شرح الموطأ - 488 - كتاب حُسن الخُلُق: تتمة باب ما جاء في المُهَاجَرَة

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب حُسن الخُلُق: تتمة باب مَا جَاءَ فِي الْمُهَاجَرَةِ.

فجر الأربعاء 11 جمادى الآخرة 1444هـ.

تتمة باب مَا جَاءَ فِي الْمُهَاجَرَةِ

2664 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَالَ: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الإثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُسْلِمٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً، إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا".

2665 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أبِي مَرْيَمَ، عَنْ أبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ، يَوْمَ الإثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، إِلاَّ عَبْداً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا، أَوِ ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله ذي الجلال والإكرام، وشارع الحلال والحرام، ومبيّن الحق لنا على لسان عبده خير الأنام، سيدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم وبارك وكرَّم عليه أفضل الصلاة والسلام، وعلى آله وصحبه الكرام، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسانٍ إلى يوم القيام، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل الدرجات العلا والمراتب العِظام، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. 

وبعدُ، 

يواصل الإمام مَالِك -عليه رحمة الله- في الموطأ تذكيرنا بما جاء عن نبيّنا فيما يتعلق بالآداب والأخلاق واغتنام الليالي والأيام. وفي هذين الحديثين يبيّن لنا فضل يومي الاثنين والخميس، وهما اليومان اللذان تُعرض فيهما الأعمال على الله -تبارك وتعالى- أي عرضًا خاصًا، وإن الحق الحي القيوم العالم بكل شيء المطّلع على خفايا النفوس وعلى خبايا الضمائر -جل جلاله- وكّل بعباده المكلفين كُتّابًا يكتبون أعمالهم، ويحصون أقوالهم وأفعالهم، وتُعرض على الله تبارك وتعالى: 

  • منها العرض في كل ليل ونهار، وتعرض أعمال الليل وأعمال النهار. 
  • ومنها العرض في الأسبوع وذلكم عرض الخميس والاثنين. 
  • ومنها العرض الذي يكون في ليالي مخصوصة في السنة. 

فتعرض الأعمال على الله تبارك وتعالى عرضًا خاصًا يكون فيه حصيلة ما كان في ذلك العام، أو ذلك الأسبوع، أو ذلك اليوم، على ذي الجلال والإكرام سبحانه وتعالى. ومنه العرض الذي يتسع وفي شهر شعبان المكرّم قال: "إنه شهرٌ تُعرض فيه الأعمال على الله" صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.

فهو الأعلم بنا وبأقوالنا وأفعالنا ونياتنا وخواطرنا منّا ومن الملائكة الكرام الكاتبين، ولكن اقتضت حكمته أن يرتب هذا التسجيل وهذا الكتاب (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار:10-12]، وهكذا شأن الألوهية مع جميع المكلفين، وَكَّلَ الله تعالى بهم من يحفظ عليهم حركاتهم وسكناتهم ويسجلها في الصحف ويشهد عليهم بها، ثم جعل سبحانه وتعالى:

  • للأزمنة التي يعملون فيها الأعمال ذواكر وشهادات تشهد لهم أو عليهم.
  • وجعل للأعضاء التي تصدر منها الأفعال أيضًا ذواكر وألسن يوم القيامة تشهد لهم أو تشهد عليهم.
  • وجعل الأماكن التي يفعلون فيها ويقولون فيها ويتحركون فيها ذواكر ولسان ينطق في القيامة (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) [الزلزلة:4] تشهد لهم أو عليهم. 

إقامةً منه تعالى للحجة، وهو الأعلم بكلٍّ من عباده من أنفسهم -جلّ جلاله- وهو أعلم بنا من الحفظة ومن الملائكة الكرام الكاتبين، قال الله تعالى في بيان هذه الحقيقة: (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) [القمر:52-53].

وقال عن المجرمين في القيامة: (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49]. فحق المؤمن أن يعيش في هذه الحياة وهو مستشعرٌ اطّلاع الحق تبارك وتعالى عليه. 

ولمساعدة الناس لما يركبُهم من نقصٍ وضعفٍ جعل الله:

  • تذكر الملائكة وكتابتهم
  • وتذكّر الأعضاء وشهادتها
  • وتذكر الأزمنة وشهادتها
  • وتذكر الأرض وشهادتها

 حافزًا ومشجعًا ودافعًا لأن يصدقوا مع الله وأن يرتكبوا الخير ويبتعدوا عن الشر، وأن يفعلوا الصالحات ويبعدوا عن السيئات جهدهم فضلًا من الحق تبارك وتعالى. 

ومن ذلك ما ميّز به يومي الاثنين والخميس في كل أسبوع، وجعل فيه عرضًا خاصًا عليه، ثم جعل فيهما من الرحمة والمغفرة ما يشمل الكثير من عباد الله وأعمالهم، وعبَّرعن الجود الواسع في ذاك اليوم بما يحصل في عالم الجنة من فتح أبوابها؛ "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ"، ففتح الأبواب الحسّي بما يكون مما يأمر الله به الملائكة في هذين اليومين أن يفتحوا أبوابًا معينةً في الجنة لأهل الدنيا الذين يعيشون على ظهر الأرض، ولهم من الأعمال الصالحة ما يجعل الله به مآبهُم إلى الجنة، فتفتح الأبواب التي سيدخلونها في منازلهم ومساكنهم في المآل.

والفتح المعنوي لهذه الأبواب:

  •  بما يتفضّل به من الغفران والتجاوز عن الذنوب العظام.
  • وقبول الحسنات ومضاعفتها.
  • وإنزال الرحمة والمغفرة. 

فذلك فتحٌ لأبواب الجنة. ففتحٌ معنوي وفتحٌ حسّيٌّ، فإذا رحم الله العبد وغفر له تهيأ للجنة وإذا تمّ له ذلك، جُعلت العلامة تُفتح منازله التي يؤوب إليها في الجنة، تفتح لها أبواب.

إذًا، إذا أدركنا هذه الحقائق فينبغي للمؤمن أن يعيش في عظيم مملكة الله -تبارك وتعالى- وفي عظيم تكريم الله للمؤمنين.

 أنت على ظهر الأرض تعيش بما فيها من قصورها وخللها وهمومها وآفاتها وأكدارها، ومع ذلك فتتفاعل لك وتتحرك معك ملائكةٌ وشؤونٌ في الجنات، تُفتّح لك الأبواب، وتكون لها العناية بمعنى التكريم لك والتفضيل، ما لا يحصل في كثيرٍ من أبواب دارك في الدنيا، وبيوتك التي تسكنها في الدنيا، أو من الأبواب التي تسكنها في الدنيا ما يمرّ عليه الأسبوع والأسبوعين والثلاثة ولا أحد يفتحها ولا أحد يتفقّدها، حتى تأتي عندها مناسبة أو غير ذلك، ومنها ومنها… ولكن هذه أبواب تُفَتَّح لك وتتفقد، هذا باب منازل فلان، وهذا باب منازل فلان، وكل اثنين وكل خميس حركة وشأن عظيم في الملأ الأعلى، وأنت على ظهر هذه الأرض تحضر مجلس خير، أو تقيم عملاً صالحًا، أو تقرأ كتاب ربّك، وهناك تُفتّح الأبواب لك، فما أعظم الشأن إذا عرفت قدر مِنّة المنان، ورحمة الرَّحمن -جلّ جلاله- وبذلك تبدأ الخروج في معنويتك وروحك عن كَدر هذا العالم وعن ضيقه، وعن آفاته وعن همومه، إذا عشت متصلًا بهذه المعاني الحقّة الصادقة التي بينّها أصدق الخلق صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.

"تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ"، وهكذا كلما حضرتَ جماعةً تحرّك من الملائكة من يحضر معكم الجماعة ويؤمّن على دُعائكم، وكلما اجتمعتم مجمع ذكرٍ تحلّقوا فوقكم الملائكة إلى السماء الدنيا وكان ما كان مما يخاطبهم به الله عن أهل ذلك المجلس، فكيف تعيش أنت وكيف تحيا في هذه الحياة الطيبة؟ إذا أُمددت بسراية الشعور والحِس بها دخلت في خضمّ الطيبة في الحياة، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل:97]. فهو يعيش على ظهر الأرض متصل بالعالم الأعلى، متصل بالجِنان وما يكون فيها، متصل بحضور الملائكة معه، وبفرح الكتبة الذين يكتبون أعماله الصالحة وكفّه عن السيئات، يعيش في عالم الدنيا عيشةً طيبةً ويحيا حياةً طيبة، ونِعم الحياة الطيبة التي هي في ميزان رب الأرباب طيبة، وباعتبار الإله الخلاق طيبة، فما أطيبها وهي عند الرب طيبة، جعلنا الله من أهل الحياة الطيبة. 

"تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُسْلِمٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً"؛ أي: كل عبدٍ مؤمن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، تشملهم المغفرة في ذلك اليوم، وينالون نصيبهم من الرحمة في الإثنين وفي الخميس، "إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ"؛ عداوة تملأ القلب تشحنه، يكون بها مشحون القلب، هذه الشحناء مانعة من المغفرة -والعياذ بالله تعالى- تحرم صاحبها من الغفران، تحرم صاحبها من العفو، تحرم صاحبها من التجاوز عن الذنوب والسيئات والعياذ بالله تبارك وتعالى.. فما أخطرها إذًا وما أشنعها، ما أخطر هذه الشحناء وما أشنعها ولا ينشرها ويحبها إلا إبليس وكُبار أتباعه -والعياذ بالله تعالى- والموظفين معه في نشر هذا الشر القاطع عن مغفرة الله جلّ جلاله.

 فليحذر المؤمن، وليحذر طالب العلم، وليحذر الداعي إلى الله تبارك وتعالى أن يتسبب في قطع مؤمنٍ عن الغفران في إثنينٍ أو خميس بما يوغر صدره على صاحبه، أو على قريبه، أو على جاره، أو على معامِله، فيمتلئ صدره ويُشحن بالبغضاء فيأتي الإثنين فيُحرم المغفرة، ويأتي الخميس فيُحرم المغفرة، فلو درى ماذا فاته وماذا حُرِم لما قدر أن يأكل ولا أن يشرب من شدة الحزن على ما فات عليه، ولكنهم في غفلة عما بيّن لهم الرب ورسوله صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلِّم، فكيف حذر ﷺ وقال: تشمل المغفرة كل مؤمن، كل مؤمن لا يشرك بالله شيئًا لا يعبد غير الله تعالى، لا يشهد أن مع الله إله غيره، يشهد أن لا إله إلا الله كلهم تشملهم المغفرة بأصناف ذنوبهم إلا أهل الشحناء، يا لطيف!.. فلا مغفرة لهم، ما المصيبة هذه؟ ما البلية الكبيرة في الشحناء هذه والبغضاء والعداوة.. خلَّصنا الله والمسلمين منها ومن شرّها، ونشر بينهم الألفة والأخوة والمحبة. 

"فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا" أخّروا، أمهلوا "هَذَيْنِ" لا مغفرة لهم، لا رحمة لهم، "حَتَّى يَصْطَلِحَا"، "أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا"؛ يعني: يتصالحا ويذهب ما بينهم من بَغضاء ومن شحناء ومن عداوة. لا إله إلا الله…

"حَتَّى يَصْطَلِحَا" فتزول عنهم الشحناء، قالوا فلا يفيد التصالح للسمعة والرياء، والمغفرة لكل واحد متوقفة على ما في قلبه من زوال العداوة وزوال الشحناء، وإن تظاهرا بأن يُسلِّم على أخيه وهو قلبه مشحون عليه، فلا يفيده ذلك؛ حتى تزول الشحناء من قلبه. لا إله إلا الله… 

وكلٌّ مؤاخذ بما في قلبه، فإذا صفا أحدهما ولم يصفُ الآخر فالذي صفا تناله المغفرة والآخر هو المحروم، وهكذا.

أصلِح اللهم قلوبنا وقلوب أهالينا وذرياتنا، ومن في ديارنا وقرَاباتنا وجيراننا وطلابنا وأحبابنا وأصحابنا والمسلمين، أصلح قلوبنا ولا تبقي فيها ذرّةً من شحناء، ولا ذرّةً من بغضاء ولا ذرّةً من حقد ولا ذرّةً من حسد برحمتك يا أرحم الراحمين. يا مقلب القلوب والأبصار ثبِّت قلوبنا على دينك. 

وهكذا جاء الحديث في صحيح مسلم، وعند أبي داود، والترمذي، والنَّسائي، وأخرجه البخاري في كتاب الأدب المفرد: "فيُقال أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا".

وجاء في الرواية الأخرى: "تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ"، أي: المكلفين على الله تبارك وتعالى، تعرض "كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ"، يعني: كل أسبوعٍ مرتين، معنى كل جمعةٍ مرتين يعني كل أسبوعٍ مرتين، ويقال: الأسبوع الجمعة. مرّت علينا جمعة أو جمعتان، يعني أسبوع أو أسبوعان، في "كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ، يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ" يعني في كل أسبوع تعرض الأعمال على الله عرضًا خاصًا في الإثنين وفي الخميس، وفي هذا تكرر العناية من الله والنظر في خلال أيام الأسبوع.

 وقد خصّ ليلة الجمعة ويومها بما خصّ، وجعل فيها من المغفرات الخاصة ما جعل، ومع ذلك جعل الإثنين والخميس أيضًا، ثم جعل مُفرقاتٍ بعد ذلك لنيل المغفرة ليربح عباده عليه فلا يهلك على الله إلا هالك. 

  • جعل الاجتماع للصلوات.
  • جعل الطهارة وإحسان الوضوء والغُسل من أسباب المغفرة.
  • وجعل الصدقة من أسباب المغفرة.
  • وجعل قراءة القرآن من أسباب المغفرة.
  • وجعل مجالس الذكر من أسباب المغفرة.

ومُتفرقات في خلال اليوم والليلة أسباب المغفرة، ويأتي الإثنين ويأتي الخميس وتأتي الجمعة حتى لا يهلك على الله إلا هالك -والعياذ بالله تبارك وتعالى- ممّن أعرض وأصر واستكبر ولم يبالي أولئك هم الخاسرون المُتهيئون للحُزن الكبير والحسرة العظيمة، أعاذنا الله من ذلك.

"فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، إِلاَّ عَبْداً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا"؛ أي: يرجعا عن شحنائهما وعن بغضائهما وعن خبث قلبيهما، "اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا"؛ أي: يرجِعا أو قال "ارْكُوا" بمعنى: أخّروا، أركيت الشيء أخّرته، أركى جنَّبه جانب وهكذا، فركاه يركوه إذا أخّره، ففيه اتركوا، وفيه أنظروا وفيه "ارْكُوا هَذَيْنِ"، فما أصعب حال المتشاحنَين يؤخَّران عن المغفرة والعياذ بالله تبارك وتعالى "حَتَّى يَفِيئَا"؛ يرجِعا فيَصطلحا.

وإنَّ الله تعالى يرفع عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، فهذا عرض اليوم والليلة، غير عرض الأثنين والخميس، وغير عرض أعمال السنة في شعبان. لا إله إلا الله… ولكل عرضٍ حكمة. 

ويتكلم بعد ذلك عن كتاب اللباس، وهذا يبين لنا أننا في نظامٍ شاملٍ للمعنى والحواس، فلا نخرج في صلتنا بالله وأدبنا معه حتى في اللباس، وندرك بذلك ما حصل على الأمة من بأس بمدِّ يد الوسواس الخناس الذي لَعِبَ عليهم في اللباس، وملأهم بالالتباس، فخرجوا عن الخير والقياس، وساروا في كشفٍ للعورات، أو تحجيمٍ، أو اتباعٍ للفُساق، أو تعلقٍ بموضاتها في شبهيةِ أعداء الحق -جلَّ جلاله- ولعبوا على الناس في ذلك، وظنّ من ظنّ ممّن وقع في ورطة شبكة الوسواس الخناس أنه لا بأس في ذلك وفيه البأس.

فإن للّباس أثرًا وكتابًا ولا نجد كتابًا من كتب الحديث أي كتاب كبير من كتب الحديث أو من كتب الفقه في الشريعة الإسلامية إلا ونجد: كتاب اللباس والزينة، لأن الله ورسوله ما تركوا اللباس للعب؛ وكل واحدٍ يلبس كما يريد، بل وجّهوا وجعلوا:

  • واجبًا
  • وجعلوا مندوبًا
  • وجعلوا مباحًا
  • وجعلوا حرامًا
  • وجعلوا مكروهًا

ورُتب ذلك ترتيبًا؛ فالنظام نظام خلاَّق -جلَّ جلاله- لم يترك شيء من شؤون عباده المكلفين إلا رتّبه لهم ونظمه لهم وجعل لهم فيه شرعًا متبعًا وُسنَّة يُقتدى بها، يرتفع بها شأن أهلها. 

ويذكر في الآثار أنه نجا واحدٌ من الذين غرقوا مع فرعون، حتى هداه الله بعد ذلك، ولِمَ؟ قال: كان تولّع بأن يجعل عمامته كعمامة هارون، فأعجبته عمامة النبي هارون وكان يصلّح له مثلها، فلما غرق القوم ومعه هذه العمامة فيها خيط التشبه بنبيّ نُجّي وأُبعد، وتاب بعد ذلك وآمن بالله تعالى وكان سببه الأول أنه يُشابه النَّبي هارون. 

لا إله إلا الله! ويشهد لهذا ما قال المأمون: "من تشبّه بقومٍ فهو منهم"، ويأتي في ذلك خطر التشبُّه بالفساق والفجار والكفار والعياذ بالله تبارك وتعالى.

رزقنا الله الاتباع لنبيه المختار، والاقتداء به في السرّ والاجهار بسر الفاتحة إلى حضرة النَّبي ﷺ.

 

 

تاريخ النشر الهجري

11 جمادى الآخر 1444

تاريخ النشر الميلادي

04 يناير 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام