شرح الموطأ - 496 - كتاب صفة النبي ﷺ: باب ما جاء في السُّنة في الفِطرة

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب صفة النبي ﷺ، باب ما جاء في السُّنة في الفِطرة.

فجر الإثنين 23 جمادى الآخرة 1444هـ.

باب مَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ فِي الْفِطْرَةِ

2689- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: تَقْلِيمُ الأَظَافِرِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَالاِخْتِتَانُ.

2690- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الَمُسَيَّبِ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ ﷺ أَوَّلَ النَّاسِ ضَيَّفَ الضَّيْفَ، وَأَوَّلَ النَّاسِ اخْتَتَنَ، وَأَوَّلَ النَّاسِ قَصَّ الشَّارِبَ، وَأَوَّلَ النَّاسِ رَأَى الشَّيْبَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا هَذَا؟ فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَقَارٌ يَا إِبْرَاهِيمُ. فَقَالَ: رَبِّ زِدْنِي وَقَاراً.

2691- قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: يُؤْخَذُ مِنَ الشَّارِبِ حَتَّى يَبْدُوَ طَرَفُ الشَّفَةِ، وَهُوَ الإِطَارُ، وَلاَ يَجُزُّهُ فَيُمَثِّلُ بِنَفْسِهِ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرِمِنا بالشريعة الغرَّاء وبيانها على لسان خير الورى، سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار طُرًا، وعلى مَن والاهم في الله وسار بمسارهم وبمجراهم جرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين المُرتقين في الفضل أعلى الذُّرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقرَّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.

وبعدُ، 

فيذكر الإمام مَالِك -عليه رحمة الله- في هذا الباب: "باب مَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ فِي الْفِطْرَةِ"، أراد بالسُّنَّة؛ السُّنَّة القديمة للأنبياء والذين خُتموا بسيِّدهم سيِّدنا مُحمَّد ﷺ. السُّنَّة القديمة التي اختارها ومضى عليها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع لأنها أمر جِبِلّي مُتعلّق بالخلقة والفطرة؛ فسميّت خصال الفطرة لأنهم فطروا عليها. 

ذكر لنا في هذا الحديث: "خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ"، وقد جاءنا في روايات من الأحاديث: "عشر من الفطرة" فليس المُراد التحديد في عدد ولكنَّ أظهرها وأبرزها وأهمها هذه الخصال المذكورة في الخمس وفي العشر من خصال الفطرة.

  • منها ما هو واجب. 
  • ومنها ما هو مسنون ومندوب.

ويتعلق أيضًا باستقامة خِلقة الإنسان وهيئته، فلذلك أيضًا التصقت بمعنى وباسم الفطرة. فالفطرة؛ 

  • تُطلق على السُّنَّة 
  • وتطلق على الخِلقة والتكوين (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [الزمر:46]؛ خالقها ومكونها -جل جلاله وتعالى في عُلاه-. فطر السَّماوات والأرض؛ خلقها وكونها وأنشأها.

يقول: "خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ"؛ أي: خمس خصال من السُّنن التي جاءت بها الشَّرائع كلّها، وأكد عليها صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. يقول: "تَقْلِيمُ الأَظَافِرِ"، تقليم الأظفار سُنَّة من السُّنن، ما طال منها على الأنمُلة وعلى اللحم؛ فيُقص. وتقليم الأظفار وما يلحق به من قص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة؛ لا ينبغي أن يؤخر عن أربعين يومًا. وأما ما عدا ذلك؛ فيختلف باختلاف نموه وطوله. فبعضهم تنمو له الأظفار سريعًا، وينمو له الشعر سريعًا، وبعضهم يبطئ. فالعبرة أنه كلّما طال؛ قُصَّ ولكن لا يتأخر الكل عن أربعين يومًا. فإذا مرت الأربعين اليوم؛ يكون قد أهمل، وقد احتاجت أظفاره إلى القص، وإبطه إلى النتف، وشاربه إلى القص وهكذا… فلا يزيد في تأخرها؛ عن أربعين يومًا. فإن كانت تطول بسرعة؛ فبمقدار ما تطول. فالغالب من النَّاس أنه إذا قص الأظافر أسبوعًا بعد أسبوع، أسبوعًا بأسبوع؛ تكون معتدل، ولا يزيد طول أظافره عن أنملته وعن اللحم الذي تحتها. 

"تَقْلِيمُ الأَظَافِرِ"، وذلك لما فيه من النظافة. والمشتغلون بالجهاد لما قد يحتاجون إلى الأظافر، شُرِع لهم أن لا يحفوها في وقت الجهاد. وأما ترك بعض النَّاس أظفر أصبع أو أصبعين من اليمنى أو اليسرى؛ فذلك من مخالفة السُّنّة الشَّريفة؛ وذلك من التقليد الأعمى؛ والاستنان بسُنّة من لا خلاق له؛ فيقص جميع أظافره كلما طالت من اليدين اليمنى واليسرى، يبدأ باليمنى ويختم باليسرى. 

فإن كان القص في يوم إثنين، كاليوم أو خميس أو جمعة؛ كان ذلك أولى وإلا ففي أي يوم من الأيام. ينبغي أن يقص الأظافر، اتباعًا وتنظيفًا للصلاة والقراءة وأنواع العبادة، ولإزالة هذا الوسخ الذي يجتمع تحت الظفر وقد يمنع وصول الماء في الوضوء والغُسل إلى البشرة ما تحت الأظفر؛ فيصير الحدث باقيًا عليه؛ ولا يصح وضوءه ولا غُسله.

  • وقال الشَّافعية: 
    • إن كان هذا الوسخ من خارج البدن؛ من نورة أو صمغ أو شمع وغيره فإنه يمنع وصول الماء للبشر ويصير الوضوء غير صحيح؛ فيجب عليه إزالته. 
    • وإن كان ناشئًا من أصل البدن من العرق ونحوه؛ فهذا يعفى عنه.
  • وأشار الإمام الغزالي إلى العفو عن ما تحت الأظافر، وهذا معلوم إن قلَّ.

فإن كان مادة من الخارج لصقت في أطراف الأصابع تحت الأظافر؛ فيجب إزالتها من أجل الوضوء؛ وإلا صار وضوءه باطلًا. 

ثم أن له الكيفية في تقليم الأظافر، جمع ظُفُرٍ وظُفْر، ويقال: ظِفْر، أن يبدأ من سبابة يده اليمنى، فوسطاها، فبنصرها، فخنصرها، ويختم بإبهام اليمنى، واليسرى يبدأ من الخنصر، فالبنصر، فالوسطى، فالسبابة فالإبهام. أما في الرجلين، فيقص أظافرها من عند خنصر الرجل اليمنى إلى أن ينتهي بخنصر الرجل اليسرى على الترتيب. يقص إصبع الخنصر في الرجل اليمنى، فالبنصر، فالوسطى، فالسبابة، فالإبهام ويرجع إلى إبهام اليسرى، فسبابتها، فوسطها، فبنصرها، فخنصرها على الترتيب الرجلين متوجهتين من الخنصر للخنصر كما يفعل في التخليل في الوضوء. 

ويذكر التعكيس والتنكيس في قلم أصابع اليدين بأن يبدأ بالخنصر ثم الوسطى ثم الإبهام ثم البنصر ثم السبابة، على ترتيب خوابس في اليمنى؛ خنصر ووسطى وإبهام وبنصر وسبابة. وعلى ترتيب أوخسب في اليسرى، يبدأ بالإبهام ثم الوسطى ثم الخنصر ثم السبابة ثم البنصر؛ أوخسب إبهام ووسطى وخنصر وسبابة وبنصر. ففي قص الأظافر؛ سنةٌ وقربةٌ إلى الرَّب جل جلاله.

ثم بعد ذلك: 

  • ينبغي أن يقص وهو على توبة، فإنها تعود يوم القيامة لتشهد له أو عليه؛ أظافره وشعوره التي تخرج منه، تأتي في وقت الحشر بجانبه، وتقول: هذا صاحبي لما كنت فيه عمل كذا وعمل كذا وكذا، فتعاد إليه منفصلةً عنه تشهد له أو عليه. فينبغي أن لا يقصها إلا وهو على توبة. 
  • وإن كان على طهارة فذلك أفضل. 
  • وإن كان مستقبل القبلة فذلك أفضل. 
  • ثم يدفنها بمكان لائق كالمقبرة ونحوها لأنها أجزاء منه ستحشر معه. 
  • ولا ينبغي أن يرميها في الأوساخ والقاذورات. 

وما كان أيضًا من أظافر أو شعر المرأة، يحرم عليها أن ترميه بحيث يراه الأجانب، فإن ما حرُم نظره متصلًا، حرم نظره منفصلًا؛ فيجب أن تغيبه عن أعين الأجانب. والكل من الرجل والمرأة، ينبغي أن يدفن هذا الشعر في مكان لائق به، فإن تيسر في مقبرة وخصوصًا فيها الصَّالحون أو الصَّحابة أو المُقربون، كان ذلك أولى وأفضل، وكان مقدمة لبقية جسده، يقبر في أجزاء من جسده ثم يصل جسده كله، ويدخلون إلى تلك المقبرة. لا إله إلا الله.. نوّر الله قلوبنا وقبورنا، ورزقنا اتباع سُنة نبينا ﷺ.

ومنهم مَن أراد في اليدين أن يبدأ باليمنى ويختم باليمنى، يبدأ بالسبابة فالوسطى فالبنصر فالخنصر، ويترك إبهام اليمنى، ويقص الخنصر والبنصر والوسطى والسبابة والإبهام في اليسرى، ويختم بإبهام اليمنى ولكن المعتمد أنه يبدأ بجميع أظافر اليمنى ثم ينتقل إلى أظافر اليسرى. ويُذكر مَن قص أظفاره مخالفًا على هذا الترتيب الذي ذكرناه خوابس أوخسب.. عُوفي من الرمد، وإن كان لا أصل لهذا الحديث عند الرواة. وذكر الشيخ الزبيدي أنه ذكره الدمياطي فيمَن قص أظفاره مخالفًا عن بعض المشائخ. وقال أشهاب أحمد الملوي: 

قصوا الأظافير بالسنة والأدب *** يمينها خوابس يسارها أوخسب

ولكن لم يثبت شيء من ذلك والقصد البداية باليمين ثم اليسار هذا من سنته ﷺ؛ كان يحب التيمن في شأنه كلّه صلوات ربي وسلامه عليه. وجاءت رواية في يوم الجمعة أنه ﷺ كان يستحب أن يأخذ من شاربه وأظفاره يوم الجمعة، كما ذكره البيهقي في السُّنن الكُبرى.

ويذكر الإمام الغزالي الحديث المسلسل في قص الأظفار يوم الخميس، وانتهى إلى أن قال: رأيت الحسين بن علي يقلم أظفاره يوم الخميس، وقال: رأيت عليًا -رضي الله عنه- يقلّم أظفاره يوم الخميس، وقال رأيت رسول الله ﷺ يقلّم أظفاره يوم الخميس، ثم قال: يا علي؛ قص الظفر ونتف الإبط وحلق العانة يوم الخميس، والغسل والطيب واللباس يوم الجمعة. وفي هذا استعداد الجمعة من الخميس حتى لا يكثر الشغل يوم الجمعة بغير الذكر والصَّلاة على النَّبي والقرآن. وذكر هذا الحديث المسلسل بيوم الخميس صاحب المغني ابن قدامة. وإذا قلّم يوم الجمعة، فينبغي أن يكون قبل الصَّلاة استعدادًا لها.

ويروى كان رسول الله ﷺ يقلّم أظفاره يوم الجمعة قبل أن يروح إلى الصَّلاة؛ فمحمول على أنه كان يستعمل ذلك أحيانًا في الخميس وأحيانًا في يوم الجمعة. وقالوا: ويستحب غسل رؤوس الأصابع بعد قص الأظفار. ويقال: أن الحك بالأظفار بعد قصها قبل غسلها؛ يضر بالجسد أو قد يُورث البرص. وعلمنا أنه يستحب قلم هذه الأجزاء التي تخرج من جسد الإنسان.  ويروي الخلال عن ميل بنت مشرح، تقول: رأيت أبي يقلّم أظفاره ويدفنها، ويقول: رأيت رسول الله ﷺ يفعل ذلك، هكذا جاء في رواية البزار والطبراني في الكبير وفي الأوسط.

ويذكر ابن جُريج أن النَّبي ﷺ كان يعجبه دفن الدم. وقال مهنا: سألت أحمد عن الرجل يأخذ من شعره وأظفاره يدفنه أو يلقيه؟ قال: يدفنه، وقد بلغك فيه شيء؟ قال: كان ابن عمر يدفنه. وروينا عن رسول الله ﷺ أنه أمر بدفن الشعر والأظفار. وقال: لا يتلعب به سحرة بني آدم يأخذون ظفر أحد أو شعره يعملون عليه السحر. دفع الله شر السحرة عنا وعن المسلمين. ولكونها أجزاء من الآدمي تكرَّم وتدفن، فيكره أن يلقيها في نجاسة أوفي أوساخ يضعها في القمامة! (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [الإسراء:70] فهي محترمة بحرمة ابن آدم. وجاء في رواية عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان النبي ﷺ يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان: الشعر، والظفر، والحيضة، والسن، والقلفة، والمسحة؛ الخرقة التي يمسح بها ما خرج منها نحو دم. تقول: يأمر بدفنها. 

قال: "وَقَصُّ الشَّارِبِ"، وقال: "أمرنا بأن نُحفي الشارب، وأن نعفي اللحىة". وجاء في الحديث، " جزوا الشوارب". وفي لفظ الآخر عند البخاري، "احفوا الشوارب". وفي اللفظ الآخر، "انهكوا الشوارب". فالنهك؛ المبالغة في الإزالة؛ فينبغي أن يقص الشارب حتى يبدو طرف الشفة. وأوّل الإمام النووي رواية، "احفوا"؛ معناها أزيلوا ما طال على الشفتين وهو أيضًا مذهب الإمام مالك الذي يرى أن حلق الشارب مُثلة، وأنها تعزير فما يحلقه، ولكن مال لبعض المتقدمين وبعض العلماء المتأخرين إلى الحلق، إلى حلق الشارب، والأصل فيه القص. 

إذًا؛ 

  • فالإحفاء محتمل لأخذ الكل. 
  • والقص تفسير للمراد من الإحفاء. 

فهذا من خصال الفطرة. 

"وَنَتْفُ الإِبْطِ"، فإن تأذى بالنتف فالحلق، فيحصل به أصل السنَّة. وجاء في عدد من الروايات أن ﷺ في بعض أحواله لما يكون مع خاصة من أصحابه أحيانًا يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه، وذلك أن بشرته ﷺ ما تختلف في لونها عما في الإبط وبقيتها؛ فكلها بيضاء صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. وفي الصحيحين أنه لما يرفع يديه في الاستسقاء حتى يُرى بياض إبطيه.

قال: "وَحَلْقُ الْعَانَةِ"، وهو المسمى بالاستحداد، فكذلك يتعهده من السُّنن. "وَالاِخْتِتَانُ"، وهو من السُّنن والفطرة للرجال والنِّساء، ويقال له: إعذار، ويقال في حق المرأة: خفض. وقد كان في عهده ﷺ الختان للرجال والنِّساء، وأقرّه عليه الصَّلاة والسَّلام، وأرشد الخاتنة ووجهّها قال: "لا تنهكِ"؛ فأقر عليه الصَّلاة والسَّلام هذا الختان، فهو الأصلح للرجال والنِّساء وإن كان مختلف في وجوبه وسنيّته.

  • فعند الشَّافعية وكثير من أهل العلم: الختان واجب. 
  • وهو عند بعضهم كالإمام مالك وغيره: سُنة. 
  • والختان واجب في الشَّافعية عند الرجال والنِّساء؛ للذكور والإناث. 
  • فقال بالسنية مالك وأبو حنيفة. 
  • وفي رواية أخرى عن أبي حنيفة: أنه يأثم بتركه. 
  • ومال الإمام أحمد إلى أنه واجب في حق الرجال، وسُنة في حق النِّساء. فهو على الرجال واجب عندهم، وهو مكرمة في حق النِّساء سنة لهن. 

ثم ذكر لنا حديث "سَعِيدِ بْنِ الَمُسَيَّبِ، قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ ﷺ أَوَّلَ النَّاسِ ضَيَّفَ الضَّيْفَ"، ويسمى بأبي الأضياف؛ والقصد أنه هيأ تهيئةً لاستقبال الضيف مخصوصًا، ورتب لذلك ترتيبًا معينًا وكان يستقبل الأضياف. وجاء في الصَّحيحين، قال أبو هريرة، قال رسول الله ﷺ: "اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة"، وقوله: "بالقَدُوم" أو بالقَدّوم" أنكر بعضهم رواية التشديد. وقالوا: أن القدُوم القدّوم اسم مكان موجود في فلسطين، غير اسم الآلة للنجار. وفي بعض الروايات أنه استعمل قدّوم النجار سيِّدنا ابراهيم للتعجيل بالأمر لما جاءه الأمر ولم يجد إلا القدّوم فاختتن به، وذلك وهو ابنه ثمانين سنة، وعاش بعدها ثمانين. وقيل: أنه كان ابن مئة وعشرين، وعاش بعدها ثمانين، صلوات الله على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء والمُرسلين.

قال: "وَأَوَّلَ النَّاسِ قَصَّ الشَّارِبَ" على سيِّدنا الخليل ابراهيم، فهذا إذا كان لم يطل إلا في عهده، ولم يكن يعتاد النَّاس طوله. "وَأَوَّلَ النَّاسِ رَأَى الشَّيْبَ"؛ بياضًا في لحيته "فَقَالَ سيِّدنا ابراهيم: يَا رَبِّ مَا هَذَا؟" الذي أرى من الشيب اللون الأبيض في شعر لحيته "فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَقَارٌ"، هذا وقار حلم ورزانة "يَا إِبْرَاهِيمُ"؛ يعني: سبب الوقار، ورزانة العقل والتأني في العمل يأتي منه هذا البياض، فإنه إنما يبدو غالبًا وقد بلغ الإنسان سن يكون قد ثَبَت فيه قدمه على الوقار، وعلى الرزانة في العقل والرجاحة، (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [نوح:13]؛ أي: هيبة وإجلالًا، وتخشون العاقبة. "فَقَالَ: رَبِّ زِدْنِي وَقَاراً." سأل عليه السَّلام الزيادة منه لما علم أن الوقار محمود وأنه من هدي الصَّالحين. 

وجاء أنه أول من تسرول، وأول من فَرَق، وفي رواية أنه أول من خضب بالحناء والكتم، وأنه أول من خطب على المنبر، وقال ابن عساكر أنه أول من قاتل في سبيل الله، غير ذلك مما جاء في الأوليات لسيِّدنا إبراهيم، على نبينا وعليه أفضل الصَّلاة والسَّلام.

قال مالك: "يُؤْخَذُ مِنَ الشَّارِبِ حَتَّى" يظهر "يَبْدُوَ طَرَفُ الشَّفَةِ" العليا ظهورًا بينًّا، "وَهُوَ الإِطَارُ"؛ يعني: اللحم المحيط بالشفة من جانب الفم. "وَلاَ يَجُزُّهُ"؛ أي: لا يقطعه بالكلية حتى يبلغ إلى الجلد، ما يجزّه، "فَيُمَثِّلُ" كيف يمثل؟ يمثل "بنَفْسِهِ"، أو يمثل بنفسه أنه جعل نفسه مُثلة، فجعله من العيوب، والله أعلم.

اللَّهم ارزقنا اتباع سُنن نبينا، واملأنا بمحبته واحشرنا في زمرته، وثبّتنا على دربه، وارفعنا مراتب قربك وقربه، في خير ولطف وعافية، واختم لنا بالحسنى وأنت راضٍ عنا، الفاتحة.

 

تاريخ النشر الهجري

23 جمادى الآخر 1444

تاريخ النشر الميلادي

16 يناير 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام