شرح الموطأ - 495 - كتاب صفة النبي ﷺ: باب ما جاء في صِفة عيسى ابن مريم عليه السَّلام والدَّجَّال

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب صفة النبي ﷺ، باب ما جاء في صِفة عيسى ابن مريم عليه السَّلام والدَّجَّال.

فجر الأحد 22 جمادى الآخرة 1444هـ.

باب مَا جَاءَ فِي صِفَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَالدَّجَّالِ

2688 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "أَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَرَأَيْتُ رَجُلاً آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ، قَدْ رَجَّلَهَا فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً، مُتَّكِئاً عَلَى رَجُلَيْنِ، أَوْ عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ، يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا؟ قِيلَ: هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، ثُمَّ إِذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا ؟ فَقِيلَ لِي: هَذَا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ".

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله الذي أكرمنا برسله وأنبيائه، وخاتمهم وسيدهم أصفى أصفيائه، سيدنا مُحمَّد صلى الله  وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه وأهل ولائه ومتابعته واقتفائه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعدُ،

فيذكر لنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ما جاء من وصف نبينا ﷺ سيدنا عيسى بن مريم -عليه السلام-، معظّمًا شأنه، مواليًا له، مصدقًا له بما جاء به عن الله، وما ذكر به المسيح الدجال، الخبيث الأعور الذي يأتي آخر الزمان، وهو من أكبر الفتن التي تُرسَل على خلق الله -جل جلاله- وبها يضل الأعداد الكثيرة الكبيرة، ويدخلوا نار جهنم. 

أجارنا الله من فتنة المسيح الدجال، ومن كل فتنة صغيرة وكبيرة، قليلة وكثيرة، وأهلينا وأولادنا وذرياتنا وأصحابنا وطلابنا وأحبابنا، اللهم أجرنا وإياهم أجمعين يا خير مجير من كل سوءٍ أحاط به علمك في الدنيا والآخرة.

  • ويذكر صفة الأنبياء مدحًا ومحبةً وتعظيمًا؛ ليزداد الولاء لهم، والإيمان بهم، والمتابعة لهم، (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [الأنعام:90].
  • كما يذكر الخبيث الدجال؛ ليُحْذَرَ منه، وليُبْتَعدَ عنه، وليُبْغَضَ في ذات الله تبارك وتعالى.

 والحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان.

وأورد لنا الحديث: "أَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ"؛ يعني: يريد في المنام، رأى الرؤيا ورؤيا الأنبياء وحي، يقول: "أَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَرَأَيْتُ رَجُلاً آدَمَ"؛ يعني: أسمر "كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ"؛ يعني: كأحسن ما يرى من الأوصاف الجميلة في الرجال، "مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ"؛ والأَدَم بمعنى: الأسمر، والأُدْم: السُّمرَة، يصف سيدنا عيسى بن مريم، وهو مع أُدْمتِهِ إذا اهتمّ بأمر أو تعب في حركة صارت تعلو وجهه حُمرة، وبهذا جاء في وصفه في رواية: أحمر، فهو أسمر؛ عند الجهد تظهر الحُمرة على وجهه، "كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ". 

"لَهُ لِمَّةٌ"؛ وهو الشعر الذي يجاوز شحمة الأذن. فاللِّمَّة: بين الجُمَّةِ والوَفْرة. والجُمَّةُ: شعر الرأس الذي لا يجاوز لا يصل شحمة الأذنين، فما كان أقل من شحمة الأذنين فهو جُمَّة.

  • وما كان تحت شحمة الأذنين قبل أن يصل إلى الكتفين فهو: لِمَّة.
  • وما وصل إلى الكتفين فهو: الوَفْرة.

وكان في غالب أحواله ﷺ شعره بين الجُمَّة والوَفْرة، فإذا قصه بلغ به إلى نصف أذنيه أو إلى شحمة أذنيه، وإذا تركه فترة طال حتى ضرب على كتفيه؛ فيقصه، وإنما حلق في عُمَرِهِ وفي حجة وداعه ﷺ. 

قال عن سيدنا عيسى: "لَهُ لِمَّةٌ"؛ يعني: شعر رأسٍ تحت شحمتي الأذن وفوق الكتف، "كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ"؛ جمع لِمٍّة، "قَدْ رَجَّلَهَا"؛ أي: مشَّطَها، "فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً" إما لكونه توضأ أو اغتسل قريبًا فبقيت أثر قُطَرْ الماء، أو أنه عرق فصار عرقه ينزل من شعرهِ ماءً، "فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً". 

جاء في روايةٍ في الوصف: "كأنما خرج من ديماس"؛ يعني: مكان الغسل المستحم، يصف صفاء لونه ونضارة جسمه، وكثرة ماء وجهه، كأنه خرج من كَنٍّ ومن حمام. جاء في رواية عند الإمام أحمد وأبي داود : "يقطرُ رأسه ماءً وإن لم يصبه بلل"؛ وقد يكنّى بذلك عن مزيد النضارة، نضارة الوجه.

"مُتَّكِئاً عَلَى رَجُلَيْنِ" أو قال: "أَوْ عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ"؛ جمع عاتق، موضع الرداء من الكتف يقال له: عاتق، أو ما بين المنكب والعنق واضعًا يديه، في لفظٍ: "على منكبي رجلين، وهو يطوف بالبيت"؛ وفي هذا مشاهدته ﷺ للأنبياء ورؤيته لهم، غير ما كان في ليلة الإسراء والمعراج، فإنه رآهم واعتنى بوصفهم لنا، ووصَفَهُم عليه الصلاة والسلام، حتى ذكر من يشابههم في الخِلْقَة والصورة من الرجال من أصحابه، ويقول: هذا يشبه فلان وهذا يشبه فلان، ففيه تعدد إراءة الحق لرسوله أنبياءَه الذين من قبله. 

وكما سبق معنا في ذكر صفته، أن تعلُّق قلب المؤمن بالله، بأحباب الله، ضرورة حتمية للإيمان، وأنه مع ذلك يشتاق لُقْياهُم، ويشتاق رؤيتهم، حتى جاءنا في الأخبار: أن النبي آدم -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام-، قال: يا ربِّ أرني وجوه الأنبياء من ذريتي؛ ولما كان خير ذريته وأعظمهم الأنبياء كان مشتاقًا إليهم، ومُعَظِّمَهُم ومتعلُّقَ القلب بهم، فسأل الله أن يريه صور الأنبياء. وقد صحّ في الحديث أنه: أنزل الله له صورهم، وأنه بقي ذلك متوارثًا حتى جاءنا في الحديث عن الصحابة أنهم وجدوه عند ملك الروم، وذلك أنه دعا بصندوق لما كان عنده جماعة من الصحابة، وأخرج لهم صورة، قال: تعرفون من هذا؟ قالوا: لا، قال: نوح، ثم فتح بابا آخر من الصندوق وأخرج لهم صورة، يعني مجسمة، تعرفون من هذا؟ قالوا: لا، قال: هذا إبراهيم، وأخرج لهم صورة بعد صورة، منها صورة سيدنا موسى وسيدنا عيسى، ثم أخرج لهم صورة فاهتزوا، وأخذوا يتحركون ويبكون، قال: ما لكم؟ قالوا: هذه صورة نبيّنا، قال: نعم، هو هذا، وأنا استعجلت أنزله لكم لأرى ما عندكم، هذه الصور خرج بها جبريل لآدم لما اشتاق أن يرى صور الأنبياء من ذريته، وهي عندنا في الخزانة توارثها الأنبياء نبيًا بعد نبي، وهي عندنا.

فتعلَّقَ الأنبياء ببعضهم البعض من أجل الله -تبارك وتعالى-، وهذه ضرورة صدق الإيمان بالله، والمحبة له، والمعرفة به، أن تُواليَ من أجله، و تُحبَّ أوليائه، وأصفيائه، وأهل حضرة قربه. و"الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان"، وبهذا يُفَسَّرُ ما جاء أيضًا من الوصف النبوي، واعتناؤهُ ﷺ بأوصاف الأنبياء من قبله وكيف هم؟ وما حالُهم؟..

كما أنه حتى في حجة الوداع، كلما مرّ بوادٍ سأل عنه، ما هذا؟ ذكر من مر بهم الأنبياء، و هيئته وحالته عند مروره عليه، -صلوات الله وسلامه عليه- وهو سيدهم وإمامهم. 

إذًا؛ على قَدْرِ خلوّ القلوب من قوة الإيمان بالله والصدق بالله، تخلو من امتلائها بأصفيائه من أنبيائه وأوليائه، وعلى قدر هذا الخلو تحلُّ فيها التعلّقات بصور الفسّاق والمجرمين والمفسدين والظالمين والمبغوضين والمطرودين والملعونين، والعياذ بالله تبارك وتعالى. فلا مجال للتعلق بهم ولا بصورهم عند من صحَّ إيمانه وقوي، بل لا يبقى في ذهنه وخياله وقلبه إلا موالاة من يواليهم في الله وصورهم وحدهم دون من سواهم، ولا يعلَق بقلبه تعلُّق بصور مفسدين ولا مجرمين ولا فساق ولا بعيدين عن الله أصلًا. 

فانظر من كيد إبليس ينشر بين المسلمين وخصوصًا ناشئتهم، شبابهم وشابّاتهم صور الفجار والفساق، بأنواع متعددة متلونة؛ لتعلَق بها قلوبهم، وعلى قدر ما تخلو وتفضى من تعلقها بالله وأهل حضرته؛ فيحل فيها الخبيثون والبعيدون عن الله، فتساعد على ضعف الإيمان وعلى نقصه، وعلى البعد عن الله -تبارك وتعالى- وعلى مشابهة أولئك المجرمين في شيء من أقوالهم أو أفعالهم أو أوصافهم.

وفي هذا جاء في سيرة بعض الصحابة: أنه كان يجتهد عند الجهاد في سبيل الله أن لا يمسَّ بدنه بدن الكافر، ولا ثوبه ثوب الكافر -عليهم الرضوان-، لِمَا امتلأت قلوبهم به من محبة الله ومحبة رسوله ﷺ، فلم يبقى فيها متسع لولاء أحد من أعداء الله. 

في ذلك قال الحق: (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ  وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة:22]، فعرفتَ كيد إبليس فيما بثَّ ونشر بمختلف الوسائل من قبيح الصور وخبيثها، وتعليق قلوب ناشئة المسلمين بها؛ لينقطعوا عن ربهم وعن رسله وعن أوليائه، ولتحل فيهم ظلمات بدل النور، وليَضعف الإيمان وينقص، والعياذ بالله تبارك وتعالى.

فيا رب ثبتنا على الحق والهدى *** ويا رب اقبضنا على خير ملةِ

"مُتَّكِئاً عَلَى رَجُلَيْنِ"؛ وفيه أنه تقوم من سنة الله في الصِلاتِ بين الأصفياء والمقربين، وبين من يواليهم صلاتُ معونةٍ وخدمةٍ ومساعدةٍ وتكريمٍ وما إلى ذلك، وسيد الوجود مُحمَّد ﷺ لَمَّا ملأ الله قلوب من آمن به إيمانًا بالحق ورسوله، وما جاء به عن الله، كانت علائق الخدمة له، والتعظيم له في أرفع المستويات، فكانوا يجلسون عنده كأن على رؤوسهم الطير، ما يُحِدُّونَ النظر إليه تعظيمًا له، وإذا قال أنصتوا، وإذا أمر ابتدروا أمره، وإذا توضأ وضوءًا كادوا يقتتلون على وَضوئه ﷺ إلى غير ذلك مما جاء في هذه المعاني. 

  • كذلك الأنبياء وكذلك الرسل من قبله، وكذلك الصالحون، يكون في الولاء لله من بينهم من يناصرهم، ومن يعينهم، ومن يخدمهم، ومن يساعدهم، ومن يسعى في القيام بحاجاتهم ومعاونتهم على مهامهم.
  • كذلك الكفار والفجار والأشرار، فيهم قادة وأئمة، وفيهم أتباع لهم ومعاونون لهم على كفرهم، وعلى فسادهم، وعلى شرّهم، فتصير علائق بينهم، من العلائق الانقطاع عن الله تعالى بالاتصال بأعداء الله بعضهم، قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأنعام:129] . 

فسيدنا عيسى المسيح -عليه السلام- معتمدًا؛ متكئًا على رجلين، أو كتفي رجلين، أو على عواتق رجلين. وكذلك الخبيث الدجال يساعده من يساعده، ويمسك بيده من يمسك بيده، ولكلٍ ولاء، فأهل الله يوالون أهل الله، وأعداء الله يوالون أعداء الله، والعياذ بالله تبارك وتعالى. قال نبينا في دعائه: "نحب بحبك الناس، ونعادي بعداوتك من خالفك من خلقك". 

يقول: "مُتَّكِئاً عَلَى رَجُلَيْنِ، أَوْ -قال- عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ، يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا؟ قِيلَ: هَذَا الْمَسِيحُ" ؛ وفيه: أن روح سيدنا المسيح -عليه السلام- وهو في السماء تتردّد على الأرض، لمثل الطواف بالبيت ونحو ذلك، كما حضر في ليلة الإسراء والمعراج في بيت المقدس، ثم رآه ﷺ بعد ذلك في السماء الثالثة. عيسى ابْنِ مَرْيَمَ -عليه السلام-، هذا المسيح: مشتق من المسح؛ لأنه لم يكن مستقر في مكان، يمسح الأرض، كان سيّاحًا، ولا يمسح ذا عاهة إلا بريء، (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ) [أل عمران:49]؛ فسُمِّيَ مسيح، كما أنه يُطلق المسيح على من استوى جماله في الخلق وتكميل حسنه، يقال: مسيح، وقال: ماسحهُ الله خَلقًا، قال: بمعنى أعطاه  مسحةً من الجمال. 

المسيح: سُمّيَ بهذا، ولكونه أيضًا خرج من بطن أمه ممسوحًا بالدُّهن، وكذلك وُلد نبينا ﷺ دهينًا، ولكن اشتهر هذا عن المسيح، وقد مسحه زكريا بدُّهن البركة، وكان ممسوح الأخْمِصَين، وكذلك نبينا ﷺ ممسوح القدمين، لا أخمِصَ في قدمه -وهو المحل المنخفض من طرف القدم- بل قدمه من طرفه إلى طرفه على حد سواء، فكل هذا في سيدنا عيسى بن مريم؛ فاشتهر بالمسيح ابن مريم بنت عمران لا أب له، خلقه الله من أمٍّ بلا أب، كما خلق حواء من آدم بلا أم، كما خلق آدم من غير أم ولا أب، لا أب ولا أم، فهو الخلّاق يخلق ما يشاء.

قال: "ثُمَّ إِذَا أَنَا" وفي رواية: "فالتفتّ" والتفتَ بعدها حصَّل واحد ثاني، هو الخبيث -المسيح الدجال-، "ثُمَّ إِذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ"؛ يعني: منقبض الشعر، أو شديد الجعودة، وقد يُطلق الجعدُ أيضًا على القصير المتردد، ويقولون: رجل جعد اليدين، يعني: بخيل.

و "قَطَطٍ"؛ أي: شديد جعودة الشعر، "أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ"؛ من طفى الشيء يطفو إذا علا، شبهها بالعنبة، عنبة التي تقع في العنقود بارزة عن غيرها، "كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ"؛ ناتئة نتوءَ حبة العنب من بين أخواتها، وهو ممسوح العين مطموسة، "أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ"؛ وبعضهم جعل أن اليمنى هي الطافية وهي المفَتَّحَة، وأن الثانية ممسوحة نهائيًا وهي اليسرى، لما جاء في روايةٍ أنه أعور العين اليسرى.

يقول: "فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا ؟ فَقِيلَ لِي: هَذَا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ"؛ فكيف يدخل الدجال مكة؟ وهو ممنوعٌ من دخول مكة، وكيف يطوف؟ يقال: أن هذا الدجال عند خروجه يمنع من دخول مكة والمدينة، أما قبل ذلك فلا يمنع من دخول مكة والمدينة، ولكن بعد خروجه لا يستطيع أن يقرب أو يدخل إلى مكة، بل على أنقابها ملائكة يمنعونه، ولا يدخل المدينة المنورة. 

ثم إنه في أول ظهوره يدعي النبوة، ثم يدعي الألوهية -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، فلا مانع قبل ذلك أن يكون ممن يطوف بالبيت، كما كان إبليس الرجيم يعبد الله تعالى؛ يعبد الله في السماء، ثم لُعِن وَطُرِد، وهذا الخبيث كذلك.

وأوَّلَ بعضهم بأن الرؤيا معناها أن سيدنا عيسى المسيح -عليه السلام- بالصورة الحسنة ينزل يطوف حول الدين لإقامة أودِه، وإصلاح فساده، وهذا معنى طوافه بالكعبة، وأن هذه رؤيا لما سيكون من سيدنا عيسى في إقامة الدين، وأن الدجال في صورته الكريهة تظهر يدور حول الدين يبغىٰ العوج والفساد، وصدِّ الناس عن الهدى، ولكن هذا تأويل، وإبقاء الخبر لرؤياه ﷺ على ظاهره أولى، صلوات ربي وسلامه عليه.

ورزقنا حسن متابعته والاقتداء به، والاهتداء بهديْه والتخلّق بأخلاقه، والتأدب بآدابه ظاهرًا وباطنًا، وأصلح به شؤون أهلينا وأولادنا، ولا يدع في قلب أحد منا ومنهم تعلقًا بغير الله وأوليائه وأصفيائه، ولا التفاتًا إلى من عداهم من أعداء الله تبارك وتعالى، اللهم املأ قلوبنا بحبك وحبّ من يحبك، وحبّ عمل يقربنا إلى حبك، واجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد على الظمأ، وثبّتنا على الحق فيما نقول، وثبتنا على الحق فيما نفعل، وثبتنا على الحق فيما نعتقد، بسر الفاتحة وإلى حضرة النبي مُحمَّد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

22 جمادى الآخر 1444

تاريخ النشر الميلادي

15 يناير 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام