(43)
(390)
(612)
(535)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب صفة النبي ﷺ، متابعة باب جَامِعِ ما جاء في الطَّعام والشَّرَاب (5).
فجر الإثنين 8 رجب 1444هـ.
متابعة باب جَامِعِ مَا جَاءَ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ (5)
2716 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَأْكُلُ خُبْزاً بِسَمْنٍ، فَدَعَا رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَيَتَّبِعُ بِاللُّقْمَةِ وَضَرَ الصَّحْفَةِ، فَقَالَ عُمَرُ كَأَنَّكَ مُقْفِرٌ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَكَلْتُ سَمْناً، وَلاَ رَأَيْتُ أَكْلاً بِهِ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ عُمَرُ: لاَ آكُلُ السَّمْنَ حَتَّى يَحْيَا النَّاسُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَحْيَوْنَ.
2717 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، يُطْرَحُ لَهُ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ، فَيَأْكُلُهُ حَتَّى يَأْكُلَ حَشَفَهَا.
2718 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنِ الْجَرَادِ؟ فَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ عِنْدِي قَفْعَةً نَأْكُلُ مِنْهُ.
2719 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ خُثَيْمٍ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً مَعَ أبِي هُرَيْرَةَ بِأَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ، فَأَتَاهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى دَوَابَّ فَنَزَلُوا عِنْدَهُ، قَالَ حُمَيْدٌ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اذْهَبْ إِلَى أُمِّي فَقُلْ: إِنَّ ابْنَكِ يُقْرِئُكِ السَّلاَمَ وَيَقُولُ: أَطْعِمِينَا شَيْئاً. قَالَ: فَوَضَعَتْ ثَلاَثَةَ أَقْرَاصٍ فِي صَحْفَةٍ، وَشَيْئاً مِنْ زَيْتٍ وَمِلْحٍ، ثُمَّ وَضَعَتْهَا عَلَى رَأْسِي وَحَمَلْتُهَا إِلَيْهِمْ, فَلَمَّا وَضَعْتُهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كَبَّرَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَشْبَعَنَا مِنَ الْخُبْزِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ طَعَامُنَا إِلاَّ الأَسْوَدَيْنِ، الْمَاءَ وَالتَّمْرَ. فَلَمْ يُصِبِ الْقَوْمُ مِنَ الْطَّعَامِ شَيْئاً، فَلَمَّا انْصَرَفُوا قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أَحْسِنْ إِلَى غَنَمِكَ، وَامْسَحِ الرُّعَامَ عَنْهَا، وَأَطِبْ مُرَاحَهَا، وَصَلِّ فِي نَاحِيَتِهَا، فَإِنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ لَيُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، تَكُونُ الثُّلَّةُ مِنَ الْغَنَمِ أَحَبَّ إِلَى صَاحِبِهَا مِنْ دَارِ مَرْوَانَ.
الحمد لله الذي أكرمنا بالهدى وبيانه على لسان رسولِه محمدٍ المُقتدى، صلى الله وسلَّم وبارك وكرَّمَ عليه وعلى آله وصحبه السُّعداء، ومَن والاهم في الله -تبارك وتعالى- وتَبِعهم بإحسانٍ فيما خَفِيَ وما بَدا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين جعَلهم الله لِمَن سواهم محلَّ الاقتداء والاهتداء، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميعِ عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
ويواصل سيدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- ذكرَ الأحاديث المتعلّقةِ بالطعام والشراب.
ويذكر لنا عن سيدنا عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه: أنه كان يومًا من الأيام، وذلك في أيام سنةِ الجَدْبِ، والعام الذي سُمّيَ عامَ الرَّماد؛ لكثرة ما أصاب الناس من القَحْط؛ حتى صار الغبار يرتفع من الأرض ويصير كأنه رماد، فسُمِّيَ العامُ: عامَ الرمادة، وكان ما بين سنةٍ إلى ثلاث سنوات، استمرَّ ذلك الجدبُ والقَحْط، حتى استسقى سيدنا عمر، وتوسّلَ بسيدِنا العباسِ بن عبد المطلب عمِّ رسول الله ﷺ، ثم دعا العباسُ ربَّه، فأقبلت السُّحبُ وسُقِيَ الناسُ في الحرمين وما بينهما، فصار الصحابةُ يُسمّون العباسَ: ساقيَ الحرمين، يقولون له: يا ساقيَ الحرمين! وقال الحبيبُ أبوبكر بن شهاب في ذكر هذه الواقعة، متوسّلاً بآل النبيِّ ﷺ:
ربِّ غِثنا بهم فإنك بالـ *** عباسِ غِثتَ الأنامَ عامَ الرَّمادة
ففي ذلك العام دخل على سيدنا عمر بن الخطاب رجلٌ من أهل البادية، وكان بين يدَي سيدِنا عمر صَحْفَةٌ فيها بعضُ خُبزٍ مأدومٍ بسَمْن، قال: "كَانَ يَأْكُلُ خُبْزاً بِسَمْنٍ، فَدَعَا رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَجَعَلَ" الرجل "يَأْكُلُ وَيَتَّبِعُ بِاللُّقْمَةِ وَضَرَ الصَّحْفَةِ" يعني: أثرَ السَّمنِ في جوانبها، يتتبَّعُ "وَيَتَّبِعُ بِاللُّقْمَةِ وَضَرَ الصَّحْفَةِ"؛ يعني: أثرَ ما بقيَ من دسمِ وأثر السمن، قال: "فَقَالَ عُمَرُ: كَأَنَّكَ مُقْفِرٌ" يعني: لا إدامَ عندك، من الإقفار: وهو الخُبز بلا إدام، ويُقال عن أرضٍ قفْرة، يعني: خاليةً عن المادّة، لا ماءَ فيها، ويُروى: "ما أقْفَرَ بيتٌ من أُدْمٍ فيه خلّ" و "أقفرَ الرجل" إذا لم يكن عنده إدام، "فَقَالَ:" الرجل المذكور "وَاللَّهِ مَا أَكَلْتُ سَمْناً" منذ كذا وكذا.. لي مدّةً ما وجدتُ السمن، مشيرًا إلى عَدَمه في ذلك الوقت وقِلّته؛ لعدم الأمطار، فتعبَ أهل الحجاز بانقطاع المطر عنهم تعَبًا كثيرًا، فما عادت إبِلُهم ولا بقرُهم ولا غنمُهم تَحفَلُ باللبن، ولا تلد؛ لعدم وجود القوت من الزرع، بسبب انقطاع المطر.
وقال الرجل: "وَاللَّهِ مَا أَكَلْتُ سَمْناً، وَلاَ رَأَيْتُ أكْلاً بِهِ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا" يعني: من مدّة، يعني: الأمرُ منتشرٌ بين الناس.. يعني لا أنا آكلٌ ولا غيري من الناس، فتأثّرَ سيدُنا عمر بهذا الحال الذي وصل إليه الناسُ وقال: "لاَ آكُلُ السَّمْنَ حَتَّى يَحْيَا النَّاسُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَحْيَوْنَ" أي: من أوَّلِ ما يُمطَرون، أي: فما دام حالهم هكذا فأنا أَمنعُ نفسي عمّا يتيسرُ لي من السمن وغيره؛ حتى أكونَ كفقراءِ الرعيَّة الذين لا يجدون السمن؛ فلا أَطْعَمُـه حتى يجدَه الرعيةُ وفقراؤهم، فإذا وجدوه طَعِمتُه معهم، وإلا فلا أتميّزُ عنهم.
فكان هكذا شأنُ الأمراءِ الصالحين -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى- "لاَ آكُلُ السَّمْنَ حَتَّى يَحْيَا النَّاسُ"؛ يعني: يُمطَر الناس "مِنْ أَوَّلِ مَا يَحْيَوْنَ" أي: ما يُمطرون، ومن أسماء المطر: الحَيَا،
…………………….. *** إنّ الحَيَا يُنبتُ الأزهارَ في الأَكَمِ
بالمطر تُزهِرُ الأشجارُ وتُثمِر، وهكذا كان.
وجاء في صحيح البخاري وغيره: "أنهُ خرج يستسقي بالناس، ثم قال سيدُنا عمر في دعائه: اللهم إنَّا كنّا نتوسلُ إليك بنبيِّنا فتسقيَنا، وإننا نتوسلُ إليك بعَمِّ نبيّنا فاسْقِنا". وقال: "أيها الناس إن هذا العباسَ عمُّ رسول الله ﷺ وكان يَرى له ما يَرى الولد لوالده، فاتخِذوه وسيلةً، قمْ يا عباس فادعُ الله، فرفعَ سيدنا العباس يديه وقال: اللهم إنّهُ لم تنزل عقوبةٌ إلا بذنبٍ، ولم تُرفَع إلا بتوبةٍ، وها هي أيدينا إليك بالذنب ونواصينا بالتوبة، فتُبْ علينا واسقنا، اللهمّ إنهم توسّلوا بي لِقرابتي من نَبيِّك، اللهم فاسقِنا. فأقبلَ السحاب من كل جانبٍ واغدودقَ وصبَّ المطر من طرَف الحجاز إلى طرفها، وعمَّ الحرمين وكلَّ ما بينهما، فسُقوا الناس بحمد الله وارتفعت الشدّة.
وهكذا اختبارُ الحقِّ -تبارك وتعالى- لعباده، وأحوالُ الأخيار -ممّن يجدُ وممّن يتيسَّر له الأمرُ- أن يتفقدَ أحوالَ الفقراء، وكان سيِّدُنا يوسُف لمَّا تولَّى خزائنَ الأرض، يصوم يوماً ويفطر يوماً، فقيل له: لِمَ تفعلْ هكذا وتحت يدِك خزائنُ الأرض؟ قال: أخشى أن أشبعَ فأنسى الجائع، عليه وعلى نبينا أفضلُ الصلاة والسلام.
وهكذا يقول سيدنا أنس: لمَّا تركَ السمنَ سيدُنا عمر، وأخذ يكتفي ببعض الزيت أدماً؛ يكون إداماً لخبزه، فلمّا لم تكن بطنُه تألفُ الزيت قرقَرَ بطنُه، فكان إذا سمع قرقرةَ بطنِه يقول: لتمرُّنَّ على أكل الزيت ما دام السمنُ يُباع بالأواقي؛ ما دام السمن قليل ولا يأخذه إلا قليل من الناس، قرقري أو لا تقرقري، ما لَكِ إلا هذا الزيت، إلى أن يُفرِّج اللهُ على الناس، ثم يَطعمُ السمنَ الكلُ، فيطعَمُه عمر معهم، فهكذا كان يقول.
وقد كتب إلى أبي موسى الأشعريِّ: "أما بعد، فإن أسعدَ الرُعاة من سَعِدَتْ به رعيّتُه، وإن أشقى الرعاة من شَقِيَت به رعيتُه، فإياكَ أن تزيغَ ويزيغ عُمّالُك، ويكونَ مَثَلُك مَثَلُ البهيمة، نظرتَ إلى خُضْرةٍ من الأرض فَرَعَت فيها تبتغي بذلك السِّمَن، وإنما حتْفها في سِمَنُها"؛ إذا سَمِنتْ يذبحونها، يُسمِّنونها من أجل أن تُذبَح وتُؤكَل "إذًا لا تكنْ مثلها. والسلام."
هذا كتابُ سيدُنا عمر لأبي موسى الأشعري، وكلُّهم تربيةُ زينِ الوجود ﷺ، وهو الذي قال: "مَن استرعاهُ اللهُ رعيةً فلم يُحِطْها بالنَّصيحةِ وحُسنِ الرعاية لم يُرِحْ رائحةَ الجنة" والعياذ بالله تبارك وتعالى.
ربِّ غِثنا بهم فإنك بالـ *** عباسِ غِثتَ الأنامَ عامَ الرَّمادة
قال: ويَذكرُ ما كان يُنازلُه من الجوع، ثم يأكل التمرَ الخالص حتى حَشَفُه، يعني: لا يتخيَّرُ منه، ويأكل الكُلَّ لمكان الجوع، فيأكلُ الحشَفَ والتمرَ، يقول: "رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، يُطْرَحُ لَهُ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ، فَيَأْكُلُهُ حَتَّى يَأْكُلَ حَشَفَهَا"؛ أي: من شدةِ جوعه، عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
وهكذا، كان الحبيب علوي بن شهاب -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- أنه أيام طلبِ العلم، قد يخرجُ من الدرس في الصباح، ويرجع إلى البيت، فما يجدُ عندهم شيئاً، ما عندهم صَبوحٌ، قال: فأذهبُ إلى ما برَّحوه للشمس من النَّوى، -نوى التمر-، الذي يَجعلونه من أجل أن يَيبسَ فيرضحونه للغنم، فآتي إليه إن وجدتُ حَشْفَةً فيه أو شيء آخذها لتكونَ صبوحي، فيبحث في النوى وفي التمر، إذا وجد من بينه حشفةً أو حشفتين أو ثلاث أخذها وكانت هي صبوحَه! عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
ثم ذكرَ أنه سُئل عن الجراد، فقال: "وَدِدْتُ أَنَّ عِنْدِي منه قَفْعَةً" ويقال لها: قُفة، القَفْعَة والقُـفّة، بعضُ المناطق يسمونه: زَنْبِيل، بعض المناطق يسمونه: قُـفّة هونفسُه، وبعض المناطق يقولون له اسماً آخر، والمراد: وعاءٌ من خوصِ النَّخل يُوضَع فيه التمر ونحوه، قال لو معنا شيءٌ ملءَ هذا جراد سنأكلُه، ويشيرُ إلى إذهابه الجوعَ من دون تَرفُّه، قال: لو حصّلنا هذا الجراد.
وهو أيضًا له ملمحٌ في الجراد: أنّ مِن أولِ الأمم فناءً في الأمّة: الجراد، وحتى إنه لما فَـقَده مدّةً وما رآه ، أخذ يسأل: هل يوجد جرادٌ في بعض الأماكن؟ فلما أُخبِر عن وجود الجراد في بعض الأراضي البعيدة حَمِد الله، وقال: خشيتُ أن الساعةَ قَرُبَت، وأنه قد فنيَ الجراد.
وهذا هو الجراد، وأكلُه حلالٌ، بشاهد قوله ﷺ: "أُحلِّتْ لنا مَيتتانِ ودَمَان، أما الميتتانِ: فالسَّمكُ والجراد، وأما الدَّمَانِ: فالكبدُ والطَحال" حلالٌ أكلها، والدمُ محرمٌ، ولكن الكبدَ والطحال منعقدةٌ من دمٍ وهو حلال، وكان ﷺ يأكلُ الكبدَ ولا يأكل الطحال.
والسمكُ والجراد حلالٌ.
وكذلك تقدّم معنا أن السمكةَ الكبيرة التي يمكنُ أن تعيشَ مدةً بعد خروجها من الماء، يُستحبُ عند الشافعية أن يُمَرَّ بالسكين من جهة ذَيلِها؛ فقد يخرج منه أثرُ دم، ولكن "الحِلٌّ ميتتُه" كما أخبر -عليه الصلاة والسلام- عن البحر: "الحِلٌّ ميتته"، وكذلك هذا الجراد مَيتةٌ حلال.
ثم ذكر لنا عن أبي هريرة يقول حُميد بن مالك: "كُنْتُ جَالِساً مَعَ أبِي هُرَيْرَةَ بِأَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ" مكانٍ له في العقيق ناحيةَ المدينة المنورة، بجانب المدينة، والعقيقُ الذي وَرَدَ فيه أنه ﷺ قال: "أتاني جبريلُ قال صلِّ بالعقيق فإنّه وادٍ مبارك"، وفيه أن الأماكنَ الطيّبة والمباركة يُتَشَرّفُ بالصلاة فيها، ويُتقرّبُ إلى الله بالصلاة فيها، "صلّ بالعقيق، فإنّه وادٍ مبارك". وكان مَن جاء من ناحيةِ مكة أول ما يبدو له من أودية المدينة العقيقُ، وبذلك قال:
أمَا هذا العقيقُ بدا وهذي *** قِبابُ الحيِّ لاحتْ والمضارب
وتلك القبةُ الخضراء وفيها *** نبيٌّ نورُه يَجلو الغياهب
وقد صَحَّ الرضا ودنا التلاقي *** وقد جاء الهنا من كل جانب
فقُل للنفسِ دونكِ والتملّي *** فما دون الحبيب اليوم حاجِب
تملَّي بالحبيب بكلّ وصلٍ *** فقد حصل الهنا والضِّدُّ غائب
نبيُّ الله خيرُ الخلق جمعًا *** له أعلى المناصب والمراتب
يقول: "فَأَتَاهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ" دخلوا على أبي هريرة "فَنَزَلُوا عِنْدَهُ، قَالَ حُمَيْدٌ: فَقَالَ لِي" يعني: أَبُو هُرَيْرَةَ "اذْهَبْ إِلَى أُمِّي"، أمُّه اسمها: أميمة، وكان يدعوها إلى الإسلام قبل أن تُسلم، وقال: لما كرّرتُ عليها الدعوة للإسلام أسمعتني اليوم كلام أكرهُه عن رسول الله ﷺ، فأتيتُه وأنا أبكي، قال: ما لكَ يا أبا هريرة؟ أخبرتُه قلت له: أمي أدعوها للإسلام واليوم سمّعتني كلام..! قال: اللهم أهدِ أمَّ أبي هريرة، فخرجتُ مستبشرًا بدعوته، فلما جئتُ إلى الباب فإذا هو مُجافٍ، فسمعَتْ أمي حِسَّ قدمي فقالت: مكانَك يا أبا هريرة! أقفلت الباب، سمعتُ خضخضةَ الماء، وإذا بها تغتسل، لبِستْ درعَها، وخمارها، وفتحَت الباب وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فرح! وقد جاء من عند النبي ﷺ وقد دعا لها، هذه المرة حصّلها وهي مهيأةٌ للإسلام، قال: فرجعتُ إليه ﷺ أخبرتُه، قلتُ له: اشتكيتُ من أمي، فدعوتَ لها فجئتُ حصّلتها تغتسل، فتحَت لي الباب وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله! قال: فحَمِدَ الله تعالى وقال خيرا. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
لم يقل له: أمك تتكلم علي.. وتقول كذا.. فعلُها تركُها! أبداً؛ قال: "اللهمّ اهدِ أمّ أبي هريرة"،وراح حصّلها قد أسلمت، رجع يبشّرُه، فحَمِدَ الله وقال خيرًا ﷺ. صدقَ الذي خاطبه بقوله الكريم: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4] ﷺ.
وهذا قال له: رُح عند أمي، أم أبي هريرة قل لها: "إِنَّ ابْنَكِ يُقْرِئُكِ السَّلاَمَ وَيَقُولُ لك أَطْعِمِينَا شَيْئاً"، عندنا ناس جاءوا، أعطينا شيئاً من طعامٍ نطعمُه "قَالَ: فَوَضَعَتْ لهم ثَلاَثَةَ أَقْرَاصٍ فِي صَحْفَةٍ" ووضعت شيء "مِنْ زَيْتٍ وَمِلْحٍ" الخصار والإدام حقهم، "ثُمَّ وَضَعَتْهَا عَلَى رَأْسِي"، قالت:خذ، حملتُها حتى جئتُ بها إليهم "فَلَمَّا وَضَعْتُهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، كَبَّرَ أَبُو هُرَيْرَةَ" الله أكبر! فرح، قال: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَشْبَعَنَا مِنَ الْخُبْزِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ طَعَامُنَا إِلاَّ الأَسْوَدَيْنِ"، ما نحصل على الخبز إلا نادرًا، والآن نأكل نحن وإيّاكم خبز موجود. لا إله إلا الله!
هكذا قال: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَشْبَعَنَا مِنَ الْخُبْزِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ طَعَامُنَا إِلاَّ الأَسْوَدَيْنِ" يعني: التمر والماء. يقول: إن الله نقَلَنا من حال القِلّة إلى الخِصب والكَثرة؛ حتى يوجدَ عنده شيءٌ من الخبز والإدام دون استعدادٍ ولا تأهّبٍ، قال أطعمينا فحصّلته مباشرةً، فأطعَم مَن زاره. لا إله إلا الله!..
وهو كان يقول -يصفُ أيامَه الأولى في المدينة-: "لقد رأيتنُي أُصرَعُ بين منبر رسول الله ﷺ وحجرةِ عائشة، مغشيًَا عليّ من الجوع، فيجيءُ الجائي فيضَعُ رجله على عنُقي يرى أن بي جنونًا وما بي جنونٌ، وما هو إلا الجوع". وإن كان ليُغشى عليّ فيما بين عائشة وأم سلمة من الجوع، وهو الذي قال: لقيتُ عمر يومًا فاستقرأتهُ آيةً فذكرها، فمشيتُ غير بعيدٍ فخررتُ على وجهي من الجهد والجوع، وهو صاحب القصة، تعرّضَ مرةً لسيدنا عمر وقت الهاجرة ووقت الغداء يسألُه، يتكلّفُ سؤالاً يسألُه عسى أن يقول له: تفضّلْ يُطعمُه، فأجابه ومشى، حصّل سيدَنا أبا بكرٍ أقبل، سأله، أجابه ومشى، قال فأقبل رسولُ الله ﷺ فجئتُ إليه أسألُه، قال: فتبسّمَ، وقال: اتبعني، تعال إلى البيت، ولما دخل إلى البيت قال: عندكم شيء؟ قالوا: لبن بعثه إليك بنو فلان، فرحَ حصّل لبن، قال الآن سنُروى ونشبع، بنحصّل لبن، قال ﷺ: يا أبا هريرة! قلتُ: لبّيك يا رسول الله، قال: ادعُ لي أهلَ الصفّة، قال: قلتُ لا حول ولا قوة إلا بالله! مرحبا! ما من إجابةِ رسول الله ﷺ بُدٌّ، إذا دعوتُ أهل الصفّة بيسقيهم.. ما بيكفيَهم هذا، بيشربونه وأنا ما بحصل شيء! لكن الحمدلله، لابد من تلبيةِ أمرِ رسول الله..
تعالَوا يا أهل الصفة! نحو ثمانين كانوا ذاك اليوم، وصلوا إلى الحجرة، قال: أَدخِلْ عليَّ عشرة، دخلوا، صار يسقيهم ﷺ، وسيدنا أبو هريرة يتشوّف في الإناء حصّله ما ينقصَ منه شيءٌ! عجيب… بدا له أمل، لعله يُحصِّلُ شيء، عشرة ثانيين ثالثين.. ..كمّلوا كلَّهم، قال: بقيَ أحد؟ قال: ما بقيَ إلا أنا وأنتَ يا رسول الله، قال: اجلس اشرب، قال: اشربْ أنتَ يا رسول الله، قال: لا! ساقي القوم آخرُهم شربًا، اشربْ أنت، فشربتُ حتى رويت، ناولتُه، قال: اشربْ، قال: فشربت مرةً ثانية وناولته، قال: اشرب!.. أجاب على خواطره، قال له اشرب، قال: حتى كأنَّ الرِّيَ يخرجُ من بين أظفاري، خلاص الحمدلله.. حصّلتُ ذاك اليوم شَرْبَةً وأكلةً.. لا شيءَ فوقها، فقال: يا رسول الله لا أجدُ له مسلكًا، فتبسّم، قال: ناولني، فشربَ الباقي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وهو يتذكرُ هذا الآن ويقول: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَشْبَعَنَا مِنَ الْخُبْزِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ طَعَامُنَا إِلاَّ الأَسْوَدَيْنِ"، فما يعرفُ الناس قدرَ النعم التي أنعم اللهُ بها عليهم، وكانوا أحقَّ وأولى بأطايب الطعام، ولكن اللهَ سبحانه اختارَ لهم ما هو الأعلى والأفضل، "الْمَاءَ وَالتَّمْرَ" عاشوا عليه مدةً، وهكذا بعضُ الذين قَبْلنا، عاشوا في هذه البلد، كثير ما يتغدّون ويتعشون الا التمر!، تمرٌ وماءٌ، لا غير ذلك!. ولماذا يقولون التمر والماء؟ يذكرون الماء مع التمر؟ قالوا لأنه في الغالب أن التمرَ ما يكفي، ما يحصُلُ لهم به الشِّبَع وحده، يحطّونه مع الماء؛ يشربون الماءَ معه حتى يملأَ البطن.
قال: "فَلَمْ يُصِبِ مِنَ الْطَّعَامِ شَيْئاً" شبعًا أو غيره، يعني: إمّا أنهم كانوا صيامًا، أو صادفَ أنهم غيرُ محتاجين إلى الطعام، "فَلَمَّا انْصَرَفُوا قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أَحْسِنْ إِلَى غَنَمِكَ، وَامْسَحِ الرُّعَامَ عَنْهَا"؛ يعني: المُخاط الذي يجري من أنوف الغنم، يقول: "وَأَطِبْ مُرَاحَهَا"؛ المكانَ الذي تروح إليه "وَصَلِّ فِي نَاحِيَتِهَا"؛ لأنه ﷺ صلّى في مرابضِ الغنم. "فَإِنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ" وجاء أيضًا عن أبي هريرة ويرفعه: "أكرموا المِعزَى وامسحوا برُعامها فإنها من دوابِّ الجنة" جاء بإسناد ضعيف.
"وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ لَيُوشِكُ" يعني: يَسْرعُ ويَقرُب "أَنْ يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَكُونُ الثُّلَّةُ مِنَ الْغَنَمِ" يعني: الطائفةُ القليلة من الغنم؛ عددٌ من الغنم نحو المائة أو دونها، "أَحَبَّ إِلَى صَاحِبِهَا مِنْ دَارِ مَرْوَانَ"؛ دارِ مروان بن الحكم أميرِ المدينة ذاك الوقت، كانت دار مُزَيَّنة حسنةَ المنظر في المدينة. لا إله إلا الله!.. وقال وذلك للفتنة الواقعة في المدينة، وتفرُّقَِ الناس عنها إلى التَّبَرِّي بالماشية والغنم؛ اعتزالًا لأهل الفتنة.
وفي الحديث أنه ﷺ قال ما روى أبو سعيد الخدري، قال لواحدٍ من التابعين: "إني أراكَ تحبُّ الغنم وتتخذُها، فأصْلِحها وأصلحْ رُعامها، فإني سمعتُ النبي ﷺ يقول: "يأتي على الناس زمانٌ يكون الغنمُ فيه خيرُ مال المسلم". وفي الرواية الأخرى: "يوشِكُ أن يكونَ خيرُ مال المسلم غنمٌ يتتبعُ بها شعَفَ الجبال ومواقِعَ القطر يفرُّ بدينه من الفتن"؛ تحصل فتنةٌ بين الناس و يزيغوا عن سواء السبيل، فالذي يكون بعيد مع غنمه في البادية أحسن له، ويكون من خير مال المسلم في وقتٍ من الأوقات، في بعض الأماكن يأتي هذا الحال.لا إله إلا الله!
رزقنا الله الاستقامة، وأتحفنا بالكرامة، ورقَّانا مراقيَ أهل الصدق معه في جميع الشؤون الخاصّة والعامة، وأعاذنا من كل سوءٍ أحاط به علمه في الدارين، بسرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
08 رَجب 1444