلاة وقدر الحضرة؟ وأقبح منه، يخرجه وهو في الصلاة، يتشوَّف إليه، يطفيه، ويصلح فيه كذا…! وإنا لله وإنا إليه راجعون! ما تدري هذا مصلي أم متفرّج في لعب؟ أم إيش يعمل هذا هل يصلي؟!!
الكلام على كراهة تسوية الحصى في موضع السجود لأجل السجود، ومنه غير الحصى، لكن لأن كان عو المسجد الشريف، وعامة مساجد المسلمين يصلون على التراب، وعلى الطين، وعلى الحصى، وعلى الحصباء، وليست عندهم هذه الفرش ومثلها. لكن مثلها أيضًا: يصلّح رداء، أو يصلح سجادة وهو يصلي، هذا يكون قبل الصلاة، أما أثناء الصلاة فلا تشتغل بشيء، ولا تشتغل بسجادة، ولا تشتغل بساعة، ولا تشتغل بنظارة… مصلي تناجي ربك جلّ جلاله وتعالى في علاه. وهم يرون أنهم لمّا يذهبون عند عظماء الدنيا ممنوع يدخل معه جوال، لأنه سيكلم الوزير أو الرئيس! لاحول ولا قوة الا بالله!! من أجل حضراتهم يُبعد الجوال بعيد، ويجيء عند حضرة رب العالمين يتركه يرنرن ..!! ولا حول ولا قوة الا بالله! ويتركه صوت مزعج، ويزعج المصلين بلا حس، بلا أدب، بلا تعظيم للشعائر!! ومن أولى من أن يُعَظَّم من ربِّ العالمين جلّ جلاله وتعالى في علاه؟
هكذا قال: "باب مَسْحِ الْحَصْبَاءِ فِي الصَّلاَةِ". وأورد حديث ابن عمر أنه: "إِذَا أَهْوَى لِيَسْجُدَ" يعني: هبط إلى الأرض ليسجد "مَسَحَ الْحَصْبَاءَ لِمَوْضِعِ جَبْهَتِهِ، مَسْحًا خَفِيفًا." ليزول شغله عن الصلاة بما يتأذى به، ولئلا يكون مشتغلًا بغير مهمات الصلاة، فيكتفي بالمسح الخفيف أو المرة الواحدة التي جاء فيها الترخيص لأجل الحاجة.
فأما إذا صادف أنه أراد السجود، وإذا بموضع السجود فيه مرتفعة بعض الحصى بحيث لا يتمكن من وضع جبهته إلا بتسويتها، أو لا يتمكن من وضع جبهته وأنفه معًا على وجه التمكن أيضًا إلا بتسويتها، فهذا الذي جاء فيه إن كان لابد فواحدة. كما جاء في رواية عند أبي ذر -رضي الله عنه- كان يقول: "مَسْحُ الْحَصْبَاءِ" يعني: تسوية موضع السجود لتسجد عليه "مَسْحَةً وَاحِدَةً"؛ يعني: يُرخّص فيه مرة واحدة؛ لصاحب الحاجة، الذي لم يتنبّه من قبل الصلاة، وإلا فينبغي أن يتنبه قبل دخوله في الصلاة. ولذا قال: "وَتَرْكُهَا" أي: ترك المسح في الصلاة "خَيْرٌ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ" الإبل الحمر أنفس أموال العرب، فجُعلت كناية عن خير الدنيا. فإذا أرادوا أن يتحدثوا عن خير الدنيا وثمنها، قالوا: حمر النعم.
وجاء في الحديث عند الإمام أحمد والترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه يقول ﷺ: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فلا يمسح الحصى، فإن الرحمة تواجهه" أي: تنزل عليه، تُقبل عليه ما دام مقبِل على الله تعالى، فإذا اشتغل بغير الصلاة، انقطعت عنه الرحمة. فينبغي أن يكون في الصلاة مجموعَ القلب على الله تبارك وتعالى.
"مَسْحُ الْحَصْبَاءِ مَسْحَةً وَاحِدَةً، وَتَرْكُهَا خَيْرٌ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ" اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وارزقنا إقامة الصلاة على الوجه المرضي يالله.
ولما كانوا في حرصهم على الأدب في الصلاة، يقول بعض الصالحين والموفقين: وأنه في عناية الله به، وتنبيهه إياه، أنه أراد مدّ يده إلى أنفه في الصلاة، فوقفت يده، ما قدر يردّها، لئلا يخرج عن حد الأدب مع الله تعالى في الصلاة، فإنما المصلي مناجٍ ربه. قال ﷺ: "كفى بالصلاة شغلا". وهكذا جاءنا عن الصحابة، ثم عن التابعين، ثم عن تابع التابعين، ثم عن تابع تابع التابعين، ثم عمّن بعدهم، أن أحدهم من تعظيمه الصلاة لربه، يستغرق فيها، فلا يحس، حتى لا يحس بشيء، ولا يدرك شيئًا مما حواليه.
فمنهم من ربما ضُرِبَ الطبلُ بين يديه، فلم يحس وهو في الصلاة. ومنهم من اندكّ جانب من المسجد، وسقط عمود من الأعمدة، وتداعى الناس إليه من السوق، وهو يصلي، فلم يشعر بشيء من ذلك. -مسلم بن يسار- حتى خرج من الصلاة، والناس مجتمعين، قال: مالِ الناس؟ قالوا: أنت أين كنت؟ قال: في المسجد، إيش في المسجد؟! رجّة حصلت وجاء الناس من السوق .. قال: كنت في الصلاة، فلم أشعر بشيء من ذلك وهكذا..
اشتعل حريق في بيت سيدنا علي بن حسين بن زين العابدين وهو ساجد، فلم يتحرك من سجوده، وجعل الناس يصيحون عليه: يا ابن بنت رسول الله! يا علي بن الحسين! وهو ساجد، ما تحرك، حتى خافوا أن تصله النار، أن تقرب منه، فلما سلَّم، قال: متى هذا اشتعل؟ قالوا: متى اشتعل؟!! كنا نصيح عليك منذ كذا، ما تحس؟ قال: "ألهتني عنها النار الكبرى" ما أحس بها، وجاؤوا له بحبل، أخرجوه من ناحية من البيت، وهم يطفئون النار، وهو لم يحس بشيءٍ من ذلك، استغراقًا بما هو فيه من الصلاة.
كم مرات في عمرك صليت مثل هذه الصلاة؟ وسنّك كم ومنتظر إيش في الدنيا قاعد، متى ستصل إلى هذا الذوق، وإلى الرابطة بالله -سبحانه وتعالى- وتعظيمه، ونيل المكانة في العمل له جلّ جلاله وتعالى في علاه. اللهم اجعلنا من الخاشعين الخاضعين، الحاضرة قلوبهم معك.
"باب مَا جَاءَ فِي تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ"، وهو من السُنن المؤكدة عن نبينا، المتعلقة بصلاة الجماعة، فيعتدل القائمون في الصلاة على سمت واحد، سادِّين للخلل الذي في الصلاة، وقد تواترت فيها الآثار عن النبي والصحابة والتابعين. تسوية الصفوف من إقام الصلاة، تسوية الصفوف سُنة، ومن عظمة السنن كِبَر ما يترتب على إهمالها وتركها؛ فمن جملة ذلك أن تسوية الصفوف في الصلاة يترتب على تركها وإهمالها تخالف القلوب والوجوه، وهذه مصيبة كبيرة، وتحصل بسبب الإهمال لهذه السنة. فالسُنن إذًا عظيمة، ما في السنن إلا عظيم، فينبغي أن تُعظم السًنن. "لتُسَوُّنَّ صفوفَكم، أو ليُخالِفَنَّ الله بين قلوبكم"، وفي رواية: "بين وجوهكم" إذًا : فلا يليق الإهمال للسُنّة، ولا التساهل بها، وأنت تنظر كيف يثمر هذا التساهل بالسنة إلى المخالفة بين القلوب -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وهكذا.. ورَدَ أن: ".. تسوية الصف من تمام الصلاة"، وفي وصف هذه الأمة فيما أنزل الله في التوراة -أمة النبي محمد ﷺ-: يصَفُّون في الصلاة كصفوفِهم في القتال. قال الله في القتال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ) [الصف:4]
"باب مَا جَاءَ فِي تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ" لمن يصلون جماعة فيعتنون بذلك.
وجاء في رواية أبي داود عن سيدنا النعمان قال: "كان رسول الله ﷺ يسوي صفوفنا إذا قمنا للصلاة، فإذا استوينا كبّر" للصلاة. حتى جاء في رواية الإمام مسلم: "كان رسول الله ﷺ يُسوِّي صفوفَنا كأنما يُسوِّي بها القداحَ" أي: يجعلها على استواء، لا يتقدّم أحد، ولا يتأخر عن الآخر. ومع القول أيضًا بوجوب التسوية، فإن الصلاة صحيحة لمن يصلي وعليه الإثم. ولكن قال ابن حزم: إذا لم يستوي في الصفوف مع الصف فصلاته باطلة. وعدّوا هذا مما أفرط فيه ابن حزم. وهو سُنّة مؤكدة ينبغي الاهتمام بها.
كما ذكر لنا: "أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَأْمُرُ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ"، يأمر بذلك، فإذا جاءه من وكلهم بها، يوكل أناسًا يراقبون الصفوف، فإذا جاء المراقبون وأخبروه أن الصفوف استوت، واعتدلت، كبّر بالناس. "فَإِذَا جَاءُوهُ فَأَخْبَرُوهُ"؛ يعني: إذا أتى الناس الموكلون بتسوية الصفوف وأخبروا سيدنا عمر "أَنْ قَدِ اسْتَوَتْ" الصفوف "كَبَّرَ" من اعتنائه بالتسوية. وقد يحمل الدّرَّة أحيانًا اذا رأى أحدًا متقدمًا، او متأخرًا في الصف. وكانت درَّة عمر أهيبَ من سيف الحجاج.
فيعتني الصحابة بتعليم النبي لهم بتسوية الصفوف في الصلاة. يقول مالك بن أبي عامر الأصبحي: "كُنْتُ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ" أي: في أيام خلافته "فَقَامَتِ الصَّلاَةُ وَأَنَا أُكَلِّمُهُ فِي أَنْ يَفْرِضَ لِي" يعني: أي يفرض له عطية موسومة، قال: "فَلَمْ أَزَلْ أُكَلِّمُهُ، وَهُوَ يُسَوِّي" يعني: قبل أن يدخل في الصلاة ويعدل "الْحَصْبَاءَ بِنَعْلَيْهِ" لسجوده أو غيره، "حَتَّى جَاءَهُ رِجَالٌ، قَدْ كَانَ وَكَلَهُمْ" عيّنهم "بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الصُّفُوفَ قَدِ اسْتَوَتْ، فَقَالَ لِي: اسْتَوِ فِي الصَّفِّ, ثُمَّ كَبَّرَ." فكان منتظرًا بعد الإقامة خبر تسوية الصفوف.
وورد في كلام مثل سيدنا عثمان هذا وغيره مما جاء. وهكذا جاءت السنة الشريفة، يقول حميد: سألت ثابت البناني عن الرجل يتكلم بعدما تقام الصلاة؟ فحدثني عن أنس بن مالك، قال: أقيم الصلاة فعرض للنبي ﷺ رجل فحبسه بعدما أقيمت الصلاة؛ يعني: يتكلم معه، وكان من أخلاقه يجيب من كلمه -عليه الصلاة والسلام- ويخاطبه، ويتنزّل له. قال: فتكلم معه، مع ما قالت السيدة عائشة أنه إذا جاء بلال يؤذنه للصلاة، خرج كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه. من تعظيمه لشعائر الله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه ومن سار في دربه، وجعلنا وإياكم منهم.
سمعنا حديث: "لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" أو "بوجوهكم"، وجاء أيضًا في الحديث "أتمّوا الصف الأول ثم الذي يليه، فإن كان نقصٌ فليكن في الصف المؤخر"، ولا يكون نقصٌ في شيءٍ من الصفوف، فلا ينبغي أن يُبتَدأ بصف حتى يكتمل الصف الذي قبله. ومِن أحبِّ الخطى الى الله خطوةٌ خطاها العبد ليسدّ فرجة في الصف. يقول ﷺ: "أقيموا صفوفكم، وتراصّوا فإني أراكم من وراء ظهري". ويقول: "رصّوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف"؛ أي: جنس الشياطين، إذا وجدوا فجوات في الصف دخلوا بينها، والحذف صغار الضأن. كل ما وجدوا فجوة بين رجل والآخر دخلوا بينها يوسوسون على المصلين. دفع الله شرهم. فهكذا كان الاعتناء بشأن تسوية الصفوف في الصلاة، من المهمات في سُنن الجماعة، "رصّوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف".
فهو إذًا من السنن المؤكدة -كما سمعت- وقال من قال بالوجوب، وأفرط ابن حزم فقال: تبطل الصلاة بعدم تسوية الصف. وخير الصفوف للرجال أوّلها. فإذا كان النساء جماعة، يصلون خلف الرجال، فأفضل الصفوف آخرها بالنسبة لهن.
"خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها. وخير صفوف النساء آخرها، وشرّها أوّلها". وسمعنا قوله: "...فإن تسوية الصف من تمام الصلاة" وفي رواية: "..فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة". وينبغي أن يحرص المؤمن على الصف الأول، لو يعلمون ما في الصف الأول، لكانت قرعة الصف الأول على مثل صف الملائكة، "..لو تعلمون فضيلته لابتدرتموه" "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا.."؛ أي: لتزَاحموا حتى يدخلون بالقرعة.
وقال ﷺ "ألا تصفّون كما تصف الملائكة عند ربها؟" قلنا: يارسول الله وكيف تصفّ الملائكة عند ربها؟ قال: "يتمّون الصف الأول ويتراصون في الصف". هكذا صفوف الملائكة في صلاتهم في السموات؛ يتمّون الصف الأول ويتراصّون في الصف. والنبي ﷺ كما روى الإمام مسلم عن جابر بن سمرة عنه ﷺ قال: " ألا تصفّون كما تصف الملائكة عند ربها؟". وبذلك ينبغي سدّ الفرج والإفساح لمن يدخل في الصف، فإذا ضاق الصف، فليجر الذي يريد أن يصلي ولم يجد آخر معه بعد أن يحرم قريبًا من الصف، يجرّ واحدًا من الذين في الصف المتقدم، وينبغي له أن يساعده ويخرج.
يقول ﷺ: "أقيموا صفوفكم، فإني أراكم من وراء ظهري". حتى قالوا: وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه. فإن تسوية الصف بالأقدام، بالعقِب مؤخر القدم. لأن أقدام الناس واحد طويلة، واحد قصيرة، فلا عبرة إلا بمؤخر الرجل -العقب- فتكون الأعقاب متساوية، مؤخر الرجل مساوي مع مؤخر رجل الثاني، وحينئذٍ تتساوى المناكب، ويتم تسوية الصفوف. في الحديث يقول ﷺ: "أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدّوا الخلل، ولِينُوا بيد إخوانكم، ولا تذروا فرجاتٍ للشيطان، مَن وصَلَ صفًا، وصله الله، ومن قطع صفًا، قطعه الله". صلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله.
أما إذا صلّت النساء مع الرجال -كما كان في عهده ﷺ- وليس بينهما حائل، فأفضل صفوف النساء آخرها، كما جاء في الحديث الشريف، يقول ﷺ: "خير صفوف الرجال أولها، وشرّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها" إذا صلّين خلف الرجال. وعلى من يقول من أهل العلم بجواز صلاتهن جماعة وحدهنّ، فيكون خير صفوفهن أولها إذا لم يكن بينهن رجال، أو كان بينهم وبين الرجال حاجب، وهم يصلون في مكان مستقل، فخير صفوفهن أولها. وإنما الحكمة في تأخيرهم في الصفوف من أجل لا يقربن من الرجال، ولا يتعرّضن لنظر الرجال، فيكون خير صفوفهن آخرها. وإن كان بينهم جدار حاجب وحاجز، فخير صفوفهم مثل الرجال أوّلها.
صلى الله على سيدنا محمد وآله، ورَزقنا حسن متابعته في أقواله وأفعاله، والاهتداء بهديه والمشي على منواله، وأعاد علينا عوائد كريم طيب خصاله وخلاله، وحمانا به من الآفات والعاهات، وأصلح لنا الظواهر والخفيات، وجعلنا ممن ترعاه عين العنايات في جميع الحالات، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
06 ربيع الأول 1442