شرح الموطأ - 521 - كتاب السَّلاَمِ: باب ما جاء في السَّلاَم على اليَهُودِىِّ وَالنَّصْرَانِيِّ

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب السَّلاَمِ، باب ما جاء في السَّلاَم على اليَهُودِىِّ وَالنَّصْرَانِيِّ.

فجر السبت 5 شعبان 1444هـ.

باب مَا جَاءَ فِي السَّلاَمِ عَلَى الْيَهُودِىِّ وَالنَّصْرَانِيِّ

2782- حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدُهُمْ، فَإِنَّمَا يَقُولُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ. فَقُلْ: عَلَيْكَ".

2783- قَالَ يَحْيَى: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ سَلَّمَ عَلَى الْيَهُودِيِّ أَوِ النَّصْرَانِيِّ، هَلْ يَسْتَقِيلُهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لاَ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرِمِنا بشريعته وبيانها على لسان خير بريّته عبده وحبيبه وصفوته سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم وعلى أهل ولائه ومحبته وأهل الاقتداء به ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين خيرة الله من خلائقه وصفوته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المُقرّبين وعلى جميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.

ويتحدّث الإمام مالك عما جاء في السلام على اليهودي والنصراني، والحديث الذي ذكره يتعلّق باليهود، فرجع أن الحكم واحد في أهل الكتاب بل وفي غيرهم من أنواع أهل المِلل من الكفار.

"باب مَا جَاءَ فِي السَّلاَمِ عَلَى الْيَهُودِىِّ وَالنَّصْرَانِيِّ"، فاختلف الفقهاء في جواز الابتداء بالسلام على الكافر، وغالب الجمهور بوجوب الرد إذا ابتدأ الكافر بالسلام. ولكن الرد كما عيّنه ﷺ وبيّنه بقول: "عليك" أو "وعليكم، وعليكم". وذلك لأن منهم من يحرّفون ويلوكون ألسنتهم ومن يقول: السام عليكم؛ كأنه قال السلام وهو قال السام ومعناه: الموت؛ السام عليكم، فيكون الجواب: وعليكم.

وهكذا، من أباح ابتدائهم بالسلام أدخله في دائرة البر والقسط، لقوله تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) [الممتحنة:8]. وقال كثير من الفقهاء لا يُبتدؤن بالسلام كما جاء في بعض الحديث: لا تبدؤهم بالسلام ولكن إذا سلّموا قولوا: وعليكم، وعليكم، أو قولوا: وعليك. 

وبذا جاء عن الأوزاعي أنه قال: إن سلّمت فقد سلّم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون؛ يعني أن أئمة السلف اختلفوا في جواز ابتدائهم بالسلام فمنهم من قال يجوز ومنهم من قال يحرم. ولذا قال الأوزاعي: إن سلّمت فقد سلّم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون.

ولا شك أن ذلك ينبغي أن يُنظر إليه باعتبار اختلافهم من حيث اختلاف أحوالهم ونفسياتهم وواقعهم ووضعهم، وأنه:

  •  كان منهم من أهل الغطرسة والكبرياء، ولا يفيد ابتداؤه بالسلام عليه إلا تعاليًا وتكبّرًا فهذا ينبغي ألا يُبدأ بالسلام.
  • ومن كان لا ضرر منه على المسلمين وربما كان منه شيء تعاطف في أحوالهم وقضاياهم وإلى غير ذلك، وكان السلام يبيّن له جمال هذا الدين وعظمته ويرغّبه في الدخول فيه؛ ينبغي بأقوال الذين قالوا بجواز الابتداء بالسلام.

ويمكنه أن يخرج من الخلاف بأن يبتدئه المخاطبات التي يألفونها عند اللقاء وليس فيها لفظ السلام، كقول كيف حالك. وما إلى ذلك. ويكفي لتوضيح جمال الإسلام له وتقريبه للإسلام.. الابتسامة وحسن المعاملة في دائرة (أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ). وأورد لنا الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- حديث ابن عمر: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدُهُمْ، فَإِنَّمَا يَقُولُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ. فَقُلْ: عَلَيْكَ". هكذا، جاء الحديث في الصحيحين البخاري ومسلم، وفي موطأ الإمام مالك.

جاء أيضًا أنه دخل بعض اليهود على الرسول ﷺ فقالوا: السَّام عليكم، فقال ﷺ: وعليكم، وفطنت السيِّدة عائشة للوك ألسنتهم وأنهم قالوا السَّام فأخذت تسبّهم، تقول وعليكم وعليكم… قال ﷺ: مه يا عائشة، قالت: ألا تسمع ما قالوا؟ إنهم قالوا: السَّام. قال ألم تسمعي ما قلتُ؟ قلتُ: وعليكم، الموت كتبه الله علينا وعليكم، الصغير والكبير، كل واحد يموت، ليس واحد دون الثاني؛ يعني أجيبوا بمثل هذا الكلام من دون أن تسابّوا وتشاتموا ولا تثيروا شيء، فهذا مسلكه وسنته ﷺ. 

فكما نقرأ، يقول: "إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدُهُمْ، فَإِنَّمَا يَقُولُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ. فَقُلْ: عَلَيْكَ". وفي رواية: "وعليك". وفي رواية: "وعليكم"، وفي رواية: "عليكم"، هكذا جاءت الروايات. وجاء عنه ﷺ أنه قال: "إنا نُجاب فيهم ولا يُجابون فينا"؛ يعني دعاؤنا عليهم بردّهم على ما قالوا جدير بأن يُجاب عند الله تعالى لخبثهم وسوء نيتهم وما تنطوي عليه ضمائرهم وطواياهم من السوء. وأما هم، فإن الحق تعالى لا يستجيب دعاءهم على المؤمنين لأنهم بغير حق يدعون. ولهذا قال: "إنا نُجاب فيهم ولا يُجابون فينا". 

وفسّر بعضهم بالسام أنهم أرادوا السآمة؛ يعني يريدون: تسأمون دينكم. وعند ابن حبان عن سيِّدنا أنس يقول مرّ يهودي بالنَّبي ﷺ فسلم عليهم، فردّ عليه أصحابه. فقال: هل تدرون ما قال؟ فقالوا: نعم سلم علينا. فقال: إنه قال: السام عليكم؛ أي: تسأمون دينكم. فيقصدون أحيانًا أنكم تخرجون عن دينكم هذا وتسأمونه وتغيرونه وتتبدَّلون عنه. 

  • ومذهب الإمام مالك: أنه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام. 
  • وكذلك عند الشَّافعية: أنه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام، وإذا سلموا وجب الرد عليهم بقول: "عَلَيْكَ" أو "وعَلَيْكُ" كما جاء في الحديث. 

فإذا كان الأمر كذلك، فهل إذا ظن واحد أن هذا الإنسان مسلم فسلَّم عليه، ثم بان له إنه غير مسلم، فهل يستردّ منه السلام؟ ويقول: رددت سلامي أو ردّ عليَّ سلامي؟ 

  • قال الإمام مالك: لا، كما سمعتم في الموطأ. 
  • قال الشافعية: يُستحب أن يردّ منه سلامه ويقول: رددت سلامي الذي قلت لك. وهذا من غير شك منوط بما إذا لم يدعُ ذلك إلى فتنة، ولا إلى إثارة نفوس ولا إلى إحداث قلق في معيشتهم وواقعهم. 
  • وقال الإمام مالك: إذا قد سلَّم ما له معنى يسترد السلام، لأنه إن كان ذلك حسنة فهو حَسَن، وإن كان سيئة فإن المسلَّم عليه لا يستطيع أن يمحو سيئتك! استغفر وتب بينك وبين الله فقط، وانتبه مرة ثانية. 

"قَالَ يَحْيَى: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ سَلَّمَ عَلَى الْيَهُودِيِّ أَوِ النَّصْرَانِيِّ" من حيث لا يعلم، "هَلْ يَسْتَقِيلُهُ ذَلِكَ؟" يستقيل؛ يطلب منه الإقالة، يقول: رُد عليَّ سلامي. "فَقَالَ: لاَ." بل يتوب ويستغفر إن كان عمدًا. هكذا يقول المالكية، فإنهم قالوا: لا فائدة في هذه الإقالة ولا معنى لها لأن السلام إن كان حسنة، فلا يجب الرجوع عنها. وإن كان سيئة، فليس بيد اليهودي تكفيرها لأنها ليست من حقوقه. وجاء عن ابن عُمَر أنه استقاله، فاحتمله المالكية أن يُعلِمَه أنه أخطأ ولم يعرفه حين سلّم عليه، على وجه الصَّغَار، ولهذا قالوا: كان ابن عُمَر يسترد منه سلامه. 

  • فمذهب مالك: ما يُستقال منه السلام. 
  • وهكذا يقول الشافعية: يحرم بدء ذمي بالسلام. فإن بان لم يكن يعلم، فسلم عليه، فبان ذميًا، استُحب له استرداد سلامه بأن يقول: استرجعت سلامي أو رد عليّ سلامي. 

وعلمت أن هذا مكانه ما لم يكن ذلك سببًا لتنفير عن الإسلام أو إثارة النفوس والضغائن بين العائشين في أي مكان. 

فصلَّى الله على من جاءنا بالسلام، رسول الإسلام، وعليه أفضل الصلاة والسلام، وأدخلنا الله به دار السلام، وجعل لنا من ربنا تحية يوم نلقاه سلام، ووفر حظنا من (سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) [يس:58]، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.

وتقدَّم معنا في الدرس السابق عن الأخرس ومتى تعتبر إشارته. ذكرنا أن الناطق تعتبر إشارته في الإذن والإفتاء والأمان، وأما أن إشارة الأخرس المفهِمة تكون مثل نطقه إلا في ثلاثة، والثلاثة هي: 

  • اليمين.
  • وفي الصلاة؛ إذا أشار ما تبطل صلاته، الأخرس إذا أشار في الصلاة من دون حركات ثلاث ما تبطل صلاته. 
  • الثالث كنا ذكرنا الطلاق وليس ذلك، إنما هو في الشهادة، ما تعتبر شهادته، فلا تعد مثل نطقه. 

أما بالنسبة للطلاق: 

  • فإن لم تكن الإشارة مُفهمة فهو كناية. 
  • وإن كانت مُفهمة صارت مثل الصريح بالنسبة للناطق، كأنه نطق بلفظ الطلاق أو بلفظ الفراق أو بلفظ التسريح، كأنه نطق بالصريح إذا كانت إشارته مفهمة؛ يفهمها الكل. 

بخلاف إذا كانت غير مفهمة ما يعرفها أحد، بعض الناس دون بعض، فهذه تدخل في الكناية. إذًا، 

إشارةٌ لناطقٍ تُعتبر في *** الإذن والإفتاء أمانٌ ذكروا

هذه إشارة الناطق تعتبر في الإذن والإفتاء والأمان، أما إشارة الأخرس فهي مثل نطقه إلا في ثلاثة: 

إشارة الأخرس مثل نطقه *** فيما عدا ثلاثة لصدقه 

في الحنث والصلاة والشهادة *** تلك ثلاثةٌ بلا زيادة

نظر الله إلينا وقربنا إليه زُلفى، ورزقنا شكر ما أنعم علينا من النطق، وجعلنا لا ننطق إلا بخير، وزادنا بكل نطق ننطقه إيمانًا وقربًا منه ومثوبة، يا أكرم الأكرمين، ورزقنا الامتثال لأمر نبينا: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت"، يا أرحم الرَّاحمين.

ثم إنكم أيضًا في توجّهكم لزيارة النَّبي هود، بصدد كلام مع الأنبياء ومع المُرسلين بالسلام عليهم. وقد شرَّع الله تعالى أن يُقدَّم بين يدي النجوى، نجوى النَّبي ﷺ صدقة، ونسخ فرض ذلك عليهم، فبقي أن نستعد لهذه المناجاة، ونقدم بين يدي النجوى: تحقيق التوبة، وتصحيح النية والصدقة بما تيسر وما إلى ذلك. فإن التوجه في هذه الزيارة؛ تقوية روابط الإيمان والصلة بالأنبياء والمُرسلين، قربة إلى الرَّحمن -جلّ جلاله-، صلة القلوب وصلة الأرواح والأسرار بأنبياء الله الذين فرض الإيمان بهم على كل من آمن به جل جلاله وتعالى في عُلاه، (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ) [البقرة:285]. وهذه الزيارة، علمتم من مقاصدها ومن مراداتها ومن الأهداف فيها:

  • تنقية القلب وتطهيره، استرضاء الرب -سبحانه وتعالى- وطلب عفوه ومغفرته. 
  • وفيها أسرار تلاقي المؤمنين واجتماع أرواحهم على الوجهة الواحدة. 
  • وفيها شؤون تذاكر وتذكير، وتعلم وتعليم، ومجالس ذكر لله وصلاةٍ على نبيه، وتلاوةٍ للقرآن، وتذاكر لأخبار سيد الأكوان، وإنشادٍ وذكر لأنفاس المُقرّبين وأهل العرفان، وتوجه إلى الله -تبارك وتعالى- في شأن الأُمة. 

فإن من الصلة بالأنبياء أن تحمل القلوب أمانة البلاغ والهداية والتعليم، فإنها مهمة الأنبياء. كلما قويت صلتك بالأنبياء؛ حملت هذه الأمانة وقوي قيامك بحقها، فإنها مهمتهم؛ التعليم، والإرشاد، والنصح، والبيان، وهداية الخلق. فنطلب بذلك إمداد الحق لنا بالهداية الكاملة التامة، وتوفيقه إيّانا أن يُجري الهداية على أيدينا لعباده ولخلقه. فيحتاج المتوجّه في هذه الزيارة إلى أن يتفقد باطنه ونيته، وقصده ومراده، فإن رب العرش يرقب ذلك من قلبه. "وإنما لكل امرئ ما نوى".

  • فمَن كانت رحلته وسفرته وزيارته لله ورسوله.. فرحلته وزيارته وسفرته لله ورسوله. 
  • ومَن كان لغير ذلك.. فسفرته ورحلته وزيارته لغير ذلك. 

الله يجعلنا وإياكم من المخلصين الصادقين.

وهذا الشِّعب المبارك بعد أن اختاره الله تعالى للنبي هود وأن يكون محل حِلاله ومحل قبره، فإن صالحي أمّته تردّدوا عليه في زيارته، ثم مَن جاء بعده من الأنبياء. وجاءنا في التاريخ زيارة النَّبي سُليمان -عليه السَّلام- للنبي هود، وأمره الريح أن تقف به على قبره في وادي الأحقاف وفي حضرموت. وجاءنا أيضًا في التاريخ زيارة ذي القرنين لقبر النَّبي هود على نبينا وعليه أفضل الصَّلاة والسَّلام. 

ومن المعلوم أن هذه الزيارة لقبور الأنبياء ثم قبور المؤمنين، سُنّة مضت في مسلك الأنبياء في الأُمم السابقة حتى جاء نبينا ﷺ، ثم سنّها لنا بقوله وبفعله، وما أكثر ما تردّد على قبور المؤمنين في المدينة المُنوَّرة في بقيع الغرقد، حتى تقول بعض أمهات المؤمنين: ما بات عندي ليلة إلا وهو يأتي بقيع الغرقد يزور المؤمنين في قبورهم ﷺ. وجاءنا أيضًا في صحيح مسلم أنه ﷺ اعتنى بزيارة قبر موسى ليلة الإسراء والمعراج، ومر بالبراق وجبريل إلى قبر النَّبي موسى وقال: "مررت على موسى ليلة أسري بي.. وهو قائم يصلي في قبره"، عليهم صلوات الله وسلامه. 

ثم إن هذه الزيارة، رُتبت بنظر سيِّدنا الفقيه المُقدم، الناس يزورون قبله ولكن ترتيبه أن يجتمعوا اجتماع واحد، وعلى قلب واحد، ويلحوّا على الإله الواحد، وأن يتذاكروا وأن يتذكّروا، وأن يتشاوروا في أمورهم، وأن يتفقدوا بعضهم البعض، وأن يستمعوا إلى التذكير… كان من ترتيب سيِّدنا الفقيه المُقدم عليه رضوان الله تبارك وتعالى. 

فاستمر ذلك سبعمائة سنة والناس يزورون على هذا الترتيب أو على هذا النمط أو على مقاصد وتأسيس سيِّدنا الفقيه عليه رضوان الله تبارك وتعالى؛ فتهيأ بذلك للزائرين وتيسر، تهيأ وتيسر لهم أن تصدق نياتهم وأن ينالوا بصدق نية واسع ووافر العطاء من حضرة الله، وأن يحظوّا بالقبول لما تقدم أمامنا من المئات بل الألوف من المُقربين والصديقين والعارفين وأهل اليقين، أهل عين اليقين، وأهل حق اليقين -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى- كلهم قصدوا الرَّحمن وتوجهوا إليه في ذلك الشِّعب، وزاروا هذا النَّبي، وكان لهم في ذلك الشِّعب منازلات، وشريف مناجاة، وعظيم رقي إلى مراتب القرب من الله -تبارك وتعالى- ونيل المعرفة به، ونيل رضوانه -سبحانه وتعالى- وزيادة المحبة منه وله جل جلاله وتعالى في عُلاه. 

حتى صار الأكابر يشيرون إلى ذلك بنثرهم وشعرهم، من أوائلهم مثل سيِّدنا الشيخ عبد الرحمن بن علي، ومن بعدهم إلى سيِّدنا الإمام الحداد، هو الذي خاطب علَّامة الدُّنيا الحبيب عبد الرحمن بلفقيه يقول:

يَا وَجِيه إِنَّهَا هَبَّتْ رِيَاحُ السُّعُودِ  *** وَأوَمَضَ الْبَرْقُ فِي الدَّاجى من أَقْصَى النُّجُودِ
ذَكَّرَتْنِي لَيَالٍ قَدْ خَلَتْ حَوْلَ هُوْدِ *** شِعْبِ قَبْرِ النَّبِيِّ الْمُرسَلِ وَفِيِّ العهُوْدِ
يَا لَيَالِي الرِّضَا عُوْدِي لِيَخْضَرَّ عُوْدِي *** …………………………..

فانظر ما تحمله هذه الأبيات من مشاعر وعواطف وذوق وإحساس، يدلك على أن هؤلاء الأكابر وجدوا في ذلك الشِّعب ونازلهم من الله -تبارك وتعالى- أمر كبير جليل جزيل. 

ونحن في طلب صلاح قلوبنا، وغفر ذنوبنا وكشف الكروب عنا، واستقامتنا وصلاح أهلينا وأسرنا، أيضًا نحن جزء من أُمة، وبعضٌ من كلٍّ من أُمة، وثلةٌ من أُمة نبيها مُحمَّد ﷺ، وقد نازلها في مختلف بلدانها نوازل، وحلّت بهم آفات وشرور ومصائب ظاهرة وباطنة. ولا يكشف السوء إلا الله، ولا يدفع البلاء إلا الله، ولا أحب إلى الله أن يُتوسل به إليه من أنبيائه وأصفيائه وأهل قربه. فنتوجّه إليه -سبحانه وتعالى- نائبين عن بقية الأُمة بالتضرع والابتهال أن يغيثهم ويفرّج كروبهم، ويدفع البلاء عنهم، ويحول أحوالهم إلى أحسن الأحوال، ويجمع شملهم بعد الشتات، وينقّيهم عن الآفات، ويصلح لهم الظواهر والخفيّات. 

فاجعل هذا الهم أيضًا حاضرًا في قلبك، علامة صدقك في كل ذلك، أن تتفقد نياتك وطويتك وما فيها، وتُقبل بالصدق، وتُحسن المعاملة مع مَن تمشي معهم ومع من تمضي معهم، وتحافظ على حاجات وأمتعة إخوانك مثل محافظتك على متاع نفسك، وتتقرّب إلى الله بالخدمة لهم ومساعدتهم بكل ما تقدر عليه. وتعمل بالسنن من صلاة سنة السفر، ومن أذكار الخروج، وأذكار ركوب السيارة، وأذكار المشي في الطريق، وأن تعمر المشي في الطريق مع إخوانك بالذكر الحسن والكلام الطيب، وما ينفعكم في قلوبكم ودينكم، وهكذا تكون على حُسن تلقي لفيوضات الجود والرَّحمة.

والترتيب إن شاء الله، نمشي هذا اليوم ونكون في الساعة التاسعة عند سيِّدنا الفقيه المُقدّم، ووعدنا منصب الشيخ أبي بكر بن سالم يكون الساعة العاشرة هناك في بيتهم، مقدمة للزيارة، لنزور أيضًا سيدنا الشيخ، ونمضي في ترتيب باقي الزيارة. 

جعلها من أبرك الأيام علينا وعلى الأُمة، وأسعد الأيام علينا وعلى الأُمة، وأفضل الأيام لنا وللأمة، وجعلها من أبرك الزيارات على جميع أهل الإسلام وعلى جميع أهل العالم، وكشف الله الكروب، ودفع الله الخطوب، وفرج عنا وعن جميع المسلمين، وحوّل الأحوال إلى أحسنها، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.

ثم احرص في أيامك تلك على تلاوتك للقرآن، ونصيبك من الذكر، وعلى حُسن الاستمداد من المؤمنين عامة وخاصتهم خاصة، وكم من مجهول عندك لا تعرف له فضلًا؛ قدره عند الله كبير وفضله عند الله عظيم! فاعمل على حُسن الظن واحضر الزيارات وقم بالترتيب كما ينبغي، وانتبه من جلسات الدعوة إلى الله والتعليم والتذكير بعد العشاء التي تُعقد هذه السنة في شرق القبة خلف ضريح النَّبي هود، في شرقي القبة، تعقد المجالس، وتراتيب الزيارات على ما هي عليه، يزور كل من وفد ويعمرون أوقاتهم، ويجتمع من يجتمع منهم لصلاة الفجر ولصلاة المغرب والعشاء، وينتظرون عقد الزيارات العامة التي تبدأ من اليوم الثامن، يوم الثلاثاء، في زيارة الإمام أحمد بن زين الحبشي ومَن يحضر معهم في ذاك اليوم. ثم في اليوم التاسع في الزيارة لآل بلفقيه وآل الحداد وآل حامد بن عُمَر حامد في العصرية. ثم في اليوم التاسع تبدأ زيارة آل شهاب الدين، وتبدأ 

الزيارة المسلسلة من عند سيِّدنا الفقيه المقدم واحد بعد الثاني بمنصب آل الشيخ أبي بكر بن سالم، ويكون ختم الزيارات في ذلك اليوم. وقالوا عن تلك الأيام: 

………................…………..… *** حيّ تلك المجامع حيّ تلك الوفود

حيّ عيدًا بها فاقت على كل عيدِ *** مع رجال الوفا، من  مُنسَبِينَ الجُدُودِ

فاطلب في ذلك الشِّعب وتلك الأيام ذوقك للمودة في الله، والمحبة في الله، وللمعرفة بالله، ولمعاني القُرب المعنوي التي تكون بين العبد وبين ربه.

والله يوفّر حظنا وإياكم من المِنن والمواهب والعطايا، ويمنحنا عظيم المزايا. وتكون زيارتنا اليوم، لنفتتح بها الزيارات في العصر في الساعة الرابعة تكون صلاة العصر على حصاة مسجد سيِّدنا عمر المحضار، فنصلي العصر ونمضي في ترتيب الزيارة. 

وقد كانوا يغتسلون في النهر الذي انقطع ماؤه في هذه السنوات، فمَن تيسّر له الاغتسال لغسل التوبة، وللتطهير الظاهر والباطن، فيفعل ذلك ويأتي إلى الحصاة، ليصلي سنة العصر ثم فريضة العصر. ثم نخرج بالباقيات الصالحات إلى البئر التي كانوا يستحضرون عندها أرواح الأنبياء ويسلمون عليهم، فيكون هذا التسليم الأول استعدادًا للسلام عند القبر للصاعدين إلى القبر. ويكون للعَجَزة الذين لم يكن هناك مراكب ولا سيارات ترفعهم إلى هناك، يكون لهم كافيًا السلام من ذلك المكان، إذ هم معذورون بعدم قدرتهم على الطلوع إلى القبر. ويكون للطالعين إلى عند القبر، تمهيد وتهيئة لأرواحهم لإلقاء السلام عند القبر مباشرة، واستحضار تلك الأرواح الطاهرة، وذكر أوصاف سيِّدنا رسول الله ﷺ والسلام عليه بعددٍ من أوصافه وأسمائه ﷺ، ثم السلام على أسماء عدد كثير من الأنبياء والمرسلين، ثم شمول السلام للملائكة المُقربين وللعباد الصَّالحين.

والله يبارك لنا ولكم في هذه الزيارات، ويجعل لنا واسع البشارات، ولطيف الإشارات، وتمام نقاء وطهارات، وارتقاء مراتب عاليات رفيعات، وتفريج للكروب والخطوب عنّا وعن المؤمنين والمؤمنات، وتحويل الأحوال لأحسنها، وتوفير حظنا من قُربه ومن معرفته ومن محبته ومن رضوانه، إنه أكرم الأكرمين، وأن يرفعنا في مراتب اليقين والتمكين فيها، ومراتب الوفاء بالعهد والنفع لعباده ظاهرًا وباطنًا. الله يكرمنا وإياكم بالقبول والنقاء، ويلحقنا بأهل التُّقَى، ويصلح لنا شأننا فيما خفي وفيما بدا، بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

05 شَعبان 1444

تاريخ النشر الميلادي

25 فبراير 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام