(43)
(390)
(612)
(535)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب صفة النبي ﷺ، باب مَا جَاءَ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ ﷺ.
فجر السبت 21 جمادى الآخرة 1444هـ.
باب مَا جَاءَ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ (ﷺ)
2687- حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ، وَلاَ بِالْقَصِيرِ، وَلَيْسَ بِالأَبْيَضِ الأَمْهَقِ، وَلاَ بِالآدَمِ، وَلاَ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ، وَلاَ بِالسَّبِطِ، بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً، وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ ﷺ.
الحمد لله مُكرِمنا برسوله وصِفاته وخِلاله، وحُسن بيانه عن الحق -سبحانه وتعالى- وبلوغه الذُّروة فيما آتاه الحق -تبارك وتعالى- من كماله، اللَّهم صلّ وسلم وبارك وكرّم على سيِّدنا مُحمَّد شريف الخصال، أحسن الناس خَلقًا وخُلُـقًـا في كل حال، وعلى آله خير آل وأصحابه القادة الأبطال، وعلى مَن والاهم فيك واتّبعهم على ممر الأيام والليال، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين أهل الدرجات الرفيعة العوال، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكتك المقرّبين، وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
ويذكر لنا الإمام مالك -عليه رحمة الله- في الموطأ هذا الكتاب في صفة النَّبي مُحمَّد ﷺ وذلك أن ذاته الكريمة قد جعلها الله -تبارك وتعالى- محل نظره وتفضيله وتكريمه وتقديمه إياها على كل ما سواها، فكان محبّته من محبة الله، كما أنّ طاعته من طاعة الله، ومعصيته من معصية الله، صلى الله عليه وآله وصحبه ومَن والاه، وقد خاطبه مولاه: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) [الفتح:10]، فكان لتعلّق القلب بجنابه الشريف وأوصافه الخَلقية والخُلُقية انبساطٌ في تحقيق الإيمان والرُّقي به إلى مراتب الإحسان، والعبور به والزجِّ إلى مرتبة المعرفة الخاصّة والمحبة الخالصة.
فهو أولى مَن يُحَبّ من أجل الله، وأعظم مَن يُوالى من أجل الله، فما أحبّ الله في الكائنات شيئًا كما أحبّ مُحمَّد بن عبد الله، ولم يأذن لعباده المؤمنين من الملائكة والإنس والجن أن يحبّوا أحدًا من الخلق كما يحبّ نبيّه مُحمَّدا. وكان حقيقة الإيمان أن يُمسي ويُصبح المؤمن والله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، رزقنا الله حقيقة محبته.
قال أهل العلم: وإنّ من تمام الإيمان به، العلم بأن جسده الكريم وخِلقَته الجسمية، جمع الله فيها من المحاسن والجلال والجمال ما لم يكن في جسد غيره ﷺ، قد خلقه الله على أجمل صورة فيها جميع المحاسن محصورة وعليها مقصورة. قال: وقد ستر الله سبحانه وتعالى من حقائق جماله وحُسنه ما ستر، ولولا ذلك لم يُطِق أصحابه إليه النظر. ومع ذلك ومع ما ستر الله تعالى من محاسنه وبهائه، فقد كانوا لا يُحدّون النظر إليه تعظيمًا له.
وهكذا، قال بعض العارفين: أنه أشكل عليّ كيف أن رسول الله ﷺ أعظم حُسْنَ خلْقٍ من يوسف -عليه السَّلام-، ولم يحصل له شيء مما حصل ليوسف لغلبة الجلال عليه. قال: فرأيته ﷺ قال لي: إن الله ستر من جمالي وحُسني عن عباده، ولولا ذلك لفعلوا أكثر مما فعلوا مع يوسف وغيره ﷺ. لهذا قالوا: أنَّ جمال سيِّدنا يوسف -الذي أُعطيَ شطر الحُسن ورسول الله أُعطيَ الحُسن كله- غلب جلاله، وأن جلال رسول الله ﷺ غلبَ جماله، فيمتلئ هيبةً كل مَن وقع نظره عليه ﷺ. ولما كان جالسًا في المسجد القرفصاء، ودخل بعض الأعراب، فلما وقع نظره عليه ارتعد من هيبته، فقال: هوّن عليك، هوّن عليك! إنّي لست بملك، إني لست بملك؛ إنّما أنا ابن امرأةٍ من قريش كانت تأكل القديد؛ يعني: من الفقراء، من البيوت الفقيرة، الذين يأكلون اللحم المجفف، أنا من هؤلاء ما أنا بملك، ﷺ، وما يساوي الملوك عنده؟!..
فالتعلّق بوصفه الكريم خَلقًـا وخُلُـقًا من علامة الصدق في الإيمان، وعلامة محبة الرحمن -جلّ جلاله-. وذلك وجدنا الأمر بين الصحابة على هذا الحال، حتى أن من أخصّ المنسوبين إليه والمتصلين به من آل بيته كسيّدنا الحسن والحسين، وقد توفي ﷺ والحسن ابن ثمان والحسين ابن سبع من السنين، قد عرفوه وقد جالسوه كثيرًا ولكن بقيت قلوبهم متعلّقة بوصفه الكريم حتى لجآ إلى خالِهما هند بن أبي هالة وكان وصّافًا يُحسن الوصف، يسألانه عن وصف رسول الله ﷺ، يستزيدان.
قال: بل صرّح سيدنا الحسين وقال: وأنا أريد أن يصِف لي منه شيئًا أتشبّث به، أتشبّث به، يتعلق به قلبي.. فكانوا يصرفون علائق قلوبهم إلى إكبارِ وإجلالِ المقام النبوي خَلقًا وخُلُقًا، ليكون أحبّ إليهم من كل شيءٍ في الوجود، فيحبّونه بحب الله، ﷺ. وقال: فسألته، فوصف لي، وقال لي: كان كذا وكان كذا فكتمتُها الحسن حينًا ثم أخبرته، فوجدته قد سبقني إليه وقد استخبره عن وصفه، وزاد؛ سأله عن دخوله ومخرجه فزاده وصفًا، صلَّى الله عليه وسلَّم، شاهد تعلّق قلوب الصحابة بهذا الجمال وهذه الصفات.
وهكذا جاءنا في الأحاديث أن جماعة من الصحابة دخلوا على أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالوا: حدّثينا بأعجب ما رأيتِ من أحوال النبي، هؤلاء هم جالسوه وجاهدوا معه، وكانوا معه، وبقيت قلوبهم مولّعة بعده بالاستزادة من أخباره بعد أن فارقهم، ودخلوا إلى أم المؤمنين يسألون عن أعجب ما رأت منه في بيته الكريم، وفي حالةٍ من تعلق قلوبهم وتولّعها بجنابه الكريم ﷺ. مع أنهم كانوا قد يقتسمون الأعمال ليلازموا رسول الله ﷺ، فيعمل أحدهم يومًا وصاحبه مفرّغ للحضور مع رسول الله ﷺ وسماع ما يقول، ويأتيه بعد ذلك بالعشيّ بما قال ﷺ وبما نزل عليه وبمَن جاء عنده وبما كان منه، وفي اليوم الثاني هذا يمسك العمل والثاني يذهب إلى الملازمة، أما في وقت الصلوات فيجتمع الكل هذا وهذا، كلهم يجتمعون في الصلاة معه في أوقات الصلاة، ولكن في بقية الأوقات من حرصهم، ومع ذلك توفي وبقيت القلوب مولّعة ويستزيدون في التعرّف على أوصافه وأحواله وشمائله.
بكت السيدة عائشة وقالت: بِمَ أحدثكم؟ كان كل حاله عجبًا! كل أمر عجب، كله عجيب! لمّا حدثتهم قالت لهم: كان إذا جنّ الليل وخلا كل حبيبٍ بحبيبه، خلا هو بحبيبه وقام يُناجي ربه. وقد ورَدَ عليَّ في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، فعَمِدَ إلى قربةٍ فيها ماء فتوضأ ثم قام يصلي، فلم يَزَل يسجد ويبكي حتى طلع الفجر، ثمّ جاء بلال يؤذِنه ورأى أثر البكاء عليه، فقال: يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ قال: يا بلال، لقد أنزلت علي الليلة آيات ويلٌ لمَن قرأها ولم يتفكّر فيها، ويلٌ لِمَن قرأها ولم يتفكّر فيها، ويلٌ لِمَن قرأها ولم يتفكّر فيها! وتلا عليه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ). وكان كلّما قامَ من منامه في الليل يقرأ ﷺ هذه الآيات إلى آخر سورة آل عمران: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ..) [آل عمران:190-192] إلى آخر الآيات.
وبذلك عقَدَ الإمام مالك كما عَقَد كُلُّ من ألّف في سنّته ﷺ وسيرته أبوابًا مختصّة بصفته الخَلْقية والخُلُقية -عليه الصَّلاة والسَّلام- فذكر الحديث عن سيِّدنا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أنه كان "يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ، وَلاَ بِالْقَصِيرِ"، وفي لفظٍ: "ولا بالقصير المتردّد". "لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ"؛ أي: ليس بمفرط الطول، أو لا يُنسب إلى الطول، بل يُنسب في أصل خِلقته إلى الرَبعة. كان الرسول ربعةً من الرجال لا بالقصير لا، ولا من الطوال. فكان ربعةً ﷺ من الرجال هذا أصل وصفه إلا أنه مع كونه رَبعة لا يُماشيه أحدٌ طويلٌ إلا طاله، وقد يكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما، فإذا انصرفا رؤيَ ربعةً كما هو ﷺ. بل كان لا يجلس في مجلس إلا ويُرى كتفه على رؤوس القوم. كتفه على رؤوس القوم، إن كانوا طوال وإن كانوا قصار كله سواء، فيكونوا كلهم تحت كتفه الكريم ﷺ، فتنظر إليه من بعيد فتراه فوقهم، فإذا تأمّلته وحده رأيته رَبعةً ليس بطويل صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. وهكذا كان شأنه فيما اختار الله له تعالى من قامة ومن وصفٍ، رَبعةً لا قصير ولا طويل.
كذلك في لونه الكريم اختار الله له: "وَلَيْسَ بِالأَبْيَضِ الأَمْهَقِ، وَلاَ بِالآدَمِ"؛ الأسمر الشديد السُّمرة، بل كان بياضه مشرّبًا بحُمرة؛ أي: مشوبًا ومخلوطًا؛ معنى مشرّبًا؛ تخالطه حمرة كبياض القمر. فليس بالشديد البياض لون الجِصّ وغيره، بل كان نيّر البياض أزهر اللون ﷺ. فالأمهق الذي اشتدّ بياضه، فليس كذلك. وليس بالآدم؛ يعني: الذي اشتدّت سمرته وسواده، بل مبيَضّ لونٍ بياضًا مشرّبًا؛ أي مخلوطًا مشوبًا بحُمرة، كبياض القمر صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله.
يقول: فهذا صفة لونه الكريم -عليه الصَّلاة والسَّلام- وما جاء من الروايات في وصفه بالبياض المطلق، المراد به: لمعان نوره -عليه الصَّلاة والسَّلام- حتى قال سيِّدنا أنس أيضًا: "كأن الشمس تجري في وجهه". لمّا سُئلت الرُبيّع بنت معوذ قالوا: صِفِي لنا رسول الله! قالت: "إذا رأيته قلتَ الشَّمس طالعة"، إذا رأيته قلت الشَّمس طالعة صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه. وهكذا فكان من أيام صباه، تقول حليمة بنت أبي ذؤيب السَّعدية: "لم يكن لنا مصباحٌ في الليالي المظلمة إلا نور وجهه"؛ ما عاد نحتاج نوقد مصباح في بيوتنا فنرى أمتعتنا من خلال نور وجهه صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله.
وفي هذا النور ما جاء عن السيدة عائشة أنها قالت: "كنت أخيط ثوبًا لي في السَّحَر، وبينما أنا أخيط الثوب إذ سقطت الإبرة وانطفأ المصباح"؛ انطفأ سراجها وسقطت الإبرة، "فجعلت أفتّش"؛ تدور أين الإبرة لتلتقطها. قالت: فأقبل ﷺ، فلما كشف الستارة عن الحجرة أشرق نور وجهه فرأيت الإبرة من نوره فحملتها وقلت ما أضوأ وجهك يا رسول الله! كنت أبحث عن الإبرة ما وجدتها، فلمّا فتحت الباب ورفعت الستارة أشرق نور وجهك فرأيت من نور وجهك الإبرة،. قال: "الويل لمَن لا يراني يوم القيامة يا عائشة!، قالت: ومَن لا يراك يوم القيامة؟ قال: مَن ذُكرت عنده فلم يصلّي عليّ". صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم؛ يعني ما له قلب يهتزّ عند ذكري، وما يحمل مشاعر من المحبة والمودة نحوي هذاك ما يرى وجهي يوم القيامة، فمَن لا يحرص على رؤيته وهو في الدنيا؛ لا يُمكَّن من رؤيته في الآخرة والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وهنا ذكر الشيخ محمد زكريا، ذكر أنه رؤيا بعض الأولياء عندهم، يقول: نقلها عن الشاه ولي الله الدهلوي عندهم يقول: يقول بلغني أن النَّبي ﷺ قال: أنا أملح وأخي يوسف أصبَح، فتحيّرت في معناه. قال: لأن الملاحة توجب قلق العشّاق أكثر من الصباحة! وقد رُوي في قصة سيِّدنا يوسف -عليه السلام- أن النساء قطّعن أيديهن حين رأينه! وأنّ ناسًا ماتوا عند رؤيته ولم يُروى ذلك عن نبيّنا ﷺ! فرأيت النَّبي ﷺ في المنام فسألته عن ذلك، قال: قرأت في حديثك أنك قلت أنك أملح وأن يوسف أصبح، والملاحة تقتضي الأخذ بالقلوب والأفئدة أكثر من الصباحة؟ فقال: جمالي مستورٌ عن أعين الناس غَيْرة من الله -عز وجل- ولو ظهر لـفعل النَّاس أكثر مما فعلوا حين رأوا يوسف عليه السلام، صلوات ربي وسلامه عليه.
وهكذا، وكذلك وصَفَ شعره الكريم فقال: "وَلاَ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ، وَلاَ بِالسَّبِطِ"؛
بل كان متوسطًا بين الجعودة والسبوطة، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
وقد حرص الصحابة على شعره الكريم إذا حلق رأسه، وإنما حلق عند العمرة وفي حجة الوداع صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم، فاقتسموا الشعر بينهم، فكان الرجل تصيبه الشعر، والرجل تصيبه الشعرتان، ويحتفظون بها. وجاءنا أن أبا بكر الصِّديق بكى حينما رأى سهيل بن عمرو يزاحم في حجة الوداع على الشعر حتى وقعت في يده شعرةٌ من شعره ﷺ فقبّلها، ووضعها على عينيه، فبكى سيِّدنا أبو بكر قال: هذا في عام الحديبية ما رضي أن نكتب بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، وما رضي نكتب مُحمَّد رسول الله! ولو قتلناه ذاك اليوم لدخل النَّار، واليوم بعد هذا الإيمان والمحبة يزاحم يأخذ الشعرة ويقبّلها!
قال: لولا رسول الله ﷺ وأخلاقه لما وصل هذا إلى هذا، لكان قد دخل النَّار ولكن النَّبي بأخلاقه وصبره عليهم رجّعه، قال له: "امحها يا علي، اكتب باسمك اللَّهم"، كتب باسمك اللَّهم هذا ما صالح عليه مُحمَّد رسول الله، قال: لا لا لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك! اكتب محمد بن عبدالله، قال: "إنّي رسول الله وإن كذبتموني، امحها يا علي"، قال: ما أنا بالذي يمحاك! انا امحوك! أنت رسول الله.. قال: "أنا رسول الله، أرني إياها، وضع إصبعه في الماء مسحها، قال: اكتب مُحمَّد بن عبد الله"، كتب مُحمَّد بن عبد الله، ﷺ، قال: "إنّك تُـكالُ بمثلها"، قال ﷺ: "إنّك تُـكالُ بمثلها فتعطيها وأنت يومئذٍ مضطهد"، مرّت السنين بعد ذلك، لما جاءوا للصلح بينه وبين معاوية، كتبوا هذا ما صالح عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: لا لا لو كان أمير المؤمنين ما قتلناه! اكتب هذا ما صالح عليه ابن أبي طالب، ما تكتب أمير المؤمنين، ذكَر قبل أربعين سنة، قال له ﷺ: قال له هذا الكلام قد قال له: "إنك ستُـكالُ بمثلها وتعطيها وأنت يومئذٍ مضطهد"، قال: اكتب علي بن أبي طالب خلاص بدون أمير المؤمنين.
فقال له سيِّدنا عُمَر قال للنبي: هذا سهيل خطيب مصقع يتكلم، ائذن لي أُخرج ثنيتيه، ما عاد يقوم خطيب عليك في مكان، قال له سيِّدنا النَّبي ﷺ: "دعه يا عمر! فلعلّه يقوم مقامًا تحمده عليه". قالوا: فكان في يوم وفاة المُصطفى ﷺ لمّا وصل الخبر إلى مكة خطيبًا ثبّت أهل مكة على الإيمان وعلى اتّباعه، فخَطَبَ الخطبة فيها ألفاظ من ألفاظ خطبة سيِّدنا أبي بكر في المدينة، ذا في المدينة وذا في مكة، وكلٌّ ذكر كلام يشبه كلام سيِّدنا أبي بكر الصديق، وثبّت أهل مكة بعد وفاته ﷺ فكان الموقف الذي أشار إليه: "لعلّه يقوم مقامًا تحمده عليه"، ورجع بهذه الحالة عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
وكان سيِّدنا خالد بن الوليد وضَعَ من شعره الكريم ﷺ في عمامته؛ في قلنسوته، وخيّط عليها في القلنسوة وكان يشهد بها المشاهد، كما كان بني اسرائيل بالتابوت يشهدون الوقائع؛ يستنصرون الله تعالى ببقية ممّا ترك آل موسى وآل هارون. وكان سيِّدنا خالد، فما وقف في معركة إلا نصره الله حتى سقطت يومًا عليه فخرج من فرسه ودخل بين القوم حتى رفعها وعاد، لمّا عاد قال له بعض الصحابة: كدت تهلك نفسك! لماذا تدخل بين القوم هكذا حافيًا؟ قال: إن في القلنسوة شعرٌ من شعر رسول الله، فلو لم أصل إليها إلا أن أُقطّع قطعةً قطعة لوَصلت إليها كيف أتركها تحت أقدام القوم؟! عليهم رضوان الله.. هكذا كان الصحابة في رابطتهم بسيِّدنا رسول الله ﷺ.
يقول: "بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً"؛ المراد أربعين سنة وستة أشهر، فإن ولادته كانت في ربيع الأول، وكان نزول الوحي عليه في رمضان، فكانت ستة أشهر من ربيع الأول إلى رمضان؛ أي: بعد كمال الأربعين؛ بعد كمال الأربعين، أكملها ﷺ. فروايات: "على رأس الأربعين" أرادوا الطرف الآخر، كما يقول: رأس الآية يقصد طرفها الثاني؛ ليس أولها؛ يقصد آخر شيء وهذا رأس الأربعين؛ بعد ما كمّل الأربعين. ليس في أول الأربعين. بعد أن أكمل الأربعين، ومَضَت ستة أشهر، نزل الوحي عليه.
وابتدأ من الأربعين، في الأربعين بالرؤيا. أول ما كان ناغَمَه من الوحي الشريف: الرؤيا، من ربيع الأول إلى رمضان، حتى خطاب جبريل ونزوله عليه، رآه في منامه قبل أن ينزل عليه جبريل، فكان يبتدئ بالرؤيا، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
حتى حمل بعض أهل العلم من معاني قوله ﷺ: "الرؤيا الصَّالحة جزءٌ من ستة وأربعين جزءًا من النبوة". قال: إنّ مدة الوحي الشريف عليه كانت ثلاث وعشرين سنة، ومدة الرؤيا كانت ستة أشهر قبل نزول الوحي بالنبوة، ستة أشهر. فنسبة ستة أشهر -وهو نصف سنة- إلى ثلاث وعشرين سنة. نسبة جزء إلى ستة وأربعين لأن الثلاث والعشرين إذا حسبنا من نصف سنة، نصف سنة، نصف سنة، صارت ست وأربعين، والست الأشهر واحد من الستة والأربعين، فكان الرؤيا الصَّالحة جزءٌ من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، ولها معاني أُخر.
يقول: "بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً". قال الله: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [يونس:16]؛ أربعين سنة وأنا بينكم، ما ذكرت لكم شيء حتى جاءني الوحي من الله -جلّ جلاله- مع أنّ نبوّته كانت وآدم طينةٌ، "وإنّي عند الله لخاتم النَّبيين وإن آدم لمنجدلٌ في طينته" صلوات ربي وسلامه عليه.
"عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ" بإسقاط الكسر وهو بضعة عشر؛ ثلاث عشرة سنة هذا هو الأصح. "وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ"، فهاجرَ وهو ابن ثلاثٍ وخمسين سنة، فأقام عشر سنين بالمدينة، فتوفِيَ وهو ابن ثلاثٍ وستين سنة، وهذا هو أصحّ وأرجح الأقوال فيما جاء عن عُمره الشَّريف صلوات ربي وسلام عليه.
وجاء في صحيح مُسلم وغيره عن سيِّدنا أنس يقول: "عاش ثلاثًا وستين سنة". بل جاء أيضًا في الصحيحين، جاء أيضًا في البُخاري عن ابن عباس يقول: "لَبِثَ بمكة ثلاثة عشرة"؛ يعني: بعد البعثة، "ومات وهو ابن ثلاثٍ وستين سنة". فهاجَرَ وهو ابن ثلاثٍ وخمسين، وأقام بالمدينة المنورة عَشرَ سنين، وتوفيَ ﷺ في شهر ربيع الأول وهو ابن ثلاثٍ وستين سنة. وبعد سنتين وستة أشهر لَحِقه أبو بكر وهو ابن ثلاثٍ وستين سنة؛ بما معناه يكون وفاة أبو بكر في رمضان، ما بين رمضان وشوال. وبعد مُضيّ اثنتين وعشرين سنة وستة أشهر، لَحِقَه عُمَر بن الخطاب وهو ابن ثلاثٍ وستين سنة، فكان عُمْره وعُمْر أبي بكر وعُمَر ثلاثة وستين، وتعمّر سيِّدنا عثمان حتى جاوز الثمانين، وقُتِلَ سيِّدنا علي وهو ابن ثلاثٍ وستين.
قال: "وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ" ﷺ؛ يعني: وقت وفاته وخروجه من الدنيا. "وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ ﷺ"؛ أي: لم يظهر أثر البياض في شعره الكريم، وإنّما كان مفرّقًا ما بين رأسه وعنفقته ولحيته نحو العشرون، سبعة عشر شعرة بيضاء. ومع ذلك قد جاء عنه -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنه قد استعمل الصُّفرة والحُمرة، مع قلة ما فيه من الشعر الأبيض، صلوات ربي وسلامه عليه. قال: "وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ" معًا "عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ"، بل كانت نحو سبعة عشر شعرة مفرّقة ما بين رأسه وعنفقته ولحيته. كان في لحيته شعرات بيض، كان في عنفقته شعرات بيض، كان في رأسه شعرات بيض، فمجموع الكل نحو السبعة عشر، ما يزيد على ثمانية عشر شعرة؛ فما يبلغ العشرين.
قال: وكان شيبه كأنه خيوط الفضة يتلألأ بين سواد الشعر. فإذا مسّه بصُفرة -وكان كثيرًا ما يفعل- صار كأنه خيوط الذهب. فإذا ذهب عنه أثر الصُفرة، كأنه فضة؛ بريق فضة. وإذا استعمل الصُفرة فيه صار كأنه خيوط ذهب، صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
وكان ﷺ يومًا يخصف نعلًا له في أيام الصيف في الحر، في بيت سيِّدتنا عائشة، فعرق وهو يخصف النعل، التفتت السيِّدة عائشة إلى وجهه فبُهتت، رأت أثر العرق في وجهه الشريف مكسوّ بنوره مثل حبات اللؤلؤ، فلما رأته بُهتت، فلاحَظَها ﷺ قال: ما لك يا عائشة أبَهُتِّ؟ قالت: يا رسول الله جعلت تعرق وجعل عَرَقُكَ يتولّد نورًا، فلو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بقوله! قال: ما يقول أبو كبير الهذلي؟ قالت: يقول:
ومبرأٌ من كل غُبّر حيضةٍ *** وفسادِ مرضعةٍ وداءٍ مِغيَلِ
وإذا نظرتَ إلى أسِرّةِ وجهه *** بَرَقت كَبرقِ العارِض المتهللِ
قالت: فوَضَعَ من يديه النعل وقام وقبّلني، وقال: ما سُرَرتِ منّي كسروري منك. فرِح لها باتساع مشهدها، وعلوِّ تعظيمها وإكرامها للجناب لأنّ ذلك قُربها من الرب، وسبب رفعتها في الدرجات والمرافقة الكريمة.
ملأ الله قلوبنا بمحبّته، وحشرنا في زمرته، ورَزَقنا حُسن متابعته، وأصلح شؤوننا به في الدارين، وجعل قلوبنا مولّعةً به وبرسوله حتى نبيت ونصبح ونحيا ونموت والله ورسوله أحبّ إلينا مما سواهما، نُمسي ونُصبح ونَحيا ونموت والله ورسوله أحبّ إلينا مما سواهما، نُمسي ونُصبح ونحيا ونموت والله ورسوله أحبّ إلينا مما سواهما، في خير ولُطف وعافية ويقين وتمكين مكين، وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.
21 جمادى الآخر 1444