شرح الموطأ -78- كتاب قصر الصلاة في السفر: باب الرخصة في المرور بين يديّ المصلي، وباب سُترة المصلي في السفر

شرح الموطأ -78- كتاب الصلاة، باب الرخصة في المرور بين يدي المصلي، من حديث: (عبدالله بن عباس أنه قال : أقبلتُ راكباً على أتانٍ ..)
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب  قصر الصلاة في السفر، باب الرخصة في المرور بين يدي المصلي، وباب سُترة المصلي في السفر.

فجر السبت 30 صفر 1442هـ.

باب الرُّخْصَةِ فِي الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّى

428 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِباً عَلَى أَتَانٍ - وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاِحْتِلاَمَ - وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي لِلنَّاسِ بِمِنًى، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ فَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ.

429 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ أبِي وَقَّاصٍ كَانَ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصُّفُوفِ وَالصَّلاَةُ قَائِمَةٌ.

قَالَ مَالِكٌ: وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ وَاسِعاً، إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، وَبَعْدَ أَنْ يُحْرِمَ الإِمَامُ وَلَمْ يَجِدِ الْمَرْءُ مَدْخَلاً إِلَى الْمَسْجِدِ إِلاَّ بَيْنَ الصُّفُوفِ.

430 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أبِي طَالِبٍ قَالَ: لاَ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ شَيْءٌ مِمَّا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي.

431 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُول: لاَ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ شَيْءٌ مِمَّا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي.

باب سُتْرَةِ الْمُصَلِّي فِي السَّفَرِ

432 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَسْتَتِرُ بِرَاحِلَتِهِ إِذَا صَلَّى.

433 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ إِلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا بنور الوحي والتنزيل، وبلاغ السيد الجليل، في خير الفعل وأحسن القيل. اللهم أدِم صلواتك على عبدك الجامع لمحاسن الأوصاف، سيدنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه ومن سار على منهجهم في الظاهر والخاف، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل الهدى الأشراف، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقرّبين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

وبعدُ، 

فيواصل الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- في الموطأ ذكر الأحاديث المتعلقة بسُترة المصلي. وتقدّم التشديد في المرور بين يدي المصلي من غير ضرورةٍ ولا حاجة، ولئن يقف أحدنا أربعين، خيرٌ له من أن يمرّ بين يدي المصلي، لو علم ماذا عليه في المرور بين يدي المصلي. وقلنا أن ذلك يتحقق فيمن صلّى إلى سترةٍ تستره بينه وبين القبلة، لا تقل في ارتفاعها عن ثلثي ذراع، فلا يجوز أن يُمَر بينه وبين تلك السترة. ويستحبّ له أن يُرَد من أراد المرور ولو بالمدافعة الشديدة التي عبّر عنها ﷺ بالمقاتلة "فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ"، فعلمنا وجوب الاحتراز عن المرور بين يدي المصلي، ولو لم يصلِّ إلى غير سترة فيما بين موضع قدمه وموضع سجوده، فيبقى حريمًا له، لا ينبغي المرور فيه لأحد.

وعلمنا أنه قد يُصلي في ممر، أو عند بابٍ يدخل منه الناس، أو يكون هناك داعٍ لمرور أحدٍ وحاجة، فبذلك جاء الباب "باب الرُّخْصَةِ فِي الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّى" يعني: إباحة ذلك والتجاوز فيه في أحوال، منها: 

  • إذا لم يجد بدًّا من المرور. 

كما يدل عليه الحديث الذي أورده عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه-، وفيه دخوله والنبي ﷺ يصلي بالناس في أيام منى، يقول: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِباً عَلَى أَتَانٍ" وهي الأنثى من الحمير يقال لها الأَتان، "وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ"؛ أي: قاربت، "قَدْ نَاهَزْتُ الاِحْتِلاَمَ"؛ أي: أيام البلوغ فإنه في نحو الثانية عشر -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- فهو الأقرب من قوله ناهزت البلوغ. والمشهور أيضًا من سنِّه عند وفاة النبي ﷺ: 

  • أنه ما بين الثانية عشر والثالثة عشر.
  • وقيل: كان في حجّة الوداع وهو ابن عشر، وفيه بُعدٌ، وفي قوله ناهزت الاحتلام. 
  • وكذلك قيل: أنه في ثلاثة عشر. 
  • وقيل خمسة عشر. 

وفيه: حفظ شيءٍ من الصغر، ثم تأديته في الكبر، وقبول الرواية من الأطفال وغيرهم إذا أدّوا في كبرهم ما كانوا عقلوه أيام الصغر، ووَعوه قبل البلوغ. 

يقول سيدنا ابن عباس رضي الله تعالى عنه: "فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ" المراد به: الصف المتقدم أو الصف الأول "فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ" وفي رواية البزار: "أن النبي ﷺ يصلي المكتوبة ليس شيئًا يستره". وفي رواية البخاري: "إلى غير جدار" النبي ﷺ يصلي إلى غير جدار. "فَنَزَلْتُ فَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ" دابّته التي كان عليها "وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ". جاء في رواية مسلم: "فسار الحمار بين يديّ بعض الصف فلم ينكر ذلك عليَّ أحد، لا رسول الله ﷺ ولا أحد من الصحابة". 

ورسول الله ﷺ كان يرى من ورائه كما يرى من أمامه، فلذلك لا يُقال أنه مرَّ خلفه فيُحتمل أنه لم يعلم به،  فإنه صرّح أنه يراهم من ورائه ﷺ وقال: "أترون قبلتي هاهنا فإنه لا يخفى عليّ ركوعكم ولا سجودكم، إني أراكم من ورائي كما أراكم من أمامي" ﷺ. ففي هذا الحديث إشارة إلى مسائل: 

  • الأولى: هل تقطع الدواب إذا مرّت بين يدي المصلي صلاته؟ 
    • والجمهور: أنه لا تقطع الصلاة.
    • وخصّص بعضهم: الكلب الأسود، والحمار. وذكر بعضهم معه المرأة، وفيه أنه تنقطع الصلاة على من مرّوا أمامه وهو يصلي.

 والجمهور أن الصلاة لا تنقطع بشيء من ذلك. 

  • الثانية: هل سترة الإمام سترة لمن وراءه؟ أو هل الإمام سترة لمن ورائه؟ 
    • ومذهب الإمام أحمد بن حنبل: أن سترة المأمومين هي سترة الإمام؛ فمن مرّ خلف الإمام فلا يضر أنه أمام أحد من المأمومين؛ لأنه لم يمرّ بينه وبين السترة، فكأنه مرّ خلفهم، ما دام مرّ خلف الإمام.

 وبهذا جاء عند الحنابلة أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، كما نص عليه عندهم الإمام أحمد. وعندهم أيضًا أنه ﷺ صلى إلى سترة، فهي سترة للمأمومين من ورائه. وهو معلوم في أسفاره أنه كان ينصب السترة بين يديه، وقد يحمل العَنَزة فتنصب بين يديه، فيصلي إليها، ولم يأمر أحدًا من المأمومين أن يصنع سترة في وقت صلاته ﷺ. فعندهم سترة الإمام تجزئ عن أصحابه 

  • وقال الشافعية وغيرهم: أن سترة الإمام له، والإمام سترة للصف الأول، والصف الأول سترة للصف الثاني، والصف الثاني سترة للصف الثالث، وهكذا… فكل صفٍّ سترته الصف الذي قبله، فلهذا لا ينبغي أن يزيد ما بين الصفّين على ثلاثة أذرع، ليكون كل صف سترة للذي وراءه وهكذا.

ثم أنّه ذكر أن الدابة كانت تمشي بين يديّ بعض الصف؛ يعني: أمامهم. "وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ" فلو كان فيه شيء، لأنكر عليه الصحابة، ولأنكر عليه ﷺ. فجاء الحديث أيضًا عند الإمام البخاري كما تقدمت الإشارة. 

وقيل: 

  • أن منع المرور مختصّ بالإمام والمنفرد، ويختص منه حكم المؤتم وهذا الذي اختاره الباجي وابن عبد البر. 
  • أو أن المرور لأجل الضرورة، بأن لم يجد شيئًا غير ذلك، فقيل بأنه جاءت الرواية في هذا المعنى أن الحكم يُستثنى منه الضرورة. 

وتقدّم معنا ما اختار الحنابلة من أن سترة الإمام سترة لمن وراءه، ما دام لم يمر أحد بين الإمام وبين السترة، فكأنه لم يمر بين المأمومين وبين سترة أحد.

إذًا، علمنا سنيّة الدفع: 

  • وأن الجمهور؛ أهل الفقه على: أنه ليس بواجب عليه الدفع، وإن جاء في الحديث التأكيد على ذلك، وهو من تأكيد السُنّة؛ وعلى ذلك اختُلِفَ في حرمة المرور، أو كراهيته. 
  • ويقول الحنفية: أنه رُخِّصَ للمصلي الدفع، ولكن إقباله على صلاته بالخشوع والخضوع أولى، لأن هذا هو أصل الصلاة، أما أن يشتغل بالمار بين يديه، ويعمل هو وإياه منازعة، فيخرج عن مقصود الصلاة وأصلها. 
  • وهكذا يشير المالكية: إلى أنه ينبغي أن يدفع المار دفعًا خفيفًا لا يشغله عن الصلاة. 
  • وبمقتضى الحديث ومقتضى ظاهر لفظه، قال الشافعية والحنابلة:  يُسنّ يقول الشافعية، ويعبّر الحنابلة: يُستحب أن يدفع من يمر بين يديه للأمر بذلك في الحديث الشريف. 
    • فيقول الشافعية: يسن للمصلي إذا صلى إلى سترة من جدار، أو سارية، أو عصا، أو نحوها، فأراد أحد أن يمر بين يديه، أن يدفعه، للحديث. 
  • و هكذا، يقول الحنابلة: يستحب أن يرد ما مر بين يديه من صغيرٍ، وكبيرٍ، وبهيمةٍ، لما جاء عنه ﷺ رد عمر بن أبي سلمة وزينب وهما صغيران، أرادا أن يمرّا بين يديه، فردّهما ﷺ.

وفي حديث عن ابن عباس يقول: أن النبي ﷺ كان يصلي، فجاءت شاة تريد المرور بين يديه، فساعاها إلى القبلة، حتى مرت من خلفه، ولم تمر بين يديه.

وأورد لنا حديث: "أَنَّ سَعْدَ بْنَ أبِي وَقَّاصٍ كَانَ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصُّفُوفِ وَالصَّلاَةُ قَائِمَةٌ." وهذا يُحتاجُ إليه عند وجود الزحمة، وكثرة المصلين في الحرمين الشريفين، وفي غير التأثرّات بكورونا ونحوها من البلايا التي تجيء على الناس، فيحتاجون إلى المرور والناس يركعون في أوقات الصلوات، وما قبل الصلاة وبعدها، فيقع في حرجٍ كثيرٍ لأجل المرور بين يديّ الصفوف.

 فيرى "أَنَّ سَعْدَ بْنَ أبِي وَقَّاصٍ كَانَ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْ" يعني: أمام "بَعْضِ الصُّفُوفِ وَالصَّلاَةُ قَائِمَةٌ." إمّا:

  •  لسدّ فرجة في شيءٍ من الصفوف يسدها.
  •  أو لمكانٍ يبلغه ليصلي فيه.
  •  أو يكون قبل إحرامهم على ما تأوَّلَه بعضهم. 

وجاء: وكان سعد بن أبي وقاص يدخل المسجد فيمشي بين الصفوف والناس في الصلاة، حتى يقف في مصلّاه، يمشي عرضًا بين يدي الناس. 

وفي ذلك: "قَالَ مَالِكٌ: وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ وَاسِعاً، إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، وَبَعْدَ أَنْ يُحْرِمَ الإِمَامُ وَلَمْ يَجِدِ الْمَرْءُ مَدْخَلاً إِلَى الْمَسْجِدِ إِلاَّ بَيْنَ الصُّفُوفِ." هذا الذي يقع كثيرًا أيام الجماعات، فيكون الدخول لأجل يجد مكانًا في الصف، أو في مكانٍ فرجة 

  • وكذلك قد استثنى الشافعية إذا تركوا فرجةً في صفٍّ متقدم، فإن للداخل أن يدخل بينهم ليسد الفرجة، لتقصيرهم في سد تلك الفرجة. 

وقد أوقعهم اجتهادهم عند هذه العلل التي ابتثّت والأمراض، أن يوجدوا الفرجة قصدًا واختيارًا بين المصلين، في مخالفة بيِّنة واضحة للسُنّة، فالأمر بالتراصِّ بالصفوف، وأنَّ الشياطين تدخل بينهم كأنها الحذف الصغار، فقُصِدَ ذلك قصدًا في الوقت الذي لا يُقصد في الأسواق، وفي كثير من الأعمال. حتى أن الماشين لَيمشون في السيارة الواحدة ومتقاربين بينهم، فإذا وصلوا المسجد تباعدوا، وإنا لله وإنا إليه راجعون!! فلا يُعلم ما أصل ذلك، ولا كيفية التعامل مع أمثال هذه الأشياء! ولكن إذا أراد الله أمرًا، سلب أهل العقول عقولَهم، ولا يُقدّم في الصلاة وغيرها على سنن محمدٍ ﷺ كلام شرقي ولا غربي، فإنما يُعبَد الله بما جاء عن رسوله ﷺ، وهو الأعلم سبحانه بمصالح عباده، وحبيبه الأبلغ في نصح الأمة صلوات ربي وسلامه عليه. 

ويقول الأئمة: إن الإثم يكون إذا مرّ في حريم المصلي من له سعة المرور بعيدًا عن حريم المصلي، وإلا فلا إثم، كما تشير إليه عبارات الإمام مالك في الموطأ. 

  • فإذا كان للمار سعة وإمكانية المرور من غير بين يدي المصلي، فيكون عليه الإثم إذا مرّ بين يدي المصلي، ويختص به.
  • وإذا كان المصلي تعرَّض للمرور، والمار ما له طريق إلا هذا، فيكون الإثم على المصلي، يصلي أمام الباب في وقت خروج الناس، أو دخولهم! فهو المقصر هذا المصلي. 
  • فإذا تعرّض المصلي أيضًا للمرور ولكن يوجد بجانبه أبواب ومخارج يمكن المرور منها، وطريق أخرى يمكن المرور منها، فإذا تعمّد المرور بين يديه، كان التقصير من الاثنين، فاشتركا في الإثم.  
  • وإذا كان لم يتعرض المصلي للمرور، وقام ولكن ليس للمار سعة إلا هذا المكان، فيمرّ ولا إثم على أحدٍ منهما؛ فذاك لم يقصر واتخذ السترة، وهذا لم يجد طريقًا إلا هذه، وهذا الذي يشير إليه الإمام مالك بأنه إذا لم يجد طريقا إلا هذا فله المرور بين يديه.
  • ولم يفرق الشافعية بين أنه يجد سبيل آخر أو لا يجد سبيل آخر، كما يدل عليه رواية "لئن يقف أربعين.." ولو كان يجد طريق آخر لن يقف أربعين… لا أربعين يوم، ولا أربعين شهر، ولا أربعين سنة! ولكن فدلّ ذلك على أنه لا فرق بين أن يكون له طريقًا آخر أو لا، إلا أن يكون على الطريق المتعيّن كالباب فيصلي عنده مع دخول الناس فهذا لا حرمة له.

وذكر: "عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُول: لاَ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ شَيْءٌ مِمَّا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي.".  وقال قائلون: يقطع الصلاة الكلب والحمار، وابن عمر يقول: لا يقطع صلاة المسلم شيء وادرءوا ما استطعتم؛ يعني: من باب السنيّة، ولكن ما تبطل الصلاة بمرور شيء. وجاء في حديث: "إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود"، قال عبد الله بن الصامت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود من الأحمر والأصفر؟ قال: يا ابن أخي سألت رسول الله ﷺ عما سألتني، فقال: "الكلب الأسود شيطان" رواه الإمام مسلم 

وجاء أيضًا في رواية مرفوعًا يقول: "تقطع الصلاةَ المرأةُ، والحمارُ، والكلبُ، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل"؛ هذا الذي قدروه بثلثي الذراع. وجاء في رواية عن ابن عباس: قيد المرأة بالحائض؛ إذا كانت المرأة حائضًا. 

  • قال الإمام مالك وأبو حنيفة والشافعي وجمهور العلماء من السلف والخلف: لا تبطل الصلاة بمرور شيءٍ من هؤلاء ولا غيرهم. 

كما تقدّمت الإشارة معنا في الكلام، قال واختلفوا في تأويل أحاديث قطع الصلاة: 

  • فمنهم من مال إلى النسخ، بمثل حديث عائشة أنه يصلي ﷺ وهي مضطجعة بين يديه. 
  • وجاء عند الشافعية: أن معنى القطع أنه يتشوّش المصلي فينقطع خشوعه؛ فيقطع الصلاة يعني يقطع الخشوع عليه مرور هؤلاء بين يديه، لا أن يبطل الصلاة، ولكن يشغله، فيقطع خشوعه في الصلاة، ولا يخرج من الصلاة، فيتم صلاته كما هو، ولكنه يتشوّش إذا مرّ بين يديه هذا الكلب أو الحمار أو غيره. 
  • وكذلك ما جاء عن السؤال عن التقييد بالكلب الأسود، فقال: "إنه شيطان"، ومع أن الشياطين تتخلل صفوف الناس، وما أحد يقول ببطلان الصلاة، لكون ذلك أمر غيبي ومعنوي، ولكن المقصود انقطاع الخشوع بمرور هذه الأشياء. 
  • ومنهم من رجّح، فقال أن أحاديث الجمهور أقوى وأصح، فمالوا إلى الترجيح. 
  • إذًا:
    • الحنابلة هم القائلون بقطع الصلاة، فيقولون: إن لم يكن سترة، فمرّ بين يديه الكلب الأسود -يعني: البهيم الذي ليس فيه لون غير السواد- بطلت صلاته في مذهب الإمام أحمد بن حنبل.
    • ويُروى عن الإمام أحمد في الحمار والمرأة روايتان، ولما سمعت ذكرهم الرواية سيدتنا عائشة قالت: سويّتمونا بالكلب والحمار؟! تقولون المرأة والكلب والحمار! "رأيت رسول الله ﷺ يصلي وأنا معترضة بين يديه، فإذا أراد أن يسجد غمز، يعني رجلي، فضممتها إليّ، ثم يسجد".

إذً، استدل الأئمة الثلاثة وجمهور أهل الفقه بما جاء عن الفضل بن عباس قال: "أتانا النبي ﷺ ونحن في بادية لنا، ومعه عباس، فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا، وكلبة، تعبثان بين يديه، فما بالى بذلك" رواه أبو داوود والنسائي ونحوه بسندٍ صحيح. فهذا من أدلة الجمهور أنه لا تنقطع الصلاة بشيء من ذلك. ومثله ﷺ لا يشغله عن الحق شاغل،  ولا يقطع خشوعه شيء، فخشوع رسول الله ﷺ خارج الصلاة أعظم من خشوع المصلين في الصلوات بأضعافٍ مضاعفة، فهو دائم الحضور مع مولاه -صلوات ربي وسلامه عليه- ولقوّته وتمكينه لا يشغله شيء مهما قابله بما شُرع في السُنّة، فيتكلم ويضحك مع ذا وذاك… وإذا كان الواحد من خيار أمّته يقول: لي عشرون سنة يظن الناس أني أتكلم معهم، وأنا لا أتكلم إلا مع الله! من قوة حضور قلبه مع الله، فما بالك بالأنبياء؟ فما بالك بسيّد الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليه؟! إنما الأخذات للقلوب إلى غير الله عند أمثالنا من الغافلين، فهم الذين كل شيء يقطعهم عن الله، وكل شيء يأخذهم عن الله، أبسط الأشياء تقطعهم عن الله. وأحد الخاشعين يصلي، فلا يحسّ بقطع رجله وهو في الصلاة. وبعض المصلين لو مرّت بعوضة بينه وبينها ذراع لشغلته في صلاته. وهكذا تختلف القلوب، ويا مقلب القلوب والأبصار، ثبت قلوبنا على دينك. فعلمنا قول الجمهور أنه لا يقطع الصلاة مرور شيء من هذا.

 

باب سُتْرَةِ الْمُصَلِّي فِي السَّفَرِ

 

 ثم ذكر "سُتْرَةِ الْمُصَلِّي فِي السَّفَرِ"، قيّده بالسفر لأن الغالب أن الإنسان في الحضر قدّامه السواري، وقدّامه الجدران، وقدّامه إلى غير ذلك، ولكن المسافر ليس أمامه شيء، فيحتاج إلى الاعتناء بالسترة كما اعتنى ﷺ. يقول الإمام مالك:

  • من كان في سفر فلا بأس أن يصلي إلى غير سترة.
  •  أمّا في الحضَر فلا يصلي إلا إلى سترة.
    •  إلا أن يكون في الحضر بموضع يأمن ألّا يمر بين يديه أحد.

 وأخذوا من باب أن المسافر ليس هناك أناس يمرّون بين يديه، ولا شيء من الحيوانات، بخلاف الذي هو في الحضر. 

والذي ينبغي أن لا يكون بين المصلي والسترة أكثر من ثلاثة أذرع، فالسنّة أن يقرب من السترة، في الحديث عند أبي داود: "إذا صلى أحدكم فليصلِّ إلى سترة وليدنُ منها" يعني: يقرب منها؛ فلا يزيد ما بينه وبينها على ثلاثة أذرع. وهل يجعل السترة أمامه؟ أو يجعلها عن يمينه، أو عن يساره؟ 

عن يمينه أو عن يساره هو الأفضل كما جاء في الحديث يقول سيدنا المقداد بن الأسود: "ما رأيت رسول الله ﷺ صلى إلى عودٍ، ولا إلى عمود، ولا إلى شجرة، إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد إليه.." مباشرةً "صمدًا"؛ فهذا هو الأفضل، وإن صمد إليه لا يضر كما يصلي أمام الجدار. ولكن أيضًا غير الجدار الأفضل أن يجعله عن يمينه قليلًا أو عن يساره لا أمامه مباشرة.

وذكر: "عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَسْتَتِرُ بِرَاحِلَتِهِ إِذَا صَلَّى." يعني: يعرض راحلته فيصلي إليها؛ فالراحلة مثل غيرها إذا وُجد بين يدي المصلي فهو سترة له. ولو كان إنسان أيضًا جالسًا أمامه فصلى إليه، فيصير ذلك الجالس سترة للمصلي، لا يمرّ بينه وبينه أحد. إذًا: 

  • السترة تكون بأي شيء كان، ولو أيضًا بالحيوان الطاهر. 
  • ولكن اختلفوا بأن يتخذ سترة من خيل، أو بغال، أو حمير... 
  • واختلفوا في الاستتار كذلك بنائم، أو مجنون، لأنه يتقلب. 
  • وكذلك إن كان الرجل أمامه غير مسلم، أحد من الكفار. 

فالخلاصة: 

  • أنه ينبغي للمصلي أن يصلي إلى سترة، فقيل: بوجوب ذلك كما هو في قول الإمام أحمد وغيره، فإن لم يجد شيئًا خطّ خطًّا.
  • والثاني عند الأئمة الثلاثة: أن السترة مستحبّة؛ فيستحب أن يصلي إلى سترة.
    •  فإن كان موضع لا يؤمن فيه، تأكدّت السترة، ووُضعت حاجزًا من مرور المار.

والقصد أن يكون في الصلاة محفوظ القلب في وجهته إلى الرب، وحضوره معه، حتى لا يشتغل بشيءٍ غير ما هو بصدده. رزقنا الله حضور القلوب. 

إذًا:

  • فمذهب الحنابلة في الكلب الأسود البهيم: أنه يقطع الصلاة إذا مرّ بين يدي المصلي، وفي غير الأسود وفي الحمار والمرأة خلاف فيما نقل عن الإمام أحمد بن حنبل. 
  • والقول الثاني عنده كالجمهور: أنه لا يقطع الصلاة شيء، إلا الكلب الأسود البهيم، والله أعلم. 

نظر الله إلينا نظرةً يجعلنا بها من مقيمي الصلاة، والحاضرة قلوبهم مع الله في الصلاة، وفي مختلف الأحوال، وأن يقينا الأسواء والبلايا والآفات والأهوال، ويكفينا شرّ ما تأتي به الأيام والليال، ويبارك لنا في خاتمة صفر وفي إقبال شهر ربيع الأول، ويجعله من أبرك الشهور على أمة الحبيب الأكمل ﷺ، ويجعل لهم في ذكرى ميلاده فرجًا من عنده سبحانه وتعالى، يسلك بهم سبيل رشاده، ويُعيذهم من الآفات والعاهات، ويرفع عنهم سلطة الأنفس والأهواء وشياطين الإنس والجن، ويجعل هواهم تبعًا لما جاء به حبيبه المؤتمن في عافية بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

05 ربيع الأول 1442

تاريخ النشر الميلادي

20 أكتوبر 2020

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام