شرح الموطأ - 514 - كتاب التعوّذ والمتحابين في الله: باب ما يُؤْمَر به من التَّعَوُّذ

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب التعوّذ والمتحابين في الله، باب ما يُؤْمَر به من التَّعَوُّذ.

فجر الإثنين 22 رجب 1444هـ.

باب مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنَ التَّعَوُّذِ

2760- حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: بَلَغَنِى أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إنِّي أُرَوَّعُ فِي مَنَامِي. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "قُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنْ يَحْضُرُونِ".

2761- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَرَأَى عِفْرِيتاً مِنَ الْجِنِّ يَطْلُبُهُ بِشُعْلَةٍ مِنْ نَارٍ، كُلَّمَا الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَآهُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَفَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ، إِذَا قُلْتَهُنَّ طَفِئَتْ شُعْلَتُهُ، وَخَرَّ لِفِيهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "بَلَى" فَقَالَ جِبْرِيلُ : فَقُلْ أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ، اللاَّتِي لاَ يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلاَ فَاجِرٌ، مِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَشَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَشَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الأَرْضِ، وَشَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ طَوَارِقِ اللَّيْلِ، إِلاَّ طَارِقاً يَطْرُقُ بِخَيْرٍ، يَا رَحْمَنُ".

2762- وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ قَالَ: مَا نِمْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مِنْ أَيِّ شَيْءٍ؟". فَقَالَ: لَدَغَتْنِي عَقْرَبٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَمَا إِنَّكَ لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ تَضُرَّكَ".

2763- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أبِي بَكْرٍ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، أَنَّ كَعْبَ الأَحْبَارِ قَالَ: لَوْلاَ كَلِمَاتٌ أَقُولُهُنَّ، لَجَعَلَتْنِي يَهُودُ حِمَاراً. فَقِيلَ لَهُ: وَمَا هُنَّ؟ فَقَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْعَظِيمِ، الَّذِي لَيْسَ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ، الَّتِي لاَ يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلاَ فَاجِرٌ، وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى كُلِّهَا، مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَبَرَأَ وَذَرَأَ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرمِنا بالشريعة وحصونها، وبيانها على لسان أمينها ومأمونها، عبده المُصطفى سيِّدنا مُحمَّد الرَّاقي أعلى ذُرى الفضائل ظهورها وبطونها، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه وأهل مُتابعته والاقتداء به، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء المرسلين الذين نوَّهوا بشأنه وبشَّروا به، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المُقرّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين. 

وبعدُ، 

يحدّثنا الإمام مالك عن التعويذات الشَّرعيات تحصُّنًا وتحفُّظًا من الشَّياطين والجنّ والأذايَا والبلايا في الظواهر والخفايا. وقد نَدَبنا رسول الله ﷺ إلى تعوّذات نتعوَّذ بها في مختلف شؤوننا وأحوالنا، ويجعلها الرَّحمن وسيلة لنا لدفع البلايا والشرور، والتخليص من الآفات والمحذُور، والحماية من شرور الإنس والجن، وكل ما يُخاف منه. ويتضمّن ذلك لياذًا بالله -سبحانه وتعالى- والتجاء إليه، وتوسُّلًا إليه بأسمائه وصفاته وما يُحِبُّ من الكلمات. 

فشأن هذه التعويذات كشأن الرّقى: 

  • ما وافق منها الشَّرع وما كان من آيات الله وكلماته وأسمائه وصفاته ودعائه؛ فذلك المقبول الذي بيَّن لنا سيَّدنا الرَّسول قبوله. 
  • وما أُبهِمَ ولم يُعلَم، وما كان استغاثةً بجنٍّ وشياطين وأمثال ذلك؛ فممنوع ومحرّم في الشَّرع المصون.

ومَن اعتقد التأثير استقلالًا لشيءٍ غير الله -تبارك وتعالى- فقد وقع في مصيبة الإشراك بالحقّ -جَلَّ جلاله-. ومَن اعتقد التأثير بقدرة الله وبإذنه تخلَّص من ذلك الشَّرك، وبقي في نوعٍ من الوهم والخيال يقوم به حَذَرٌ من غير الله، ورجاءٌ لغير الله -تبارك وتعالى- حتى يوقن أن لا يكون إلا ما أراد الله، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنّه لا حول ولا قوة لأي شيءٍ، لأي كائن، لأي إنسيّ وجنيٍّ ومَلَكٍ وحيوانٍ ونباتٍ وجمادٍ، لا حول ولا قوة لشيءٍ منها قط إلا بالله العلي العظيم؛ ما جعل لها من كِبر كبرت به، وما جعل لها من صِغَر صَغُرَت به، وما جعل لها من قوة قويت به، وما جعل لها من ضعف ضعُفت به، ويعمّها جميعها في أصل وصفها وحقيقة ذاتها الضعف، فكلها ضعيفة من حيث أنها مُكَوَّنة مخلوقة لا تملك تقديمًا ولا تأخيرًا إلا بإذن الله -تبارك وتعالى- فكلّها ضعيفة؛ قوّيها، وضعيفها ضعيفةٌ بالنسبة إلى الجبّار -جلّ جلاله- خالقها. 

يقول: "مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنَ التَّعَوُّذِ"؛ أي: التحفّظ والتحصُّن والاحتراز والتوقّي والالتجاء؛ وهذا معنى التعوّذ. ومعنى أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم؛ أي: أتحفّظ وأتحصّن وأتحرّز بالله ملتجئًا إليه من شر الشَّيطان الرَّجيم المرجوم. 

وذكر لنا في الحديث: "أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ" وجاء في عددٍ من الروايات أن ذلك الوليد ابن الوليد أخو خالد، وهذا عن سيِّدنا خالد نفسه، فبعضهم رجَّح بين الروايتين وبعضهم جعلها واقعتين، أنها وقعت لخالد ولأخِ خالد. "أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إنِّي أُرَوَّعُ فِي مَنَامِي"؛ أي: يصيبني الرّوع والفزع؛ يحصل لي فزعٌ في المنام. وجاء في بعض الروايات: أنه ذكر له أهاويل يراها في منامه، "فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "قُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنْ يَحْضُرُونِ"؛ فهي تعويذة نبوية تدفع الأحلام المفزعة والخوف الذي ينزل بالإنسان عند نومه وغيره. "أَعُوذُ"؛ أتحفّظ وأتحصّن وأتوقّى وأحترز ملتجئًا بالله. "بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ"، كلماته التامة؛ النّافعة الشّافية التي لا يدخلها نقصٌ ولا عيب، أعظمها القرآن الكريم؛ فهي أعظم كلمات الله -جل جلاله وتعالى في عُلاه-، ثمّ كل ما أوحاه وأنزله إلى أنبيائه، وكل ما اقتضته مشيئته وحكمته، فقال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا) [الأعراف:137]. 

"أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ"، وهذا مما استدلّ به الإمام أحمد على أن القرآن غير مخلوق، قال: فإن الرسول ﷺ لا يستعيذ بمخلوق، وقد استعاذ بكلمات الله؛ فكلمات الله غير مخلوقة. "أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ"، الكاملة العظيمة التي لا يعتريها نقص ويجعل بها نفعًا وشفاءً وخيرًا؛ فهذا تمامها. "أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ"، التي لا يعتريها نقصٌ ولا عيب ويترتب عليها إفاضة خيرٍ ونفعٍ وشفاءٍ. 

"أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ".. 

  • "مِنْ غَضَبِهِ" -سبحانه وتعالى- وهو إرادته العقوبة لأحدٍ من خلقه. 
  • "وَعِقَابِهِ" -جلّ جلاله-؛ أي آثار الغضب؛ فالعقاب هي آثار الغضب. فإذا غَضِبَ.. عاقب، نعوذ بالله من غضب الله ومن عقابه. 
  • "وَشَرِّ عِبَادِهِ"؛ إنسًا وجنًّا، وحيوانًا ونباتًا، وجمادًا وجميع الكائنات. "وَشَرِّ عِبَادِهِ"؛ أي ما يُجريه على أيديهم ويُوصف بالشر ممّا يصدر منهم ويحدث منهم ويتسبّبون فيه. 
  • "وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ"؛ أي: نزغَاتهم ووساوسِهم وخطراتِهم. "وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ"؛ نزغَاتهم ووساوسِهم وخطراتِهم التي يخطرونها على البال. "وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ". 
  • "وَأَنْ يَحْضُرُونِ."؛ أن يحضرون معي فإنّهم لا يحضرون إلا بسوء، ولا يحضرون إلا بشر، ففيه البعد عن حضور أولئك الشَّياطين. 

ويقابله أنّ حضور الأخيار والصَّالحين نعمة ومنّة، ويترتب عليها خيرٌ كثير؛ ولذلك قال لنا في تعظيم شأن صلاة الفجر: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء:78]؛ يعني: محضورًا، تحضره ملائكة كثير، فيصير فيه خير كثير، يصير فيه أجر كبير، يصير فيه نور كبير؛ بسبب حضورهم. فإذًا؛ 

  • حضور الملائكة، وحضور الأخيار والأرواح الطاهرة؛ سبب للتنوير، والتطهير، والتقرِيب، والتحبيب، ونزول الرَّحمات. 
  • وحضور الشياطين -أعوذ بك أن يحضرون-؛ سبب للوسوسة، والانقطاع، والحجاب، والبعد، وحصول البلاء والآفات، والعياذ بالله تبارك وتعالى. 

ولهذا استعاذ بربه أن يحضرون، فلا يحضروا وليبعُدوا عنه وينصرفُوا عنه. ومن عباد الله الصَّالحين مَن تهرب منه الشَّياطين، ومَن يتركه أبوهم الخبيث، فلا يراه سالكًا فجًّا إلا سلكَ فجًّا غير فجًه، وذلك من فضل الله على من يشاء، "وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنْ يَحْضُرُونِ." هكذا جاءت الأحاديث. 

جاء هذا الحديث وجاءت الروايات كثيرة متعلِّقة بهذه الواقعة، وبعموم التعوّذ عند النوم. وجاء في رواية الطبراني زاد: "فلم ألبث إلا ليالي -تقول السيِّدة عائشة- حتى جاء خالد قال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، والذي بعثك بالحق، ما أتممت كلماتي التي علمتني ثلاثًا حتى أذهب الله عنّي ما كنت أجد، ما أبالي لو دخلت على أسدٍ في خِيسِه" أو في خَيْسِه؛ يعني: موضعه؛ موضع الجسد. 

وهكذا جاء في رواية: "إذا فزع أحدكم في النوم فليقل: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّات مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنْ يَحْضُرُونِ". حتى كان سيِّدنا عبد الله بن عُمَر يُعلّمها أولاده، الكبار والبالغين الذين يعرفون يقرأون، ومَن لم يبلغ منهم ولم يعرف ولم يُميّز كتبها له،  فكان يكتبها له ويعلّقها في عنقه، ينام وهي في عنقه معلّقة، كان هكذا عمل عبد الله بن عُمَر، كما جاء في سنن أبي داود والترمذي، أنه كان يعلمها أولاده الصغار ومَن لم يعقل منهم؛ ما يعرف يقرأ، كتبها له وعلّقها في عنقه. وفي ذلك ما فهم الصَّحابة أن التعويذات والكلمات الطيبة إذا كُتبت؛ نفعَت صاحبها ودفعت عنه -بإذن الله تبارك وتعالى- سوءًا وشرًا.

وذكر لنا بعد ذلك حديث: "أَنَّهُ قَالَ: أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ"، وهذا غير ما كان في ليلة الإسراء والمعراج؛ فإن معاني الإسراء به مستمرة، ما يكون له في لياليه صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم من قومات، ومن جولات، ومن ذهابٍ إلى أماكن كمثل ذهابه إلى لقاء الجن، إلى غير ذلك ممّا كان، فهذه كلها مساري له وإسراء به ﷺ. وهكذا جاء في الروايات؛ فالواقعة ليست في ليلة الإسراء والمعراج، فالمعنى اللغوي وهو السير في الليل، الإسراء؛ السير في الليل. 

وهكذا جاء عند النسائي يقول: سأل رجل عبد الرَّحمن بن خنيس وكان شيخًا كبيرًا، قال: يا ابن خنيس كيف صنع رسول الله ﷺ حين كادته الشياطين؟ قال: انحدرت الشياطين من الأودية والشعاب يريدون رسول الله ﷺ، فهمّ شيطان معه شعلةٌ من نار أن يحرق بها رسول الله ﷺ، فلمّا رءاه فَزِع، فجاءه جبريل وقال: يا مُحمَّد قل أعوذ بكلمات الله التامات، جَاء بهذه الكلمات التي قلناها فانكبّ على وجهه. وهكذا جاء في رواية: أنه لما جعل يتأخر ﷺ، جاء جبريل فقال: يا مُحمَّد قل… وجاء أيضًا، أنّ الشياطين تحدَّرت تلك الليلة على رسول الله ﷺ فنزل عليه جبريل وقال: يا مُحمَّد قل.. وجاء بهذه الرواية كما جاء في مسند الإمام أحمد وعند أبي يعلى وغيرهم. 

يقول: "أَنَّهُ قَالَ: أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَرَأَى عِفْرِيتاً مِنَ الْجِنِّ"؛ أي: متمّرد، فالمتمرّدة من الجان يُقال لهم: عفاريت، يُقال لأحدهم عفريت، أهل التمرد منهم. "يَطْلُبُهُ" ﷺ؛ أي: يريد أن يصيبه "بِشُعْلَةٍ مِنْ نَارٍ، كُلَّمَا الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَآهُ"؛ أي: العفريت يطلبه لقصد إيذائه ﷺ. "فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَفَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ، إِذَا" أنت "قُلْتَهُنَّ طَفِئَتْ شُعْلَتُهُ، وَخَرَّ لِفِيهِ؟"؛ أي: خرّ على وجهه، سقط على وجهه وانكبّ على الأرض، وفيه ما رتب الله من الآثار على الكلمات.

وتقدّم معنا أنه ﷺ قال عن سيِّدنا النَّبي داود: لو قال إن شاء الله، لحمل جميع النساء اللاتي دخل بهن، ولبلغ أولادهن مبلغ الجهاد في سبيل الله، ولكن لم يقل إن شاء الله. فإذًا، للكلمات آثار يرتبها الله -تبارك وتعالى- كما يرتب أمر النبات على بذور معينة، ويرتب نزول مطر على إنشاء سحاب والكل من عنده، وإذا أراد مطرًا بلا سحاب لكان، ولو أراد نبت بلا بذرة لكان ولكنه رتب هذا من عنده جلّ جلاله. ومن ذلك ما رتب على الكلمات، حتى رتب عليها دخول الجنَّة ودخول النَّار، كلمات.. وأعظم الكلمات: لا إله إلا الله وهي مفتاح الجنَّة. والرجل يتكلم بالكلمة من رضوان الله، يكتب الله بها عليه رضوانه إلى يوم القيامة، ويتكلم بالكلمة من سخط الله، يكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة، ويهوي بها في النار سبعين خريفًا. 

قال الله في كلمات أدخلت أصحابها الجنّٰة. وقالوا في تلك الكلمات: (رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) [المائدة:83-85]. وقال في الكلمات الموصلة إلى النَّار واللعن -والعياذ بالله-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا)، قال: (وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) [المائدة:64]. وقال ﷺ عن واقعة في الرجل، قال: قال كلمةً هلكَ بها في الدُّنيا والآخرة، أذهبَت دُنياه وآخرته، والعياذ بالله تبارك وتعالى. 

فللكلمات تأثيرات، فليحذر الإنسان ويضبط لسانه فيما يتكلم به وينطق، حتى أخبر ﷺ أن المتساهلين قد يدعو على نفسه أو ولده، فيصادف ساعة إجابة فتقع عليه، وهكذا وكم قد حصل للناس في أنفسهم وفي أولادهم في حالة غضب دعا، ووقع ما دعا به، وبعد ذلك يرجع يتندم ويتحسر ويتعب فترة طويلة وهو الذي تسبَّب في ذلك! والعياذ بالله تبارك وتعالى. وهكذا، بل جرّبوا من خلال التحليلات الحِسِّيَّة الظاهرة في ماء من نوعٍ واحد ومكان واحد وعناصره واحدة، يُتكلّم عند هذا يُقال: طيب طيب طيب طيب، ويُتكلّم عند الثاني يُقال: خبيث خبيث خبيث خبيث، فتغيّرت عناصر هذا إلى أحسن، وتغيّرت عناصر هذا الماء إلى خباثة، حُلّلت بعدها، وما حصل إلا هذا تكلموا عنده وهذا تكلموا عنده، هذا بلفظ طيب وهذا بلفظ خبيث، فأثّر ذلك! لا إله إلا الله… ولهذا قال الله في عيش أهل الجنَّة: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا)؛ لا تُسمَع كلمة سيئة قط، عيشتهم عيشة كريمة (إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا) [الواقعة:25-26]. فوق ذلك لهم سلام من فوق يأتيهم (سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) [يس:58]، يبشّرهم به الملائكة -غير سلام الملائكة الصادر منهم- يأتونهم بسلام من ربهم -جلّ جلاله- (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:23-24]. 

يقول: "فَرَأَى عِفْرِيتاً مِنَ الْجِنِّ يَطْلُبُهُ بِشُعْلَةٍ مِنْ نَارٍ، كُلَّمَا الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَآهُ، فَقَالَ لَهُ -سيِّدنا- جِبْرِيلُ: أَفَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ، إِذَا قُلْتَهُنَّ طَفِئَتْ شُعْلَتُهُ، وَخَرَّ لِفِيهِ؟"؛ أي: سقط الشيطان فيه، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "بَلَى" فَقَالَ جِبْرِيلُ: فَقُلْ أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ، اللاَّتِي لاَ يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلاَ فَاجِرٌ". لا يجاوزهن؛ لا يتعدَّاهُنَّ ولا يُخرج عنهن لا صالح ولا شرير، لا بَر تقي ولا فاجر شقي؛ كلهم تحت كلمات الله تعالى وإرادته؛ أي: ما يقدر أحد منهم يجاوزها، فتعلقّت هذه الكلمات من تنزيله، ومن إرادته، ومن علمه بكل شيء، أحاطت بكل شيء. 

"لاَ يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلاَ فَاجِرٌ، مِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَشَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا"؛ ما ينزل من العقوبات والآفات والصواعق وغيرها وأنواع العقوبات، "مَا يَعْرُجُ فِيهَا"؛ من السيئات والذنوب التي هي سبب العقوبات، "وَشَرِّ مَا ذَرَأَ"؛ يعني: بثّ ونَشَر، ذَرَأَ؛ بثّ ونَشَر من الخلق، "فِي الأَرْضِ"؛ أي: على ظهر الأرض، "وَشَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا"؛ من شرّ ما خلقه في بطن الأرض ثم يخرج منها، فيُصيب من يشاء من عباده. "وَمِنْ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ"؛ أي: ما يحصل فيهما من الفتن، "وَمِنْ طَوَارِقِ اللَّيْلِ" والنهار، جمع طارقة. طوارق جمع طارقة، والأصل؛ الآتي بالليل طارقًا لاحتياجه إلى الدَّق، أصله؛ الدَّق يقال له الطرق، واستثنى الطارق الذي يأتي بخير، قال: "إِلاَّ طَارِقاً يَطْرُقُ بِخَيْرٍ، يَا رَحْمَنُ". وهكذا جاء في رواية النسائي: "فخرّ لفيهِ وطفئِت شعلته" العفريت هذا فطفئت نار الشيطان، وهزمهم الله تبارك وتعالى. 

ولما سُئل مالك عن هذا الحديث في التعوّذ أيقال ذلك ثلاثًا؟ قال: ما سمعت إلا كذا، والثلاث أفضل، أنا سمعتها مرة واحدة. وهكذا، فإذا خاف الشيطان وغيره يقول: "أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ، اللاَّتِي لاَ يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلاَ فَاجِرٌ، من شرّ ما خلق وذرأ وبرأ، مِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَشَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَشَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الأَرْضِ، وَشَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، ومن شر كل طارقٍ إِلاَّ طَارِقاً يَطْرُقُ بِخَيْرٍ، يَا رَحْمَنُ"، هكذا جاء في روايات. ونِعم العياذ بالله، واللياذ بالله تبارك وتعالى.

"عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ" التي دعا لها النَّبي، قال: "أسلم سالمها الله". قبيلة. "قَالَ: مَا نِمْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ." يقول للنبي ﷺ. "فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مِنْ أَيِّ شَيْءٍ؟". لماذا؟ ما السبب أنك لم تنم؟ "فَقَالَ: لَدَغَتْنِي عَقْرَبٌ." البارحة ما تركتنا أنام "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ تَضُرَّكَ". وهكذا كان يقول القُرطبي: واظبت على هذا فما أصابني شيء إلا ليلة نسيتها وجاءني عقرب ولدغني! ذكرت الصباح قلت لهم: البارحة ما قرأت هذا، وإلا في كل ليلة أقرأه ولا سبق جاءنا عقرب ولا غيره، قال تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) [الأنعام:65] نعوذ بوجه الله تبارك وتعالى؛ أي: بذاته العلية. 

وهكذا جاء أنها أم المؤمنين عائشة سمعته ﷺ في سجوده يقول: "أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك". وهكذا كان إذا دخل المسجد ﷺ يقول: "أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم". وجاء في الحديث أن من قال ذلك عند دخول المسجد، قال الشيطان: عُصِمَ مني سائر اليوم؛ هذا ما أقدر عليه اليوم هذا الذي تعوّذ بالله، "أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم"، فهي من الأذكار عند دخول المسجد. وهكذا، يقول رجلٌ من أسلم: كنت جالسًا عند رسول الله ﷺ فجاء رجل من أصحابه قال: يا رسول الله لُدِغت الليلة فلم أنم حتى أصبحت، قال: ماذا؟ قال: عقرب، فقال له: "لَوْ قُلْتَ ..: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ تَضُرَّكَ". 

وذكر: "أَنَّ كَعْبَ الأَحْبَارِ قَالَ: لَوْلاَ كَلِمَاتٌ أَقُولُهُنَّ"؛ يعني: أدعو بهنّ وأتعوّذ بهنّ "لَجَعَلَتْنِي يَهُودُ"، حقدًا وحسدًا عليه لمّا أسلم وأغضبهم إسلامه، فلو لم تكن عنده استعاذات لسلّطوا سحرهم عليه. "لَجَعَلَتْنِي يَهُودُ حِمَاراً"؛ يعني: بليد ذليل مثل الحمار. وقيل: إنهم يحوّلون هيئته كأنه حمار. وفي هذا جاء الخلاف: هل للسحر تأثير حقيقي أو مجرد تخييل للأعين؟ 

  • وبعضهم أنكر تأثيره الحقيقي. 
  • وقال: عامة علماء السُّنة إن من السحر قسمان: 
    • قسمٌ مجرد التمويه والتخييل. 
    • وقسمٌ مؤثرٌ؛ تأثيره بإذن الله تبارك وتعالى. 

قال تعالى: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) [البقرة:102]. وفي أشدّه ما ذُكر أنه كان في بني إسرائيل، أن أحدهم يحتاج إلى حمول شيء فيتصرّف بالسحر في إنسان يردّه مثل الحيوان يُحمّل عليه ثم يرجع، وحملوا على هذا قول كعب الأحبار: "لَجَعَلَتْنِي يَهُودُ حِمَاراً. فَقِيلَ لَهُ: وَمَا هُنَّ؟"؛ ما الكلمات هذه التي منعت وصول سحر اليهود إليك؟ "فَقَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْعَظِيمِ، الَّذِي لَيْسَ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ، الَّتِي لاَ يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلاَ فَاجِرٌ، وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى كُلِّهَا، مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَبَرَأَ وَذَرَأَ." خلق؛ أنشأ وقدّر.  وبرأ يعني أوجد مُبرَأ من التفاوت (مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ) [الملك:3]، مُبرأ من تفاوتها، و(أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السجدة:7]، ذرأ وبرأ، وذرأ؛ يعني: بثّ ونشر. "مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَبَرَأَ وَذَرَأَ." فكانت هذه تعويذاته التي يتعوّذ بها كعب الأحبار عليه رضوان الله تبارك وتعالى. 

"وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى كُلِّهَا، مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ"، وفيه دليل على أن الأسماء ليست منحصرة في التسعة وتسعين، مائة إلا واحد، كما صرّح بذلك ﷺ في قوله: "..أسألك بكل اسمٍ هو لك، سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك" فلا يُحيط بأسمائه إلا هو جلّ جلاله وتعالى في عُلاه.

نسأل الله أن يُعيذنا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ومن شر كل ذي شر من الإنس والجن والخلائق أجمعين، ويُعيذنا من شر الدُّنيا، ويُعيذنا من شر الهوى، ويعيذنا من شر النفس، ويُعيذنا من شر الشياطين، ويجعلنا في حصونه الحصينة، فإنا نعوذ بك وبكلماتك التامات التي لا يجاوزهنّ برٌَ ولا فاجر، وبوجهك الكريم وبسلطانك القديم من الشياطين وأن يحضرون، ومن كل سوءٍ أحاط به علمك في الدارين فأعِذنا يا نعم المعاذ، يا نعم الملاذ لا إله إلا أنت، وأصلح لنا شأننا كله، واختم لنا بأكمل حسنى وأنت راضٍ عنّا، بِسِرّ الفاتحة، وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.

 

 

تاريخ النشر الهجري

22 رَجب 1444

تاريخ النشر الميلادي

13 فبراير 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام