(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب صلاة النافلة في السفر بالنهار والليل والصلاة على الدابة، وباب صلاة الضحى.
فجر الثلاثاء 26 صفر 1442هـ.
باب صَلاَةِ النَّافِلَةِ فِي السَّفَرِ بِالنَّهَارِ وَاللَّيْلِ وَالصَّلاَةِ عَلَى الدَّابَّةِ
410- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي مَعَ صَلاَةِ الْفَرِيضَةِ فِي السَّفَرِ شَيْئاً قَبْلَهَا وَلاَ بَعْدَهَا، إِلاَّ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الأَرْضِ، وَعَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ.
411- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَانُوا يَتَنَفَّلُونَ فِي السَّفَرِ.
412- قَالَ يَحْيَى: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ النَّافِلَةِ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ.
413- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَرَى ابْنَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَتَنَفَّلُ فِي السَّفَرِ، فَلاَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ.
414- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ أبِي الْحُبَابِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ، وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى خَيْبَرَ.
415- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ.
416- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فِي السَّفَر، وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ، وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ إِيمَاءً، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضَعَ وَجْهَهُ عَلَى شَيءٍ.
باب صَلاَةِ الضُّحَى
417- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ أبِي مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أبِي طَالِبٍ، أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أبِي طَالِبٍ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى عَامَ الْفَتْحِ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفاً فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ.
418- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّه، أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أبِي طَالِبٍ تَقُولُ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَامَ الْفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ، قَالَتْ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: "مَنْ هَذِهِ؟". فَقُلْتُ: أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: "مَرْحَباً بِأُمِّ هَانِئٍ". فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِىَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفاً فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَلِيٌّ، أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلاً أَجَرْتُهُ، فُلاَنُ بْنُ هُبَيْرَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ". قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: وَذَلِكَ ضُحًى.
419- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ، وَإِنِّي لأُسَبِّحُهَا، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيَدَعُ الْعَمَلَ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ، فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ.
420- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي الضُّحَى ثَمَانِىَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ تَقُولُ: لَوْ نُشِرَ لِي أَبَوَاىَ مَا تَرَكْتُهُنَّ.
الحمدُ لله مُكْرِمنا بأنوار شريعته العظيمة، وبيان أحكام دينه القويمة على لسان عبده المُصطفى مُحمَّدٍ صاحب المراتِب الفخيمة، صلى الله وسلَّم وبارك وكَرَّم عليه وعلى آله وأصحابه ومَنْ والاهُم في الله -تبارك وتعالى- فثبت على سبيلهم القويمة، وعلى آبائه وإخوانه مِنَ الأنبياء والمُرسلين مَن خصَّهُم الله بأعلى مواهِبه الجسيمة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقرّبين، وجميع عباد الله الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وبَعدُ،
فيذكُر لنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- في المُوطأ، الأحاديث المُتعلقة بصلاة النَّبي مُحمَّد ﷺ النَّافِلة في السَّفَر، فقال: "باب صَلاَةِ النَّافِلَة"؛ والمُراد به غير الفرائض، سواء كانت مِنَ الرَّواتب أو الوِتر أو الضُّحى أو النَّفْل المُطلق. "باب صَلاَةِ النَّافِلَةِ فِي السَّفَرِ بِالنَّهَارِ وَاللَّيْلِ"، كما هو مُثبَت في أكثر النُّسَخ ذِكْرُ اللَّيْلِ مع النَّهَارِ، وإشارة إلى الخِلاف في التَّفريق بين اللَّيْلِ والنَّهَارِ، "وَالصَّلاَةِ عَلَى الدَّابَّةِ"؛ وهو راكِبٌ عليها.
وأورد لنا حديث "عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي مَعَ صَلاَةِ الْفَرِيضَةِ فِي السَّفَرِ شَيْئاً قَبْلَهَا وَلاَ بَعْدَهَا"؛ يعني: مِنَ الرَّواتب "إِلاَّ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ". وفي مذهب ابْنِ عُمَرَ التَّفريق بين صلاة اللَّيْلِ وصلاة النَّهَارِ في النَّوافل في السَّفَرِ، فإنه لو يُصلي المُسافر مِنْ جوف اللَّيْلِ، قال: "فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الأَرْضِ، وَعَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ"؛ يعني: في أثناء اللَّيْلِ وجوف اللَّيْلِ. والنَّافِلَة بالنسبة للمُسافر، كما ذكر الإمام الغزالي: أنَّه مُراعاةً لمشيّه وسفره، أُبيح له أنْ يُصلي على النَّافِلَة، وأنْ يُصلي ماشيًا كذلك، ولئلا ينقطع عن طلب الدَّرجات وكَسْب الثَّواب، لم يُمنع مِنَ النَّافِلَة في أثناء السَّفَر، وخُفّف عليه بأنْ يمضي فيها وهو راكب وماشي. وبذلك قال عامّة أهل العِلم: في جواز التَّنفل للمُسافر، بل واستحبابه ليلًا ونهارًا.
ورأينا عند ابْنِ عُمَرَ التَّفريق بين اللَّيْلِ والنَّهَارِ، فلم يكُن يُصلي النَّوافل بالنَّهار وهو مُسافر، ويُصليها باللَّيْلِ. فيُصلي في جوف اللَّيْلِ، إذا نَزَل وعلى راحلته أحيانًا. وكذلك ما كان مِنَ الرَّواتب المؤكدة؛ كمِثلُ الصُّبح، حتى استحبّ الإمام أبو حنيفة أنْ ينزل فيُصليها على الأرض ولا يُصليها على الرَّاحلة، صلاة الصُّبح. أمَّا في الوِتر فهي عندهم واجبة، ولا يجوز أنْ تكون على الرَّاحلة إلا للضرورة.
ولم يُفرِّق الأئمة بين أنواع النَّوافل في جواز صلاتها وهو راكب وماشي، وبذلك يقول الأئمة الأربعة -عليهم رِضوان الله تبارك وتعالى-: أنَّه لا يُمنَع المُسافر مِنَ التَّنفّل وهو على راحلته، وإنَّما اختلفوا هل يجب عليه الاستقبال عند التَّحرُّم أمْ لا؟ وجاء في هذا أقوالٌ وأوجهٌ عند الشَّافعية:
○ أنَّه يلزمه عند التَّحرّم أنْ يكون على الكمال، ويستقبل القِبْلة، ثُمَّ يتوجّه حيثُما توجّهت به الرَّاحلة.
○ والقول الثاني: أنَّه لا يلزمه مُطلقًا.
○ والقول الثالث: وهو المُعتمد المُقرّر عند الشَّافعية. إنْ سَهُل عليه استقبال القِبْلة عند الإحرام، وَجَب. وقيل عند السَّلام أيضًا. وإنْ لم يَسْهُل عليه، لم يجب.
فإنْ كانت الدَّابة واقفة، وهو يستطيع الانحراف إلى جهة القِبْلة، سَهُل عليه؛ فيُحرم مُستقبلًا القِبْلة. أو كانت غير مقطورة في القافلة وهي سهلة الزِمام، مُنقادة، فيوجهها نحو القِبْلة ثُمَّ يمضي. فعند سهولة ذلك يلزمه، وإذا صَعُب عليه ذلك فلا يلزمه لا عند التَّحرُّم ولا عند غيره. هذا للرَّاكب بخلاف الماشي؛ فإنَّ الماشي على رِجليه يجب أنْ يستقبل عند الإحرام، كما يجب عليه أنْ يُتمّ الرُّكوع والسُّجود، وحينئذٍ أيضًا يستقبل عند الرُّكوع وعند السُّجود، ثُمَّ يمشي ويسير وهو معذور في المشي، ولا تَبْطُل صلاته. فيُصلي وهو ماشٍ، فيستقبل عند الإحرام، وعند الرُّكوع، وعند السُّجود، وعند السَّلام. ويكون ماشيًا في أثناء القيام، وأثناء الاعتدال، وفيما بين الجلوس بين السَّجدتين، وفي التَّشهد يكون ماشيًا. وعليه يقولون: يستقبل في أربعة، ويمشي في أربعة.
○ يستقبل عند الإحرام، وعند الرُّكوع، وعند السُّجود وعند السَّلام.
○ ويمشي في أربعة: في القيام، وفي الاعتدال، وفي الجلوس بين السَّجدتين، وفي التَّشهُّد.
يكون ماشيًا إلى حيث اتجهت به، ولكن عند الرُّكوع والسُّجود، يستقبل القِبْلة، ويُتِم الرُّكوع والسُّجود. هذا للماشي على رِجليه.
قال: "باب صَلاَةِ النَّافِلَةِ فِي السَّفَرِ بِالنَّهَارِ وَاللَّيْلِ وَالصَّلاَةِ عَلَى الدَّابَّةِ"، وذكر عن ابْنِ عُمَرَ، أنَّه يُصلي النَّافِلَة في السَّفر في اللَّيْلِ، ولم يُفرِّق غيره. وقد جاء عن سيِّدنا أبي الدَّرداء -رضي الله تعالى عنه- في رواية أبي داوود، أنَّه قال: صَحِبْت النَّبي ﷺ ثماني عشرة سفرة، فما رأيتُه يترُك ركعتين قبْل الظُّهر -وهذه صلاة مِنْ نَفْل النَّهَارِ، وذكر مواظبته عليها. وبذلك قال الأئمة الأربعة: بالتَّنَفُل ليلًا ونهارًا للمُسافر، وأنَّ ذلك مِما فُسَح له فيه التَّخفيف. فهو يمشي على رِجليه أو على دابّته أثناء الصَّلاة، ويُغفر له الاستقبال، وكذلك الإيماء بالرُّكوع والسُّجود، لِمَنْ لم يتمكّن مِنْ ذلك. فأمَّا مَنْ كان في نحو في السَّفينة والهودج، فإنَّه يستطيع أنْ يقوم ويركع ويسجُد بلا مشقة؛ فلا بُدَّ أنْ يُتِمَّ الصَّلاة على وجهها. "إِلاَّ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ". وفي هناك قول يومئ إليه البُخاري في الصحيح، أنَّه يُصلي قبل الفريضة النَّافلة للمُسافر ولا يُصلي بعدها شيء. وعلى هذا يأتي تبويب "مَنْ صلى قبل الفريضة"، وباب "مَنْ لم يُصلي بعد الفريضة في السَّفر"، فكأنَّه أشار إلى اختيار قوله: أنَّ النَّافلة قبل الصَّلاة تكون للمُسافر، وأمَّا البعدية -فيما بعد الصَّلاة- لا تكون له. فهذه أوجُه ما قال الأئمة. وعَلمْت ما اعتمد الأئمة الأربعة: مِنْ أنَّه يتنفل سواء اللَّيْل أو النَّهار، وأنَّ ذلك الأفضل له.
وأورد لنا: "أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَانُوا يَتَنَفَّلُونَ فِي السَّفَرِ". ولمَّا سُئل الإمام مالك عن ذلك قال: "لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ"، كما تقدَّم ذِكرُهم -القاسم بن مُحمَّد، وعُروة بن الزُّبير، وأبو بكر بن عبد الرَّحمن-، وكثيرًا ما يَنْسب عمل أهل المَدينة أو قول أهل العِلْم إلى الفُقهاء السَّبعة المشهورين. يقول: "وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ".
وذكر عن عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، أنَّه كان "يَتَنَفَّلُ فِي السَّفَرِ، فَلاَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ." أبوه في السفر؛ يتنفّل في السفر.
وأمَّا في اللَّيْل، لا أنه يرى ابنه بل هو بنفسه يَتنَفل؛ ولكن في النَّهار، يرى ابنه عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَتنَفل في السَّفر، فلا يُنكر عليه. وهذا في النَّافلة. أمَّا الفريضة، فلا بُدَّ مِنْ أنْ يخرج إلى الأرض، ويُصلي على سواء الأرض.
يقول: وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أنَّه رأى "رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ، وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى خَيْبَرَ". لكن المشهور صلاته على الرَّاحلة؛ النَّاقة لا على الحِمار. ويُحتمل أنْ يكون في بعض المرَّات رَكِب الحِمار، فصلَّى عليه؛ ولكن أغلب مشيه وسفره كان على الرَّاحلة -عليه الصَّلاة والسَّلام-. وتُفرِّق بينها: بأنَّ الرَّاحلة، مِنَ المأكول الذي قيل بطهارة فضلاته، وليس الحِمار مِنَ المأكول؛ والمعنى لا فرق بين هذا وذك؛ أيّ حيوان كان راكبًا عليه، جاز له أنْ يتنفَّل.
وأورد لنا حديث ابْنِ عُمَرَ أيضًا: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ". "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ"؛ أي: يُصلي على الرَّاحلة حيث توجهت به. إذًا، فجهة مقصده تتحول كأنَّها القِبْلة، والمشي على حسب مسار الطريق؛ تلتفت يمينًا، تلتفت يسارًا، وقد تدور.. فعلى حسب مسار الطريق يكفي ذلك. وإنَّما قالوا عن الهائم الذي لا مقصد له، ما يصحّ مِنْه التَّنفل في السفر، إلا مُستقبل القِبْلة وعلى الأرض لأنَّه ما له مقصد صحيح. فأمَّا مَنْ تحدد مقصده، فيُصلي حيث كان مسار الطريق ولو بليّاته، وعطَفاته، وطلوعه، وصعوده؛ فيمشي حيث اتجاه الطريق. فإذا خرجت الدَّابة والرَّاحلة عن جهة الطريق ومقصد الطريق:
○ فإنْ كانت تحوّلت إلى جهة القِبْلة؛ فالصلاة صحيحة.
○ وإنْ تحولت إلى جهة أُخرى؛ بَطلت صلاته.
لأنَّه يصير مقصده كقِبلةٍ له؛ أيّ: مسار الطريق المُعتاد يصير هو محل قِبلته. فإذا خرج عنها إلى جهة القبلة؛ فلا إشكال. ولكن إذا خرج إلى اتجاه آخر غير اتجاه مسار الطريق؛ بَطلت صلاته وهو غير القِبْلة.
وذكر: "رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فِي السَّفَر، وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ، وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ إِيمَاءً"؛ أيّ: يخفض رأسه عند الرُّكوع، ويخفضه أكثر عند السُّجود، "مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضَعَ وَجْهَهُ عَلَى شَىْءٍ"؛ فوق الدَّابة مِنْ بردعة ولا غيرها، بل بالإيماء يكتفي. وجاء عنه قال: لولا أنّي رأيت رسول الله ﷺ فعلَه، لم أفعله. فهذا محل الإجماع بين الأئمة. ويُصلي حيث توجّهت به راحلته النَّافلة في السَّفر، لئلا ينقطع عن فعل النَّوافل والرواتب وهو مُسافر فيفوته ثوابها، ولا يوقف مِنْ أجلها، فيفوته تحصيل المقصد مِنَ السَّفر أو سُرعة المشي والوصول إلى حيث أراد. هكذا فكيف بالمُتهاون بالنَّوافل وهو في الحضر؟ لا سفر ولا غيره، وهو آمن، مُطمئن، ولا هو حول النَّافلة، يُصلي الفريضة فقط.. فما أعظم ما فوَّت على نفسه! وما أكبر ما غبن نفسه، بفوات الخير الكثير! و "مَنْ صلى اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليْلة مِنْ غير الفريضة بنى الله له قصرًا في الجنَّة"، قال زين الوجود: "وجُعِلَتْ قُرَّةَ عَينِي في الصَّلاة".
وعندهم إذا هو خارج بلد، فيُصلي سواءً كان السَّفر طويلًا أو قصيرًا. فلا يشترط في جواز التَّنَفُل على الرَّاحلة أنْ يكون السفر طويلًا، بل لو خرج إلى قرية بجانب بلده، فيجوز له في أثناء الطريق وأثناء وجوده في تلك القرية أنْ يصلي على راحلته.
فلا تختص رُخصة الصَّلاة على الرَّاحلة بالسفر الطويل. كما أنَّه يأتي فيه التَّيمم عند فَقْد الماء، وكما أنَّه تسقط به الجُمْعة، لمَنْ جاءته فجر يوم الجُمْعة وهو مُسافر ولو سفرًا قصيرًا.
إذًا فهذه الرُّخص المُختصة بالسفر الطويل: الجمع، والقصر، والفِطر في رمضان، والمسح على الخُفّ ثلاثة أيام بلياليها.
يقول: "باب صَلاَةِ الضُّحَى"؛ وهي مِنَ الصَّلوات التي ورد فيها صلاته ﷺ وهو مُسافر، وذلك في حديث أُمَّ هَانِئ، فإنَّه كان في أيام فتح مَكة، وأيام كان يقصر الصَّلاة بمَكة، رأته يُصلي صلاة الضُّحى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ ﷺ، ففيه اعتناؤه بهذه الصَّلاة؛ صلاة الضُّحى:
○ لكونها مِنْ أقوى أسباب تيسير الرِّزق. سمّوها صلاة الغِنى، فلا فقر مع ضحى؛ أيّ إنَّ المواظب على هذه الصَّلاة، يُيسر الله له رزقًا.
○ صلاة الضُّحى التي يبدأ وقتها مِنْ بعد ارتفاع الشَّمس قدر رُمْح إلى وقت الزَّوال، ثُمَّ تبقى بعد ذلك قضاء.
○ وفي صحيح الإمام مُسلم: "يُصْبحُ علَى كلِّ سُلَامَى"؛ يعني مَفْصل "مِنْ أحدِكم صدقةٌ"، وفي الإنسان قالوا ثلاثمائة وستين مَفْصل، فعليه ثلاثُمئة وستين صدقة. فقال ﷺ: "فكلُّ تَسْبيحةٍ صدقةٌ، وكلُّ تحميدةٍ صدقةٌ، وكلُّ تهليلةٍ صدقةٌ، وكلُّ تكبيرةٍ صدقةٌ، وأمرٌ بالمعروفِ صدقةٌ، ونهيٌ عن المنكرِ صدقةٌ، وتعين الرجل على دابته فتَحمله عليها صدقة". قال: "ويُجزئُ من ذلك كُلّه، ركعتانِ يركعهما من الضُّحَى"؛ فإذا صلى الضُّحى، أدى صدقة مفاصله كُلها، بركعتين مِنَ الضُّحى، يجزيه عن ذلك كُله ركعتان يركعهما مِنَ الضُّحى.
○ وتُسمى صلاة الضُّحى صلاة الأوابين، الأوابون؛ الرجّاعون إلى الله. كما تُسمى الصَّلاة بين المَغرب والعِشاء صلاة الأوابين؛ أيّ الرجّاعين إلى الله. قال تعالى: (… إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا) [الإسراء:25]. وقال عن سيِّدنا إبراهيم: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) [هود:75]. وقال سبحانه وتعالى عن سيِّدنا داوود: (... نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص:30]؛ أوَّاب: كثير الأوبة والرُجعة إلى الرَّب -جلَّ جلاله-. (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).
صلاة الضُّحى؛ يعني: الصَّلاة في وقت الضُّحى. كما يُقال صلاة اللَّيل؛ يعني: الصَّلاة في وقت اللَّيل. كانت صلاة الأنبياء مِنْ قَبْل نبيّنا مُحمَّد ﷺ وحتى جاء عليه الصَّلاة والسَّلام. قال سبحانه وتعالى عن النَّبي داوود (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ) [ص:18]، الإشراق هذه صلاة الضُّحى. وحتى إشراق الشَّمس، يُسبّحن معه الجّبال.
الأمر واسع، والاهتمام بها حسنٌ، دلَّ عليه ما دلّ مِن الرِوايات، وعمل أهل الرَّغبات الصَّادقات في الدَّار الآخرة.
ذَكر أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أبِي طَالِبٍ قالت: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى عَامَ الْفَتْحِ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفاً فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ". وهذا في مكة المُكرمة. وقد جاءت إليه كما في الرِّواية الثَّانية، أنَّها قالت: "ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَامَ الْفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ"، وكان الفتح في رمضان، سنة ثمان مِنَ الهجرة، "وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ"، وكان ﷺ كان يغتسل في إزاره، ويكشف بقية بدنه، فلهذا كانت تستره السيِّدة فَاطِمَة لكمال الحياء؛ فتستر باقي جسده الشَّريف -عليه الصَّلاة والسَّلام-. فدخَلت والنَّبي ﷺ في محل غسله، وسيِّدتنا فَاطِمَةُ قائمة بالثوب تستر بدن أبيها -عليه الصَّلاة والسَّلام-. وإنْ كان مؤتزرًا، فما كان يغتسل إلا في الإزار -عليه الصَّلاة والسَّلام-. وكان أشدَّ حياءًا مِنَ العذراء في خِدرها. "فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ"؛ أيّ: فرَّد عليها السَّلام "فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟"؛ أحسَّ بصوت المَرأة. وقال: "مَنْ هَذِهِ؟"؛ فمعناه أنَّ السِتر كان قويًا، يبلُغ إلى أعالي رأسه ﷺ، وأنَّ فاطمة كانت رافعة يديها بستر وإلا لرآها، وما احتاج إلى أن يسأل مَنْ هي، ولكنه لمَّا كان تحت السِّتارة نهائيًا، قال: "مَنْ هَذِهِ؟ قُلْت: أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أبِي طَالِبٍ"؛ مِنْ أجل أنْ تتضح له تعرفتها، وذكرت له كُنيتها، حتى تكون معلومة عنده واضحة. "فقال ﷺ: مَرْحَباً بِأُمِّ هَانِئٍ". "مَرْحَباً بِأُمِّ هَانِئٍ"؛ أيّ لَقيْتِ رحبًا وسَعة. "فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِىَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفاً"؛ أيّ: مُلتفًا في ثوب واحد. وقد تقدَّم معنا أنَّ الالتفاف في الثَّوب الواحد إذا لم يكُن اشتمال الصَّماء، فلا يُكره. "ثُمَّ انْصَرَفَ"، أي: أكمِل صلاته، فكلَّمته؛ يعني: أخَّرت سؤالها وحاجتها حتى قضى صلاته. وهكذا الآداب عند أولي الألباب، فما فاجأته وهو يغتسل، ولا كلَّمته بعد الغُسل حتى يقضي صلاته، لمَّا رأته مُتوجهًا إلى الصَّلاة، تركته حتى أكَمل ثَمَانِىَ رَكَعَاتٍ، وانْصَرَفَ، كلَّمته ﷺ. قالت له: "يَا رَسُولَ اللَّهِ"؛ يعني: أراد "ابْنُ أُمِّي"؛ أخوها عَلِيّ بن أبِي طَالِبٍ؛ يعني شقيقها "أَنَّهُ قَاتِلٌ"، "فُلاَنُ بْنُ هُبَيْرَةَ"؛ رجلًا أجَّرتُه -ابْنُ هُبَيْرَةَ-، وقال لها: أتُجيرين هذا الذي له سابقة إيذاء للمُسلمين والإسلام! سنقتله، فذهبت إلى عند النبي ﷺ، قالت: أنا يا رَسُولَ اللَّهِ قد أجرت فُلاَنُ هذا، فقال لها النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام-: "قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ"؛ مَن أجَرتيه فهو مُجار، لا أحد يتعرّض له خلاص، أجرنا مَنْ أجرتِ. قال ذلك تطييبًا لقلبها، وتكميلًا للكلام، وقد قال -عليه الصَّلاة والسَّلام-: "المُسلمون تتكافأ دِماؤهم، ويسعى بذمّتهم أدناهم"، فمَنْ أجاره مِنَ المُشركين ومِنَ الكُفَّار، أيّ واحد مِنَ المُسلمين، اُحترم جواره، ما لم يكُن في ذلك ضرر على المُسلمين أو يكون أجار جاسوسًا للكُفَّار أو نحو ذلك فلا، وما عدا ذلك فكُلّ المُسلمين لهم حقّ الجوار لمَنْ شاؤوا. قالت: "وَذَلِكَ" يعني وقت صلاته ووقت هذه الثَمَانِي رَكَعَات "ضُحًى" أيّ: في وقت الضُّحى.
و"عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ، وَإِنِّي لأُسَبِّحُهَا". وفيه مِنْ فقه الصَّحابة، أنَّه لا يُشترط عندهم لسُّنيّة العمل بشريعته أنْ يكون فَعَله ﷺ، مع أنَّه هو فعل الضُّحى ولكنها هي ما رأته وقت الحديث هذا، أما غيرها فقد رآه يُصلي الضُّحى، ولكن مع عدم رؤيتها له ثَبَت صلاة الضُّحى عند مِنْ حديثه كانت "وَإِنِّي لأُسَبِّحُهَا"؛ إني لأُصليها. فما الشرط عندهم أنْ يكون فعل، ولكن ما دلّ عليه وأرشد إليه فيُعمل به، ولا يُشترط أنْ يكون فَعله ﷺ. وهكذا فَقِه الصَّحابة -رضي الله تعالى عنهم-؛ ولهذا يسقُط الاستدلال بعدم الفِعل؛ وهو التَّرك. وقال عُلماء الأُصول: التَّرك ليس بحُجة في شرعنا، لا يقتضي منعًا ولا إيجابًا. فإنَّ صاحب النُّبوة يترك الأمر وفِعله أحبّ إليه، خشية أنْ يُفرض، كما صرَّح بذلك. ويترك بعض الأشياء، لبيان جواز تركها. ويتْرك بعض الأشياء لانشغاله بما هو أهم مِنْها. فليس في تركه لشيء، تحريم ولا نهي عن ذلك، فهكذا المعروف عند أهل الأُصول.
قالت: وإنْ كان ﷺ "لَيَدَعُ الْعَمَلَ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ". بيَّنت هذا الأصل مِنْ أصول أهل الفقه في الإسلام، أنَّ التَّرك ليس بحجة، وكثير أعمال يحب أنْ يعملها ويتركها ﷺ، خشية مِنْه ومِنْ جُملة الحُكم "خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ، فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ". ومِنْ جُملتها أنَّه يشتغل في كل وقت بما هو أولى به، وأوجب عليه ﷺ، وأحقّ به. فلم يفعل جميع المُباحات، بل لم يفعل جميع المُستحبّات، لشُغله في كل وقت بما هو أوجب عليه وآكد في حقه عليه الصَّلاة والسَّلام، فيشتغل بالأفضل في كل حال وفي كل مقال. ومِنَ المعلوم أنَّه لم يفعل جميع المُباحات، حتى تقول ما لم يفعله مكروه أو حرام. بل كان يقتصر مِنَ المُباحات على ما يحتاج إليه في أمر الخير والدِّين، وكان أزهد الخلق ﷺ.
وجاء أنَّه بعد أنْ سُئلَت السيِّدة عائشة: كم كان النَّبي ﷺ يُصلي الضُّحى؟ قالت: "قد كان النَّبي ﷺ يُصلي الضُّحى أربعًا ويزيد ما شاء"، أخرجه مُسلم وأحمد والنَّسائي. فكيف هذا؟ حمله بعضهم على أنَّها أثبتت ذلك مِنْ حيث ما بلغها، ولم تكُن تراه. فهي ما رأته يُصلي؛ ولكن غيرها حدَّثه عن أنَّه يُصلي الأربعة، ويزيد ما شاء الله ﷺ. وقول أُمَّ هَانِئ: ثمان، هو الأفضل عند الشَّافعية والجُمهور؛ أنَّ الأفضل في صلاة الضُّحى أنْ تُصلي ثَمَانِي رَكَعَات، وهو أكثرها على المُعتمد. وقيل: أكثرها اثنتا عشر ركعة. وقيل: أكثرها عشرون ركعة، صلاة الضُّحى.
وجاء "عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي الضُّحَى" وتحرص عليها، ومِنْ حرصها عليها "تَقُولُ: لَوْ نُشِرَ لِي أَبَوَاىَ"؛ يعني بعد وفاة أبو بكر وأُمُّ رومان؛ يعني: أُحييا لي وخرجا مِنَ القُبور، "مَا تَرَكْتُهُنَّ"؛ أي: هذه الرَّكعات، لِمَا ذاقت مِنْ لذَّتها، وعرفت مِنْ خيرها وكرامتها عند الله -سبحانه وتعالى-. إذًا أفضلها ثمان، وهو أكثرها. وقيل: أكثرها اثنتا عشرة ركعة. إذًا، فأقلُها ركعتان بالاتفاق. وأفضلها ثمان كذلك بالاتفاق. وفي أكثرها خلاف، الأكثر على أنَّ أفضلها وأكثرها ثمان. وعَلمْت غير ذلك مِنَ الأقوال:
واستأنس مَنْ قال اثنتا عشر بالحديث الذي ذكرناه: مَنْ صلَّى اثنتي عشرة مِنْ غير الفريضة في اليوم واللَّيلة. وكذلك جاء في رواية عند الترمذي وابن ماجة: "مَنْ صلَّى الضُّحى اثنتي عشرة ركعة، بَنى الله له قصرًا مِنْ ذهب في الجنَّة". وكذلك مِنَ الأدِّلة في استحباب صلاة الضُّحى والمواظبة عليها، ما جاء في صحيح الإمام مُسلم، عن أبي هريرة يقول: أوصاني خليلي ﷺ بثلاث، وذكر سُبْحَةَ الضُّحَى؛ يعني: صلاة الضُّحى، وأنْ أوتر قبل أنْ أنام. أوصاه -عليه الصَّلاة والسَّلام-: بسُبْحَةَ الضُّحَى، وأنْ يُوتر قبل أن ينام، وبصيام ثلاثة أيام في كُلّ شهر. وكانت وصيته ﷺ لسيِّدنا أبي هريرة. وجاء عند أبي داوود والنَّسائي عن النَّبي، عن الله -تبارك وتعالى- قال: "يَا ابْنَ آدَم لا تعجزني من أرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أكْفِكَ آخِرَهُ"؛ "صلّ لي أربعًا من أوّل النَّهار، أكفيك آخره". ففيه أنَّ مَنْ افتتح النَّهار بصلاة أربع ركعات، تولّاه الله في ذلك النَّهار، وكفاه كُلّ شره إلى آخره. "لا تُعجزني مِنْ أربع ركعات في أوّل النَّهار، أكفيك آخره". قال أبو هريرة: "أوصاني خليلي بثلاثٍ لا أدعُهُنَّ إن شاءَ اللَّهُ أبدًا، بصَلاةِ الضُّحى، -في رواية: سُبْحة الضُّحى- وأنْ أُتر قبلَ النَّومِ، وبصومِ ثلاثةِ أيَّامٍ من كلِّ شَهْرٍ".
رزقنا الله الاستقامة، وأتحفنا بالكرامة، وملأنا بالإيمان واليقين، ورزقنا عِمَارة الوقت، واغتنام العُمر، والتزوّد للدار الآخرة، والاستعداد للقاء، ووقانا الأسواء والأدواء وكُلّ شرٍّ أحاط به علمه مع صلاح الشأن كُلّه بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
02 ربيع الأول 1442