شرح الموطأ - 485 - كتاب حُسن الخُلُق: باب ما جاء في الحياء، وباب ما جاء في الغضب

درس الفجر في كتاب الموطأ للإمام مالك
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب حُسن الخُلُق: باب مَا جَاءَ فِي الْحَيَاءِ، وباب مَا جَاءَ فِي الْغَضَبِ.

فجر الأحد 8 جمادى الآخرة 1444هـ.

 باب مَا جَاءَ فِي الْحَيَاءِ

2656 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ سَلَمَةَ الزُّرَقِىِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ رُكَانَةَ، يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لِكُلِّ دِينٍ خُلُقٌ، وَخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ".

2657 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "دَعْهُ، فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ".

باب مَا جَاءَ فِي الْغَضَبِ

2658 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَعِيشُ بِهِنَّ، وَلاَ تُكْثِرْ عَلَيَّ فَأَنْسَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لاَ تَغْضَبْ".

2659 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ".

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمدُ لله مكرِمنا برسالةِ مُصطفاه، وبيانه ﷺ فيما أوحى إليه مولاه فيما يوجبُ الخلاصَ والنجاة والفوزَ والسعادة في الدنيا والآخرة، بما لا تبلُغهُ آمالُ المؤمِّلين ورغباتُ الراغبين وطَمعُ الطامعين من جودِه تبارك وتعالى وعظيمِ نَداه، صلى الله وسلم وبارك وكرَّمَ على مَن به فتَح لنا أبوابَ المِنَّة والفضل، وجعلَ عطاءَنا بواسطته من خيره العطاء الجَزْل، وعلى آله وصحبه أهل الفضل، وعلى مَن تَبعهم بإحسانٍ في النيةِ والقول والفعل، وعلى آبائِه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، الذين قدَّمَهُم الله على من سواهم، وجعلَهم سبحانه وتعالى لخصائصِ إفضالهِ أهل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميعِ عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرمُ الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعدُ، 

فيذكرُ لنا الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- بعضَ ما وردَ في شأن: 

  • وصف الحياءِ.
  • ووَصف الغضب.

فذكرَ وصفَ الحياء الذي هو مانعٌ لصاحبهِ أن يرتكبَ ما لا يَليقُ به، أو أن يُقصِّرَ فيما يجبُ عليه ويَلزَمُه، ويدعو صاحبَه للتجاوُزِ عن خَلْقِ الله تبارك وتعالى، ولترْكِ بعضِ حقِّهِ.

فهذا الحياء الخُلُقُ الكريم الذي به يَستحييِ الإنسان من التقصير، ومن الإساءة، ومن المُطالبةِ بجميع حقهِ، إلى غير ذلك من المكارم التي يَجلبُها الحياء، ولفظهُ قريبٌ من الحياة، وإنَّ به حياة الدين، وحياة الإيمان واليقين، كما قال ﷺ: "الحياءُ شعبةٌ من الإيمان"، "الإيمانُ بضعٌ وستون شـعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إِماطةُ الأذى عن الطريق، والحياءُ شعبةٌ من الإيمان".

وبذلك جاء التهديد لمَن فَقدَ هذا الوصفَ الحميد، قال ﷺ: "إذا لم تَستحِ فاصْنَعْ ما شِئْت" وجعلَه "مما أدركَ الناسُ من كلام النُّبوةِ الأولى"، فالأنبياءُ كلُّهم على إقامة هذا الوصف الجميل، بأمرِ ربهم الجليل جلَّ جلاله وتعالى في علاه. وكلما زاد إيمان الإنسان زاد حياؤُه، ولذا جاء في وَصف سيدِنا ونبينا مُحمَّدٍ ﷺ، أنه كان أشدَّ حياءً من العذراء في خِدرها، صلوات ربي وسلامه عليه.

 وَمَظاهرُ صحةِ هذا الحياء ما أشار إليه في الحديث، بقوله ﷺ: "اسْتَحيوا من اللهِ حقَّ الحياءِ ، قالوا: يا رسول الله، كلنا نستحيي من الله، قال: ليس ذاكم، مَن استحيا من الله حقَّ الحياء، فَلْيَحفظْ الرأسَ وما وَعَى، والبطنَ وما حوى، وأن يذكُرَ الموت والبِلَى، ومن أراد َالآخرةَ تركَ زينةَ الحياة الدنيا"، الله يوفِّر حظنا من هذا الحياء. 

وقد جَزُلَ منه قِسمُ سيدِنا عثمانَ بن عفان، فكان شديدَ الحياء، فجوزيَ أن تَستحيَ منه ملائكةُ الرحمن حياءً خاصّاً، لأن الجزاءَ من جنس العمل. وتحدَّث ﷺ عن مَنْ شابَ شيبةً في الإسلام، وقال: إنَّ الله يستحيي من عبدِه إذا شابَ أن يُعذِّبَه، ثم بكى ﷺ قالوا: ما يُبكيك؟ قال: "أبكي ممَن يَستحي الله منه وهو لا يَستحي من الله" جل جلاله وتعالى في علاه.

رزقنا الله النصيبَ الوافي من هذا الوصف الحميد، الذي يعملُ على إبطالِه وإفساده إبليسُ وجُندُه، ويريدون أن يَبثّـوا بين الناس الجَراءةَ وهتكَ الأستار، وعدمَ المُسامحات وأخذَ الحقوق، ويُسمُّون ذلك شجاعةً، ويُسمونه قوةً، ويسمونه إلى غير ذلك من الأكاذيب والألاعيب، وإنما كَرامة هذا الإنسان والمكلفين من الإنس والجان، بأدبِهم مع الرحمنِ الذي الحياءُ فيه ركيزةٌ من أعلى ركائِزه.

يقول -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-: أن النبيَ ﷺ قال: "لِكُلِّ دِينٍ خُلُقٌ،" أهلُ كلِ اتجاهٍ وأهلُ كلِّ مبدأ في الحياة الدنيا، يغلِبُ عليهم ويرتكز في اتجاهِهم ذلك وملَّتهم، خلُقٌ من الأخلاق، فهؤلاء يرتكزُ فيهم خلُقُ الجَراءة، وهؤلاء يرتكز فيهم خلُقُ الرِّقة والعطف، وهؤلاء يرتكز فيهم خُلق البَطش والانتقام، إلى غير ذلك مما يَغلُب على أهل كلِّ اتجاه، ودينُ الحق، دينُ الإسلام الذي هو دينُ سيدِنا آدمَ عليه السلام والأنبياءِ من بعده وأتباعهم، إلى زَينِ الوجود سيدِهم مُحمَّد ﷺ وأتباعِه، هذا الدين خُلُقُهُ الحياء، "وَخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ" طَبْع هذا الدين وسجِيَّتُه ونظامُـه الحياء، فالإسلامُ دينُ الحق أشرف الأديان، والحياءُ أشرفُ الأخلاق، والأشرفُ للأشرف، فهو قائمٌ ومرتكزٌ على الحياء من الله ومن عباده على وجهه.

هذا الحياءُ المحمود الذي به يُترَك كلُّ مذمومٍ في الشرع، وكلُّ تقصيرِِ في ميزان الشرع، هذا هو الحياء المحمود.

وقد يختلطُ على الناس أحياناً، جبنٌ وضَعفٌ بالحياء، فيَجبُن ويَضعُف عن واجبٍ من الواجبات أو عن سنةٍ من السُنن، فيترُكُها ويقول: استحييت، والحياءُ لا يأتي إلا بخير، الحياء صحيح لا يأتي إلا بخير، لكن هذا ليس هو الحياء، هذا يعني عندك ضعفٌ، عندك جُبُن، عندك خوفٌ من غير الله تعالى، تترُكُ سننًا أو واجباتٍ تقول استحييت! وتفعلُ مكروهاتٍ وتقول استحييت! استحييت ممَن؟!  كيف يكون الحياء؟  لا يكون الحياءُ إلا ما حمَلَك على المحمودِ عند الحق، وأبعدَكَ عمّا كَرِهَه الرحمنُ سبحانه وتعالى، هذا هو الحياءُ في عُرْفِ الشرع، والمحمودُ الذي جاء حَمدُه على لسان النبي مُحمَّد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. "لِكُلِّ دِينٍ خُلُقٌ، وَخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ" اللهم اجعلنا ممَن يَستحي منك حقَّ الحياء.

ولما كان أيضاً يَشتبه على الإنسان أحيانًا، أن يسألَ عمّا لا يَعلمُه، فيَظُنُ أن تركَ السؤال من الحياء، والحياءُ الصحيحُ لا يمنَعُه عن أن يسألَ ما يتفقَّهُ به في الدين، وما يَحتاج له في سَيرِه إلى رب العالمين، وما يُصحِّحُ به وعيَه وفهمَه، لذلك جاء عنه صلى الله عليه وصحبه وسلم في ما جاء عن أم المؤمنين عائشة تقول: "نِعمَ النساءُ نساءُ الأنصار، لم يَمنعْهُن الحياءُ أن يتَفقَّهنَ في الدين". وهكذا قالت أم سليم: "إنَّ الله لا يَستحيِ من الحق، هل على المرأةِ  غُسلٌ إذا هي احتَلمت؟ قال ﷺ:  نعم، قالت أم سلمة:  أوَ تحتَلِمُ المرأةُ يا رسول الله؟" قال: وممَّ يشبِهُها الولد؟"، ففي مثل هذا جاء البيانُ في مَسلك الحياء وكيف يكون، ويُقال: "لا يَنالُ العلمَ مُستحٍ"، أي: حياءًا مذمومًا "ولا مُستكبر"، وهكذا، جاء الميزانُ  لمعاني الحياء، والضوابطُ للحياءِ المحمودِ عند الله سبحانه وتعالى.

وجاءنا في الحديث الآخر، وهذا الحديث مُخرَّجٌ في الصحيحين: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ" كما تبيَّنَ في روايةٍ، يُعاتِبُ أخاه يقول له: إنك لتستحي حتى لقد أضرَّ بكَ الحياء. سَمِعه ﷺ وهو يُعاتب أخاه في حيائِه "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: دَعْهُ، فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ " دعهُ: اتركه، "فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ"  كان الرجلُ كثيرَ الحياء، وكان بسببِ ذلك لا يَستوفي حُقوقَه، فعاتبَه أخوه، وقال له: اتْرُك هذا الخُلُق فإنهُ قد أَضرَّ بك، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: دَعْهُ، فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ" انما يمنعُ صاحبَه عن ارتكاب المحذور والممنوع وغيرِ اللائق.

 وهكذا كان يتربى أطفال المسلمين على الحياء من صِغَرهم، وهو جِبِلَّةٌ وفطرةٌ يُعطيها اللهُ للإنسان إلا أن يَتنَكَّرَ لها، وإلا فتجد في الطفل الصغير عندما يبدأُ نورُ التمييز والعقلِ يبدأُ معه الحياء، ويصير يَستحيي من بعضِ الأشياء وهو طفلٌ صغير، لأن الفطرةَ السليمةَ قائمةٌ على ذلك، فإذا حافَظَ عليها ونَمَّاها نمَت وأثمَرت، وإن تَنكَّرَ لها وقاوَمَها، ضَعُفَت وغلبَها الجَراءةُ وقِلِّةُ الحياء، وعدمُ المبالاة، وهي أخلاقُ اللئامِ وشرارِ الأنام، والعياذ بالله تبارك وتعالى. رزقنا الله الاستقامة، وأتْحَفنا بالكرامة، وأحيانا بأخلاقِ مصطفاه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.

وقد يصدُرُ من الحياء ما يُسمَّى بالخجل، والخجل يقال: الاسترخاء من الحياء، فيقولون به خَجلةٌ، أي: حياءٌ، وهو تحيُّرٌ ودهَشٌ من الاستحياء، يقول: خَجِل الرجلُ خجلاً، إذا فعلَ فعلاً فاستحيا منه. فالخَجلُ إذًا معنىً يظهر في الوجه، لغَمٍّ يلحقُ القلبَ عند ذهاب حُجَّةٍ أو ظهورِ ريبةٍ وما أشبه ذلك، فهو متفرّعٌ عن الحياء؛ الإرتداع بقوة الحياء فيُقال له خَجَل. 

وعكسُ ذلك ما يكون من البَذاءةِ والوَقاحةِ والسفاهة، فيُقال للسَفاهة والفُحش في المنطق بَذاءَة، وفي الحديث أيضًا: "الحياءُ منَ الإيمانِ، والإيمانُ في الجنَّةِ، والبَذاءُة منَ الجَفاءِ، والجفاءُ في النَّارِ" رواه الترمذي عن أبي هريرة، وقال الترمذي: حسن صحيح، جعَل البذاءَةَ مقابِلةً للحياء، ويدخلُ فيها أو يقرُب منها الفُحشُ، وقد جاء في الحديث: "ما كانَ الفُحشُ في شيءٍ إلَّا شانَهُ،  وما كانَ الحياءُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ" كذلك عند الترمذي، وقال: حسن.

فإذًا البذاءةُ: هو النُطقُ بما يُستحيا منه ومن النُطقِ به، ولو كان صدقاً، بذاءةُ؛ سفاهةٌ، وفُحشٌ في المنطق ومن الجفاء، والجفاءُ في النار، "والبَذاءُ منَ الجفاءِ ، والجفاءُ في النَّارِ" وفي الحديث الآخر: "ما كانَ الفُحشُ في شيءٍ إلَّا شانَهُ، ولا كانَ الحياءُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ". 

والحياء حسنٌ، وهو في المرأة أحسن، وهناك جهودٌ لإبعادِ النِّساء عن الحياء، وجراءَتِهن التي تؤدّي بهنَّ إلى أنواعٍ من الجفاء، وأنواعٍ من الوَقاحة، وأنواعٍ من البذاءة -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فالوقاحة أن يَقلَّ حياءُ الرجل، ويجترئ على اقترافِ القبائح، ولا يعبأَ ولا يبالي، فهذه  الوقاحة.

وكما أسلفنا هذا الحياء: غريزة وفطرة يجعلها الله سبحانه وتعالى في الإنسان، إذا هذَّبَها واستعمَلها على ما وافقَ الشرعَ، أفادتْه ونفَعَته وجمَعتْ له الخيرات، وهكذا.

وعلِمنا ضوابطَها، وأشارت إليه الآيةُ الكريمة في ضَربِ الأمثال ونحوِها، فقال: (إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسْتَحْىِۦٓ أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ) [البقرة:26]. كما أشارَ إلى الحياءِ المحمود، قال تعالى: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ  إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ)، تجلسون في بيتِ النبي تتكلَّمون، تُسامرون بعضَكم البعض، يقول: (إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ) لا يقول لكم قوموا، ولا اخرجوا من بيتي، ولا اسكتوا، (فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ)؛ أي: يبينُ لكم الحقَ، وهو واجبُكُم أن تَستحيوا أنتم من هذا العمل، ولا تَجلسوا في بيت النبي ﷺ تتكلمون. ذلك أنه ﷺ دعا أصحابَه ليلةَ بِنائِه بالسيدةِ زينبَ بنتِ جحشٍ عليها رضوان الله، وكانت في جانبٍ في بيته، ودخَلوا فأَطعمَهم فطَعِموا، كانت وليمة رسول الله ﷺ، ثم بقُوا يتحدثون، وطال حديثُهم، فخرجَ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وخرجَ معه أنسٌ، ودار نحوَ بعضِ الحُجَر وعاد، فوجَدَهم لا يزالون يتحدَّثون، فذهبَ ﷺ يدور، وعاد وجَدَهم يتحدثون، فذهبَ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يدور، ثم عاد فقاموا، فلما خرجوا ودخل صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، إذا بجبريل ينزل بالآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ).

 قال سيدنا أنسٌ:  أرخى رسولُ الله ﷺ الحجاب، وأسمَعُهُ يردِّدُ والوحي، يقول: ( إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) غير جالسين منتظرين إِنَاهُ، يعني طبخَه ونجاحَه، لكن لمَّا يكون كلُّ شيٍء جاهز، اُدخلوا، كلوا واخرُجوا (غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ  فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ  وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ  وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا) [الأحزاب:53] فتعلَّمَ الناسُ الأدب.

 وهكذا قال عن الذين فَقدوا الحياءَ، وجاؤوا يطلبون مقابلةَ رسول الله ﷺ، فصاروا يُنادُونه من ورَاء الحُجُرات، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ* وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ۚ)[الحجرات:4-5].

وهكذا تعجَّبَ أصحابه في أدبِه ﷺ وخُضوعه، كيف يتولى الحقُّ التنبيهَ على الأدبِ معه والذبَّ عنه، وهو لا يـطالبُ بحقوق نفسِه ﷺ، ولا يَحمل أحد عليها، صلواتُ ربي وسلامه عليه.

ثم ذكر لنا وصفاً، وهذا شأنُ الحياء يقول فيه ﷺ: "الحياءُ لا يأتي إلا بخير" اللهم وفِّر حظنا منه. وبه حياةُ القلب، واسمه قريبٌ من اسم الحياة، الحياء، ويأتي في شريفِ معاني الحياء، ما ذكَرَ ﷺ في الإحسان بقوله: "أنْ تعبدَ اللهَ كأنَّكَ تراه"، وكان الجنيدُ بن محمد يقول: الحياءُ رؤيةُ الآلاء، يعني: النِّعم، ورؤيةُ التقصيرِ فيها يتولَّدُ منه حالةً تُسمَّى الحياء. وكما يقول الحكماء: أَحيوا الحياءَ بمجالسةِ مَن يُستَحيا منه.

وعمارةُ القلبِ بالهيبة والحياء، إذا ذَهَبا من القلب لم يَبقَ في القلب خيرٌ، ولهذا كان يقول بعضُ الصحابة: إذا كان يجتمع من الأمة نحوُ العشرين فأكثر، ليس فيهم مَن يُستَحيا منه، فقد تُوِدِّع منهم! حلَّ بهم البلاء، وكان لا تجد في بيتٍ من بيوت المسلمين، إلا وفيه من يُستَحيا منه، ولا مجلسٍ من مجالس المسلمين إلا وفيه مَن يُستَحيا منه، ومجالسةُ من يُستَحيا منه تُنمِّي الحياء، وتقَوِّي الحياء، وتُحييِ الحياء، ومجالسةُ أهلِ الوقاحةِ والجُرأة تُذهبُ الحياء، وتقضي عليه، والعياذ بالله تبارك وتعالى.

  • والمُستحيا منه إن كان مُحَرَّمًا فالحياءُ واجبٌ. 
  • وإن كان تركَ مندوبٍ فالحياءُ منه سنةً. 
  • أو كان مكروهاً فالحياءُ من فعله سُنّة.
  • أوكان مُحرَّماً فالحياءُ في تركه واجبٌ من الواجبات، يجب أن يَستحيِ منه. 
  • أما  الحياءُ من فعله حرامٌ، فيحرُم، لأنه خارجٌ عن الحياء المحمود. 

يتركَ واجب… ما لك؟ قال: استحيت، استحييت تعمل واجب فرضه الله عليك؟! هذا حرام! رُح  اصرف لك من الحياء الصحيح، خل العملة الزائفة الفاسدة، هذا ليس حياءً، هذا جُبن وضعف، سميتَه أنتَ حياء! 

وهكذا يقول ﷺ: "إذا هابَت أمَّتي أن تقولَ للظَّالمِ يا ظالِمُ  فقد تُودِّعَ منها".

وذكر الفقهاءُ أنَّ ما يُؤخَذُ من مالِ الإنسان بالحياء، بإخجالِه يأخذُه منه كما يأخذُه بالسيف، حرامٌ عليه، مثل ما يأخذُه بالقوة. وإذا أخذَ مالَ غيره بالحياء، كأن يسألَه في ملأٍ ويستحي أن يردَّه ويدفعَه إليه بباعثِ الحياءِ فقط، فهذا قالوا مما يَحرُم أخذُه، فالأخذُ بالحياءِ كالأخذِ بالسيف، والعياذ بالله تبارك وتعالى، وقد جعلَ النبيُّ كما سمعنا في الحديث "خلُقُ هذا الإسلام الحياء".

 

باب مَا جَاءَ فِي الْغَضَبِ

 

ثم ذكر لنا الخُلُقَ الآخَر الذي يجبُ أن نَتنزَّه عنه، وهو اتباعُ سَوْرةِ الغضب ودواعيه، إلى خروجنا إلى ما لا ينبغي لنا، فذلك هو الذي يجب أن يُجاهدَه المؤمنُ حتى يستقيمَ غضبُه، فلا يغضب إلا لله، وإذا غضبَ لله تصَرفَ بمقتضى هذا الغضب بما شرَعه الله، وبما أحبَّه الله جل جلاله. فإن فائدة وجودِ الغضب: 

  • لأجلِ الحمِيّةِ على الأعراض 
  • والحمِيّةِ على الشرائع والدين 
  • ولأجلِ الجهادِ في سبيل الله 
  • والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر 

فإذا لم يوجد غضبٌ فكيف يُنهى عن المنكر؟ كيف يُجاهَد في سبيل الله؟ ولكنَّ الغضبَ إذا انصرفَ في مصرِفه الصحيح، وصار المخلوق يغضبُ من أجل الخالق جل جلاله، ويتَصرفُ في تنفيذِ هذا الغضب بما شرَع الخالقُ، فنِعمَ الغضبُ إذًا، وهو عُدَّةُ الجهاد، وعُدَّةُ الغَيرة المحمودة، وعُدَّة الحفظ للأعراض والأموال والأديان.

 وما خرج عن ذلك فصار يغضب لنفسِه ولأغراضِه ولمصالِحه ولمطامِعه، ويخرجُ عما شرعَ الحقُ تبارك وتعالى له، فهذا هو الذي يوقعُه غضبُه في المهاوي، ويقول إبليس: إني أُوَسوِس على ابنِ آدم في قلبه، فإذا غضبَ طِرتُ إلى رأسه، فصِرتُ ألعبُ به كما يلعبُ الصبيانُ بالكرة؛ وقت الغضب، وهو من فيحِ جهنم.

ذكر لنا عليه -رضوان الله تبارك وتعالى-: "عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ رَجُلاً  أَتَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ  فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ" جاء في لفظ البخاري: "أوصني"، "عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ" وجاء في روايةٍ: "دُلني على عملٍ يدخلني الجنة". وهذه الرواية: "عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَعِيشُ بِهِنَّ"؛ يعني: أنتفعُ بها مدةَ عيشي، أو استعينُ بها على صلاحِ عيشي، "وَلاَ تُكْثِرْ عَلَيَّ فَأَنْسَى" هاتِ لي كلام مختصر، شيء ينفعني . "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لاَ تَغْضَبْ". وفي البخاري: "فردَّد مرارا، قال: لا تغضب"، وفي بعض الروايات: رددَ ثلاث مرات، كلُّ ذلك يقول له: "لا تغضب". وجاء في روايةٍ:  "يقول: ما لَكَ لا تفقه، قلتُ لك: لا تغضب"؛ فالمعنى: إذا تمكنتَ من ضبطِ غَضبِك، فقد صَلُحَ عيشُك وشأنُك وحالك وأمرُك، فلا تَصرِفُه إلا فيما يحبُّ الله تبارك وتعالى صرفََهُ فيه.

 ومعنى لا تغضب أمران: 

  • اجتنبْ أسبابَ الغضبِ للنفس 
  • وإذا جاءك الغضبُ فلا تُنْفِذ غَضبَك

هذا معنى لا تغضب، أما وجودُه فهو أمرٌ طبعيٌ قهريٌ من دون اختيار الإنسان، فإذاً ليس المراد فقدَه في ذاته، ولكن أن تَتَوقى أسبابَ الغضب للنفس، وإذا ثارَ بك الغضبُ لأجلِ نفسك، ألا تُنفِّذَ غضبَك، تكظُم غيظَك، وتمنعُ نفسَك التصرفَ بمقتضاه، هذا معنى:" لا تغضب" لا تُنَفذ غضبَك. فكأنَّ ذلك السائلَ ما بقيَ من الصفات الذميمة التي تُخرجُه عن سواءِ السبيل إلا هذا الغضب، وإنه كان مكسورَ الشهوة، شديدَ الغضب، فأوصاه النبيُ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ألا يَغضب، ولذا يقول: مَن تأمَّل المفاسدَ التي في الغضب عرف مقدارَ ما اشتملت عليه هذه الكلمةُ اللطيفةُ "لا تغضب". يقولُ للنبي ﷺ في روايةٍ: علمني ما ينفعُني بكلماتٍ قليلة لئلّا أنسى إن أكثرتَ عليَّ.

 قال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران.134]، ويقول: الغضب يهلكُ كثيراً من الدنيا والدين، والعياذ بالله تبارك وتعالى. 

وقال لنا: "لَيْسَ الشَّدِيدُ"؛ أي: القويُّ الذي يُمدَحُ على القوة "بِالصُّرَعَةِ"؛ يعني: الذي يَصرعُ الناس كثيراً بقوة، لا يغلبه الناس، بل يصرعهم، ليس هذا الشديد، مع أن الصُّرَعةَ قد يَعُدُّ قوتَه للجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، ولكن ليست هذه محطُّ نظرِ المؤمنين في الافتخار، ولا في التشرُّف، "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ" فهل يكون بعد ذلك التشرفُ والتبجحُ بأنه يتقن لعبة؟! يا مجنون… "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ"؛ الذي يَصرعُ الرجال، فكيف الذي يقدرُ على الكرة! هذا ممتاز؟ يعني يُتشرَّف به؟.. لو قدرتَ على الخلقِ كلهم تصرعهم ماهذه هي الكرامة، ولا هذا هو الشرف، إلا أن تستعملَ قوتَك في سبيل الله جل جلاله، "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ" إذًا الثناء والمدح لأنه واحد يلعب لعب، هذا الثناءُ كله لعب ومسخرة  وسُخفٌ.

تُثني وتمدحُ واحد كَسبَ مقام من مقامات اليقين، تشرَّف بالقربِ من رب العالمين، استعدَّ لموجبِ الفوز في الآخرة، هذا يُمدَح، هذا يُشرَّف، هنا الكرامة والشرف، أماتعرف تلعب؟!.. 

وقد كنا نعهد الناس، يغضبُ أحدُهم إذا قلتَ له أنت لعّاب، فصاروا الآن يفرحون إذا قلت اللاعب الكبير، كان يزعل ويقول: أنا لعّاب؟!  والآن يقولون: اللاعب الكبير فيفرَح، لماذا ما تكون المُجِدّ الكبير؟ المشمِّر الكبير؟ ليس لاعبٌ كبير!؟ مشمِّر مُجِد، لماذا ما تكون الخائف الكبير، الخاشع الكبير مثلًا؟… هذا فيها الشرفُ، وبها العزة. 

"لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ" جاء في روايةٍ يقول لهم: "ما تَعدُّون الصُّرعَةَ فيكم؟ قالوا: الذي لا يصرَعُه الرجال، يتمكَّن منهم، قال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ"، فلا يُخرِج كلمةً قبيحةّ ولا يتصرفُ تصرف سيء، يكون مضبوط وقت غضبه، يَضبطُ كلامَه، يضبط تصرَفه، لا يتصرفُ بمحرَّمٍ ولا بمُشينٍ، ولا يُخرِجُ كلمةً نابيةً، هذا هو القويّ، هذا هو الشُّجاع، هذا هو الممدوح، الذي يَصحُّ له المدح، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله.

 وجاء في رواية: "الصُّرعَةُ كلُّ الصُّرعةِ ،الَّذي يغضَبُ فيشتَدُّ غضبُه،  ويحمَرُّ وجهُه.. فيصرَعُ غضبَه"؛ ما ينفِّذُ شيء من غضبه أبدًا، هذا هو الرجل، وهذا هو محلُّ الفخر، ومحلُ الشرف، "الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" هذا الحليم، وهو مما يسودُ به الإنسان بين الناس، الحليمُ الذي لا يستفزُّه غضبٌ، سيد في قومه، سيد في جماعته.وهكذا

قال الإمام مُحمَّد بن حسن جمل الليل: صحبتُ مُحمَّد ابن عمر أبا مُريّم أربعين سنة، فما رأيتُه غضِبَ! أربعين سنة ما رأيتُه غضب. معقول أربعين سنة ما يحصِّل فيها أحد يؤذيه، وما يحصِّل أحد يتكلم عليه، ما يحصِّل فيها شيءٌ يجري على غير مرادِه، لا بد فيها، لكنه لا يغضبُ إلا لله سبحانه وتعالى. سمعت؟ أربعين سنة، ليس أربعين يوم، أربعين سنة.. ليست أربعين ساعة، أربعين سنة فما رأيتُه غَضب.

فيحتاج إلى هذا الضبط، فإذا ضُبِطَ هذا الغضبُ أثمرَ الأخلاقَ الفاضلة، ويَحتاجُ مَن يجاهـدُ غضبَه أن يتأملَ ما ورد في فضلِ كظْمِ الغَيظْ، وفي فضلِ الحِلم.

ولما أسأءَ الأدبَ مرةً بعضُ الناس أمام سيدِنا عمر بن الخطاب، غضبَ سيدُنا عمر، وكان يريدُ أن يأمرَ بضَربِه، فقال له رجل كان جالس عنده: يا أميرَ المؤمنين: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199]، أخذَ يتأمَّلُها سيدُنا عمر ويرددُها،  (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، قال له صاحبه: هذا جاهلٌ من الجاهلين يا أمير المؤمنين لا تُؤاخِذُه  بكلامه، أساءَ الأدبَ عليك اتركه، فردَّد الآية (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ  وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) فقال: اتركوه يذهب.

وهكذا أمر سيدُنا عمرُ بنُ عبدالعزيز بضرب رجلٍ كان يَستحقُّ الضرب، ثم قرأ قوله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ " قال خلَّ عنه، قال للرجل: خلاص لا تضربه، لأنه أمرٌ يتعلق بحقٍ مشروعٍ له فتَركَه. 

ويقولوا هكذا: إذا جاء غضبُك فَتذَكَّر غضبَ الله فانتبه، لا تنفِّذ غضبَك فيغضبُ عليك مَن فوقك، فاستدفِعْ غضبَ الله بِدفعِ غضبِك والاستجابةِ له.

قال الإمام الغزالي: خلُّه يتفكر في صورته عند الغضب، يحصّلها  يراها مشينة، قبيحة، يكفيه لو رأى نفسَه وقت الغضب كيف يحمرُّ وجهُه وتتقلبُ عيناه، ويصيرُ ما تدري هذا آدمي أم وحش من الوحوش؟  يتحرك تحرك غير مضبوط، شيء قبيح، لو تفكرَ في قُبحِ صورتِه عند الغضب ومشابهةِ الغضبان للكلب الضاري والسبُعُ العادي، لكان له زاجر عن أن ينَفٌِذَ غضبَه وأن يسترسلَ مع الغضب، قال: وإن الحليمَ الهاديءَ يُشابه الأنبياءَ، والعلماءَ والحكماء، الله أكبر.

  • وجاءنا أيضًا في الحديث: الأمرُ بالتعوذِ إذا جاء الغضبُ، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، عند مجيء الغضب.
  • وكذلك إن كان قائماً فليجلس، وإن كان جالسًا فليضطجع. 
  • وكذلك الوضوءُ أو الغسلُ عند الغضب فإنه يُطفئُه. 

يقول ﷺ: "فإذا غضبَ أحدُكم  فليتوضأ بالماء، فإنما الغضبُ من النار" هكذا في رواية أبي داود، ويقول: "إِنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ،  وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ،  فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ" في رواية الإمام أحمد. ويقول أيضًا: "إذاغضبتَ فاسْكُتْ"، وجاء في رواية أحمدٍ والبخاري والطبراني وغيرهم، يقول ﷺ لأبي ذر: "إذا غضبتَ، فإن كنتَ قائماً فاقعدْ، وإن كنتَ قاعداً فاتكِئ وإن كنتَ متكئاً فاضطجع"، في رواية ابن أبي الدنيا.

وكان ﷺ إذا غَضِبَتْ عائشةُ يقول: "يا عُوَيش، قولي اللهمَّ  ربَّ النبي مُحمَّد اغفر لي ذنبي، وأَذهبْ غيظَ قلبي، وأَجِرْني من مُضِلَّات الفِتَن". وهكذا غضبت مرةً، فقال لها: أَحَضََرَ شيطانُك؟ قالت: ولِي شيطان؟ قال: ما من أحدٍ من الناسِ إلا ولَهُ شيطان، قالت: وأنتَ؟ قال: وأنا، إلا أن اللهَ أعانني عليه فأَسلم، فلا يأمر إلا بخير. قال ﷺ لها قولي -عَلَّمَها هذه الكلمات، فَمَن كان يشكو شدةَ الغضب عليه وقسوةَ الغضب عليه وغلَبةَ الغضب عليه، يقرأُ هذا الدعاءَ الذي علَّمه النبيُّ للسيدة عائشة-: "اللهم ربَّ النبيِ مُحمَّد، اغفر لي ذنبي وأذهبْ غيظَ قلبي وأجِرْني من مُضلات الفتَن"، فيرددُه صباح ومساء فيذهِبُ الله عنه الغضب.

 قالوا: والحديثُ يَحملُ معنى التوسل، لأن اللهَ ربُّ جميع الكائناتِ والخَلق، فلماذا رب النبي مُحمَّد؟ لماذا خصَّص النبيَ ﷺ؟ فقال: قولي اللهم ربًَ النبي مُحمَّدٍ،  وهو ربُ السماوات والأرض وما فيهن، وربُ الأنبياء كلهم، وربُ الخلق كلهم، قال قولي: اللهم رب النبي محمد. قالوا: فتبطَّنَ فيه معنى التوسل به، أي بما بينَكَ وبين هذا النبي، ربوبيتُك لهذا المحبوب عندك، أسألك برب النبي مُحمَّد…  يقول: اللهم رب النبي مُحمَّد، اغفر لي ذنبي، واذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن.

فمن أراد تقويمَ غضبِه، فليَدْعُ بهذا الدعاء، وكان ﷺ لا يغضبُ إلا لله، ويَرضَى لرضاه. "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ".

رزقنا الله الحِلم والأناة، والتقوى والاستقامة، وجعل هوانا تبعًا لما جاء به نبيّه محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

08 جمادى الآخر 1444

تاريخ النشر الميلادي

01 يناير 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام