(43)
(390)
(612)
(535)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب العين، باب تَعَالُجِ المَرِيض.
فجر الإثنين 15 رجب 1444هـ.
باب تَعَالُجِ الْمَرِيضِ
2740 - حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ رَجُلاً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَصَابَهُ جُرْحٌ، فَاحْتَقَنَ الْجُرْحُ الدَّمَ، وَأَنَّ الرَّجُلَ دَعَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي أَنْمَارٍ، فَنَظَرَا إِلَيْهِ، فَزَعَمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَهُمَا: "أَيُّكُمَا أَطَبُّ؟". فَقَالاَ: أَوَ فِي الطِّبِ خَيْرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَزَعَمَ زَيْدٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "أَنْزَلَ الدَّوَاءَ، الَّذِي أَنْزَلَ الأَدْوَاءَ".
2741 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ اكْتَوَى فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الذُّبَحَةِ فَمَاتَ.
2742 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ اكْتَوَى مِنَ اللَّقْوَةِ، وَرُقِىَ مِنَ الْعَقْرَبِ.
الحمد لله مُكرمنا بالشريعة، وبيانها على لسان عبده محمدٍ ﷺ ذي المراتب الرفيعةِ والجاهات الوَسيعة، اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرِّم على عبدك المُجتبى المختار سيدِنا محمدٍ طبِّ القلوب ودوائِها، وعافية الأبدان وشفائها، وقوتِ الأرواح وغذائها، ونور الأبصار وضيائها، وعلى آله وصحبه وباركَ وسلّمَ، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين، وجميعِ عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيذكر لنا الإمامُ مالكٌ -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- ما جاء في السُّنة من التطبُّبِ واستعمال الطبِّ وعلاج المريض، وأنَّ المعالجةَ مشروعةٌ بأصل الشرع.
ومعلومٌ أنها لا تعدو أن تكون أسبابًا، وأنه لا يجوز لمؤمنٍ أن يعتقدَ تأثيرًا استقلالًا في أي شيءٍ كان، من نفسه ولا من غيره، ولا من أي المواد والكائنات، وأنَّ الذي يستقلُّ بالإرادة والفعل هو الله سبحانه وتعالى، ثم لا يكون عند مَن يؤتيهم إرادةً ولا قوةً ولا قدرة ولا سببية إلا استعمال ما أَذِنَ لهم فيه، بحسب ما وافقَ مشيئتَه -سبحانه وتعالى- وإرادته وتقديره، ومتى شاءَ ومهما شاء وأنّى شاء وأين شاء؛ أذهبَ أثر السببية وخصوصية التسبُّب، فالأمرُ كله له، وإليه يعود.
قال سيدنا الخليل إبراهيم: (وإذا مَرِضْتُ فهو يَشْفِيْنِ) [الشعراء:80]؛
فالشفاءُ شفاؤه وحده لا يشفي غيره، ولا يُمرِض غيرُه -جل جلاله وتعالى في علاه- فنسأله أن يعافينا وأن يداوينا وأن يشفينا وأن يُصفّينا وأن يصطفينا.
وأورد في تعالُجِ المريض، وقد جاء عند البزّار: أنّ عروة قال: قلتُ لعائشة: إني أجِدُك عالمةً بالطِّب فمن أين؟ قالت: إن رسول الله ﷺ كثُرَت أسقامُه فكانت أطباءُ العرب والعجم ينعتون له، فتعلَّمتُ ذلك. وقد جاءت الأحاديثُ كما يقول الإمام السيوطي في علمه ﷺ بالطب غيرَ منحصرةٍ، وجُمعَ منها دواوين.
وكان بعض ما يتعلّقُ بالطب عُلِم بالوحي إلى بعض الأنبياء، والبقيةُ بالتجارب، فإن الله جعل التجربة وسيلةً، ولم يزالوا فيما يدّعونه من تقدُّم في الطب يعملون على التجارب، وأكثرُ ما يجربون المواد على الفئران، ومع ذلك فجعلوا في الدواء الذي يعالجون به مواد قد تعود بالضرّر على الإنسان في جوانب من شؤون حياته؛ ولهذا صاروا بعد تَبجُّحِهم الشديدِ بالتقدّم في الطب، يبحثون عمّا يُسمّى بـالطبّ البديل، فيرجعون إلى شيءٍ ممّا كان عليه السابقون من بني آدم في المعالجة بالأعشاب، وبالمواد الخالية عن الكيماويات وهذه التصنيعات التي تُعَرِّضُها إلى أن تكون ضارّةً في جانبٍ من الجوانب.
ومع كل ما يُسمَعُ من هذا التبجُّح والتقدم والتطور، فإنهم لا يزالون أيضًا يعترفون بأن كثيرًا من قراراتهم الطبيَّة جاءت لأجلِ مصلحة شركاتٍ معيّنة -من أهل الأدوية وغيرهم- كذباً وتلبيساً على الناس، وادّعوا ضررًا فيما لا ضرر فيه، وادّعَوا نفعًا فيما فيه ضرر، وهم ينشرون ذلك الآن ويقولون: منذ خمسين سنة قلنا لكم كذا وكذا وهو غيرُ صحيح! هذا كذبٌ وهذا كذا.
أمّا ما ثبَت في الطب عن الأنبياءِ وعن خاتَمِهم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فهذا يحملُ النفعَ الخالص، لا ضَررَ فيه ولا غشَّ ولا كذبَ ولا خيانة.
ومع ذلك كله فمهما كان من الاستخلاصِ للمواد، وما كان من التعرُّفِ على هذه الأسباب والتجارب فيجري مجراه، وقد يكون له آثار محمودة وحسنة في جوانبٍ من جوانب المعالجة؛ فليس الأمرُ مردودًا على عِلّاته، وليس مقبولًا على عِلّاته؛ ولكن تختلفُ الأحوال والشؤون، ويختلف مَن لذلك العمل يمارسون، ما بين مَن يَصدُقون ومَن يكذِبون، وبين مَن يُخلِصون ومن يتغرَّضون بأنواع من الأغراض والمقاصد.
وواجبُ المؤمن -سواءً في الطب أو في غيره من الأسباب- أن يكون معتمدًا على ربّ الأرباب ومُسبّبِ الأسباب، وأن يقوم بما يستطيعُه من التسبُّب في دوائر المباحات والمندوبات وما يُعدُّ من الخيرات، ولْيَحذر مما حُرِّم، وإنه لمّا سُئِل ﷺ عمّن يدَّعي التداوي بالخمر قال: "إنَّ اللهَ لم يجعلْ شفاءَ أُمتي فيما حرَّمَ عليها" ﷺ.
وجاء عن ابن عباسٍ في رواية الطبراني: أن نبي الله سليمان -عليه السلام- كان إذا قام يُصلي رأى شجرةً نابتةً بين يديه يسألُها ما اسمك؟ تقول: كذا، يقول: لأيِّ شيءٍ أنت؟ تقول: لكذا وكذا، فإن كانت لدواءٍ معيّنٍ كُتبتْ، وهكذا. وجاء أيضًا في السيرة أن بعضَ الأشجار خاطبتْهُ ﷺ وقالت له: إن الله جعل فيَّ خصوصيةً لمعالجة كذا ومداواة كذا..صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فعامّةُ السلَف والخلف قالوا بمشروعية الطبِّ واستعمالِ الدواء. ولما كان في الشأن مَن يَظنُّ أن الدواء بنفسه مؤثرٌ وقائمٌ، جاء تحريمُ بعضِ أهل العلم من السلف والخلف لهذا التطبُّبِ والمعالجة. والذي عليه الجمهور: أن ذلك مشروعٌ وجائزٌ، ولكن بواجب أن لا يُعتَقد الاستقلال في التأثير لشيءٍ قطُّ قطّ قطّ، سوى الله سبحانه وتعالى.
وذكر لنا: "أَنَّ رَجُلاً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَصَابَهُ جُرْحٌ، فَاحْتَقَنَ الْجُرْحُ الدَّمَ" أي: احتبس دمُه، "وَأَنَّ الرَّجُلَ دَعَا رَجُلَيْنِ" يعني: طبيبين "مِنْ بَنِي أَنْمَار"، أنمار هذا أبو قبيلةٍ من غَطَفان يسمى: أنمارُ بن نِزار، من آل مَعَدّ بن عدنان، "فَنَظَرَا" أي: الطبيبان "إِلَيْهِ، فَزَعَمَا"؛ أي: قالا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَهُمَا: "أَيُّكُمَا أَطَبُّ؟"؛ يعني: أيُّكما أعلمُ بالطب؟ فاحتُملَ أنه يريد البحثَ عن حالِهما ومعرفتِهما بالطب، وفيه إشارةٌ إلى أنه مَن كان أطبَّ ومن كان متخصّصًّا ومن كان أمهرَ ومن كان أعرف، هو الأولى بأن يَتولّى أمثالَ ذلك.
وحتى قال الفقهاء فيمن تطبَّبَ وليس بطبيبٍ، فتسبّبَ في إفساد شيءٍ من أعضاء الإنسان أو موتِه: أنه يَضمنُ ذلك، إذا لم يكن طبيبًا حاذقًا ولا ماهرًا وقام يخترع معالجاتٍ من رأسه! وتسبّب في شيءٍ من إفساد الأعضاء، أو موت الشخص، فإنه يضمنُ ذلك، وإنما يكون لمَن هو حاذقٌ وماهرٌ وعالمٌ بالأمر.
"فَقَالاَ: أَوَ فِي الطِّبِ خَيْرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟"؛ يعني: فائدةٌ ومنفعةٌ للناس، "فَزَعَمَ زَيْدٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَنْزَلَ الدَّوَاءَ، الَّذِي أَنْزَلَ الأَدْوَاءَ"؛ يعني: الأمراض؛ الذي أنزل الأمراضَ هو الذي أنزل الدواء. وهكذا تعدّدت الروايات عن عددٍ من الصحابة عن رسول الله ﷺ أنه قال: "ما أنزلَ اللهُ داءً إلا وجعلَ له دواء" و "أن الذي أنزلَ الداءَ أنزلَ الدواء" إلى غير ذلك.
حتى جاء أن بعضَ الأنبياء -صلوات الله عليهم- لما مرض بمرضٍ، وكان أن جعل اللهُ علاجَه في نوعٍ من الشجر مخصوصٍ يُتناول ثمره، فأمسك ذلك النبيّ عن أخذ الشجر، وقال: يا رب اشفني، فأوحى الله إليه: لا شفيتُك حتى تتناولَ هذا.. فإني أنا رتبتُ ذلك، أنا جعلت هذا.. أي: اخضعْ لسُنّتي وترتيبي في الوجود من دون أن يكون التأثير لها، ولكن للّذي وضع الأثر، وهو الله جلّ جلاله وتعالى في علاه.
وجاء عن سيدنا عليٍ موقوف ومرفوع يقول: "لكل داءٍ دواء، ودواءُ الذنوب الاستغفار". اللهم ارزقنا صدق الاستغفار وكثرة الاستغفار، وقال ﷺ: "مَن لَزِمَ الاستغفار جعل اللهُ له من كل همٍّ فرجًا ومن كل داءٍ مخرجًا".
جاء في رواية البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "ما أنزلَ الله داءً إلا أنزلَ له شفاء"، وجاء في رواية ابن مسعود عن النبي ﷺ: "إنّ الله لم يُنزل داءً إلا أنزل له شفاءً، فتداوَوا" فيما جاء في سنن النسائي وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهم.
كذلك جاء حديثُ سيدِنا أسامةَ بن شُريك عند الإمام أحمد وعند البخاري في الأدب المفرد وعند الترمذي وصحّحه، يقول ﷺ: "تداوَوا يا عبادَ الله؛ فإن اللهَ لم يضعْ داءً إلا وضعَ له شفاءً، إلا داءً واحدًا؛ الهَرَم"، ما يوجد دواء يرجّع الهَرِم إلى شاب،.. خلاص… قال تعالى:(خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً) [الروم:54]. يحاول ويحاول، ويصلّح عمليات تجميل، ويصلّح أدوية، ويصلّح مقويّاتٍ وفيتاميناتٍ، وبعدين.. ما عاد يقدر يقوم، وما عاد يقدر يمشي.. ولا يقدر أحد أن يُحوّلَ الحال، فسبحانه المتصرّفُ في الأحوال، ومرتبُها كما يشاء، لا إله إلا هو.
وجاء في روايةٍ عند النسائي، زاد: "عَلِمَه مَن عَلِمَه وجَهِلَه مَن جَهِلَه". وجاء أيضًا في صحيح مسلم: "لكل داءٍ دواء، فإذا أُصيب دواءٌ الداءَ بَرأَ بإذن الله"، وإذا لم يأذن، فلو جئتَ بجميع أدوية العالم ما تفيدُك شيء، حتى يأذن الله سبحانه وتعالى بالشفاء من عنده.
وجاء أيضاً عند أبي داود، عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ يقول: "إن اللهَ جعلَ لكُلِّ داءٍ دواءا، فتداوَوا ولا تتداوَوا بِحَرام". لا إله إلا الله! إذًا؛ فكله نازلٌ من عند الله: الداءُ والدواء.
وذكرَ في الحديث أن أسعدَ بن زُرارة، -وهو الذي جاء في الروايات في بعض النُّسَخ سعد بن زرارة وليس هو- "أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ اكْتَوَى فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الذُّبَحَةِ"، وكان هذا من النقباء أو رأس النقباء في بيعةِ العقبة -عليه الرضوان- وقلنا إن بعض الرواة حوّلها إلى سعد بن زُرارة، وسعدُ بن زرارة إنما هو أخوه، إنما هذا أسعدُ بن زرارة، مات في حياة النبي ﷺ قبل غزوة بدر، "اكْتَوَى فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الذُّبَحَةِ"؛ الذَّبحة: خنقةٌ تجيء في الحلق، أو قرحةٌ في الحلق "فَمَاتَ".
وفي يوم أنه أمرَه ﷺ أن يكتوي، فالكيُّ جائزٌ للحاجة، وفي الحديث: "إنْ كان في شيءٍ من أدويتكم شفاءً ففي شَرطةِ مِحْجَم أو لَذعةٍ بنار أو شَربةٍ من عسل" وهكذا، وجاء في لفظٍ: "وما أحبُّ أن أكتوي". وجاء أيضًا في صحيح مسلم كيَّ سعد بن معاذ على أَكحُلِه. وجاء عن أنس: "كُويتُ مِن ذاتِ الجَنب ورسولُ الله ﷺ حيٌّ"، وجاء أن النبيَّ ﷺ أمرَ أسعدَ بن زرارة أن يكتوي من الذبحة، وقيل من الشوكة، والشوكة: هي ذات الجنب، ولكن الصحيح أنه إنما كانت به الذبحة، وتوفيَ.
وفيه: أنه يُستعملُ العلاجُ، وليس من الضرورة أن يكون فيه الشفاءُ، وقد يموتُ المُعالَج وهكذا. والشاعر يقول:
ذهب المُداوي والمداوَى والذي *** جلبَ الدواءَ وباعَه ومَن اشترى
كلُّهم يموتون، ما يبقى أحد منهم، لا الطبيب ولا المريض ولا الذي يجلب الدواء ولا الذي يصنعه ولا الذي يبيعه، لا أحد منهم يبقى، كلهم يموتون يموتون يموتون …لا إله إلا الله!
وكما قال تعالى فيمن إذا أصابَهم الغرقُ في البحر دعَوا ربهم سبحانه وتعالى، (وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ * إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ) [يس:43-44]. لا استمرارَ لشيء، لا دوام لشيء، لا استمرار ولا دوام، إلا (إِلَىٰ حِينٍ)، نؤخرهم قليل، لكن بقاء؟ لا أحدَ يبقى! إن جئت من ذا ترجع في ذا؛ لابد لك من الموت، لكنه متاع إلى حين، يأخذ له قليل من الزمان، أما البقاء ما يكون، لا أحدَ يبقى..لا إله إلا الله! (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) [الأنبياء:34]، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران:185].
وخرج مرةً بعضُهم من دوعن، رجلٌ صحيح يُعالج أخاه مريض مُدْنِف، كان مرضُه شديد، خرج من دوعن إلى سيئون إلى المستشفى يتعالجون، فشُفيَ المريضُ وماتَ الصحيح الذي خرج يُعالجُه! جاءهم الخبر عنه أنه مات فقالوا: لا! قالوا: لا فلان الذي مات! قالوا: لا لا فلان! قالوا: لا فلان، قالوا: أبدًا! كيف..هذا خرج ليُعالجَه؟! قالوا له: هو الذي خرجَ ليُعالِج مات، والمُعالَج شفاه الله ورجع إلى البلاد في عافية! لا إله إلا الله.. سبحانه عز وجل-(بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) [يس:83].
وجاء: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ اكْتَوَى مِنَ اللَّقْوَةِ"؛ وهو داءٌ يصيبُ الوجه، يَميلُ فيه الوجه عن أصل وضعه، فيُكتوَى في أصل الأذُنين أو نحوها، فقد يكون لذلك أثرًا، "وَرُقِىَ مِنَ الْعَقْرَبِ".
كما جاء أيضًا في الحديث أنه ﷺ كان يصلي فلُدِغَ النبيُّ ﷺ وهو يصلي، فلمّا فرغ، يعني: استمر في الصلاة بعد أن لدغَتْه عقربٌ، استمر في الصلاة حتى أكمل، ثم قال لما فرغ: "لعنَ الله العقربَ لا تدعُ مصليًا ولا غيرَه"، ثم دعا بماءٍ فجعل يمسحُ عليها ويقرأ الكافرون والمعوذتين، وهذه رُقية.
وجاء عن سعيد بن المسيب يقول: مَن قال حين يمسي: (سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ) [الصافات:79]، لم يلدغه عقربٌ، وهي يُستجارُ ويُستعاذُ بها من العقرب والحيّة ونحوها، وخصوصًا إذا كان في ظلمةٍ أو في مكانٍ يُتوقع فيه وجودُ عقاربٍ أو حيّات، فيقرأ: (سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) [الصافات:79-81]. فإنه يُذكرُ أن نبيَ الله نوح لمّا أركبَ معه هذه الحيوانات، أمرَه اللهُ أن يأخذ في السفينة من كلٍ زوجين اثنين، ومنها: الحيّات والعقارب، وأنه أخذ عليهِنّ العهدَ والميثاق أن لا يلدغن من يذكر اسمَه، فإذا ذكر: (سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ) ما يَلدغْنَه. لا إله إلا الله!.. وهنّ مأموراتٌ تحت أمر الله تعالى، لا تستطيع أن تلدغ ولا تمتنع عن اللدغ إلا بأمر الرَّب جلّ جلاله وتعالى في علاه.
ولمّا كان الشيخ شعيب أبي مدين يمشي مع بعض أصحابه، ورأى رجلاً من أصحابه يقول له: أرى أن هذا الرجل يموت، والصباح ما يصلي معنا الصبح! فأصبحَ الرجلُ بخيرٍ وجاء يصلي معهم! فجاء الرجل إلى الشيخ يقول له: كنت توقعتَ عن هذا!.. قال: نعم، إنه تصدَّق البارحة بصدقةٍ، وأنّ الله تعالى أطال في عمره، اذهبْ إلى تحت الفراش الذي بات فيه، فانظر ماذا تحتَه، فذهب فوجدَ حيّةً، تعجّب منها! فأنطَقها الله، قالت: كنتُ موكّلةً بفلان البارحة، فتصدَّقَ بكذا فزِيدَ في عمره كذا، وإنه سيأتي في وقته، ويموتُ بلدغ حية، هكذا مكتوب من فوق لا بد يجيء له الموتُ في وقته، ولكن بما يَبرُزُ في صحف الملائكة ما يُمحَى وما يُثبَت (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [الرعد:39]، علمُه الأزلي ما يتبدّلُ ولا يتغيّر؛ لكن الذي يَظهر في صحفِ الملائكة ويطّلعُ عليه بعضُ الأولياء يتقدّمُ ويتأخرُ ويتبدَّل ويتغيّر، وأمّا ما في علم الله في الأزل وما في أمّ الكتاب هو هو، لا يتبدّل ولا يتغيّر، ولكن يكون قضاء وقدر معلّق بشيءٍ: إن حصل كذا يكون كذا، وإن حصل كذا يكون كذا، فهو مُعلّق، وفي الأزل قد علم الله أنه يَحصلُ كذا ويكون كذا، فما يظهرُ لكثيرٍ من الملائكة، لأنه لا يحيطُ بعِلم الغيب من جميع وجوهه إلا الله سبحانه وتعالى.
هكذا جاء أيضًا عند البيهقي في شعب الإيمان عن سيدنا علي قال: بينا النبي ﷺ ذات ليلةٍ يصلي، وضعَ يديه على الأرض فلَدغَته عقربٌ، فناولَها رسول الله ﷺ بنعله فقتلها، فلمّا انصرف قال: "لعنَ الله العقربَ لا تدعُ مصليًا ولا غيرَه، أو نبًّيا ولا غيره"، ثم دعا بماءٍ وملحٍ، وضع في الماء ملح، فجعله في إناءٍ ثم جعل يصبُّ على إصبعه حيث لدغته ويمسحها ويعوّذها بالمعوذتين، فهذه رقيته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ولم يصحَّ عن النبي ﷺ اكتواؤه -وإن رُويَ ذلك- ولكن اكتوى بنَظرِه كثير من أصحابه في حياته. ثم يتكلم عن الغسل من الحمّى وعن العيادة للمريض.
كتبَ الله لنا العوافي في الظواهر وفي الخوافي، وشفانا وهو خير شافي، ودفع عنّا الآفات والعاهات، ورزقنا صحةً في تقوى، وطولَ أعمارٍ في حُسن أعمال، وأرزاق واسعةً بلا عذابٍ ولا عتابٍ ولا فتنةٍ ولا حساب، إنه أكرم الأكرمين، الفاتحة.
15 رَجب 1444