(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في الساعة التي في يومِ الجُمُعة.
فجر السبت 2 صفر 1442هـ.
باب مَا جَاءَ فِي السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ
292- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: "فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئاً، إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ". وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا.
293- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ إِلَى الطُّورِ، فَلَقِيتُ كَعْبَ الأَحْبَارِ، فَجَلَسْتُ مَعَهُ، فَحَدَّثَنِي عَنِ التَّوْرَاةِ، وَحَدَّثْتُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكَانَ فِيمَا حَدَّثْتُهُ أَنْ قُلْتُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَاتَ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، مِنْ حِينِ تُصْبِحُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، شَفَقاً مِنَ السَّاعَةِ، إِلاَّ الْجِنَّ وَالإِنْسَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئاً إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ". قَالَ كَعْبٌ: ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمٌ. فَقُلْتُ: بَلْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ. فَقَرَأَ كَعْبٌ التَّوْرَاةَ فَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَلَقِيتُ بَصْرَةَ بْنَ أبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِي فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ فَقُلْتُ: مِنَ الطُّورِ، فَقَالَ لَوْ أَدْرَكْتُكَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ مَا خَرَجْتَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "لاَ تُعْمَلُ الْمَطِىُّ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ، إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِلَى مَسْجِدِي هَذَا، وَإِلَى مَسْجِدِ إِيلْيَاءَ، أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ". يَشُكُّ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، ثُمَّ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلاَمٍ فَحَدَّثْتُهُ بِمَجْلِسِي مَعَ كَعْبِ الأَحْبَار، وَمَا حَدَّثْتُهُ بِهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَقُلْتُ: قَالَ كَعْبٌ ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمٌ. قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: كَذَبَ كَعْبٌ. فَقُلْتُ: ثُمَّ قَرَأَ كَعْبٌ التَّوْرَاةَ فَقَالَ: بَلْ هِيَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: صَدَقَ كَعْبٌ، ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: قَدْ عَلِمْتُ أَيَّةَ سَاعَةٍ هِيَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ لَهُ أَخْبِرْنِي بِهَا وَلاَ تَضَنَّ عَلَىَّ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ وَكَيْفَ تَكُونُ آخِرُ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لاَ يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي". وَتِلْكَ السَّاعَةُ سَاعَةٌ لاَ يُصَلَّى فِيهَا؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَم: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ جَلَسَ مَجْلِساً يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ، فَهُوَ فِي صَلاَةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ بَلَى، قَالَ فَهُوَ ذَلِكَ.
الحمدُ لله الذي فضَّل السَّاعات بعضها على بعض، وجعل في العِبادة السُّنة والفرض، وصلى وسلم وبارك وكرَّم على عبده الشَّفيع الأسنى في يوم العرض، سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وأصحابه، وأهل حضرة اقترابه مِنْ أحبابه وآبائه، وإخوانه مِنْ أنبياء الله ورُسُله وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقرَّبين، وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.
ويواصل سيِّدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ذِكر الأحاديث المُتعلقة بيوم الْجُمُعَة، ويذكُر في هذا الباب "باب مَا جَاءَ فِي السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ"؛ أيّ السَّاعة التي أخبر رسول الله ﷺ أنَّها ساعة إجابة. والمُراد؛ إجابةٌ مخصوصة؛ تتوفر فيها الإجابة، وتعظم مِنْ قبل الحقّ، وإنْ كان الدُّعاء مُجاب في عمومه، في أيّ وقت كان وفي أيّ حال، ولكن هناك مَظانٌّ لسُرعة الإجابة، ولعظمة الإجابة، ولتوفير الإجابة، مُتعلقة بالأوقات، ومُتعلقة بالأماكن، ومُتعلقة بالأعمال. فتميّزت بعض السَّاعات عن بعض، كما تميزت بعض الأماكن عن بعض، وتميزت بعض الأيام وبعض الليالي، كما تميزت بعض السَّنوات وبعض القُرون عن بعض. يقول ﷺ: "خيرُ القُرونِ قرني ثُمَّ الذين يلونَهم ثُمَّ الذين يلونَهم …". ومرجع هذا إلى إرادة المُريد -جلَّ جلاله- الخالق البارئ، والطَّريق فيه ما يوحى إلى نبيه ﷺ، فيُنبئنا عن الغيب بهذا التفضيل الذي لا دخلَ فيه لعقلِ أحدٍ، ولا لفعل أحدٍ، ولا لعلم أحدٍ، ولكنَّ الله يُفضّل ما يشاء، كما يشاء. والفضل في الأشخاص والأماكن وفي الشَّهور وفي القُرون واردٌ، وحسبنا الله وما شاء يكون. وهكذا إلى أنْ قال الرَّحمن عن أفضل الخلق إليه -وهم أنبياؤه ورسله-: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ …) [البقرة:253].
"باب مَا جَاءَ فِي السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ"، السَّاعة المخصوصة؛ وهي ساعة أشار في الحديث إلى أنَّها يسيرة. أشار بإصبعه إلى أنَّها قليلة، فوضع إبهامه على أُنملة السَّبابة والوسطى، يُقلل السَّاعة. يقول: "إنَّها ساعة"، حاضًّا على اغتنامها وترقُبها، وتحيُنها في وقتها. وقد اجتمعت الأقوال في تعيين تلك السَّاعة، أيُّ ساعة هي؟ إلى خمسين قولًا، كان أشهر تلك الخمسين، إحدى عشر قولًا، ذكرها الإمام ابن القيم في زاد المعاد. وأظهرُ هذه الأقوال الإحدى عشر، قولان:
فكانت هذه أقوى الأقوال، ومُستندة إلى رواياتٍ وردت في ذكر تلك السَّاعة.
وبذلك تَعرِف اختلاف الأقاويل، كما تَعرِف اهتمام الصَّحابة بالعشيَّة على وجه العموم، وما جاء عن السيِّدة فاطمة مِنْ اعتكافها -عليها رضوان الله- بعد صلاة العَصر في يوم الْجُمُعَة إلى الغروب، حتَّى سُميت تلك السَّاعة بالسَّاعة الفاطمية، لشدة اعتناء سيِّدتنا فاطمة بهذه السَّاعة، مُتضرّعةً، مُبتهلةً، مُتوجهةً إلى الحقّ -جلَّ جلاله-. ولا شكّ أنَّها البَضعة منه، تقوم بذلك بإرشاداتٍ وإشاراتٍ وتعليماتٍ منه ﷺ، وما استفادته مِنْ دلالة أبيها الكريم عليه أفضل الصَّلاة وأزكى التَّسليم.
فينبغي للإنسان في عُمره، أنْ يتحيّن ساعات الفضل والإحسان والعطاء والإجابة، مع تعميم ما يستطيعه مِنْ وقت، في حُسن توجّهٍ وتبتلٍ إلى الرَّحمن -جلَّ جلاله-. فإنَّه وبعدَ ما عُيِّن مِنْ أوقاتٍ فضيلةٍ والسَّاعاتٍ التي ينبغي للمؤمن أنْ يحرص عليها، أُخبر أنَّ لله نفحاتٍ، لا يُدرى وقتُها أبدًا، وأنَّها تأتيك في أي حالٍ، وفي أي ساعة، وفي أي وقتٍ، فعليك أنْ تكون مُستعدًا، في مُختلف السَّاعات، ولاتدري ما يُفاجئك مِنْ إفضال ربك إذا أقبلت عليه -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-. وكان ذلك مِنْ حكمة إخفائها، أنْ يبقى في كل ما يقدر على الانتباه له، والاستعداد فيه مِنَ السَّاعات، أنْ يعمُر كُلّ تلك الساعات، فيستفيد ولا يخسر، وُيدرك ما يُدرك مِنَ الجزاء الأوفر. وردّوا قول مَنْ قال: أنَّها رُفعت. بل هي باقيةٌ في كل جُمْعةٍ. وعندنا في الحديث: أنَّ كَعْبَ الأَحْبَارِ -العالم الذي أسلم، وكان عالمًا بالتَّوْرَاةِ- سار إلى ذهنه أنَّها يومًا في السَّنة. فقال له أَبُو هُرَيْرَةَ: لا، فردَّ عليه. فقام إلى التوراة، فقال: صدق رسول الله ﷺ، إنَّها في كُلّ جُمُعةٍ لهذه الأُمة التي هُديت إلى يوم الْجُمُعَة، وقد ضلَّ عنها الأُمم قبلها.
"باب مَا جَاءَ فِي السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ". "عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: "فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي"، في هذه الرواية "يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئاً، إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا"؛ أيّ ساعةٌ يسيرةٌ، يُستجاب فيها الدُّعاء استجابةً خاصة.
فتأتي الأقوال الإحدى عشر المُشتهرة، ما بين أنَّها:
فهذه الإحدى عشر القول التي أشار إليها ابن القيم، أشهرها كُلّها، القولان في أنَّها:
يُحدِّثُنا: "عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: فيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا"؛ أي: يُصادفها "عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّه شَيْئاً، إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ". كما جاء في الروايات في هذه وفي غيرها، مِنْ سؤال الحق -تبارك وتعالى- في روايات "خيرًا"، وفي روايات، "ثُمَّ لم يدعُ بإثُمَّ، أو قطيعة رَحم" إلى غير ذلك مِنَ القُيود التي يُتجنب بها التهور بالدُّعاء على غير بصيرة. "إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ" سبحانه وتعالى. "وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِهِ" الشَّريفة "يُقَلِّلُهَا"؛ وهي أنَّها ساعة لطيفة، قليلة، ليست مُمتدة كثيرًا، يُحرِّض على اغتنامها بما استطاع المؤمن.
وأورد لنا الحديث بعد ذلك، "عَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ إِلَى الطُّورِ"؛ وهو الجبل الذي كلَّم الله تعالى عليه موسى. فذهب قاصدًا إيّاه، لمَا خصّه الله به مِنْ تكليم الكليم. قصدُ الأماكنِ التي حصلت فيها التَّجليات الرّبانية بالخير، أمرٌ مشروعٌ، دلَّ عليه فعلُه ﷺ. ودلَّ عليه حديثُ ليلة الإسراء في تتبُّعهِ للأماكن وصلاتِه فيها، لأنَّه حصل فيها خير، إلى حدّ ما صح في الحديث، أنَّه قصد المكان الذي ولد فيه عيسى بن مريم، وأوقفه جبريل، وقال: "صلِّ هَهُنا". فقصد الأماكن التي حصل فيها خيرٌ وتجلٍ، مشروعٌ ومسنونٌ، ولِذا قالوا : إنَّ اعتراض مَنْ اعترض على أبي هريرة، راجعٌ إلى رأيه، ومردودٌ عليه، تأباه النُّصوص الواردة في قصد الأماكن الصَّالحة للصَّلاة فيها، ومِنْ أجل الدُّعاء فيها، وما إلى ذلك. وقد مرَّ ﷺ ليلة الإسراء والمعراج، على عدد من تلك الأماكن:
يقول: "خَرَجْتُ إِلَى الطُّورِ، فَلَقِيتُ كَعْبَ الأَحْبَارِ"، كعب بن ماتع "جَلَسْتُ مَعَهُ، فَحَدَّثَنِي عَنِ التَّوْرَاةِ"؛ أي: بما بقيَ فيها، مما لم يُحرَّف؛ علامته: موافقته للقرآن وحديث المُصطفى ﷺ. فحدثته عن النَّبي ﷺ، أيّ حدثت كعب، فكان فيما حدثته، وفيه تذاكرُ الصَّحابة في العلم، وجلوسهم على تذكرهم ما كان مِنْ خبر النَّبي ﷺ، وما بلَّغه عن الله. قال مِنْ جُملة ما حدثته، ودار بيني وبينه الكلام فيه أنْ قلت، قال رسول الله ﷺ: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، يَوْمُ الْجُمُعَةِ"؛ ففيه تفضيل يوم الْجُمُعَة على ما عداه مِنَ الأيام. ثُمَّ ذكر حيثيات الفضيلة :
○ فيه خُلِق آدم.
○ وفيه أُهبِط مِنَ الجنَّة.
○ وفيه تيبَ عليه.
○ وفيه مات.
فذكر حوادث لسيِّدنا آدم أبي البشر -عليه السَّلام- مُرتبطة بيوم الْجُمُعَة، مُشيرًا إلى أنَّ اليوم اكتسب أفضليةً، ومكانةً خاصة. وفيه كما أنَّ الأحداث والتَّجليات تؤثر على الأماكن في فضلها، فهي تؤثر على الأيام وعلى الليالي كذلك. فإذا حصلت مِنةٌ كبيرةٌ، في ليلةٍ مخصوصةٍ، فلتلك الليلة ولذكراها في كل أسبوعٍ، معنى مِنْ حُسنِ التعرُّضِ لنفحاتِ الله جلَّ جلاله.
فذكر في أفضلية يوم الْجُمُعَة:
○ وذكر الإمام السيوطي في الدُّر المنثور وغيره عدد مِنَ الروايات على أنَّ هُبوط آدم -عليه السَّلام- إلى الأرض، كان في أرض الهند.
○ ويُذكر أنَّ هبوط حواء -عليها السَّلام- كان بفي جدة.
○ ويُذكر كما ذكر صاحب تاريخ الخميس عن معالم التنزيل: أنَّ هبوط إبليس كان بمنطقة يُقال لها آيلة.
وحواء بجدة، وآدم بسرنديب، وهذا الذي يوجد الآن مِنْ أرض الهند، في منطقة ما يُسمى الآن بسريلانكا. ولم يزل فيه أثر قدم آدم -عليه السَّلام- مغموسة في رأس ذلك الجبل، ويحتوي عليها اليوم البوذيون، ويغطونها، ويتردّد إليها أنواع السَّائحين، ويتكلفون صعودًا في جبلٍ عالٍ، يصعُب الوصول إليه، يقال: أنَّه الذي هبط فيه آدم عليه السَّلام.
وقيل: إلا أربعين سنة مِنَ الألف، وهي التي وهبها إلى نبي الله داود -عليه السَّلام- لمَّا رأى أعمار الأنبياء مِنْ ذُريته، فرأى عمره يسير، ستين سنة، قال أعطه أربعين مِنْ عُمري. ثُمَّ لما جاءه ملك الموت، قال: بقي أربعين! قال: إنك قد وهبتها لداود، وكان نسي آدم عليه السَّلام. ثُمَّ يُقال: أنَّ الله أطال عمر داود في الدنيا، وردَّ على آدم ما وهبه، ثُمَّ توفي -عليه السَّلام- في يوم الْجُمُعَة، ويُقال: أنَّه مرض، وكان مُدة مرضه إحدى عشر يوم، ووصيُّه مِنْ أولاده سيِّدُنا شيث -عليه السَّلام- والذي لما حملت به حواء، انتقل نور كان يُرى مخصوصًا في جبهة آدم -عليه السَّلام- إلى حواء. فلمَّا ولدت بشيث، سطع على جبهة شيث ابن آدم. وكانت إشارة إلى مكانة المُصطفى مُحمَّد ﷺ، وتنقّل نوره في جباه آبائه وأمهاته، وهكذا حتى أنَّ بعض أجداده بينه وبين عدنان، يسمع نشيشًا وتلبيةً في صُلبه عندما يُحرم بالحج. وكان يلوح على وجوههم، وينتقل إلى مَنْ اختاره الله من جُملة أبنائهم وأولادهم، حتى استقرّ وبرز واضحًا في جبهة عبد المُطلب، ولم يزل يلوح على الجبهة أثر مِنْ نور مُتميز، حتى ولد عبد الله. ولمَّا حملت فاطمة بنت عمرو بعبد الله، انتقل إليها. فلمَّا ولدته، لاح أوضح في جبهة عبد الله بن عبد المطلب. حتى حملت آمنة مِنْ عبد الله، فانتقل النّور إلى جبهة آمنة، حتى وضعت النّور المُبين ﷺ.
ويقول: وأنَّه توفي بمكة في يوم الْجُمُعَة، وصلى عليه جبريل، واقتدى به ملائكة، والموجودون مِنْ أولاد آدم عليه السَّلام. وجاء في رواية: أنَّه صلى عليه شيث بأمر جبرائيل. وهذا هو الأظهر، لأنَّ التكليف منوطٌ بالآدميين على ظهر الأرض. وما جعل الله حضور الملائكة معنا إلا مُشاركةً في أعمالنا، وهي منوطة بنا، وما يؤمّون أحد منّا في صلواتنا، وإذا حضروا شيء مِنْ صلوات الفرائض، كما تحضرها ملائكة الليل والنَّهار، يجتمعون في الفجر، ويجتمعون في العَصر، كما يحضرون صلوات التراويح، وفي ليلة القدر، كثير منهم يحضرون صلاة التراويح، ولكن الإمامة للآدميين، ما أحد منهم يؤم. جعل الله التَّكليف منوطًا بهم. ولهذا يكون الرواية الأصح أنَّ الذي صلى على آدم ولدُه شيث، مع حضور جبريل، ولكن ما كان هو الإمام في الصَّلاة، لأن تكليفات شرف الخلافة أُنيطت بآدم وبنيه -بني آدم-. فهم يتقدمون فيها، بأمر الحقّ -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-. وهكذا، عن أبينا آدم عليه السَّلام
○ وحتى يُقال: أنه دفن بمكة.
○ ويُقال: بِغار أبي قبيس.
○ ويُقال: عند مسجد الخيف.
○ ويُقال: في أماكن أُخر.
○ ويُقال: أنَّه أمام الكعبة الشَّريفة، مِنْ جهة بابها.
وكان طوله ستون ذراعًا، وعرضه سبعة أذرع. وقيل: بغير مكة مِنَ الأماكن.
ولهذا يقول: أنَُ الحق تعالى نشر علم قيام السَّاعة عند الدواب. والدواب في يوم الْجُمُعَة لها إصاخة؛ أيّ: لها استماع، تصغي، تُخشى أنَّه السَّاعة التي تقوم فيها السَّاعة، ويُنفخ فيها في الصُّور، وتهلك. فهي "مُصِيخَةٌ"؛ يعني مُستمعة، مُصغية بآذانها في "يَوْمَ الْجُمُعَةِ"، إلا الآدمي والجنُي، بني آدم والجنّ هؤلاء ما عندهم تعظيم لأمر السَّاعة، ولا يستشعرون الشعور الذي يشعر به البهائم مِنْ دونهم يوم الْجُمُعَة! قال: "إِلاَّ وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، مِنْ حِينِ تُصْبِحُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، شَفَقاً مِنَ السَّاعَةِ". فإذا طلعت الشَّمس، عرفت الدواب أنَّه ليس هذا اليوم الذي تقوم السَّاعة. "إِلاَّ الْجِنَّ وَالإِنْسَ"، ما يُلهمون هذه المخافة والخشية والاستعداد، كما تُلهم الدواب! "وَفِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئاً إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ". هو حديث سيِّدنا أبي هريرة، لكعب يذكره عن الرسول ﷺ . "قَالَ كَعْبٌ: ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمٌ. فَقُلْتُ: بَلْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ". فرجع راجع ذاكرته، ومحفوظه -سيِّدنا كعب الأحبار- وذهب الى التوراة، فتأملها، "فَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ"، هو في كُلّ جُمُعَة.
"قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَلَقِيتُ بَصْرَةَ بْنَ أبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِي فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ فَقُلْتُ: مِنَ الطُّورِ، فَقَالَ لَوْ أَدْرَكْتُكَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ مَا خَرَجْتَ"، قال ﷺ: "لاَ تُعْمَلُ الْمَطِىُّ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ". قال: فكان هذا فهم بَصْرَةَ بْنَ أبِي بَصْرَةَ، يردّه عليه أَبُو هُرَيْرَةَ، وكعب الأحبار، وغيرهم مِنَ الصَّحابة، وهو الذي ثبت في السُّنة، وأنَّه لا تعارُض بينه وبين ما جاء في الحديث، فإنَّه مخصوصٌ بشؤون المساجد، والنَذر في الصَّلاة فيها، وأنَّها تلزم في المساجد الثلاثة دون سواها، ولا يتعلق بحُكم شدّ الرحال إلى أي موطنٍ لعمل خيرٍ أو مباح، وإنَّما يُبيّن فضل المساجد الثلاثة على ما سواها مِنَ المساجد. كيف وقد صحّ شدّ رحله ﷺ إلى مسجد أيضًا، وهو داخل في خصوص ما ذكر مِنَ المساجد غير المساجد الثلاثة، مِنْ زيارته إلى مسجد قُباء، وشدّ رَحله إلى مُختلف الأماكن، في غزواته ﷺ. وكان صحبه بين يديه يشدون رحالهم لمختلف الأغراض، ويُسافرون في أقطار البلاد، ولا أحد منهم يجول في باله أنَّه لا تُشد الرحال كما يروق لبعض النَّاس أنْ يرددها، لكن فقط عند وجود حساسية مِنْ شيء، إذا وجدت حساسية، إذا أحد يزور، أو يقرأ مولد، يقول لا تُشد الرحال! لكن إذا لا يوجد مولد، ولا زيارة، شد الرحال كما شئت، إلى أي بقعة تبغي في الأرض، هذا مفهوم غريب!! لا يدُل عليه منطوق الحديث، ولا مفهومه! ولا يدُل عليه السُّنْة الغراء، ولا مسلك الصَّالحين والأكابر على مدى القرون وعموم الأمة. لذا يقول ابن بطال: إنما هذا الحديث، فيمَنْ نذر على نفسه الصَّلاة في مسجدٍ مِن سائر المساجد غير المساجد الثلاثة، فلا يلزمه أنْ يرحل إليه، ويعمل المُطي إليه، إلا إنْ نذر أنْ يصلي في بيت المقدس أو في المسجد النَّبوي أو في المسجد الحرام بمكة، فيجب عليه أنْ يفي بنذره، وأنْ يسافر، وأنْ يشد الرحل إليه. ما عدا ذلك، فلو نذر أنْ يُصلي في المسجد الفلاني، أو أنْ يعتكف في المسجد الفلاني، فيكفيه أنْ يعتكف في أي مسجدٍ آخر ويصلي في أي مسجدٍ آخر، إلا المساجد الثلاث، لمكانها، وحُرمتها، فلا بُدَّ من شدّ المُطي إليها إذا نذر ذلك؛ هذا معنى الحديث.
ويذكر الإمام الشَّوكاني في المُناسبة، عند ذكر هذا الحديث، وتشدّق بعض النَّاس به، فيقول: عن زيارة قبر النَّبي ﷺ يقول:
وهكذا كان نظر أئمة الأُمة على مدى القرون إلى معنى الحديث، ومعرفة قدر صاحبه ﷺ. "إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِلَى مَسْجِدِي هَذَا، وَإِلَى مَسْجِدِ إِيلْيَاءَ" وهو "بَيْتِ الْمَقْدِسِ".
"قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، ثُمَّ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلاَمٍ" فجلس معه مجلس. وحديث الصَّحابة هو هذا؛ كان حديثهم في وسائل تواصلهم الاجتماعي بما قال الله ورسوله. ما عندهم خربطة، ولا كُلّ ما أحد جاء لهم بكلامٍ، شغلهم به، سياسي، أو لعب، أو اجتماعي، أو فكري، يذهبون وراهم.. يخبطون ويخلّطون! عندهم ميزان، وعندهم مرجعية؛ وحي الرَّحمن وكلام سيِّد الأكوان. هذا الذي يتحدّثون نحوه، ويتحدثون فيه، ويحدثون به، ويتحدثون عنه -عليهم رضوان الله-. وهكذا يجب أنْ يكون المُسلم. وحصَّل سيِّدنا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلاَمٍ قعد يتحدث هو وإياه، تحدثت "بِمَجْلِسِي مَعَ كَعْبِ الأَحْبَار"، وأخذ يذكر له ما دار بينه وبينه مِنْ حديث، إلى أن جاء إلى حديث الْجُمُعَة، "فَقُلْتُ: قَالَ كَعْبٌ ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمٌ." سيِّدنا عبد الله بن سلام مُستحضر الحديث، ومُستحضر ما في التَّوراة، "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: كَذَبَ كَعْبٌ. فَقُلْتُ: ثُمَّ قَرَأَ كَعْبٌ التَّوْرَاةَ فَقَالَ: بَلْ هِيَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: صَدَقَ كَعْبٌ". هكذا كلام التَّوراة، وهو مُستحضر التَّوراة، ومُستحضر حديث النبي ﷺ سيِّدنا عبد الله بن سلام مِنْ علماء المُسلمين، بعد أنْ كان مِنْ عُلماء اليهود، عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
يقول سيِّدنا "عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: قَدْ عَلِمْتُ أَيَّةَ سَاعَةٍ هِيَ" وأبو هريرة ليس عنده خبر في تعيينها، " قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ لَهُ أَخْبِرْنِي بِهَا وَلاَ تَضَنَّ" تبخل "عَلَىَّ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ،" علِمنا أنَُ ذلك قول أكثر الصَّحابة. "قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ وَكَيْفَ تَكُونُ آخِرُ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لاَ يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي". وَتِلْكَ السَّاعَةُ سَاعَةٌ لاَ يُصَلَّى فِيهَا؟" ففيه فقه سيِّدنا عبد الله بن سلام في الشَّريعة، مِنْ خلال جلوسه مع النَّبي ﷺ "فَقَالَ له: "أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ جَلَسَ مَجْلِساً يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ، فَهُوَ فِي صَلاَةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ بَلَى، قَالَ فَهُوَ ذَلِكَ." ليس المُراد قائم: يُصلي قائم واقف في الصَّلاة، كما قال في بعض أهل الكتاب: (..وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا..) ليس واقف بجانبه بل يعني متابع له. وهكذا، قائم يصلي يعني: مُقبل على الصَّلاة، وهذا يأتي من أجل القولين، الذين هما الأرجح في الأقوال:
○ وقت الخُطْبَة. وهو ليس بوقت صلاة.
○ والثاني، آخر العشية. وآخر العشية ليس بوقت صلاة.
لكنه في الخُطْبَة ينتظر الصَّلاة، ومُعتكف في العشية، مُنتظر للصَّلاة. ومُنتظر الصَّلاة في صلاة. وقيل: المُراد بالصَّلاة الدُّعاء، "يَسْأَلُ اللَّهَ"؛ يعني: يدعو الله، و"يُصَلِّي"؛ يعني: يدعو الله سبحانه وتعالى.
ثُمَّ ينتقل بنا إلى آداب الْجُمُعَة، والنهي عن تخطّي الرقاب، واستقبال الإمام، إلى غير ذلك مِنَ الآداب، وإنَّما يعظُم الثَّواب، بحُسن الآداب، وتُدرَك أسرار وحِكم العبادات، بحُسن الأدب فيها. وما نال حقائق الاقتراب مَنْ أضاع الآداب، ولذا إذا شئت تبتغي السَّلامة، تأدب، تأدب، تأدب. الله يرزقنا حُسن الأدب، ويرفعنا عليَّ الرُتب، ويتولانا في الدُّنيا والمُنقلب، ويقبلنا وأحبابنا، ويرزقنا صرف أعمارنا فيما به نكسب المراتب، ونكسب المواهب، ونكسب عليَّ المقامات، والدَّرجات العُلى، مع خيار الملأ. اللهم واحفظنا وسلّمنا مِنْ هدر الأعمار، وإضاعتها في غير ما هو أحب إليك وإلى رسولك، وأرضى لك ولرسولك، وأحظى لنا عندك وعند رسولك، وأنفع لعبادك، برحمتك يا أرحم الرَّاحمين. بسرِّ الفاتحة وإلى حضرة النَّبي ﷺ.
03 صفَر 1442