(339)
(610)
(388)
(535)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب السَّلاَمِ، باب جامع السَّلاَم.
فجر السبت 12 شعبان 1444هـ.
باب جامع السَّلاَمِ
2784- حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بنِ عَبْدِ اللهِ بن أبي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيل بن أبي طَالِبٍ، عَنْ أبِي وَاقِدِ اللَّيْثِيُّ: أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ نَفَرُ ثَلَاثَةً، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُول الله ﷺ، وَذَهَبَ وَاحِدٌ، فَلَمَّا وَقَفَا عَلَى رَسُول الله ﷺ سَلَّمَا، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثَ فَأَدْبَرَ ذَاهِباً، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ الله ﷺ قَالَ: "أَلاَ أَخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاثَةِ: أما أحَدُهُمْ فَأوَى إِلَى اللهِ فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وَأمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ".
2785- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكِ، عَنْ إِسْحَاقَ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكِ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَابِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ، ثُمَّ سَألَ عُمَرُ الرَّجُلَ: كَيْفَ أنْتَ؟ فَقَالَ: أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهُ فَقَالَ عُمَرُ: ذَلِكَ الَّذِي أَرَدْتُ مِنْكَ.
2786- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ الطفَيلَ بْنَ أَبَيَّ بنِ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَيَغْدُو مَعَهُ إلى السُّوقِ. قَالَ: فَإِذَا غَدَوْنَا إِلَى السُّوقِ لَمْ يَمُر عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى سَقَاطِ وَلَا صَاحِبِ بَيعَةٍ وَلا مِسْكِينِ وَلا أَحَدٍ إِلا سَلَّمَ عَلَيْهِ، قَالَ الطُفَيلُ: فجِئْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْماً فَاسْتَتَبَعَنِي إِلَى السُّوقِ، فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا تَصْنَعُ فِي السُّوقِ، وَأَنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى الْبَيْعِ، وَلا تَسْأَلُ عَنِ السَّلَعِ، وَلَا تَسُومُ بِهَا، وَلَا تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوق؟ قَالَ: وَأقُولُ: اجلس بِنَا هَا هُنَا نَتَحَدَّثُ. قَالَ: فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: يَا أَبَا بَطن -وَكَانَ الظُّفَيلُ ذَا بَطْن- إِنَّمَا نَغْدُو مِنْ أَجْلِ السَّلامِ، نُسَلَّمْ عَلَى مَنْ لَقِينَا.
2787- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ رَجُلاً سَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَالْغَادِيَاتُ وَالرَّائِحَاتُ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: وَعَلَيْكَ أَلْفاً. ثُمَّ كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ.
2788- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: إِذَا دُخِلَ الْبَيْتُ غَيْرُ الْمَسْكُون يُقَالَ: السّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ.
الحمد لله الذي أنعم علينا بشريعته والأحكام، وبيانها على لسان خير الأنام، عبده المُصطفى مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه أفضل الصَّلاة وأنمى البركة وأزكى السَّلام، وعلى آله الأعلام وصحبه الكرام، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم القيام، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين أهل المراتب العظام، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقربين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
يذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- "باب جامع السلام" إذ أورد أحاديث متفرّقة فيما يتعلّق بالسلام وأحكامه ومكانته في الإسلام.
فذكر لنا هذا الحديث: "عَنْ أبِي وَاقِدِ اللَّيْثِيُّ: أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ نَفَرُ ثَلَاثَةً" من ناحيته، من ناحية المسجد، ومرّوا فدخلوا والنَّبي ﷺ في المسجد مع جماعة من أصحابه، "فَأَقْبَلَ اثْنَانِ" منهم "إِلَى رَسُول الله ﷺ، وَذَهَبَ وَاحِدٌ" منهم إلى مقصده، ولم يعر بالًا للجلسة مع النَّبي ﷺ والحضور في هذا الدرس معه عليه الصَّلاة والسَّلام. "فَلَمَّا وَقَفَا عَلَى رَسُول الله ﷺ"؛ يعني: مجلس النَّبي ﷺ "سَلَّمَا"، ففي السَّلام على أهل الدرس أو الجالسين للعلم، ويأتي في هذا اختلاف الأحكام فيمَن كان مشتغلًا بقراءة قرآن أو دعاء أو ذكر أو أيضًا بتعليم أو تدريس وما إلى ذلك.
فإذا مرّ بقارئ للقرآن ومسبحٍ وغير ذلك
هكذا يقولون: إذا سلّم عليهم مُسلِّم؛ وجب عليه الرد. ما دام شعر بسلامه وسمعه، يجب عليه الرد؛ يقطع القراءة ويستعيذ ثاني مرة، ويرجع إلى قراءته.
والمنشغل بالذكر والدعاء، يقول الإمام النووي: الأظهر إن كان مستغرقًا بالدعاء مُجمَع القلب عليه؛ فالسلام عليه مكروه للمشقة التي تلحقه من الرد، وتقطعه عن الاستغراق في الدعاء وفي الذكر. قال: هذه أكثر من المشقة التي تلحق الآكل إذا سُلِّم عليه. فقطع ذلك عن أكله، أهون من قطع هذا عن استغراقه في الحضور مع الله جلّ جلاله وتعالى في عُلاه.
وكما نكون مشتغلين بالأذكار في وقت المصافحة بعد صلاة الصّبح، فيجيء واحد يقول: السَّلام عليكم، السَّلام عليكم. اذكر ربك وخلِّ النَّاس في ذكرهم، واطلب نصيب من الاستغراق بالذكر.. إذا سلَّمت على كل واحد منهم، خلاص وقفنا الأذكار وسكتنا لتسلم على كل من تصافحه، فما يكون هناك سُنية السلام في مثل هذا الموطن.
○ وإذا سلّم واللقمة في فمه؛ لم يستحق الجواب.
○ أما إذا سلّم بعد البلع أو قبل وضع اللقمة في الفم؛ فحينئذ يمكن أن يسلَّم عليه، ويجب عليه في هذه الحالة رد السَّلام.
كذلك مَن كان مشتغلًا بقضاء حاجة الإنسان أو في الحمام المعدّ للغُسل مخصوص. وكذلك من كان نائمًا أو كان غائبًا خلف جدار ونحوه ما يشوفه؛ يرفع صوته، السَّلام عليكم، في وقت تكلمه وتدخل عليه وهو مستور عنك وراء جدار ثانٍ وترفع صوتك بالسَّلام عليه، غلط. قالوا: حكمه هو الكراهة. ومَن سلّم على هؤلاء، من قاضي الحاجة أو من كان مشغولًا بالغُسل في الحمام أو النائم أو المخفي وراء جدار، لم يستحق الجواب.
وقد جاء عن ابن عُمَر، أن رجلًا مرّ ورسول الله ﷺ يبول -يقضي حاجته-، فسلَّم، فلم يرد عليه، أخرجه مُسلم؛ ما يستحق الرد في مثل هذه الحالة. وجاء في رواية عند ابن ماجه، يقول له: "إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلِّم عليَّ، فإنك إن فعلت ذلك لم أرد عليك". إذًا؛ هذا هو قاضي الحاجة، ومن ذكرنا في محل الغُسل أو قضاء الحاجة؛ يُكره أن يرد. لقوله ﷺ: "لم أرد عليك". وأما مَن كان في محل الغُسل هذا الحمام، فقال الإمام النووي: يرد عليه، يرد السَّلام، عليه رد السَّلام.
فهؤلاء الاثنان الذين وقفا على رسول الله ﷺ سلّموا على الجمع، ففيه: بيان مشروعية رد السَّلام إذا سلّم عليهم، وينبغي أن يكون ذلك إذا سلّم بصوت منخفض يسمع من بجانبه حتى لا يقطع على الناس درسهم واستماعهم للدرس. والصيغة: السَّلام عليكم، بالتعريف وبالجمع، ولو كان المسلَّم عليه اثنان أو واحد. هل يقول السَّلام عليكما أو السلام عليك؟ لا، بل يقول السلام عليكم لأن كل واحد معه حفظة من الملائكة ورقيب وعتيد، يسلِّم عليهم كلهم. يسلِّم عليه وحده والملائكة ما يسلِّم عليهم. لماذا؟ أيش بينك وبين ملائكة الله ياهذا؟ سلّم على الكل.. لا يوجد آدمي يمشي وحده، فالآدمي معه ملائكة يمشون، وحفظة يتعاقبون عليه في الليل والنهار. فإن كان واحد، يقول: السَّلام عليكم بالجمع، السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ويجوز أن يقول: سلامٌ عليكم لكن التعريف أفضل؛ السَّلام عليكم. ويقول: هذه تحية أهل الدُّنيا.
أما أهل الجنَّة: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد 23-24]. إذًا؛ الأكمل أن يقول: السَّلام عليكم. لو قال: عليكم السَّلام، فهذا كان مخالف للأولى، مخالف للأفضل والأكمل. فيدخل عندنا يقول: عليكم السَّلام، قول السَّلام عليكم أفضل، وإن كان هذا مجزئ، ويجب علينا أن نرد عليك.
يقول سيِّدنا جابر: لقيت رسول الله ﷺ فقلت: عليك السَّلام يا رسول الله. قال: "لا تقل عليك السَّلام، فإن عليك السَّلام تحية الميت، قل: السَّلام عليك"، هكذا جاء في رواية أبي داود. رواه الترمذي أيضًا وقال حديث صحيح. قالوا: لأن عادة العرب يقدمون اسم المدعو عليه في الشر، مثل قولهم: عليه اللعنة، عليه الغضب… يقدمونه، فنهاهم عن ذلك، عندما يقولون عليك السَّلام. "قل: السَّلام عليك". وفي قوله للموتى من جهة الجواز وإلا قد ورد وصح في الحديث قوله: "السَّلام عليكم دار قوم مؤمنين" وليس "عليكم السَّلام"، قال: "السَّلام عليكم دار قوم مؤمنين".
إذًا؛
وقيل: أنه إذا المُحيي المبتدئ جاء بالثلاث، فيزيد المحيا كما تقدَّم معنا حديث ابن عُمَر، يقول سالم مولى عبد الله بن عُمًر: أتيته فقلت: السَّلام عليكم، قال: السَّلام عليكم ورحمة الله. قلت: السَّلام عليكم ورحمة الله، قال: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قلت: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قال: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته وطيب صلواته. من أجل ردوا بأحسن منها، (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا) [النساء:86]، جابها الثلاث كلها؛ فزاده. والجمهور قالوا: إذا استكمل الثلاث، يرد عليه بالثلاث.
والأفضل أن يقول وعليكم السَّلام في الجواب، وعليكم السَّلام. وإذا قال: سلامٌ عليكم، صح لكن خلاف الأفضل وخلاف الأولى والأكمل وتنتهي إلى البركة كما سمعنا.
ويُستحب السلام أيضًا عند دخول بيت ومسجد وإن لم يكن فيه أحد، لقول الله تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) [النور:61]، فإذا دخل بيته، يسلم. وإن لم يكن فيه أحد، يقول: السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين. وكذلك إذا دخل مسجد ما فيه أحد من الآدميين، مليء بالملائكة، يُسلّم يقول: السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين، السَّلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، (فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ).
يقول: إن هذان الاثنان اللذان أقبلا على رسول الله ﷺ سلّما عليه. وقد جاء في الروايات، أن أحدهما جلس وسط الحلقة والثاني خلفهم.
يقول: "فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا"، إذًا؛ فالمستحب في مجالس العلم التحليق إذًا. "فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ"؛ خلف الحلقة لأنه رأى ما عاد له مكان أو استحى أن يتخطى ليصل إلى فُرجة، والذي يظهر أنه كانت فرجة واحدة دخل إليها الأول والثاني جلس وراءهم. "وَأَمَّا الثَّالِثَ فَأَدْبَرَ"؛ يعني: ولّى "ذَاهِباً"؛ مستمرًا في ذهابه. "فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ الله ﷺ"، مما كان مشتغلًا به من تعليم القرآن والعلم والذكر، قال ﷺ: "أَلاَ أَخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاثَةِ"؛ أما ظاهر فعلهم فقد رأوه ولكن يخبرهم عن ما لهم عند الله -تبارك وتعالى- والجزاء على فعلهم ومقاصدهم التي خفيت. "أما أحَدُهُمْ فَأوَى إِلَى اللهِ"؛ أي: لجأ، أوى إلى الله تعالى "فَآوَاهُ اللهُ" تعالى، قال تعالى: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) [الكهف:10]. وآواه الله -تبارك وتعالى-، قال: (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) [المؤمنون:50]. "فَآوَاهُ اللهُ"؛ أي: ضمَّه إلى مجلس رسوله ﷺ، جازاه نظير فعله، فضمَّه إلى رحمته وإلى فضله وإلى إحسانه، وتولى شأنه -جل جلاله- إذ أوى إلى الله. وقال أيضًا القسطلاني في شرح البخاري: يؤويه يوم القيامة إلى ظل عرشه. قد آواه الله، خلاص، أدخله في كنف رحمته في الدُّنيا والآخرة، ومنه ما يرجع إلى ظل العرش وما إلى ذلك، فآواه الله. يقول: هذا أيضًا من باب المجاز لأن نسبة الإيواء إلى الله تعالى مجاز لاستحالته في حقه تعالى؛ لأن الإنزال معه في مكان حسي وهذا ما يكون، فالمراد لازمه، وهذا الذي يسمى مجاز المشاكلة والمقابلة.
قال: "فَأوَى إِلَى اللهِ" قال: "فَآوَاهُ اللهُ". "فَآوَاهُ"؛ يعني قبله وأدخله في كنف رحمته. وقال لنبيه: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ) [الضحى:6]؛ يعني: عنايته الخاصة التي لم تكن لأحد قبله ولا تكون لأحد بعده.
ففيه:
قال: "وَأَمَّا الْآخَرُ"؛ يعني الثاني، فالآخر غير من قبله، ولا يشترط أن يكون الأخير. الأخير يقال الآخِر، أما الآخَر فيستعمل في الأخير وفي ما قبل الأخير وفي ما قبل ما قبل الأخير، يستعمل آخَر آخَر آخَر، وآخِر واحد يقال: آخِر بكسر الخاء. أما الآخَر؛ فغير من تقدم، ولا يشترط أن يكون الأخير. هذا الثاني، هذا الآخَر، باقي ثالث بعده هو الأخير. وأما الثاني "فَاسْتَحْيَا"؛ يعني ترك المزاحمة كما فعل رفيقه حياءً من النَّبي ﷺ وممَن حضر. وجاء فيما يذكر سيِّدنا أنس بن مالك أنه استحيا أن يذهب إلى حاجته ورسول الله ﷺ يُعلِّم الناس والناس جلوس حوله، فاستحيا أن يذهب وجلس. ففسر سيِّدنا أنس أنه ما استحيا أن يدخل وسط الجلسة أو يزاحم لكن استحيا أن يذهب ويترك النَّبي ﷺ، فجلس. فما أراد أن يفعل ما فعل رفيقه غير المستحي الذي راح. قال: فكان الجزاء "فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ"؛ يعني: رحمه ودفع عنه العذاب والعِتاب؛ يعني قالوا: استحيا منه؛ أي: ترك عقوبته على ذنوبه، وأن من استحيا الله منه لم يعذبه.
"وَأَمَّا الْآخِرُ"، وفي لفظ: "الآخَر"، وهو الثالث هذا هو الآخَر وهو الأخير كذلك، "فَأَعْرَضَ" عن مجلس رسول الله ﷺ وأدبر ذاهباً، "فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ"؛ يعني: جازاه بأن سخط عليه. فهكذا قالوا: محمول على من ذهب معرضًا، لا لعذر.
جاء في رواية، "فاستغنى فاستغنى الله عنه". في هذا جواز الإخبار عن أهل المعاصي وأحوالهم للزجر عنها، فلا يعد ذلك من الغيبة. ولذا قال ابن عبد البر: يحتمل أنه منافق إذ لا يعرض غالبًا عن مجلسه ﷺ بغير عذر إلا منافق، ويؤكد ذلك قوله: "فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ".
ثم ذكر لنا حديث سيِّدنا عُمَرَ بْنَ الْخَطَابِ -رضي الله تعالى عنه- أنه؛ أي أنس سمع رجلًا سلّم على عُمَر بن الخطاب "وَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ، ثُمَّ سَألَ عُمَرُ الرَّجُلَ" عن حاله قال: "كَيْفَ أنْتَ؟" على سبيل التأنيس وحسن العشرة، سأله عن حاله. "فَقَالَ" الرجل: "أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهُ"؛ يعني أحمد الله معك؛ يعني كما أنت تحمد الله فأنا أحمد الله تعالى معك، أنا وإياك نحمده سبحانه وتعالى. "فَقَالَ عُمَرُ: ذَلِكَ الَّذِي أَرَدْتُ مِنْكَ."؛ لأن الحمد على النعم يستدعي زيادتها: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم:7]. قال: أردت أنك تحمد الله ليزيدك من فضله. وهكذا جاءنا في حديث ابن عُمَر، قال رسول الله ﷺ لرجل: "كيف أصبحت يا فلان؟" قال: أحمد الله إليك يا رسول الله. قال: "ذلك الذي أردت منك"؛ يعني: أستخرج منك حمد الله ليزيدك من فضله.
نعم، ثم ذكر لنا حديث "الطفَيلَ بْنَ أَبَيَّ بنِ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَيَغْدُو مَعَهُ إلى السُّوقِ."؛ يعني: يسرح معه يخرجون إلى السوق، والغدو الذهاب في الغدوة؛ يعني في الصباح إلى السوق. "قَالَ" الطفيل: "فَإِذَا غَدَوْنَا إِلَى السُّوقِ لَمْ يَمُر عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى سَقَاطِ"؛ أي: الذي يبيع سقط المتاع؛ المتاع الرديء، السقاط يبيع. "وَلَا صَاحِبِ بَيعَةٍ"؛ يعني: بضاعة يبيعها أو مكان دكان ومحل يبيع فيه، "وَلا مِسْكِينِ" من المشاة في الطريق، "وَلا أَحَدٍ"؛ يعني: من المسلمين "إِلا سَلَّمَ عَلَيْهِ"، فهو يخرج من البيت ليكتسب ثواب السَّلام. فخير الإسلام أن تطعم الطعام، وتقرأ السَّلام على من عرفت ومَن لم تعرف. فكان يتوخى السوق لكثرة الناس ليكثر سلامه. فإذا صَفَت الأسواق ولم يكن فيها منكر، فدخولها من أجل السَّلام وغيره فيه قربة. وأما إذا اختلطت ودخلت فيها المنكرات، فالبعد عنها أولى.
"قَالَ الطُفَيلُ: فجِئْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْماً فَاسْتَتَبَعَنِي" قال: هيا بنا نمشي "إِلَى السُّوقِ، فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا تَصْنَعُ فِي السُّوقِ" قلت له: ما تصنع في السوق؟ تذهب بنا كل يوم إلى السوق لا تشتري شيء ولا تبيع شيء؟ "وَأَنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى الْبَيْعِ" فقط تمشي في السوق تسلّم على خلق الله وترجع! "وَلا تَسْأَلُ عَنِ السَّلَعِ" ما تدري كم ثمنها؟ ولا عندك خبر منها؟ "وَلَا تَسُومُ بِهَا، وَلَا تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوق؟" أيضًا، للتنزه والتفرج على الصادر والوارد. "قَالَ": الطفيل يقول، "وَأقُولُ: اجلس بِنَا هَا هُنَا نَتَحَدَّثُ." اجلس بنا نتحدث، نقعد هنا نتكلم، بدل الخرجة هذه حقتك والرجعة بلا فائدة؟ "قَالَ: فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: يَا أَبَا بَطن -وَكَانَ الظُّفَيلُ ذَا بَطْن"؛ كبير البطن "إِنَّمَا نَغْدُو مِنْ أَجْلِ السَّلامِ، نُسَلَّمْ عَلَى مَنْ لَقِينَا." أو لقِيَنا؛ هذه تجارتنا وهذا ربحنا يا أبله، نحن نخرج في فائدة، ما نحن فارغين. وليست الكياسة والعقل والعمل مخصوص بمَن يبيع ويشتري، لا نبيع ولا نشتري لكننا نكسب ربحًا عظيمًا وثوابًا كبيرًا وحسنات كثيرة. إنما نخرج من أجل السَّلام.
جاء في رواية الطبراني عنه ﷺ: "مَنْ سَلَّمَ عَلَى عِشْرِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي يَوْمٍ، جَمَاعَةً أَوْ فُرَادَى، ثُمَّ مَاتَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَفِي لَيْلَةٍ مِثْلُ ذَلِكَ." إذا سلم عليهم في الليل، مات في ليلته تلك، وجبت له الجنَّة؛ إذا سلَّم على عشرين فأكثر من المسلمين إما جماعة أو فرادى واحد واحد، إذا وصل عدد الذين سلَّم عليهم إلى عشرين ثم مات من ليلته دخل الجنَّة أو مات من يومه وسلَّم عليهم في اليوم دخل الجنَّة، نعمة كبيرة! هكذا، جاء في رواية الطبراني عنه ﷺ: "مَنْ سَلَّمَ عَلَى عِشْرِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي يَوْمٍ، جَمَاعَةً أَوْ فُرَادَى، ثُمَّ مَاتَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَفِي لَيْلَةٍ مِثْلُ ذَلِكَ."
جاء عند ابن جرير عنه ﷺ: "مَن سلَّم على عشرة من المسلمين فكأنما أعتق رقبة، ولو مات من يومه وجبت له الجنَّة". ربي سهّل وعدّد للناس أسباب دخول الجنَّة، ويسّر الوصول إليها لأُمة مُحمَّد ﷺ. فهو يغدو إلى السوق ليحصّل عشرة وعشرين وأكثر، ويسلّم على كثير ويحصل هذا الخير، كأنما أعتق رقبة عشرة وعشرين، وإن مات من يومه وجبت له الجنّة، نعمة كبيرة!.. إذًا في السَّلام خير كثير.
ثم ذكر لنا "أَنَّ رَجُلاً سَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَالْغَادِيَاتُ وَالرَّائِحَاتُ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: وَعَلَيْكَ أَلْفاً. ثُمَّ كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ."؛ يعني: عليك ما قلت ألف مرة؛ يعني أنت تفاصحت وأكثرت كلامك ألف مرة. كأنه كره ذلك منه، قل: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ويكفيك ذلك، الغاديات والرائحات وتجيء بكلام من عندك وتزيد، قال: وعليك ألفًا، خذها كأنه كره ذلك منه لأنه مثل الاستظهار على الشرع. نعم؛ يعني ألف كسلامك، ومعنى الكراهة؛ لتعمقه.
وكان ابن عُمَر إذا سُلم عليه رد وزاد، فأتيته فقلت: السَّلام عليكم ثم أعدته مرة أخرى، قلت: السَّلام عليكم ورحمة الله، قال: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قلت: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قال: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته وطيب صلواته.
وجاء أيضًا رجل إلى ابن عُمَر قال: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته. قال: حسبك إلى وبركاته! انتهى السَّلام إلى وبركاته. جاء في مُصنف عبد الرزاق: أن رجلًا كان يسلّم على ابن عُمَر يقول: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ومعافاته، قال: فكثّر من هذا. فقال له ابن عُمَر: وعليك مئة مرة، لئن عدت إلى هذا لأسوئنّك، بعده سأتكلم عليك.. انضبط بالسلام المعهود المعروف الذي علمنا النّبي ﷺ، وخلِّ الفلسفة حقك والتفصح هذاّ وخذ مئة مرة مثل سلامك، وثاني مرة لا تكلمنا هكذا.
ثم ذكر أنه "إِذَا دُخِلَ الْبَيْتُ غَيْرُ الْمَسْكُون يُقَالَ: السّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ."، فيستَحب إذا دخل البيت غير المسكون ليس فيه أحد أن يقول هكذا، كذلك يقول إذا دخل مسجدًا ليس فيه أحد، زاوية ليس فيها أحد، يقول: السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين. فسّر ابن عباس قوله تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ)، قال: إذا دخلتم بيوتًا ليس فيها أحد، فقولوا: السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين. فينبغي أن ينتبه من البسملة عند دخول البيت ويسلّم سواء كان في البيت آدمي أو لا، (فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) [النور:61]. نعم، وهذا ما ذكر في ما يتعلق بالسلام.
يقول بعضهم: ينبغي أن تُحضر في قلبك كل عبد صالح، إذا لقيت في الطريق قلت: السلام عليكم، فأحضر في قلبك كل عبد صالح لله تعالى. لماذا؟ لقوله ﷺ في السَّلام في الصَّلاة "السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين"، فإنك إذا قلت ذلك بلغت كل عبد صالح لله في الأرض والسَّماء، فتزكو لك الحسنات والخيرات. فإذا نويت عباد الله الصَّالحين كلهم في الأرض والسَّماء أحياء وأموات، سلّم عليهم كلهم. فإذا نويت ذلك وقصدت ذلك، نلت بعددهم أجور ومدد من الله موفور؛ تنوي السَّلام على جميع عباد الله الصَّالحين. فأحضر في قلبك كل عبد صالح لله من عباده في الأرض والسَّماء، ميت وحي، فإن الملائكة يبلغون السَّلام لمَن يبلغ السَّلام، والمستغرقون بالله يُجيب الله عنهم مَن سلّم عليهم.
فقال بعضهم: ربحي من المستغرقين هؤلاء الذين لا يدرون بالسلام، أكثر من ربحي من الذين يبلهم سلامي ويردون علي لأن هؤلاء بسببهم يرد علي الرَّحمن بنفسه -سبحانه وتعالى- ينوب عنهم لأنهم مستغرَقين في شهوده. فمَن سلم عليهم، تولى الرّد عنهم حتى لا ينشغلون هم. هؤلاء قد ينبأ أحدهم إذا أُهدي إليه شيء من الصالحات ومن الأعمال الثواب، فينبأ ويقول: فلان أهدى إليك كذا، ويرجع لاستغراقه. جماعة من الأموات شأنهم هذا في البرازخ، مستغرَقين بذكر الله، بشهود الحق جل جلاله وتعالى في عُلاه.
وإن كان مَن هو أكمل منهم يبلغ ويرد وهو في مراتب من الاستغراق وأكمل منهم، ولكن هم درجات عند الله، كمثل الأنبياء أعظم، يُبلَّغون السَّلام ويردون السَّلام، إلا أن سيِّدنا ﷺ مع رده للسَّلام على من سلَّم عليه أيضًا الله يسلّم على كل مَن سلَّم عليه، وإن قد أخذ الرّد من نبيّه ﷺ؛ أما يرضيك أنه لا يصلي عليك أحد من أُمتك إلا صليت عليه، ولا يسلّم عليك أحد من أُمتك إلا سلّمت عليه؟.. الحق تعالى يرد على مَن سلَّم على نبيه. فهذا يحظى بالشرفين، يرد عليه نبيّه، والحق تعالى يرد عليه السَّلام إكرامًا لنبيه مُحمَّد عليه أفضل الصَّلاة وأزكى السَّلام في كل حين وآن ونفس، عدد ما خلق وملء ما خلق تعالى، وعدد ما في الأرض والسَّماء وملء ما في الأرض والسماء، وعدد ما أحصى كتابه وملء ما أحصى كتابه، وعدد كل شيء وملء كل شيء، في كل لحظةٍ أبدًا، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
يرزقنا الاستقامة ويتحفنا بالكرامة، ويهب لنا السلام ويجعلنا من خواص أهل دار السلام، ويعاملنا بمحض الفضل والإنعام، ويجود علينا بخيره ومزاياه العِظام، في عافية ويصلح الشأن لنا وللأُمة أجمعين، ويختم لنا بأكمل حسنى وهو راضٍ عنا، الفاتحة.
12 شَعبان 1444