(43)
(390)
(612)
(535)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب صفة النبي ﷺ، باب السُّنَّة في الشُُّرب ومُنَاولته عن اليمين، وباب جَامِعِ ما جاء في الطَّعَام والشَّرَاب (1).
فجر الثلاثاء 2 رجب 1444هـ.
باب السُّنَّةِ فِي الشُّرْبِ وَمُنَاوَلَتِهِ عَنِ الْيَمِينِ
2704 - حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أُتِيَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ مِنَ الْبِئْرِ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَأبِي، وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَشَرِبَ، ثُمَّ أَعْطَى الأَعْرَأبِي وَقَالَ: "الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ".
2705 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الأَنْصَاري، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أُتِيَ بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلاَمِ: "أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاَءِ؟". فَقَالَ الْغُلاَمُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَداً. قَالَ: فَتَلَّهَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي يَدِهِ.
باب جَامِعِ مَا جَاءَ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ
2706 - حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ : قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لأُمِّ سُلَيْمٍ : لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ضَعِيفاً، أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ. فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصاً مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخَذَتْ خِمَاراً لَهَا فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ يَدِي وَرَدَّتْنِي بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ، فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَالِساً فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟". قَالَ: فَقُلْتُ نَعَمْ. قَالَ "لِلطَّعَامِ؟".قَالَ: فَقُلْتُ نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِمَنْ مَعَهُ: "قُومُوا". قَالَ: فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالنَّاسِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنَ الطَّعَامِ مَا نُطْعِمُهُمْ. فَقَالَتِ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِىَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلاَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ". فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَفُتَّ، وَعَصَرَتْ عَلَيْهِ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا فَآدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ بِالدُّخُولِ". فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ". فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ". فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ". فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ". حَتَّى أَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا، وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ رَجُلاً، أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلاً.
الحمد لله مُكرِمنا بالسُّنة والآداب، وبيانِها على لسان سيِّد الأحباب حبيبِه مُحمَّدٍ سيدِ أهل حضرة الاقتراب، صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله والأصحابِ خيرِ آلٍ وأصحاب، وعلى مَن تَبِعهم ووالاهم بإحسانٍ إلى يوم المآب، وعلى آبائِه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أَزكى مَن وَعى وفَهِمَ الخطاب، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويحدثنا الإمامُ مالكٌ عن بعضِ الأدابِ المتعلقة بالطعام والشراب، ومنه ماجاء في الشرابِ ومُناولةِ الأيمنِ بعد شُربِ الأوَّلِ منهم، الذي يكونُ الأَسنُّ، أو الأمير، أو الأعلم، أو الأَصلح؛ يَبدؤون به، ثم مِن عنده يدورُعلى اليمين. فلا يُعطَى الشرابُ عند إدخاله مَنْ على يمينِ الحاملِ للشراب ولا غيرِه، ولكن يَبدأُ بِمَن هو أحقُّ في المجلس، مِن أكبرِهم، أو أميرِهم، أوعالمِهم، أوصالحِهم، فإذا أُوتيَ الشرابَ، فبَعْدَه يَبدأُ دورةَ الشراب على اليمين، وكذلك بقيةَ الأشياء التي فيها الإكرام، من التقسيمِ، أو العطاءِ، أو القراءةِ، أو غير ذلك، فتدورُ على اليمين، فذلك هو السُّنة.
وذكر لنا: "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أُتِيَ بِلَبَنٍ"، وجاء في رواياتٍ أن ذلك كان في دارِ أنسٍ -رضي الله عنه- وهو عند أمه، ذلك أنهُ قال: إن رسولَ الله ﷺ جاء إلى المدينة وأنا ابنُ عشْرِ سنين، وتُوفي وأنا ابن عِشرين سنة، يقول سيدُنا أنسٌ: وإنّه ﷺ جاء يزورنا في دارنا، فَحلَبْنا له شاةً لنا، ثم شِبْتـه من ماءِ بِئرنا، أي وضَع فيه، وإنما النهيُ عن شَوبِ اللبن بالماء لِمَن أرادَ أن يَبيعَه، وأمّا مَن أرادَ أن يَشرَبَه أو يـُشرِبَه أويـُطعِمَه فلا شيءَ في ذلك، بل هو مستحسَنٌ أن يضعَ فيه شيئاً من الماء.
فيقول: "بِمَاءٍ مِنَ الْبِئْرِ"، الذي عندهم، "وَعَنْ يَمِينِهِ" كان جالس "أَعْرَأبِيٌ"، واحدٌ من الأعراب - سُكان البادية-، وسيدُنا أبو بكر الصديق كان على يساره، وسيدنا عمر في ناحية، فلما أَدخلوا اللبنَ وناولوه رسول الله ﷺ، "فَشَرِبَ" وبعد أنْ شربَ أراد أن يُعطيَ الزائدَ، وسيدُنا عمرُ يقول: أعطِ أبا بكر، فناولَه الأعرابيَّ ﷺ، "ثُمَّ أَعْطَى الأَعْرَأبِيَ" الذي كان على يمينِه، وفي روايةٍ فشربَ منه، حتى إذا نزَعَ القدَحَ عن فيه، "وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَأبِي"، قال عمرُ وقد خافَ أن يُعطيَه للأعرابي: اعطِ أبا بكرٍ يا رسول الله عندك، فأعطاه الأعرابيَّ ﷺ، يُعلِّمُهُم السُّنةَ، "ثُمَّ أَعْطَى الأَعْرَأبِي وَقَالَ: الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ"؛ أقَدِّمُه لأنهُ كان على يميني، وجاء في روايةٍ: أعطَى الأعرابيَ فَضْلَه وقال: "الأيمنون الأيمنون ألا فيَمِّنوا" فجعل سيدُنا أنسٌ يقول: فهي سنةٌ فهي سنةٌ فهي سنةٌ.
وهكذا أوردَ الحديثَ الثاني في نفس المعنى: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أُتِيَ بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ"، مَن الغلام؟ سيدُنا عبد الله بن عباس، فإنه تُوفيَ ﷺ وابنُ عباس في اثني عشْرة سنة، فكان غلامًا صغيرًا، ولكنه واعٍ وفاهمٍ، ومدعوٌ له بقولِ رسولِ الله ﷺ: "اللهم فقهِّهُ في الدين وعلِّمْهُ تأويلَ الكتاب"، فكان يُدعَى حَبرَ الأمة وتُرجمانَ القرآن، وسَمعَ ما سمِعَه من النبي ﷺ، ثم أضافَ إليه ما سَمِعَه غيرُه، وقال لبعضِ الأنصار: إن بقيةً من أصحابه ﷺ عندَهم علمٌ، فهَلُمَّ بنا نجْمعُ ما عندَهم من العلم وما سَمِعوهُ وما رأَوه من النبي ﷺ قبل أن يُفقَدوا، فقالوا: أتظَنُّ الناسَ يحتاجون إليك؟ الصحابةُ كثير، فما مَشى معه، فدار سيدنا ابن عباس على القوم و جمعَ ما عندهم.ولما مرَّت السنينُ ورأى صاحبُه ذاك الأنصاريُ الناسَ يَجتمعون على ابنِ عباسٍ ويسألونه نَدِم، قال: أنا ما سمعتُ كلامك، انا ضيعتُ الفرصة من أول، قلت لي تعال نجمع الحديث قلت لك…
وكان يأتيه أهلُ القرآن، ويأتيه أهلُ السنة، ويأتيه أهلُ الفقه، ويأتيه أهلُ اللغة ويأتيه أهلُ التاريخ، وكانوا يدخلون عليه طوائفَ، وهو حَبرٌ بَينهم رضي الله تعالى عنه.
فكان غلاماً صغيراً، تُوفيَ النبيُّ وهو ابنُ اثنتي عشرة سنة، فكان جالساً عن يمينِ النبي ﷺ، قال: وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ"، أي من كبارِ الصحابة، فلما شربَ "فَقَالَ لِلْغُلاَمِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاَءِ؟". الأشياخ يعني عن اليسار؟ لأنَّ الحقَّ لك، أنت تشربُ من بعدي، ولكن هل تأذَنُ لي أن أعطيَ هؤلاء؟
جاء في روايةٍ قال له: يا ابن عباس الشربةُ لك، فإن شئتَ أن تُؤثرَ بها خالداً وغيرَه ممن كانوا على يساره، وهو كان على يمينه فاستأذن، وهذا لمّا كان له قرابةٌ به، ويتوقعُ منه أن يأذنَ، طلبَ منه الإذنَ، أما الأعرابي فلم يكن يعرفُه، ما استأذنه، وأعطاه إياه مباشرةً، لأنه حقُّه، ولكن ابنَ عباس شهِدَ مشهداً آخر، وذاقَ ذواقاً أعجبَ رسولَ الله ﷺ فآثرَه وأعطاه إياه. "أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاَءِ؟ فَقَالَ الْغُلاَمُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَداً." حَظِّي ونصيبي منك ما بقدم أحد عليه، وأنا أحقُّ به، فناولَه "فَتَلَّهَ"، قال: خُذْ اشرب ثم أعطِ القوم ، يعني يدور باليمين "لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِي" وحَظي وسَهمي، وقال في روايةٍ: ما أنا بمؤثرٍ بسُؤرِك عليَّ أحدا.
وهكذا يذكرُ الحنفيةُ والشافعية أن:
"قَالَ: فَتَلَّهَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي يَدِهِ."؛ إذاً فنظامُ الشريعة شامل لحركاتِ الإنسان وللمُباحات والأعمال، ولِما يَحصُل في المجالس، فيجبُ على المؤمنين أن يُنوِّروا جميعَ شؤونهم وأحوالِهم بوحيِ الله وبلاغِ رسوله وسنَّتِه الغراءَ ﷺ، وفي ذلك غنًى لهم وحراسةً لهم وحمايةً لهم وخير لهم، ووقايةً أن يُسْتَتبَعوا لمن استِتْباعه يوجِبُ الضياع، ويَقطعُ عن الحق تبارك وتعالى سيّء الانقطاع.
ذكر بعد ذلك: "بابُ جَامِعِ مَا جَاءَ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ" يعني: أحاديثَ متفرقةً في ذلك، وابتدأَ بذكر حديثِ أبي طلحةَ، وقولِه لزوجته أمِّ سُليم: "لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ضَعِيفاً"؛ أي: منخفض عندما يتكلم، "أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ"، أنَّ طولَ الجوع أثَّرعليه، فما سمعَ عندما تكلَّمَ ﷺ ما كان يَعتادُه من الفَخامةِ المألوفةِ في كلامه، فعَلِمَ أنَّ الجوعَ أثَّر فيه، ويقول أنسٌ: جئت رسولَ الله ﷺ فوجدتُه جالسًا مع أصحابه يُحَدِّثهم، وقد عصَبَ بطنَه بعصابةٍ، فسألتُ بعضَ أصحابه، فقال: من الجوع، فذهبتُ إلى أبي طلحةَ فأخبرته، فدخلَ على أُمِّ سُليم فقال: هل مِن شَيء؟ لمّا أخبرَه، جاءَ وسمعَ صوتَ النبي وعرف الأثرَ، راح إلى أم سُليم. جاء في روايةٍ أن سيدَنا أبا طلحةَ جاء وقال لأم سُليم: أعندَك شَيءٌ؟ فإني مررتُ على رسول الله ﷺ وهو يُقرئُ أصحابَ الصُّفة سورةَ النساء، وقد ربَطَ على بطنه حجَرًا من الجوع، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وجاء في حديثِ الخَنْدق، أنه لمَّا عرَضَتْ لهم الكُـديةُ الشديدة، جاؤوا النبيَ ﷺ قالوا: هذه الكُديةُ عرَٕضَتْ في الخندق، فقال ﷺ: أنا نازلٌ، ثم قام وبطنُه معصوبٌ بحَجَرٍ، ولبثْنا ثلاثةَ أيامٍ لا نذوقُ ذَواقاً. ولما لاحظَ ذلك سيدنا جابر في القصة الثانية، راح إلى زوجته، أَعندكِ شيءٌ؟ قالت: العَناقُ هذا اذبحه، وعندي هذا صاع من الشعير، إذا بتجيب رسولَ الله ﷺ واثنين أو ثلاثةً معه فقط غايته يكفيهم، ولا تُحضرغيرَهم، فذهب إلى النبيِ ﷺ وأخبرَه، فأمرَ المنادي أن يُناديَ في أهلِ الخندقِ، إن جابرَ بنَ عبد الله صَنعَ لكم سوراً فحَيّْ أهلاً بكم، فراح يجري، وكانت قالت له زوجته لا تفضحني، رسولُ الله واثنان او ثلاثةٌ معه فقط، فلما راح يجري قالت: ما لَكَ؟ قال: إنَّ رسولَ الله أمرَ منادي ينادي، قالت: هل أخبرتَه بمقدارِ ما عندَنا من الطعام؟ قلتَ له ما عندنا؟ قال: نعم، قالت: خلاص لا عليك الله ورسولُه أعلم، إذا أنتَ قلت له، وأرسلَ إليهم رسولُ الله صلى الله عليه سلم، قال: لا تُـنزلوا البُرمةَ ولا تَخبزوا العجينَ حتى آتي، فتركوا البُرمةَ وخبزوا العجين، فجاء، العجين حق صاع، قال: ادعِ مَن يَخْبِزُ معَكِ، هاتي خبازات أخريات، وهي كانت بتخبزه كله لأنه يسيرٌ، راحت فأرسلت، صارالنبيُّ ﷺ يناولُ ويعطي هذه ويعطي هذه ويعطي هذه، يُخرِجُ من العجين ويُعطيهم، والعجينُ في مكانه! ذي تخبز وذي تخبز وهو يناولهُنّ، ولما وفَّرنَ أقراص من الخبز، غَرَفَ من البُرمة، وقال: أَدخِلْ عشرة، شبعوا، أدخِلْ عشرة، أَدخل عشرة، وهو يناولُ من العجين ويَغرفُ من البرمة، والبُرمةُ مليانة على حالها ما نقصَ منها شيءٌ، والعجينُ كما هو حتى كَمُلوا كلُّهم.
قال: بقي أحد؟ قال: الباقي أهلُ البيت وأنا وانتَ يا رسول الله، اغرِفْ لأهل البيت، قال: كُلْن، وأكَلَ آخرَهم ﷺ، ثم قام وإن بُرمتَنا لتغُطُّ، وإن عجينَنا ليُخبَز، قالت: حتى لمَّا قام رسول الله ﷺ لا أدري كانت أكثرَ ملئاً منها عندما دخل أو عندما خرج، كانت مليئةً أكثر! ﷺ، قال: فقال لي: ابعثْ إلى الجيران والناس، فإنَّ الناس أصابَتْهم مجاعةٌ، أَرسلْ منها، وبقيَ طول اليوم يَغرِفُ منها، ويقدح ويوزع على مَن حواليه، ببركتِه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وهذا سيدنا أبو طلحة يقول لزوجته: "فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ. فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصاً مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخَذَتْ خِمَاراً لَهَا فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ"، أدخلته بقوة "تَحْتَ يَدِي". يعني يُظهر كم عدده، حطته تحت إبطه، يُمسكُه به ويمشي، يعني شيء يسير، قال: "وَرَدَّتْنِي"، يعني البستني الرداءَ الذي ألبس، وفيه محافَظتُهم على الرِّداء، وفي روايةٍ ردَّتني بعضَه بعضا، هذا الخمار، يعني شيء يسير من الخبز. "وَرَدَّتْنِي بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ، فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَالِساً فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ". وقفتُ قائماً، يريد فرصةً ليُكلم النبيَّ وحدَه ويعطيه، والناسُ عنده كثيرٌ فكيف يُسلِّمُ له هذا؟ فلما رآني رسول الله ﷺ "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟". قَالَ : فَقُلْتُ نَعَمْ. قَالَ "لِلطَّعَامِ؟".قَالَ: فَقُلْتُ نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِمَنْ مَعَهُ: قُومُوا". قام الناس الذين مع رسول الله ﷺ، يعني: قوموا إلى بيت أبي طلحة.
فهم أرادوا إرسالَ الخبز مع سيدنا أنسٍ ليأخُذَه النبي ﷺ ويأكلَه، ولما وصل سيدُنا أنسٌ ورأى كثرةَ الناس استحيا، وبقي واقف، وظهر له أن يدعوَ النبيَ ﷺ ليقومَ معه وحدَه، إذا خلا وحدَه يُعطيه، ولكنَّ النبيَ قال للجماعة: قوموا إلى بيت أبي طلحة، "فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ"، رحت أجري قدام؛ في المقدمة، "حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ"، قلتُ: القصةُ كذا وكذا، ودخلتُ على أم سُليم وأنا مندهش، وفي روايةٍ أنَّ أبا طلحة قال: يا أنس فَضَحتَنا! فجعل يرميني بالحجارة، تقوم تجيب لي قوم وناس وما في البيت شيءٌ؟ يقول لسيدنا أنس.
"فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالنَّاسِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنَ الطَّعَامِ مَا نُطْعِمُهُمْ. فَقَالَتِ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ." ففيه إيمانُ هؤلاء النساءِ القويات، وثقَتُهن برسول الله ﷺ، وأنّه لا يفعلُ إلا الحقَ والهدى. "قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِىَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلاَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ"، هذا الخبز الذي حمَّلتهُ أنس كان بين يديه، جاءت به عنده، "فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَفُتَّ"، قال فُتّوه "وَعَصَرَتْ عَلَيْهِ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا" سمنٍ، قال ضعيه فوقه "فَآدَمَتْهُ،" هذا الإدام، "ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ"، قرَأَ على هذا الطعام، "ثُمَّ قَالَ :"ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ بِالدُّخُولِ". فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ". فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ". فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ". فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا،. ثُمَّ قَالَ: "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ". حَتَّى أَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا، وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ رَجُلاً، أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلاً."
سبعَ أوثمانِ مراتٍ يقول: ائذنْ لعشَرة! ائذنْ لعشرة! ائذن لعشرة! ثم كمَّلوا منهم سبعين أو ثمانين، وكلُّهم شبعوا والخبزُ المَأدومُ يَتبارك، فأرادوا أن يُطعِموا رسولَ الله ﷺ وحدَه، وأراد رسولُ الله ﷺ أن يَطعَمَ جميعُ الذين معه، فباركَ اللهُ تعالى في الطعام حتى كفى الجميع، ثم أكلَ ﷺ وتركَ الباقي لأبي طلحةَ وأمِ سُليم ومَنْ عندهم، وخرجَ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فمنها: تكثيرُالقليل وبُرءُ العليل، وتسليمُ الحجر وطاعةُ الشجر وانشقاقُ القمر، ﷺ وهو صاحبُ المعجزات الكبيرة.
اللهم به بارك لنا في إسلامنا، وبارك في إيماننا، وبارك في إحساننا، وبارك لنا في ديننا، وبارك لنا في أهلينا، وبارك لنا في أولادنا، وبارك لنا في علومنا، وبارك لنا في أعمالنا، وبارك لنا في نياتنا، وبارك لنا في مقاصدنا، وبارك لنا في صحتنا وعافيتنا، وبارك لنا في دنيانا، وبارك لنا في أُخرانا، واجعلنا به في بركةٍ حيثما كنا، سالمين من كل زَيغٍ وهَلَكةٍ ظاهرًا وباطنًا، بسر الفاتحة إلى حضرة النبي مُحمَّد ﷺ.
02 رَجب 1444