شرح الموطأ - 510 - كتاب العين: باب الغَسل بالماء مِن الحُمَّى، وباب عيادة المريض والطِّيَرَة

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب العين، باب الغَسل بالماء مِن الحُمَّى، وباب عيادة المريض والطِّيَرَة.

فجر الثلاثاء 16 رجب 1444هـ.

باب الْغَسْلِ بِالْمَاءِ مِنَ الْحُمَّى

2743 - حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ شِهاب بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أبِي بَكْرٍ كَانَتْ إِذَا أُتِيَتْ بِالْمَرْأَةِ وَقَدْ حُمَّتْ تَدْعُو لَهَا، أَخَذَتِ الْمَاءَ فَصَبَّتْهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَيْبِهَا وَقَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ الله ﷺ كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُبْرِدَهَا بِالْمَاءِ.

2744 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَالَ: "إِنَّ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأبْرُدُوهَا بِالْمَاءِ".

2745 – وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَالَ: "الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ".

باب عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَالطِّيَرَةِ

2746 - حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَالَ: "إِذَا عَادَ الرَّجُلُ الْمَرِيضَ خَاضَ الرَّحْمَةَ، حَتَّى إِذَا قَعَدَ عِنْدَهُ قَرَّتْ فِيهِ"، أَوْ نَحْوَ هَذَا.

2747 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ: أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَالَ: "لاَ عَدْوَى وَلاَ هَامَ وَلاَ صَفَرَ، وَلاَ يَحُلَّ الْمُمْرِضُ عَلَى الْمُصِحِّ، وَلْيَحْلُلِ الْمُصِحُّ حَيْثُ شَاءَ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَمَا ذَاكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: "إِنَّهُ أَذًى".

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله ربِّ الأرباب، مُعلِّمنا الآدابَ على لسان سيّدِ الأحباب، الهادي الى الحق والصواب، صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحبه خيرِ آلٍ وأصحاب، وعلى آبائه وإخوانه ومَن والاهم فيه واتبعهم بإحسانٍ إلى يوم المآب، وعلى آبائِه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم أجمعين، وعلى ملائكةِ الله المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرمُ الأكرمين وأرحم الراحمين. 

وبعدُ،

فيذكر لنا الإمام مالك -عليه رحمة الله- معالجةَ نوعٍ من الحُمّى، وهو الذي يأتي بالحجاز غالبًا بالماء، وأنّ الحُمّى من فَيحِ جهنّم، وأنّها تُبَرَّد أو تُطفَأ بالماء، أي باغتسال المحموم وإجراء الماء على جسده. 

يقول: "بابُ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ مِنَ الْحُمَّى"، وذكرَ لنا: "أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أبِي بَكْرٍ" رضي الله تعالى عنها كما جاء الحديثُ في صحيح البخاري أيضًا، "كَانَتْ إِذَا أُتِيَتْ بِالْمَرْأَةِ، وَقَدْ حُمَّتْ"؛ أي: قد أصَابَتها الحُمّى، "تَدْعُو لَهَا"؛ أي: جاءت لأجلِ أن تدعوَ لها؛ وتطلب الدعاء منها. وفيه: 

  • أنّ أسماء بنت أبي بكرٍ كانت تُقصَد، ويُتكرَّرُ عليها المرضى لطلبِ الدعاء، وذلك أنّها ذاتُ النّطاقَيْن، وذات الجهاد، والمنزلة، والمكانة بتضحيتِها، وصبرِها، وبذلِها، ومكانتها عند الله وعند رسوله 
  • وأنَّ مُجتمعَ المدينة خلَّفه  على مثل هذه الآداب والاعتقادات؛ أن يَقصُدوا صُلحاءَهم وفُضلاءَهم وأخيارهم عند ورود الأمراض وغيرها عليهم، مما يحتاجون فيه إلى الدُّعاء.

قال: "أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أبِي بَكْرٍ كَانَتْ إِذَا أُتِيَتْ بِالْمَرْأَةِ"؛ يعني: يَتكرّرُ منها أن يأتي النساء إليها، "وقد حُمَّت" أصابتها الحُمّى، "تَدْعُو لَهَا"؛ يعني: أُتيت بالمرأة لكي تدعو أسماءٌ لها، "أَخَذَتِ" أسماء "الْمَاءَ فَصَبَّتْهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَيْبِهَا"؛ أي: بين نَحرِها وثوبها، وقالت: "إِنَّ رَسُولَ الله ﷺ كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُبْرِدَهَا" تعني الحمى "بِالْمَاءِ".

 وجاء في روايةٍ أنّه قال: "إنَّها من فَيحِ جَهنّم فأبْرِدوها بالماء". ولما حُمَّ ﷺ في بعض المرَّات، أمَرَ بسَبع قِرَبٍ باتَ الماءُ فيهنَّ، أن يُصبَبنَ عليه ﷺ؛ فاغتسل بهنّ.

 كما يقول في الحديث الذي بعده عن عروةَ: "أنّ رسول الله ﷺ قال: "إنّ الحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّم""، وفَيحُها: لهَبُها وانتشارها وسطوعُ حرارتها، "فَأبْرُدُوهَا بِالْمَاءِ". وكذلك الحديث الثالث: "عن ابن عمر أنَّ رَسُولَ الله ﷺ قال: "الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ"." وقال بعضُهم إنّ هذا لِحُمَّياتٍ مخصوصة، وأخذَه بعضُهم لكلّ أنواع الحُمّى؛ وإن كان يشعرُ المريضُ بالبرد.

وقد قال الحبيب محمد العيدروس -عليه رحمة الله- وكان في المدينة المنورة، ونزلتْ أمطار في الحرم، قال: وجدنا حُمّى شديدة، فجئتُ إلى عند بعض هؤلاء القائمين بالخدمة في الحُجْرة والروضة من الأغوات، كما يُسمّوهم، فقلتُ: دفِّئني وغَطّني عندي حُمّى. قال: أوّل اذهب تحت الميزاب، هذا الذي يصبُّ الماء؛ رُح تَغسَّل فيه، قال: قلتُ له: أقولُ لك بي برد! قال له: رح تغسّل هناك، هذا طِبُّ جدِّك ﷺ، ومن عند القبة رُح تغسّل، قال: أخذني عند الماء فتغسَّلت، وجاء بي وأدخَلنا في مكان وغطّاني، فراحت الحُمّى، وقمتُ ما عاد بي شيء، وخرجت بخير. الله لا إله إلّا الله..

وهكذا جاءتنا الأحاديث، وذُكِرت الحُمّى مرّةً عند رسول الله ﷺ فَسبَّها رجل، قال: "لا تَسُبّها، فإنّها تَنفي الذنوبَ كما تَنفي النارُ خَبَثَ الحديد". حتى كان أبو هريرة يقول: أحبُّ الأمراض إليَّ الحُمّى، قالوا له: لماذا؟ قال: لأنَّها تعمُّ جميع البدن، تكفّرُ خطايا الأعضاء كلّها، ليست مخصوصةً بعضو واحد، تعمُّ الأعضاء كلّها، فيُكفَّرُ بها ذنوبُ جميع الأعضاء. لا إله إلّا الله!..

 وهكذا لها أثرٌ في تصفية القلب من وسَخِه ودَرَنه، وهكذا يقول بعضهم في شعره في ذكْرِ الحُـمّى:

زارتْ مُكَفِّرَةُ الذنوب ووَدَّعت *** تبًّا لها من زائرٍ ومُودِّعِ

قالت وقد عَزَمَتْ على تَرحالِها *** ماذا تريدُ؟ فقلت: ألّا ترجِعي

لا ترجِعي لا ترجعي لا ترجعي *** لا ترجِعي لا ترجعي لا ترجعي

وكان يُردِّده بعضهم إذا جاءته الحُمّى فيُذهبُها الله سبحانه وتعالى عنه، وعدَّل بعضهم ألفاظاً في هذين البيتين المشهورين وقال:

زارت مُكفِّرةُ الذنوب لصَبِّها *** أهلًا بها من زائرٍ ومودِّعِ

قالت وقد عزَمَتْ على تَرحالها *** ماذا تريد؟ فقلت: ألّا تُقلِعي

هذا شدّدَ على نفسه!..

وفي بعض الآثار: حُمّى يومٍ كفّارةُ سنة.

وكانت تعاود الإمامَ الحداد، حتى كانت تَتردّدُ عليه أكثر من ثلاثين سنة، وكان يصطبر لها، وقد لا يُشعِرُ أهلَه بأنّه فيه حُمّى، ولمّا كانوا يومًا عند شِعب الإمام المهاجر في بعض لياليهم، مع أخيه في الله الحبيب أحمد بن هاشم الحبشي، وإذا به صاح الحبيب أحمد، يقول له الإمام الحداد: ما لَكَ؟ قال: عقربٌ لسعَتني، قال: أنتَ أحمد بن هاشم سائرٌ إلى الله في سلوكك وأصولك، تصيح من عقرب!؟  كان هؤلاء آباؤك، لا يظهر عليك أثرٌ من هذا، تَحمَّد الله تعالى.. قال له: هات يَدَك، وضعها فإذا به حُمّىً شديدة، قال له: هذه الحُمّى فيَّ منذُ خمس سنين ، ما شعرَ أهلي أنّي محمومٌ! يَتعَلّمون الصبر منهم والتسليم بقضاء الله، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.

 وقال ﷺ في الحُمّى: "إنّي أُوعَكُ"؛ يعني: أُحَمُّ، "كما يوعَكُ الرجلانِ منكم" ﷺ.

قال بعض أولاد الحبيب حسن بن صالح البحر: جاءت الوالدَ حُمّى شديدة، فكُنّا نضَع فوقه ثلاثةَ أغطيةٍ عريضة، ونحسُّ الحرارة من فوق الأغطية كلَّها، قال: فكنتُ عنده لمّا جاء وقت قيامه بالليل، ضربَ رجلَه وقال: قم يا نفس السوء، تَقطعينا عن المناجاة! قال: ونفض الأغطيةَ من فوقه وقام، قال: قام يصلي وقرأ آلافًا من سورة الإخلاص، وقرأ أجزاءً من القرآن في قيامه، ثمّ عاد إلى فراشه، وعادت الحُمّى إليه وغطّيناه ثاني مرة. لا إله إلّا الله... اللهم أَجِرنا مِن غيرِ ضرر، وأغننا من غير بَطَر، اللهم أجرنا من غير ابتلاء، وأغننا من غير امتلاء.

 

باب عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَالطِّيَرَةِ

 

ثمّ ذكرَ فَضل عيادةِ المريض، وذكر لنا حديثَ سيّدِنا جابرٍ رضي الله تعالى عنه: "أنّ رَسُولَ الله ﷺ  يقول: "إِذَا عَادَ الرَّجُلُ الْمَرِيضَ خَاضَ الرَّحْمَةَ""؛ أي: يَتعرّض لرحمة الله تبارك وتعالى بعيادتِه للمريض فعيادةُ المريض من السُّنن المتأكّدة.

  • وقيل: هي فرض كفاية. 
  • وقيل: هي واجبةٌ؛ لعموم قوله ﷺ في حقِّ المسلم: إذا مرض أن تعودَه.
  • وبعضُهم جعلها سنّة كفاية. 
  • وبعضُهم جعلها واجب كفاية؛ فرض كفاية. 
  • وبعضُهم جعلها سنّةً مؤكدة.

فبتَوَجُّه المُؤمن ليعود مريضًا، يخوض في الرحمة، شبَّه الرحمةَ بالماء، وكأنّه يخوض في ذلك. "حَتَّى إِذَا قَعَدَ عِنْدَهُ" عند المريض "قَرَّتْ فِيهِ"؛ أي: ثبتَتْ الرحمةُ فيه، أي: استقرّت الرحمة، وثبتت في العائد، يعني: شروعُه في الرَّواح من أجل العيادة، يكون في عبادة، فيَدُرُّ اللهُ عليه فضله وإحسانه ما دام في الطريق، فإذا وصلَ إلى عند المريض وجلس عنده، صبَّ اللهُ الرحمة عليه صبًّا، يعني: يعطيه عطاءً كثيرا في عيادته هذا المريض؛ فوق ما أفاض عليه في مشيِه وفي سعيِه ووصوله إلى عند المريض. 

وكان من عادته ﷺ عيادة المريض، وقال: "أو نَحْوَ هذا" أي: لفظه ﷺ. جاء في روايةٍ: "عائدُ المريض يخوضُ الرحمةَ، فإذا جلسَ عنده غَمسَتْه الرحمة". ومن تمام عيادة المريض: أن يضع أحدُكم يدَه على وجهه أو على يده فيسأله كيف هو، ملاطفةً وترفّقًا. "من عاد مريضًا خاضَ في الرحمة، حتّى إذا قعدَ استقرَّ فيها"، في روايةِ الإمام أحمد والبزّار وابن حبان وغيرهم.

وروى لنا الحديث الآخر عن ابن عطيّة أنّ رسول الله ﷺ قال - كما جاء في صحيح البخاري- : "لا عدوى ولا طِيَرة ولا هام ولا صفر، وفِرَّ من المجذوم كما تفِرُّ من الأسد". "لا عَدْوَى"؛ أي: لا سرايةَ للمرض من صاحبه إلى غيره بنفسِه واستقلاله، من دون إذن الله تبارك وتعالى، وهكذا..

ولمّا أشاعوا فيروسَ الكورونا هذا، وصار يتحَذّرُ الناس بعضَهم من بعض، فعدد كثيرٌ ممّن خالطوا المرضى وممّن آكلوهم وشاربوهم لم يمسَّهم شيء، وكثيرٌ من الذين احتاطوا بعد ووضع قفازات في يديه، ووضعَ كمَّامة عليه، جاءتْه الكورونا وأُصيبَ بها، فالأمرُ أمرُ حيٍّ قيّوم، يمرِض ويَشفي هو وحده سبحانه وتعالى. 

وهناك أسبابٌ تقوم، ولا تتعدّى العدوى مجرّدَ السبب الذي لا يلزمُ به المسَبَّب؛ بل قد يكون وقد لا يكون.

 "لا عدوى" لا سرايةَ للمرض عن صاحبه إلى غيره من دون أمر الله. فقال له بعضهم: يا رسول الله، إنّا نرى الإِبِل السليمةَ يُخالطها فيها الجَرْباء فيَعمُّها الجَرَب، قال: " فمَن أعدى الأول؟"؛ أوّلُ مريض من أين جاءته العدوى؟ أصلُها من الله تبارك وتعالى، ولا يقدر أن ينتقل إلى الثاني إلا إن أراد سبحانه، وإذا ما أراد ما ينتقل إليه. ففيه: إثباتُ الإرادة والقدرة من الحقّ جلّ جلاله مع إقامة الأسباب التي أشار إليها في آخر الحديث بقوله: "فِرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد". قال: وهذا في حقّ عامّة الأمّة، وقد جاء عنه أنّه أكلَ مع المجذوم ﷺ، فَنَفيُ العدوى باقٍ على عمومه، لا يكون إلّا بأمر الله تبارك وتعالى.

 وسدًّا للذريعة؛ أمرَ بإقامة الأسباب لعموم الأُمّة، فإنّهم لا يَبلُغون كلُّهم الدرجة الرفيعة في التوكل على الله، والاعتماد عليه، والصدق معه الذي يُسبِّبُ دفع الشرّ. 

إذًا؛ فلا عدوى بنفسه؛ ولكن بأمر الله، "ومن أعْدَى الأول؟" يقول عليه الصلاة والسلام. وجاء في حديث جابر أنّ النبيَّ ﷺ أخذ بيد مجذومٍ فوضَعَها في القَصْعة، وقال: "كُل ثقةً بالله". 

ويقول بعضُ المتأخّرين أنّه اكتُشفَ أنّ الجُذام ممّا لا تقوم به العدوى من حيث السبب، إذًا؛ فالنفيُ لاستقلال الأمر، أو أنّ الشيء يَعدي بطبعه ونفسه من دون الأمر هذا، هو منفيٌّ تمامًا. 

"لا عَدْوَى وَلاَ هَامَ"، في بعض النُّسخ: "ولا هامَة"، اسمُ طائرٍ من طيور الليل كانوا يتشاءَمون به، إذا سمعوه يَصدُّهم عن مقصدهم وعمّا عزموا عليه من عمل، يقولون: إذا جاءت الهامةُ خلاص لن نعمل هذا.. فردَّ ذلك ﷺ،  فكان العرب يتشاءمون بالهامة؛ هذا الطائر المعروف إذا جاء في الليل -يقولون لها البومة-  يرَون أنّها ناعية؛ تنعي للإنسان نفسَه أو بعضَ أهل داره أنّهم سيموتون إذا جاءت هذه، كما كان يعتقد بعضُ العرب أنَّ عظام الميت تنقلب هامةً تطير، وكلُّ ذلك معتقداتٌ باطلة فنفَاها ﷺ. 

قال: "ولَا هَامَ" في لفظ: "ولا هامة"، وهكذا كانوا يقولون في الجاهلية: إذا قُتِل الرجلُ ولم يُؤخَذ بثأره، خرجت من رأسه هامّةٌ تدور حول قبره، وتقول: اسقوني، فإذا أُدرِكَ بثأره ذهبت، وهذا كله باطل. وكانت اليهود تزعم أنّ هذه الهامة تدور حول القبر سبعة أيامٍ ثم تذهب، وكلُّ ذلك ليس فيه شيء من الصحّة، وإنّما تأتي في الغالب هذه البوم -نوعٌ من الطيور- في الأماكن الخالية، والديار التي تركها أصحابُها. ولهذا قال عن ديار الموتى والهلكى، سيدنا الإمام الحداد:

 فلو مررتَ بها والبومُ يندبُها *** في ظلمة الليل لم تلتذَّ بالوسَنِ 

يعني: في اعتبار أنّ أصحابَ الدار هذه فارقوها وراحوا وخلُّوها، وكذلك يُفعَلُ بديار الأرض.

"وَلَا صَفَرَ"؛ يعني: 

  • ما كان يفعله أهل الجاهليّة من تأخير صفر عام وتقديمه عام، هو كلام فارغ ولا صفر إلا هو هو، هو هذا، هو كما رتّبه الحقّ تبارك وتعالى. 
  • وكذلك ما كانوا يتشاءمون في شهر صفر، فليس لصفرَ تأثيرٌ. 
  • وقيل: أنّ صفرَ هذا نوعٌ من المرض. 
  • ويقولون إنّ الصفارَ التي في الجوف تقتل صاحبَها؛ إذا عَدَتْ عليه مات. وهكذا.. 

وما يكون القتل بِيَدِ المرض، وكم من مرضٍ خطير شُفيَ منه صاحبـه، وكم من مرضٍ يسير مات منه صاحبُه، وكم من ميّتٍ فجأةً بلا مرضٍ سابق، ولا صغير ولا كبير؛ فالأمر لله العليّ الكبير جلّ جلاله.

"ولا يَحِلُّ المُمْرِضُ على المُصِحِّ"، وجاء في روايةٍ بِفكِّ الإدغام: "لا يُحْلِل المُمرضُ على المُصِحّ"؛ أي: لا يوردنّ مُمرضٌ على مُصِحّ، ما دام يتخوّفون أن يجعل اللهُ بذلك سبب انتقال المرض، فأمَرَهم بتجنّب ذلك ﷺ، مع اعتقاد أنّه لا فعلَ له بنفسه "لا يورَدُ مُمرِضٌ على مُصِحّ"؛ أي: الصحيح السالم من المرض. 

فالمراد: 

  • "لا عدوى"؛ نفي ما كانت الجاهليّة تزعمُه من أنَّ الأمراض تُعدي بطبعها لا بفعل الله. 
  • "ولا يُورَدُ مُمْرِضٌ علَى مُصِحّ" أرشد إلى مُجانبِة ما يحصل به الضررُ بسُنّة الله تعالى، وبفعله وقدرته جلّ جلاله وتعالى في علاه. 

"وَلْيَحْلُلِ الْمُصِحُّ حَيْثُ شَاءَ"؛ يعني: 

  • إذا كان المُصِحُّ من أرباب اليقين والتوكل، فإذا أراد أن يذهب إلى المريض ما عليه شيءٌ. 
  • ولكنَّ المريضَ لا يرِدُ على المُصِحّ؛ فيُسبّب عنده وسوسةً أو يصيبه الله بشيءٍ فيقول: هذا بسبب فلان، أو شيء من هذا الكلام الفارغ.. 

قال: "وَلْيَحْلُلِ الْمُصِحُّ حَيْثُ شَاءَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهُ وَمَا ذَاكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: "إِنَّهُ أَذًى"."؛ أي: يتأذّى به الرجلُ المُصِحّ، فلا يَنبغي أن يُحرجَه، ويوردُ نفسَه -المريض- على الأصِحّاء؛ فيتعبون لذلك.

إذًا جاءنا أيضًا في فضل العيادة: أنّ من عادَ مريضًا في الصباح، شيَّعَهُ سبعون ألف ملَكٍ يستغفرون له إلى المساء، ومن عاد مريضًا في المساء، شيعَه سبعون ألف ملكٍ يستغفرون له إلى الصباح. 

وكما أنّ العيادة من حقّ المسلم، فقد يُشرَكُ فيها الجار، وإن كان غيرَ مسلمٍ، أو الذمّي العائش بين المسلمين. 

وقد جاء أنّه  عاد مريضًا يهوديًّا كان جارًا له، وقيل: إنّ ذلك الولد؛ ابنَ الجار، كان يتعرّض لخدمة النبي ﷺ في بعض الأشياء، فَمرضَ، فجاء ﷺ يعودُه، دخل إلى بيت أبيه؛ -جاره- جلس عند رأسه وأحسَّ أنّه مشرِفٌ على الموت بمرضه، فقال له: "قلْ لا إله إلّا الله، أشهدُ لكَ بها عند الله". ففتح عينيه ينظرُ إلى وجه أبيه، قال له أبوه: أَطِعْ أبا القاسم،  فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدًا رسولُ الله، ثمّ مات، فخرج رسول الله ﷺ فرِحًا يقول: "الحمدُ لله الذي أَنْقَذَه بي من النار"؛ مات على الإسلام، واليهوديّ في ذلك الوقت علمَ أنَّ ولدَه مُشرِفٌ على الموت، وعلمَ أنّّ الحقّ هنا مهما كابروا ، فقال له: أطِعْ أبا القاسم ﷺ. وفيها عَودُ بركةِ خدمته ﷺ عليه، حتى لم يتوفّّاه الله إلّا مسلمًا مؤمنًا، بما خدم رسولَ الله ﷺ، ولله عنايةٌ بِمَن نفع عباده على العموم، وخواصّّهم على الخصوص. لا إله إلّاهو.

وجاء أيضًا في الحديث أنّ الله تعالى يقول يوم القيامة: "يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدنِي! قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟ قَالَ: أمَا عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْه"، في بلادك في زمانك فلانُ بن فلان، ذاك له منزلةٌ عندي ومكانة، ما أنت دارٍ به، قريبٌ منك لتعودَه؟ "أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَني عِنْدَهُ!"؛ يعني: لوجدت رحمتي، ورضاي، ومغفرتي، وفضلي عليك تُحَصلّه بعيادة هذا المريض. "أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَني عِنْدَهُ!" هكذا في صحيح مسلم، يعاتب الله بعض العباد يوم القيامة. 

ويقول: "يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمنِي! قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أطْعِمُكَ وَأنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟! قَالَ: أمَا عَلِمْتَ أنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أمَا تدري أنَّكَ لَوْ أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي! يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي! قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أسْقِيكَ وَأنْتَ رَبُّ العَالَمينَ؟! قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ" - يوم كذا - "فَلَمْ تَسْقِهِ، أمَا تدري أنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي!" فيعاتبُهم على إضاعة الحقوق، والعتابُ ألم وعذاب، تتألم الروح إذا عوتبت من قِبَل الجبّار.. اللهمّ أجرنا من العذاب.

ويقول ﷺ: "إنّ المسلمَ إذا عادَ أخاه المسلم، لم يزَل في خُرفَةِ الجنّة حتّى يَرجع". هكذا أيضًا جاء في صحيح مسلم. وجاء عن سيدنا عليٍّ يقول: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: "ما من مسلمٍ يعود مسلمًا غَدوةً إلّا صلّى عليه سبعون ألف ملَكٍ حتّى يُمسي، وإن عادَه عشيّةً إلّا صلّى عليه سبعون ألف ملَكٍ حتّى يُصبح، وكان له خَريفٌ في الجنّة"، أخرجه الترمذيّ وقال حديث حسن.

ثمّّ من آداب عيادة المريض:

  •  أن لا يُطيلَ الجلوس عنده، إلّا إذا علم أنّه يأنس به ويفرح، وأنّه يشقّ عليه مفارقته؛ فلا بأس. 
  • ومنها أن يدنو منه ويضع يده على رأسه وعلى وجهه وعلى يده كما سمعتَ في الحديث، ويسألُه عن حاله، وينفّس له في الأجل، ويوصيه بالصبر ويبشِّرُه بالأجر، ويسأل منه الدعاء؛ لأنّ دعاء المريض أقربُ إلى الإجابة. 
  • ويستصحب معه ما يستروحُ به المريض؛ إمّا ريحانٌ أو فاكهةٌ يحبُّها ويتناولها وما إلى ذلك..                  
  • وإن كان من ذوي الحاجة يتصدّق عليه.
  •  وكذلك يُرغُّبُه في حُسن الظنّّ بالله، والثقة به، والرجعة إليه، والتوبة إليه. 

وجاء عن ابن عبّاس يقول: كان النبيُّ ﷺ إذا عاد المريض جلس عند رأسه ثمّ قال سبع مرات: "أسألُ اللهَ العظيم ربَّ العرشِ العظيم أن يَشفيَك". هكذا جاء عند البخاريّ في الأدب المفرد.

  • وينبغي أن يتحيّن الوقت المناسب للعيادة، ولا يجيء في وقت إحراج، ولا وقت نومه، ولا وقت طعامه وشرابه، ويجيء يتحيّنُ الوقت المناسب لئلّا يشقَّ على المريض في الدخول عليه في ذلك الوقت، فيترقّب الوقت المناسب. 

وهكذا علّمنا ﷺ هذا الدعاء. ويقول سيدنا سعد -رضي الله عنه-: كنتُ في مكّة، تشكّيتُ بمكة يعني: أصابني مرضٌ، فجاء ﷺ يعودُني، فوضع يده على جَبهتي ثمَّ مسح يدَه على وجهي وبَطْني وقال: "اللهُمَّ اشْفِ سَعْدًا، وَأَتمَّ لَهُ هِجْرَتَهُ "، قال: فَمَا زِلْتُ أَجِدُ بَرْدَهُ عَلَى كَبِدِي فِيمَا يُخَالُ إِلَيَّ  حَتَّى السَّاعَةِ؛ أراد: أنا أشعرُ به لمّا مرَّ بيده، في كبدي بردٌ إلى الآن، لا أزال أشعر بالبرودة في كبدي من مروره بيَدِه على وجهي وبطني ﷺ وأخبرَه أنّه ربّما عاده يطول عمره وسيستضِرُّ به أقوام وسينتفعُ به آخرون، يستضرُّ به كفّارٌ وأشرار، ويَنتفع به أخيار. لا إله إلّا الله..

وفي الحديث أيضًا يقول: "ما مِنْ مسلمٍ يعودُ مريضًا لم يَحضُرْ أجلُه فيقولُ سبعَ مرات: أسألُ اللهَ العظيم ربَّ العرش العظيم أن يَشفيَك، إلّا عوفي". تقول السيّدةُ عائشة: كان ﷺ إذا أتاه مريضٌ أو أُتيَ به إليه قال: "أَذْهب البأسَ ربَّ الناس، اشفِ أنتَ الشافي، لا شفاءَ إلّا شفاؤك، شفاءً لا يُغادِرُ سقَمَا". في رواية: "ولا ألمًا".

ولما شكى إليه ﷺ بعضُهم بعضَ المرض ألمَّ به، قال: "ضَعْ يدَكَ على ما تألّمَ من جسدك وقل: بسم الله، ثلاثًا، وقل: أعوذُ بعِزَّة الله وقدرتِه من شرِّ ما أجدُ وأُحاذِر، سبعًا". قال: فقلتُ، فأذهبَ اللهُ عنّي، فما زلتُ أُعلِّمها أهلي. صلى الله على سيدنا محمّد.

  • وينبغي أيضًا أن يُرغَّب المريض في شيءٍ من الطعام والتغذية، من دون إكراهٍ ولا إجبار. يقول: "لا تُكرهوا مرضاكم على الطعام، فإنَّ الله تعالى يُطعِمُهم ويَسقيهم". 

ولمّا كان في مرضٍ ﷺ ثمّ جيءَ له بدواء، فكأنّهُ ردَّه، فظنُّوا أنّه كراهة المريض للدّواء، تَرقَّبوا بعضَ غيبته ﷺ فلَدُّوه، أي: أدخلوا الدواء في فمه، فلمّا أفاقَ وأحسّ بذلك، خاف عليهم ﷺ أن ينالَهم من الله شيءٌ، فقال: "لا يَبقى أحدٌ في المجلس إلّا لُدَّ"، كلُّكم، أدخلوا في أفواهكم الدواء، قال: "لدُّوهم إلّا العبّاسَ فإنّه لم يَشْهدكم"، عمَّه العباس جاء، لكنَّه جاء بعد ما  لدُّوه، "فإنّه لم يَشهَدْكم"، هذا ما حضر عندكم، لكنه وقت قالَ وفعل ذلك ﷺ خشيةً عليهم؛ خاف أنَّهم إن فعلوا ذلك أن يغضب الله تعالى عليهم؛ لأنَّهم من دون إذنِه  لدُّوه، وظنّوا أنّه بسبب كراهةِ المريض للدَّواء، فأمرَ بِلدِّهم كلّهم، وسنّةُ الله أنّه إذا نيل من أحدٍ، فتصرّفَ بنفسه ينقطع عنه؛ ما عاد يؤاخذُ الله الثاني، ما عاد ينتقمُ له، فاستعجل على هذا خوفًا عليهم، فأمر؛ قال: كلُّ واحدٍ ضعوا في وسط فَمه الدواء، ودار عليهم، كلّ الذين حضروا معه في تلك الساعة؛ حتّى لا يصيبَهم من الله شيءٌ، ﷺ. 

رزَقنا الله حُسْن متابعتِه، وكمال محبّته، وحشَرنا في زُمرته، وملأَ قلوبنا بمودَّته، وأكرمنا وأسعدنا بشريفِ مرافقته، إنّه أكرم الأكرمين، بسرّ الفاتحة إلى حضرة النبيّ محمّد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

16 رَجب 1444

تاريخ النشر الميلادي

07 فبراير 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام