(383)
(535)
(339)
(608)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجامع، باب جَامِع مَا جَاءَ فِي أَمْرِ الْمَدِينَة، وباب مَا جَاءَ فِي الطَّاعُونِ.
فجر الأحد 1 جمادى الآخرة 1444هـ.
باب جَامِع مَا جَاءَ فِي أَمْرِ الْمَدِينَةِ
2631 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ: "هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ".
2632 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ زَارَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَيَّاشٍ الْمَخْزُومِيَّ، فَرَأَى عِنْدَهُ نَبِيذاً وَهُوَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ: أَسْلَمُ إِنَّ هَذَا الشَّرَابَ يُحِبُّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَحَمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ قَدَحاً عَظِيماً، فَجَاءَ بِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَوَضَعَهُ فِي يَدَيْهِ، فَقَرَّبَهُ عُمَرُ إِلَى فِيهِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ هَذَا لَشَرَابٌ طَيِّبٌ، فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ رَجُلاً عَنْ يَمِينِهِ. فَلَمَّا أَدْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ نَادَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: أَأَنْتَ الْقَائِلُ لَمَكَّةُ خَيْرٌ مِنَ الْمَدِينَةِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَقُلْتُ: هِيَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَمْنُهُ، وَفِيهَا بَيْتُهُ. فَقَالَ عُمَرُ: لاَ أَقُولُ فِي بَيْتِ اللَّهِ وَلاَ فِي حَرَمِهِ شَيْئاً، ثُمَّ قَالَ: عُمَرُ أَأَنْتَ الْقَائِلُ لَمَكَّةُ خَيْرٌ مِنَ الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: فَقُلْتُ هِيَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَمْنُهُ، وَفِيهَا بَيْتُهُ. فَقَالَ عُمَرُ: لاَ أَقُولُ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَلاَ فِي بَيْتِهِ شَيْئاً، ثُمَّ انْصَرَفَ.
باب مَا جَاءَ فِي الطَّاعُونِ
2633 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ، أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاء قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّامِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ. فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَأَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لأَمْرٍ، وَلاَ نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، وَلاَ نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَإِ. فَقَالَ عُمَرُ: ارْتَفِعُوا عَنِّي. ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي الأَنْصَارَ. فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلاَفِهِمْ، فَقَالَ : ارْتَفِعُوا عَنِّي. ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ. فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمُ اثْنَانِ فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلاَ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَإِ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرَاراً مِنْ قَدَرِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ، فَهَبَطَتْ وَادِياً لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهُمَا مُخْصِبَةٌ وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصِبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - وَكَانَ غَائِباً فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ – فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْماً, سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ". قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ، ثُمَّ انْصَرَفَ.
2634 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَعَنْ سَالِمٍ أبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَسْأَلُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ: مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الطَّاعُونِ؟ فَقَالَ أُسَامَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "الطَّاعُونُ رِجْزٌ، أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ".
قَالَ مَالِكٌ: قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لاَ يُخْرِجُكُمْ إِلاَّ فِرَارٌ مِنْهُ.
2635 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا جَاءَ سَرْغَ، بَلَغَهُ أَنَّ الْوَبَأَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَأَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ". فَرَجَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ سَرْغَ.
2636 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ إِنَّمَا رَجَعَ بِالنَّاسِ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
2637 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لَبَيْتٌ بِرُكْبَةَ، أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ عَشَرَةِ أَبْيَاتٍ بِالشَّامِ.
قَالَ مَالِكٌ: يُرِيدُ لِطُولِ الأَعْمَارِ وَالْبَقَاءِ، وَلِشِدَّةِ الْوَبَاء بِالشَّامِ.
الحمد لله مُكرمنا برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبلاغه عن ربه، أدام الله عليه الصلوات في كل لمحةٍ ونفسٍ، وعلى آله وصحبه وعلى أهل ولائه ومودّته وقُربه، وعلينا معهم وفيهم، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
يُكمل سيدنا الإمام مالك الأحاديث المتفرّقة التي جاءت في المدينة المنورة، فقال: "باب جَامِع مَا جَاءَ فِي أَمْرِ الْمَدِينَةِ"؛ يعني: الأحاديث المختلفة في ذلك.
وذكر لنا حديث عُرْوَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ"؛ أي: ظَهَر وبَرَز له في بعض رجعاته في شيءٍ من أسفاره، فلما رأى جبل أحد قال: "هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ" فعلى شأن ذلك الجبل، الذي جاء عنه أنه جبلٌ من جبال الجنة.
وفيه:
وجاء أيضًا في جبل أحد أنه كان ﷺ صاعدًا فيه، ومعه أبو بكر وعمر فاهتز الجبل، كالذي طرِِبَ وفرح بظهور رسول الله ﷺ عليه وطلوعه عليه، فضرب ﷺ رجله في الجبل وقال: "اسكُن أحد؛ فإنما عليك نبي أو صدّيق أو شهيد".
وهكذا نقرأ في القرآن الكريم أن الله لما أهلك قوم فرعون قال عنهم: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ) [الدخان:29]، فدلّ على أن السماوات والأرض تبكي على فراق قوم، ولا تبكي على فراق آخرين، أي: لا تحبهم، فمن أحبّته لله تعالى بكت على فراقه.
قال سيدنا علي: إذا مات ابن آدم بكى عليه موضعان، موضعٌ في الأرض، وموضعٌ في السماء، أما موضعه في الأرض فمصلّاهُ؛ محل سجوده، وأما موضعه في السماء فمصعد عمله الصالح. مصعد العمل الصالح يبكي على فراق ذلك الرجل الذي كان يصعد منه العمل الصالح عبره إلى السماوات.
وفيه، قبور الصحابة الكرام شهداء أُحُد في حوالي جبل أُحُد، إذ كانت المعركة في الساحة، وصعد ﷺ بعد المعركة في الجبل، وعُلِمَ موضع جلوسه وإقامته هناك، وهناك داوَت أو غسّلت السيدة فاطمة بعض جروح أبيها ﷺ، فكان سيدنا عليّ يصب الماء، وكانت السيدة فاطمة تباشر موضع جروح رسول ﷺ، ثمّ رأت الماء يزيد الدم، فعمدت إلى سعفةٍ من النخل، فأحرقتها وضمّدت بها جروح أبيها ﷺ. ولم تزل السيدة فاطمة بعد ذلك تتعاهد أُحُداً.
كما جاء أيضًا في بعض الروايات عنه ﷺ أنه لم يزل على رأس كل حول يذهب، فيزور شهداء أُحُد، في كل شوال من السنين التي كانت بعد وقعة أُحُد، يخرج عليه الصلاة والسلام ويزورهم، وهو الذي قال عنهم حين قَبَرهم هناك: "والذي نفسه بيده لا يقف عليهم أحد فيسلم عليهم إلى يوم القيامة إلا ردّوا عليه" السلام، على نبينا وعليهم صلوات الله وتسليماته. فهذا الحديث الذي ذكره عن أُحُد.
قال: ولم تزل السيدة فاطمة تخرج في كل خميس فتزور قبر عمَّ أبيها سيدنا حمزة بن عبد المطلب، فهو عم أبيها، وهو عمها إذ كان أخ النبي ﷺ من الرَّضاع، إذ رضع من ثويبة قبل أن يرضع ﷺ، فكان أخوه من الرضاع، وهو عمّه من النسب، فهو:
وكانت تخرج في كل خميس تزورهم وتسلّم عليهم. وهي من ربّاها؟ وهي من علمها؟ وهي من أي المدارس تخرّجت؟… عليها رضوان الله تبارك وتعالى.
ثم ذكر لنا حديث: "أَنَّ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ زَارَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَيَّاشٍ الْمَخْزُومِيَّ"؛ عبد الله بن عياش صحابي ولد بالحبشة لأنه والده عيّاش ممن هاجر إلى الحبشة، وولد له هناك عبد الله بن عياش من مواليد الحبشة، وله صحبة مع النبي ﷺ.
"فَرَأَى أسْلَم عِنْدَهُ نَبِيذًا"، المُتّخذ من التمر أو الزبيب يوضع في الماء فيُطَيِّبُه، وهو ما دام لم يصل إلى حد التغيّر، بحيث يُسْكِرْ كثيره، فهو حلال طيّب، فإذا تخمَّر وتغيَّر، حتى صار كثيره يُسْكِرْ صار حرامًا، فكل ما أسكر كثيره فقليله حرام.
فهذا النبيذ، أو الماء المُحلّى بتمرٍ أو بزبيبٍ، كان يحبُّهُ سيدنا عمر بن الخطاب، "فَقَالَ لَهُ: أَسْلَمُ"؛ أي: لابن عياش "إِنَّ هَذَا الشَّرَابَ" يعني: الذي أراه عندك "يُحِبُّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ"، فكأنه حثّه أن يحمل إليه منه، تنبيه عليه يعني أنه: إذا بتهدي لأمير المؤمنين شيء مثل هذا بيفرح به، هذا معنى كلامه.. "فَحَمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ" معه، يعني: من النبيذ الذي كان عنده "قَدَحاً عَظِيماً" أي: كبيرًا "فَجَاءَ بِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَوَضَعَهُ" يعني: القدح في يده "فَقَرَّبَهُ عُمَرُ إِلَى فِيهِ" أي: على وجه الاختبار لمعرفة حاله، برائحته وكيف هو؟ "ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ" لمّا علم أنه من النبيذ الطيب، الذي لم يقرب من الإسكار، "إِنَّ هَذَا لَشَرَابٌ طَيِّبٌ"؛ يعني: حلال ولذيذ طعمه، "فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ رَجُلاً عَنْ يَمِينِهِ"؛ كما هي السُّنة "فَلَمَّا أَدْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ" بن عياش "نَادَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- فَقَالَ: أَأَنْتَ الْقَائِلُ لَمَكَّةُ خَيْرٌ مِنَ الْمَدِينَةِ؟"
"فَقَالَ -سيدنا- عَبْدُ اللَّهِ بن عياش: هِيَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَمْنُهُ، وَفِيهَا بَيْتُهُ. فَقَالَ عُمَرُ: لاَ أَقُولُ فِي بَيْتِ اللَّهِ وَلاَ فِي حَرَمِهِ شَيْئاً" وما سألتك عن ذلك، إني أسألك عن البلدين، وكان سيدنا عمر يميل إلى تفضيل المدينة على مكة، وهي بالنسبة للمهاجرين أفضل، بل لا يجوز لهم السكنى بمكة بعد أن هاجروا منها عند الجمهور.
وعلمنا الخلافَ بين الصحابة ومن بعدهم من العلماء فيما بين مكة والمدينة، وأيهما أفضل. وعلمنا أن الخلاف يخرج عن موضعين:
فموضع الكعبة بعد قبر النبي أفضل المواضع.
وأمّا الخلاف:
ففي عالم الأجساد والمادّيات لا يوجد بقعة في الأرض ولا في السماء أفضل من البقعة التي ضمّت أعضائه ﷺ.
وبذلك كان أشار السيد عبد القادر الخرد -طوَّلَ الله عمره في عافية- إلى فضل أمّه آمنة التي كُوِّنَ جسدُه الشريف في بطنها، فيقول:
إن كان أفضل بقعةٍ تلك التي *** أضحى بها خيرُ الأنامِ دفينا
فَلِكَونها ضمَّت عظام المصطفى *** لكن ببَطنِكِ كُوِّنَت تكوينا
أنت وسط بطنك تكوّنت هذه العظام ونشأت، فكيف ما تعظم ولا تشرف؟! فإن كان التراب شرُف، والأرض شرُفًت به، ولكن وسط هذا البطن تكوّن الجسد الذي علا فوق السماوات، وجاوز سدرة المنتهى، الجسد الذي علا إلى مواطن لم يستطع سيدنا جبريل بجسده النوراني أن يصعد إليها، وصعد هذا الجسد! صلى الله على سيدنا محمد.
قال: "أَأَنْتَ الْقَائِلُ لَمَكَّةُ خَيْرٌ مِنَ الْمَدِينَةِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَقُلْتُ: هِيَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَمْنُهُ، وَفِيهَا بَيْتُهُ. فَقَالَ عُمَرُ: لاَ أَقُولُ فِي بَيْتِ اللَّهِ وَلاَ فِي حَرَمِهِ شَيْئاً."، ثم ردّ الكلام سيدنا عمر: "أَأَنْتَ الْقَائِلُ لَمَكَّةُ خَيْرٌ مِنَ الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: فَقُلْتُ هِيَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَمْنُهُ، وَفِيهَا بَيْتُهُ. فَقَالَ عُمَرُ: لاَ أَقُولُ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَلاَ فِي بَيْتِهِ شَيْئاً"؛ يعني: أشار إليه إلى أنه كان يرى أفضلية المدينة، ويرى جماعة من الصحابة أفضلية مكة، هذا بالنسبة للبلد غير الموطِنَين الذَيْن ذكرنا: موضع قبره، وموضع الكعبة المشرفة.
وتقدم معنا حديث:
وفي هذه موطن استئناس للذين فضلوا المدينة على مكة المكرمة، يعني وقوله: "لاَ أَقُولُ فِي بَيْتِ اللَّهِ وَلاَ فِي حَرَمِهِ شَيْئاً" يعني هذا ليس محل الخلاف، وأنا ما سألتك عنه، إنما سألتًكَ عن البلدين، وظاهر الحديث أنه لم يتغير اجتهاد أحد منهما.
وجاء عن عبد الله بن عدي بن حمراء: "رأيتُ رسولَ اللهِ ﷺ واقفًا على الحَزْوَرةِ، فقال: "واللهِ إنّكِ لَخيْرُ أرضِ اللهِ، وأحبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ، ولولا أنِّي أُخْرِجْتُ منكِ مَا خَرجْتُ"." وهذا مما يستأنس به الذين فضّلوا مكة. وأنه جاء عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال لمكة: ""مَا أطيبك من بلد وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ وَلَوْلا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سكنت غَيْرك".
وجاء أيضًا في الحديث الذي في الصحيحين: "صلاةٌ في مسجدِي هذا خيرٌ من ألفِ صلاةٍ فيما سواه، إلا المسجدَ الحرامَ"، وفي رواية غير الصحيحين: "وصلاةٌ في المسجد الحرام أفضل من مئةٍ صلاة في هذا"، كما جاء أيضًا أن: الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة، وتكون بمئة ألف صلاة.
ويقولُ: "باب مَا جَاءَ فِي الطَّاعُونِ"، هذا المرض الخبيث الذي ينتشر وسمَّاهُ ﷺ "وخزُ أعدائكم من الجن"، وأن المطعون يموت شهيدًا، إذا مات من الطاعون مات شهيدًا، وجاء أنه هذا المرض الذي يعُمُّ الناس والحيوان، ويصيب الكثير، ومع ذلك ومع عدواه وانتشاره، فالعايشون في البلد الواحد في الطاعون في البيت الواحد يصيب هذا ولا يصيب هذا، يصيب هذا ولا يصيب هذا، فالأمر أمر الله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
إلا أن للنبي ﷺ إرشادًا عند ذلك، وهو الذي وافقَ رأي عمر بن الخطاب، ثم علم النصَّ ففرح بذلك، فيما جاءنا في هذه القصة، أنه "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ"، خرج ليطلع على أحوالها، كان ثغر من ثغور المسلمين، والإمام يتعهّد الثغور، فخرج ليشاهد أحوال رعيته، وأحوال المسلمين، وحالهم مع من يناوئهم من الكفار، وجاء لما حاصر أبو عبيدة بيت المقدس، وسأله أهله أن يكون صلحهم على يد عمر، فكتب إليه فقدم سيدنا عمر، وصالحهم -هذا في أيام خلافته- خرج إلى الشام.
فهو خرج إلى الشام مرتين، وقيل لم يخرج إلا مرة واحدة، فأما المرة الواحدة فلأجل فتح بيت المقدس، ومعلوم أنه هو الذي فتحه، ودخل إليه، وأنه سافر من المدينة المنورة ومعه غلامه فقط، وهو وغلامه يمشيان، ويتناوبان الركوب على الجمل -البعير- فأحيانًا يركب أمير المؤمنين والغلام يقود الجمل، وأحيانًا يركب الغلام وأمير المؤمنين يقود الجمل، فكانوا بالنوبة حتى وصلوا وعند دخوله إلى بيت المقدس كانت النوبة عند الخادم، فنزل الخادم وقال: أنت أمير، قال: اطلع، هذه نوبتك، فقاد الجمل الذي يركبه خادمه عند دخوله لفتح بيت المقدس، وقد انقطع عليه شسعُ نعله فترك النعلين، فدخل حافيًا، يقود جملًا يركبه خادمه! وكان هذه من العلامات عندهم في الكتب التي أنزل الله، موجودة؛ اسمه موجود، وكيفية دخوله إلى بيت المقدس، حتى لما رأوه أخذ علماؤهم يسألون يقولون: من هو الأمير؟ الذي على الجمل؟ قالوا: الذي يقود الجمل، فأيقنوا أنه هو، فسلَّموا له المفاتيح، وأقام أمر الإسلام -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-، وعاد إلى المدينة المنورة.
في هذه المرة، يقول: " حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ"؛ مدينة افتتحها أبو عبيدة، متصلة باليرموك والجابية، ويقول: "لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ" رضي الله عنه، وكان يميل إليه سيدنا عمر ويعظمه، وهو الذي ولّاه، والسبب أنه سمع النبي ﷺ يقول: "إن لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"، حتى كان قبل موته يقول: لو كان أبو عبيدة حيًا، لأوصيتُ بالخلافة إليه، فإن سألني ربي فأقول له: سمعت نبيّك يقول: أنه أمين هذه الأمة، فأعطيتها أمين؛ حتى لا يكون عليّ تبعة في ذلك. فأوكل الأمر إلى ستة من كبار الصحابة وعظمائهم، سيدنا عثمان، وسيدنا علي، ومعهم أربعة من كبار الصحابة، يتشاورون، ويقدّمون أحدهم، ويحضر معهم ولده عبد الله، ولا شيء له في الأمر، ما يمكنه، قال يكفي أن يُسأل عنها واحد من آل الخطاب، قال يكفي واحد، فمفاهيمهم ونظرهم إلى أمر الخلافة والإمارة مختلف تمامًا عمّا تندفع إليه النفوس والعقول غير المنوّرة، والأمر أمر دين، وأمر علاقة برب العالمين جلّ جلاله وتعالى في علاه. وهكذا، رأيت كيف دخل إلى بيت المقدس، وكيف منع أن يُعطى الإمارة أحد من أولاده وأهله بعده، عليه الرضوان.
وقال: "لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ" سيدنا خالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، "فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاء"؛ يعنونَ: الطاعون "قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّامِ" في تلك السنة، "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ. فَدَعَاهُمْ" وفيه أنه: عند المسائل المهمة والصعبة والإشكالات يُدعى القوم، قال: "ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ. فَدَعَاهُمْ" ثم دعا الأنصار ومشيخة قريش، وأخذ يستشيرهم سيدنا عمر، "فَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَأ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ : قَدْ خَرَجْتَ لأَمْرٍ" يعني: همُّه تفقد أحوال الرعية وكذا "وَلاَ نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ" يعني؛ البقية الباقية من خيار الأمة الباقين ما تعرّضهم لهذا الوباء، ويفقد الناس هؤلاء الكبار، من أين يجيبون مثلهم؟.. "مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلاَ نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاء" قال لهم عمر لما رآهم اختلفوا قال لهم: "ارْتَفِعُوا عَنِّي. ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي الأَنْصَارَ. فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلاَفِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي. ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ" مهاجرة الفتح، الذين أسلموا قُبيل الفتح، "فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمُ اثْنَانِ فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلاَ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاء"، فرجَح سيدنا عمر هذا الرأي "فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ" خلاص
"فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرَاراً مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ، فَهَبَطَتْ وَادِياً لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهُمَا مُخْصِبَةٌ وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصِبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - وَكَانَ غَائِباً" وإذا به يحفظ حديث عن النبي ﷺ في المسألة نفسها "فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا، فقال: ماذا عندك؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ"؛ أي: الطاعون "بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ"." الله أكبر!
فوافق الرأي الذي مال إليه سيدنا عمر، فكبّر سيدنا عمر بن الخطاب وفرح وحَمِد الله، "قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ، ثُمَّ انْصَرَفَ." وعاد إلى المدينة المنورة.
سُئل أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ: "مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الطَّاعُونِ؟ فَقَالَ أُسَامَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "الطَّاعُونُ رِجْزٌ، أُرْسِلَ"؛ يعني: العذاب مشهور الذي أرسل على أمم قبلنا
"أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ" -قال- "عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ". "قَالَ مَالِكٌ: قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لاَ يُخْرِجُكُمْ إِلاَّ فِرَارٌ مِنْهُ."
فكأنه قد جاء أنّ الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف، وكذلك أورد لنا حديث "عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ. فَرَجَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ سَرْغَ." قال: "إِنَّمَا رَجَعَ بِالنَّاسِ" رجع بالناس من سرغ "عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.".
وبذلك أورد قول سيدنا عمر "لَبَيْتٌ بِرُكْبَةَ" وهي قرية قريب الطائف، "لَبَيْتٌ بِرُكْبَةَ، أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ عَشَرَةِ أَبْيَاتٍ بِالشَّامِ"؛ يعني: أيام الوباء، فيكون هناك أقرب إلى الحرم وأبعد عن الوباء.
ثم جاء عنه أيضًا: لأن أُخطِىء عشرة أخطاء بركبة، أحب إلي من أُخطِئ خطئًا بالحرم. فهذا ما حدّثنا به عن ما يتعلّق بالطاعون، أجارنا الله والأمة من العلل والأمراض والأسقام الظاهرة والباطنة، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، فالطاعون شهادة لكل مسلم، "المطعون شهيد" كما هو معلوم.
ثم إنه بذلك الوباء بالشام، الطاعون هذا اشتد، فقد جماعة من الصحابة ماتوا، منهم سيدنا أبو عبيدة، ومنهم سيدنا معاذ بن جبل كلهم ماتوا في تلك السنة.
وجمهور أهل العلم على ما ذُكر في الحديث:
"ابتلى الله به ناسًا من عباده فإذا سمعتم به فلا تدخلوا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تفروا منه" هكذا جاء في الصحيحين. كذلك جاء أيضًا: هو عذابٌ -أو رجزٌ- أرسله الله على طائفةٍ من بني إسرائيل، أو ناس كانوا قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض، فلا تدخلوها عليه وإذا دخلها عليكم، فلا تخرجوا فرارًا منه. ولما سُئل مرة عن الطاعون ﷺ قال: "غُدَّةٌ كغُدَّةِ الإبلِ، المقيمُ فيها كالشهيدِ والفارُّ منها كالفارِّ منَ الزحفِ" في رواية الإمام أحمد.
جنَّبنا الله والمسلمين الآفات والعاهات الظواهر والخفيات، وجعلنا من أهل العنايات والرعايات، وسَلَك بنا سبيل أهل التوفيقات، وتولّانا بما هو أهله في كل الظواهر والخفيّات، ولا وكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقه طرفة عين، بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
01 جمادى الآخر 1444