(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب صلاة الجماعة، باب ما جاء في العتمة والصبح.
فجر السبت 16 صفر 1442هـ.
باب مَا جَاءَ فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ
347- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ الأَسْلَمِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ شُهُودُ الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ، لاَ يَسْتَطِيعُونَهُمَا". أَوْ نَحْوَ هَذَا.
348- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أبِي صَالِحٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ, إِذْ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ". وَقَالَ: "الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". وَقَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ، لاَسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ، لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ، لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً".
349- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أبِي حَثْمَةَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَدَ سُلَيْمَانَ بْنَ أبِي حَثْمَةَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ غَدَا إِلَى السُّوقِ -وَمَسْكَنُ سُلَيْمَانَ بَيْنَ السُّوقِ وَالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ - فَمَرَّ عَلَى الشِّفَاءِ أُمِّ سُلَيْمَانَ، فَقَالَ لَهَا: لَمْ أَرَ سُلَيْمَانَ فِي الصُّبْحِ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَاتَ يُصَلِّي فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ. فَقَالَ عُمَرُ: لأَنْ أَشْهَدَ صَلاَةَ الصُّبْحِ فِي الْجَمَاعَةِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةً.
350- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي عَمْرَةَ الأَنْصَاري، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى صَلاَةِ الْعِشَاءِ، فَرَأَى أَهْلَ الْمَسْجِدِ قَلِيلاً، فَاضْطَجَعَ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ، يَنْتَظِرُ النَّاسَ أَنْ يَكْثُرُوا، فَأَتَاهُ ابْنُ أبِي عَمْرَةَ فَجَلَسَ إِلَيْه، فَسَأَلَهُ مَنْ هُوَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: مَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ، فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ لَيْلَةٍ، وَمَنْ شَهِدَ الصُّبْحَ فَكَأَنَّمَا قَامَ لَيْلَةً.
الحمدُ لله مُكرِمنا بالشَّريعة وبيانِها، وبإرسال عبده المُصطفى مُحمَّد صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم، الذي قوَّم به عظيم شأنها. اللَّهم أدِم صلواتك على المُجتبى المُختار سيِّدنا مُحمَّد، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومَن والاهُم فيك واتّبع آثارهم في جميع أحواله إسرارها وإعلانها، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمُرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقرّبين، وجميع عبادك الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
ويذكُر لنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- في مُوطأه الأحاديث المُتعلقة بصلاة الْعِشَاءِ وصلاة الصُّبْحِ وإعادة الصَّلاة، فيقول -عليه الرضوان-: "باب مَا جَاءَ فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ". الْعَتَمَةِ: وهي الظُلمة، فسُميت صلاة الْعِشَاءِ؛ لأنّها تُفعل عندما يُظلم الليل أو تأتي ظُلمة الليل باسم وقتها، فقيل لها الْعَتَمَةِ. وجاء في بعض الأخبار النّهي عن تسميتها بالْعَتَمَةِ، "لا تغلبنّكم الأعراب على اسم صلاتكم، فإنّما هي العشاء". وجاء في عددٍ مِن الروايات تسميتها بالْعَتَمَةِ، فتَبين الجواز في قول الْعَتَمَةِ، وفي قول الْعِشَاءِ، وأنّه لا ينبغي استعمال الْعَتَمَةِ بحيث ينتهي الاسم الأصل أو الاسم الأصيل للصَّلاة؛ وهي صلاة الْعِشَاءِ. فأما استعمالها على وجهٍ لا يُفقد به أصل الاسم، فلا إشكال فيه.
وأورد لنا -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- حديث سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: "بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ". جاء مِن بعض الطُّرق مُسند عند الإمام مالك كما هو عند غيره، وهنا مُرسل عن "سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أنّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ:" بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ"؛ أيّ آية وعلامة وهي؛ "شُهُودُ الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ" هكذا بلفظ الْعِشَاءِ. وجاء في عدد مِن الروايات، كما ذكر المُؤلف في التَّرجمة والعِنوان: صلاة الْعَتَمَة؛ "صلاة الْعَتَمَةِ والصُّبْحِ"، "لاَ يَسْتَطِيعُونَهُمَا"؛ أيّ يشقُّ عليه الحضور في هذين الصّلاتين.
○ حتى جاء في لفظٍ: "ما يَشهدُهُما مُنافق"؛ يعني: لا يُحافظ على حضور الجماعة في الْعِشَاءِ والصُّبْحِ مُنافق.
○ وجاء أيضًا في الأثر: "مَنْ أحبَّ أنْ يجعله الله مِنَ الذين يَدفع الله بهم العذاب عن أهل الأرض، فليُحافظ على صلاة الصُّبْحِ وصلاة الْعِشَاء في جماعة". وفيه أنَّ رُتبةً في العمل الصَّالح يجعلُها الجَّبار سببًا لدفع البلايا والآفات. و "إنّ الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيتٍ من جيرانه البلاء" . وهكذا يدخل في عموم قوله: (... وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ …) [الحج:40].
قال: "أَوْ نَحْوَ هَذَا." مِن أجل الاحتياط والتوقي في العبارة. فذكر عليه الصَّلاة والسَّلام ثِقل هاتين الصَّلاتين على المُنافقين. وسَمعت تسمية صلاة الْعِشَاءِ بصلاة الْعَتَمَةِ، كما جاء في رواية والنهي عنه في رواية. وبذلك كان أكثر الفُقهاء يُجيزون تسمية صلاة الْعِشَاءِ بالْعَتَمَةِ لأنَّها وردت في أحاديث مُتعددة. حتى جاء في صحيح البُخاري: "لو يعلمون ما في الْعَتَمَةِ والصُّبح". كما جاء في صحيح البُخاري يقول ﷺ: " … لو يعلمون ما في الْعَتَمَةِ والصُّبْح لأتوهما ولو حبوًا ..". وكذلك قول عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كانوا يُصلون الْعَتَمَةِ فيما بين أنْ يغيب الشَّفق إلى ثلث الليل الأول".سمتها الْعَتَمَةِ.
○ وقول مَنْ قال مِن الشّافعية: الكراهة، فكَراهية التُنزيه. وحملوا ما جاء في الأحاديث على بيان الجواز.
○ والإشارة في النّص كما سمعت: الغلبة، بأنْ ينتحي اسم صلاة الْعِشَاء. ما دام اسم الْعِشَاء قائم، فلا يضُر أنْ يُطلق عليه أحيانًا اسم الْعَتَمَةِ إذا كان أصل الاسم سائدًا ومعروفًا بين النَّاس.
○ ويقول أيضًا بعض المالكية: كما كره بعضهم كراهة تنزيه. يقول بعضهم: أنَّها جائز تسميتها باسم الْعَتَمَةِ مِنْ دون كراهة.
○ وقولٌ ثالث عندهم: أنه يحرم تسميتها بالْعَتَمَةِ، فتُبين بذلك اتساع النّظر.
وأورد لنا -عليه رِضوان الله تعالى- حديث أبِي هُرَيْرَةَ، وهو عبارة عن ثلاثة أحاديث، سمِعها الإمام مالك عن مشايخه دُفعةً واحدة. والذي يتعلق بالباب الحديث الأخير؛ الثالث. ولكنه عندما ذكرها، ذكرها برُمتِها كما سمعها، الحديث الأول والثاني والثالث. فأوردها كما سمِعها، ولا تعلُّق بالحديث الأول بالباب، ولا الحديث الثاني، ولكن الحديث الثالث هو في موضوع الباب، ولكنه سرد الرواية كما حفِظها عمّن قبله. ولم يُحب أنْ يقتصر على ما سمع وعلى الحديث الآخر دون الأوليين لأنّه سمعها الثلاثة دُفعة واحدة، مُرتبين هكذا. فنقلها دُفعةً واحدة. "عن أبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، إِذْ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ"، والغصن: طرف الشَّجر، مادام نابت يُسمى أغصان، ويُقال غصون. "غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ،"؛ فنحّاه عن الطَّريق وأبعده حتى لا يؤذي أحدًا، "فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ"؛ يعني: رضي فِعله، وقبِل مِنه، وجعله ممَنْ يُحمد على هذا الفعل ويُشكر، وكان ذلك سببًا لمَغفرته وتجاوزه عنه. ففيه:
○ فضل إماطة الأذى عن الطَّريق.
○ وأنَّه مِنْ شُعب الإيمان.
○ وأنَّه يكون سببًا للمغفرة.
فهذا غفر الله له بإماطة "غُصْنَ شَوْكٍ" أبعده مِنْ طريق المُسلمين. وبذلك تعلَم شدة الكراهة لمَنْ يرمي أذى في طريق المُسلمين. وإنْ كان فيه شوك وغيره مما يؤذي أكثر، فهو أشدّ كراهة، وأبعد عن خِصال الإيمان، وعن شُعب الإيمان.
فإماطة الأذى عن الطَّريق، هي سُنَّة جاء بها نبينا ﷺ. وإذا عَلِمْنا أدب الإسلام في هذا الطَّريق العادي الذي يمرُّ به النَّاس بأجسادهم فلأنْ تُميط الأذى عن توادهم وتراحمهم وإقبَالهم على الله، أولى وأهم. فإنك لو عرقلت طريق أجسادهم الحسية في المُضي مِنْ مكان لمكان في حاجاتهم، وكثير مِنها حاجات دنيوية، كُنت بذلك مُتعرضًا للإثم والوعد. فإذا أذهبت عنهم الأذى، كنت مُتعرضًا للمِغفرة والدَّرجة. فكيف بطريقهم المعنوي في توادّهم وتراحمهم وفي إقبالِهم على الله. فاحذر أنْ تضع أذى بكلمة وأسلوب، وبترغيب أو ترهيب، تصرفهم به عن المودة بينهم، أو عن الإقبال على الله، فتكون مِمَنْ يضع الأذى في طريق المُسلمين الأهم والأعظم مِنْ طريق أجسادهم، بلْ أمط مِنْ ذلك كُلّ ما تستطيع إماطَته عن الأذى، تكون مِنْ أهل الإيمان، وتتعرض للغُفران.
وذكر بعد ذلك حديث الشُّهَدَاء وَقَالَ: "الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ"؛ يعني مِنْ جُملة الشُّهَدَاء. كما يقول أهل العِلم: لا مفهومًا للعدد، لأنّه ورد في الأحاديث الأُخرى مواضع للشَّهادة، ويُعد أهلها شهداء غير الخمسة، وإلى سبعة وإلى أكثر، بل المجموع مِنْ الوارد بالأسانيد الجيدة نحو العشرين. فإذا أُضيف إليها أيضًا ما ورد بأسانيد ضعيفة، تكون في فضائل الأعمال والترغيب ترجع إلى نحو الثلاثين. فكُلّها شهادة، شهادة، شهادة. يعني يُعدّ أصحابها عند الله شُّهَدَاء، لهم أجر الشهداء ومكانة الشُّهَدَاء، وشفاعة الشُّهَدَاء، وإنْ كانوا في الدُّنيا يُغسّلون غسلًا كامًلا، ويُصلى عليهم كما يُصلى على غيرهم، لكنهم في الآخرة شُّهَدَاء. وَقَالَ: "الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ"؛ جمع شهيد. وسُمي أحدهم بالشهيد؛
○ لِوفرته وكثرة شهود الملائكة موتهم وجنائزهم؛ لأنّهم يشهدون كما قال تعالى في صلاة الفجر: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء:78]؛ أيّ: يحضُره عدد كبير مِنَ الملائكة. وهؤلاء لمنزِلتهم عند الله، يتوفّر عدد الملائكة في حضور موتهم وجنائزهم، فسميَّ شهيد؛ يعني يشهد عند حضوره ملائكة كثير، تشييعًا لروحه وإقباله على الله جلّ جلاله.
○ شهيد فهو فعيل؛ بمعنى مفعول؛ أيّ: مشهودًا له مِنْ قِبل الملائكة، ومشهودٌ له في لسان النُّبوة بالجنَّة والشّفاعة. ومشهود له.
○ وقيل أيضًا: في الأخذ مِنْ معنى الشَّهيد: أنَّه بمعنى الحيّ الحاضر، لأنّه حيّ عند الله تعالى حاضر، ويشهد حظيرة القُدس، فسُمّيَ شهيد، يكون بمعنى الشاهد؛ أيّ بمعنى الحاضر أو الذي تحضُره الملائكة مُبشِّرة له
○ أو بمعنى الحيّ الذي يكون حاضرًا، كما قال في الآية: (…. بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران:169].
"خَمْسَةٌ" هذا فيما ذُكر هُنا وسَمعت أنّه ذكر ابن عبد البرّ وغيره، أنّه بالأسانيد الجيدة نحو العشرين مِنَ الشُّهَدَاء، وبالأسانيد المُضافة إلى بقية الأسانيد التي فيها ضعف ثلاثين مذكورين في الشُّهَدَاء. كُلٌّ مِنهم ينال رتبة الشّهَيد عند الله تبارك وتعالى. وفي الحديث: "أَكْثَرَ شُهَدَاءِ أُمَّتِي أَصْحَابُ الْفُرُشِ"؛ الذين يموتون على فُرشهم، ولكن لهم مِنَ الأعمال والأحوال، ما يجعلهم شُهداء عند الله -جلَّ جلالُه-. ويذكر بعض أهل المعرفة: أنَّ الذين تبلُغ بهم محبة الله مبلغًا عظيمًا، يشتد عليهم الشّوق إليه، فعند الموت ينقطع أنياط قلوبهم شوقًا إلى اللقاء، أنَّهم أعلى الشُّهَدَاء، يُسمون شهداء المحبة. لم يُقتل بسيف كُفار، ولكن بسيف المحبة للغفار -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-. قطع نياط قلبه، فمات شوقًا ومحبة، فهؤلاء أعلى الشُّهَدَاء عند الله جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
فهؤلاء مِنْ جُملة أعداد الشُّهَدَاء، الذين تُرفع درجتهم عند الله، ويُشفّع الواحد مِنهم في سبعين مِنْ أهل بيته، كُلّهم قد وجبت له النَّار؛ أيّ: استحق دخول النَّار وهو مات على الإيمان وللعذاب على شيء مِنْ سيئاته، فيشفع الشَّهيد فيه، فلا يدخل النَّار.
ثُمَّ ذكر الحديث الثالث الذي هو في الباب وَقَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ"؛ أيّ: الثَّواب الذي في الآذان. والصَّف الأول الصَّلاة خلف الإمام مُباشرة في الصَّف الأول. "ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ"، أي: يضربوا القُرعة بينهم "لاَسْتَهَمُوا". "وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ"؛ وهو التبكير. "لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ"؛ يعني: التبكير لحضور الصَّلوات ونحوها، "لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ". وجاء لفظ الْعَتَمَة في الحديث في رواية مالك نفسه، وهذا يُضعِف القول الذي عند بعض أهل المذهب، بأنْه يحرم تسمية الْعِشَاء بالْعَتَمَة، ويبقى القول بكراهة التنزيه والقول بالجواز بلا كراهة في مذهب الإمام مالك عليه رحمة الله. قال: "وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ، لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً"، لا يستطيعون القيام، فيَحبون على رُكبهم، ولا يتأخرون عن صلاة الصُّبْح وصلاة الْعِشَاء. فما أعظم شهود الجماعة فيما عند الله -تبارك وتعالى-، فلا يتساهل المؤمن بذلك.
ثُمَّ ذكر لنا حديث سيِّدنا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يقول: أنَّ سيِّدنا عُمَر "فَقَدَ"؛ يعني: لم يجد سُلَيْمَانَ بْنِ أبِي حَثْمَةَ، مِنَ الصَّحابة وهو مِنْ جُملة مِنْ جمع عليهم سيِّدنا عُمَر النَّاس لصلاة التراويح في رمضان، واستعمله على السَّوق سيِّدنا سُلَيْمَانَ بْنِ أبِي حَثْمَةَ. فقَدَه في صلاة الصُّبْح، يوم مِنَ الأيَّام لم يجده. "غَدَا إِلَى السُّوقِ" ذهب إلى السوق في الصَّباح سيِّدنا عُمَر. "وَمَسْكَنُ سُلَيْمَانَ بَيْنَ السُّوقِ وَالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ"، ولهذا استعمله على السوق سيِّدنا عُمَر، لقُربه مِنه. فلمّا ذهب سيِّدنا عُمَر إلى السُّوق، مرَّ على مسكنه في الطريق. يقول: "فَمَرَّ عَلَى الشِّفَاءِ"؛ وهذه بنت عبد الله بن عبد شمس، غير أُمّ سيِّدنا عبد الرحمن بن عوف، الشفَّاء. اسمها الشَّفاء. وهذه اسمها "الشِّفَاءِ أُمِّ سُلَيْمَانَ" المذكور.
○ وكانت مِنْ عاقلات النِّساء.
○ وكان النَّبي ﷺ يمِرُّ عليها وقد يقيل عندها.
○ وقال لها: علِّمي حفصة رُقية النَّمل.
○ وأعطاها دارًا في المدينة، فنزلَتها مع ابنها سُلَيْمَانَ هذا.
○ وكان سيِّدنا عُمَر يُقدّمها في الرأي.
○ وربما ولّاها شيئًا مِنْ أمر السُّوق، لمَّا رأى مِنْ عقلها ورأيها وفقهها.
فقال لها عُمَر: "لَمْ أَرَ سُلَيْمَانَ فِي الصُّبْحِ"؛ أين ولدك سُلَيْمَانَ لم يحضُر معنا في الصَّلاة؟ ففيه:
"فَقَالَتْ: "إِنَّهُ بَاتَ"؛ يعني سَهِر "يُصَلِّي فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ"؛ يعني: نام فلم يستيقظ على وقت صلاة الصُّبْح أو بلغ مِنه النَّوم مبلغ لا يُمكِنه الصِّلاة معه، فنام عن الجماعة. فَقَالَ عُمَرُ: "لأَنْ أَشْهَدَ "؛ أحضر "صَلاَةَ الصُّبْحِ فِي الْجَمَاعَةِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةً" كاملة أُصليها وأُحييها بالنّوافل، فالحُضور في الفريضة أهم مِنْ هذا. فدلَّ على:
وجاء في رواية عبد الرَّزاق، عن سُلَيْمَانَ بْنِ أبِي حَثْمَةَ أنَّ هذه أُمّه الشِّفاء قالت: دخل عليَّ عُمَر- رضي الله عنه- وعندي رجُلان نائمان، -يعني: زوجها أبِي حَثْمَةَ وولدها؛ سُلَيْمَانَ الذي سأل عنه سيِّدنا عُمَر ذلك اليوم- فقال: أمَّا صليَّا الصُّبْح قلت: لا يزالان يُصليا حتى أصبحا فصلَيا الصُّبْح فناما ما انتظروا يخرجون إلى المسجد يصلوا معك، صلوا الصُّبْح مُبكرين وحدهم وناموا. فقال: "لأَنْ أَشْهَدَ صَلاَةَ الصُّبْحِ فِي الْجَمَاعَةِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةً".
ثُمَّ أورد لنا حديث "عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي عَمْرَةَ الأَنْصَاري، أَنَّهُ قَالَ : جَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رضي الله عنه- إِلَى صَلاَةِ الْعِشَاءِ"؛ أيّ في أيام خلافته ليُصلي في النَّاس، "فَرَأَى أَهْلَ الْمَسْجِدِ قَلِيلاً"؛ لم يأت كثير مِن النَّاس، "فَاضْطَجَعَ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ، يَنْتَظِرُ النَّاسَ أَنْ يَكْثُرُوا"، فيُصلي بهم، فتأنّى وانتظر ليلحق في الجماعة مَن تأخر. وجاء في الحديث أنَّ ﷺ كان يُصلي في الْعِشَاء، إذا كثُر النَّاس عجّل، وإنْ رآهم تأخروا تأخر ﷺ؛ مُراعاةً للنَّاس. "فَأَتَاهُ"؛ يعني: جاء إلى عُثمان بن عفان أحمد "ابْنُ أبِي عَمْرَةَ فَجَلَسَ إِلَيْه"؛ مِنْ أجل أنْ يستفيد مِنه "فَسَأَلَهُ مَنْ هُوَ فَأَخْبَرَهُ"؛ يعني جنبي في ظلام الليل. "فَقَالَ: مَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ، فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ لَيْلَةٍ"؛ يعني: ثواب مَنْ صلى الْعِشَاء في جماعة. "مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ" في جماعة "فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ لَيْلَةٍ". ففضلُها كما جاء أيضًا في صحيح الإمام مُسلم وعن أبي داوود: أنَّ صلاة الْعِشَاء في جماعة بمنزلة إحياء نصف الليل. فمَنْ صلى الْعِشَاء في جماعة، فكأنّما قام نصف الليل. فإذا صلى الْعِشَاء في جماعة وشهد الصُّبْحَ، فلها ثواب الليل كامل. "وَمَنْ شَهِدَ الصُّبْحَ فَكَأَنَّمَا قَامَ لَيْلَةً"؛ يعني: كاملة. ذكر جماعة مِن أهل العِلم: أنّه أي مع صلاة الْعِشَاء في جماعة؛ فالمعنى: أنّ صلاة الْعِشَاء في جماعة، بنصف الليل، وصلاة الصُّبْح في جماعة، بالنصف الباقي. فإذا صلّى الصُّبْح في جماعة مع الْعِشَاء في جماعة، فكأنّما قام الليل كُلّه.
وجاء في رواية مُسلم وأبي داود والتِرمذي: أنّ سيِّدنا عُثْمَانُ قال له: يا ابن أخي، سَمعت رسول الله ﷺ "مَنْ صلى الْعِشَاء في جماعة، كان كقيام نصف ليلة، ومَنْ صلى الصُّبْح في جماعة، كان كقيام ليلة". جاء في رواية: سمعت الرسول ﷺ يقول: "مَن صلى الْعِشَاء في جماعة، فكأنّما قام نصف الليل. ومَن صلى الصُّبْح في جماعة، فكأنّما صلّى الليل كُلّه". فكان القول الأول مِنَ المُشار إليه: أنّ مُصلي الْعِشَاء في جماعة، مُحيي النّصف الأول مِن الليل. ومَن صلَّى الصُّبْح في جماعة، مُحيي النّصف الآخر. فمُصليهما معًا في جماعة، فكأنّما أحيا الليل كُلّه؛ أوله وآخره. كما جاء في نصٍّ في رواية أبي داود والترمذي، يقول: "مَن صلى الْعِشَاء والفَجر في جماعة، فكأنَّما قام ليْلُة" والمعنى الثاني: أنّ صلاة الصُّبْح باستقلالها ووحدَها، لها ثواب قيام الليل كُلّه. ومُصلي الْعِشَاء، له ثواب قيام نصف الليل. لأنّ جماعة الصُّبْح أشقّ وأصعب على النفس مِنْ جماعة الْعِشَاء. ثُمَّ يتكلم عن إعادة الصَّلاة مع الإمام. والله أعلم.
الفاتحة أنْ يكتُبنا وإيَّاكم في صِدق الإقبال، وكمال القَبول، وصلاح كُلّ حال، ونيل الوصول، وغايات المأمول والسَول، ويجمعنا بسيِّدنا الرَّسول، ويرفعنا به إلى أعلى مراتب القُرب مِنه تعالى، والمعرفة به والصِّدق معه والإخلاص لوجهه الكريم، وشهوده بمرآة حبيبه صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلِّم، ورضوانه الأكبر، ويُعاملنا بفضله بما هو أهلُه، فيما بَطن وظَهر في الدُّنيا والبرزخ ويوم المَحشر ودار الكرامة بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النَّبي محمد ﷺ.
17 صفَر 1442