(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الصلاة، باب تَرْك القراءة خلف الإمام فيما جَهَر فيه، وباب مَا جَاءَ فِي التَّأْمِينِ خَلْفَ الإِمَامِ.
فجر الأحد 11 محرم 1442هـ.
باب تَرْكِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الإِمَامِ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ
230 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سُئِلَ: هَلْ يَقْرَأُ أَحَدٌ خَلْفَ الْإِمَامِ؟ قَالَ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ خَلْفَ الْإِمَامِ فَحَسْبُهُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ، وَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيَقْرَأْ، قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ.
231 - قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنْ يَقْرَأَ الرَّجُلُ وَرَاءَ الْإِمَامِ، فِيمَا لَا يَجْهَرُ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ، وَيَتْرُكُ الْقِرَاءَةَ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ.
232 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: "هَلْ قَرَأَ مَعِي مِنْكُمْ أَحَدٌ آنِفًا؟" فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ. أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ"، فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فِيمَا جَهَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْقِرَاءَةِ، حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
باب مَا جَاءَ فِي التَّأْمِينِ خَلْفَ الإِمَامِ
233 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "آمِينَ".
234 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا قَالَ الْإِمَامُ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
235 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ آمِينَ، وَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ، فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
236 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
الحمد لله مُكرمنا بالشريعة وبيانها، وتفصيل أحكامها على لسان عبده المصطفى محمد ﷺ، إمام أهل الحضرة وسلطانها. اللهم أدِم الصلاة على المجتبى المختار سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن سار في دربه واقتدى به، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم أجمعين، وعلى أتباعهم، وملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيذكر الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- في هذه الأحاديث ما يتعلّق بالقراءة خلف الإمام، وقد تقدّم معنا بعض هذه الأحاديث وذِكرُ اختلاف الأئمة -عليهم رضوان الله تعالى- هل يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة أم لا؟ وهل ذلك في الجهرية والسرية أم في الجهرية فقط؟
يقول: "عَنْ مالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سُئِلَ: هَلْ يَقْرَأُ أَحَدٌ خَلْفَ الْإِمَامِ؟" سيدنا عبد الله بن عمر بن الخطاب -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- أورد عنه هذا الحديث أنَّه لا يقرأ المأموم شيئًا، وقال الحنفية وغيرهم: أنه يشمل السرية والجهرية، والإمام مالك تعقّبه بقوله: "فِيمَا جَهَرَ فِيهِ" وأدخله تحت هذا العنوان مُشيرًا إلى مذهبه، وأنّ ما ذُكر عن ابن عمر -وإن كان يحتمل الجهرية والسرية- فإنَّه يحكي ما ورد من الخلاف في وجوب القراءة خلف الإمام، ثم يُبينُ ما عنده من التفريق بين الجهرية والسرية.
يقول عبد الله بن عمر: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ خَلْفَ الْإِمَامِ فَحَسْبُهُ " أي: كافيه؛ يكفيه "قِرَاءَةُ الْإِمَامِ" أي: فلا يقرأ خلفه "وَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيَقْرَأْ"، فمن المجمع عليه في حق المنفرد أنه يجب عليه القراءة، كذلك في حق الإمام يلزمه القراءة، ولكن في حق المأموم، فتبين بذلك حكمُ المسألة، وعلمنا ما قال المالكية والحنابلة: من قراءة المأموم في السِّريّة فقيل: أنها تجب كما هي في رواية عن الإمام أحمد، وكذلك في قول بعض المالكية -كما ذكر ابن العربي من المالكية- أنه يلزم المأموم قراءتها في السرية، وقيل يستحب للمأموم أن يقرأ الفاتحة في السرية في هذين المذهبين؛ مذهب الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل.
وعلمنا قول الحنفية: لا يقرأ مطلقًا خلف الإمام ولو كان في الصلاة السرية، وعندهم يُكره تحريمًا أن يقرأ خلف الإمام، وإذا قرأ خلف الإمام؟ صحّت صلاته على الأصح، لا تَبطُل الصلاة، ولكن يكون خالف السنة عندهم، وقالوا: إنّ المأموم يستمع في الجهرية ويُنصِت في السرية، حملوا قوله: (..فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُ..) على الجهرية (..وَأَنصِتُواْ..) على السريّة (..فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ) [الأعراف:204]. ومن المعلوم أيضًا ورود الآية في الصلاة، وحَمَلَها بعضهم على الخطبة (وَإِذَا قُرِئَ ٱلۡقُرۡءَانُ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ).
وعلمنا ما قال الشافعية: أنه يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة، ويُكرَه له في الجهرية أن يقرأ غيرها، مادام يستمع إلى قراءة الإمام فعليه بالإنصات، بل عليه -في المستحب- أن يبادر بقراءة الفاتحة في سكتة الإمام بعد الفاتحة حتى لا يفوته شيء من الإنصات لقراءة الإمام. ويراعي بعضُ الأئِمة السكتة فيطوّلها بحيث يتمكّن المأموم من قراءة الفاتحة. وتطويلُ السكتة إذا كان لا يقرأ فيها مُبطِلٌ للصلاة في قولٍ عند الحنفية. وإذا لم يكن كذلك فلم يطوّل السكتة فإن المأموم يتمكن أن يقرأ جزءًا من الفاتحة في هذه السكتة اليسيرة ليلحق الإنصاتَ إلى قراءة الإمام في الجهرية، فهي لا تَسقُط عندهم في جهريةٍ ولا سرية، أخذًا بعموم قوله ﷺ: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". فأوجَبوا على كل إمامٍ ومأمومٍ أن يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب. ويُذكَرُ أيضًا عن الحنابلة قراءة المأموم في سكتات الإمام للفاتحة، وعلى كُلٍ فالمشهور في مذهبهم: أنه في الجهرية تسقط عنه.
"وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ". فعقّبه الإمام مالك بقوله: "الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنْ يَقْرَأَ الرَّجُلُ وَرَاءَ الْإِمَامِ، فِيمَا لَا يَجْهَرُ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ، وَيَتْرُكُ الْقِرَاءَةَ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ." والمقصود عند الجميع: حضور القلب متوجّهًا إلى الرَّب -جل جلاله- معظمًا خاضعًا خاشعًا، قرأ على قول من قال بوجوب القراءة على المأموم، أم انصت واستمع. وينبغي للمأموم عند الشافعية أن يُعجّل بقراءة الفاتحة ما أمكن ولا يطوِّلُ فيها، ويشتغل بالإنصات إلى قراءة الإمام.
وأورد لنا الحديث بعد ذلك "عَنِ ابْنِ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ"، جاء في رواياتٍ أن هذه الصلاة صلاة الصبح "فَقَالَ: هَلْ قَرَأَ مَعِي مِنْكُمْ أَحَدٌ آنِفًا؟" أي: قبل وقتٍ يسير حينما كنت في الصلاة "فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ. أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ" يعني: كان يقرأ معه السورة التي يقرؤها عليه الصلاة والسلام "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ" يعني: لا يُترك لي القراءة وحدي حتى يقرأ من يقرأ خلفي، فعدَّ ذلك منازعةً له.
وجاء في رواياتٍ متعددة استدلّ بها الشافعية: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، ولا تقرأوا إلا أُمَّ القرآن. فنهاهم، قال: "فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فِيمَا جَهَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْقِرَاءَةِ، حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ"
وألَّفَ بعض الحنفية في جمع ما ورد من عدم قراءة المأموم، والمسألة فرعيةٌ جزئيةٌ من جزئيات مسائل الفقه، ومَحَلُّهُ واسع في النظر فيه، ولِكُلٍ استدلال بآثار وأخبار بدر الكمال ﷺ. "مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ" فيه اللوم والعتب. فقد يعاتب الإنسان نفسه يقول: ما لي فعلت كذا وما لي فعلت كذا.. وقد يُعاتِبُ المُخَاطَبَ فيقول: ما لي يؤخذ حقّي، وما لي لا يُسلَك بي مسالِك أمثالي، وهو يعاتب المُخَاطَب ما يعاتب نفسه. وهكذا في الحديث: "مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ" يعني: لم فعلت هذا تقرأ وأنا اقرأ؟ استمع وأنصت إلى ما أقرأ عليك. والمراد بمنازعته في القراءة: مشاركته له فيها في وقت ينبغي له فيه الإنصات، كما قال تعالى: (..يَتَنَٰزَعُونَ فِيهَا كَأۡسٗا..) [الطور: 23] يعني: يتداولونها ويتشاركون فيها. والمعنى: لا تشاركوني في الصلاة. "مَا لِي أُنَازَعُ" يعني: يُشترك معي في القراءة.
وأورد لنا هذا الحديث في قراءة المأموم خلف الإمام، ثم انتقل إلى ذكر التأمين، والتأمين لفظ: (آمين) في الدعاء يُمَدُ ويُقصَر، ويقول أمّنتَ على الدعاء تأمين: إذا قلت آمين، ومعناه أنه اسم فعل أمرٍ بمعنى: استجب، أو اجعل الأمر كذلك. آمين؛ أي: اجعل الأمر كذلك، أو افعل ذلك، أو حقق ذلك، أو استجب يا الله. آمين جاء في الحديث أنها: "خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين"، كما جاء في الحديث قوله ﷺ: "ما حسدكم اليهود على شيء ما حسدوكم على آمين، والسلام، يسلّم بعضكم على بعض"، حتى قيل: إن الله خصنا بها، وإن كان أصل التأمين معلوم، ولكن الاعتناء بها في الصلوات وقراءتها معلوم ومشهور في هذه الأمة.
والمُؤمِّنُ مشاركٌ للداعي في دعائه، كما جاء أن سيدنا موسى دعا وأنّ سيدنا هارون أمَّن، فقال الله: (قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا..)، ولم يقل: دعوتك، وَقَالَ مُوسَىٰ: (رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا..) [يونس: 88-89] وكانت دعوة الثاني بالتأمين، فالمؤَمِّن مشارك للداعي فيما يدعو به، وقت يدعون أمِّن حين تسمع دعاءهم..، فمعناه كما علمنا: اللهم استجب..آمين؛ فيندرج فيه معاني قولهم: اقبل، أو افعل ذلك، أو اجعل الأمر كذلك، بمعنى واحد معنى: استجب يا الله.. آمين.
فالمشهور عن الإمام مالك رويَ عنه بأنه: الإمام لا يُؤمِّن، ولكن قال الأئمة الثلاثة بتأمين الإمام أيضًا، فالإمام يؤمن كما يؤمن المأموم، فإذا أكمل الفاتحة قال: آمين، وفي الحديث: "فمن وافق تأمينه تأمين الإمام غُفِر له ما تقدم من ذنبه"، إذًا، يقول الأئمة الثلاثة بتأمين المأموم والإمام.
أمَّا المأموم:
والتأمين مندوب؛ لأنه ليس من الفاتحة وإن أوجبه الظاهرية، وقالوا: قوله ﷺ: "فإذا قال ولا الضالين فقولوا آمين" للوجوب، قالوا: واجب عليهم أن يقولوا آمين، وصرفه عن الوجوب أحاديث ودلائل كثيرة، فلذلك قال الجمهور: إنَّه سنة؛ التأمين سنة كما عليه الأئمة الأربعة وغيرهم.
ومن المستغرب في ذلك أن يقول بعض الروافض: أنه يُبطِل الصلاة، كما يقول بعض الإباضية أنه يبطل، مع أنه خطاب للربّ جلّ جلاله وتعالى في علاه! حتى يَذكرون عن بعض المتعصبين أنَّه صلى بجماعة، فلما قرأ الفاتحة قال: آمين، فقال هو: بطلت الصلاة، وخرج من صلاته! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم من تعصُب بعض الناس في فرعيات المسائل لمذهبه أو لرأيه، والأمر واسع في شريعة ربنا، لولا السَّعة في أصل الشريعة ما جاء اختلاف الصحابة والتابعين وتابعيهم في هذه المسائل الفرعيات التي كلها تحكي وتُمثّل وجه الشريعة المطهرة في سعتها.
يقول: "حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا" أي: قولوا آمين، فتأمين المأموم موقوف إذًا على تأمين الإمام، "إذا أمّن الإمام فأمِّنوا"، فصار إنَّما يؤمِّنوا إذا أمّن الإمام، لكن قال الجمهور: لا، ليس الامر كذلك، وسمعتَ أن مذهب مالك أن الإمام لا يؤمِّن؛ يعني: إذا دخل وقت تأمين الإمام أمِّنوا، وهو انتهاؤه من قراءة الفاتحة، كما جاء في رواية: "إذا قال الإمام: ولا الضالين فقولوا: آمين" والجمهور على أن المأموم يؤمّن مطلقًا؛ أمّن الإمام أو لم يؤمن.
يقول ﷺ: "فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ" وفيه أنَّ الملائكةَ يؤمنون خلف الإمام، إذا قرأ الفاتحة وجاء على آخرها أمّنت الملائكة الحاضرون للصلاة مع الناس، وأنعِم وأكرم، ولن يصلي الملائكة صلاة باطلة! فإذا أمَّنوا "فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ" جاء في لفظ عند البخاري: "فإن الملائكة تؤمن، فَمَن وافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلَائِكَةِ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ". وظاهر لفظ الحديث -كما عليه الجمهور- أن من وافق تأمينه تأمين الملائكة في القول والزمان، وحمله بعضهم على موافقة تأمين الملائكة في الإخلاص والحضور وما إلى ذلك. وجاء في لفظ عند الإمام مسلم: "فوافَقَ ذلك قولَ أهلِ السَّماءِ" وقيل: المراد بهم الحفظة الذين يتعاقبون، وهم منسوبون إلى السماء وإن كانوا في الأرض معنا. "غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" وعلمنا ما بيَّن العلماء من أن أحاديث غفران الذنوب على الأعمال الصالحة يكون للذنوب الصغائر التي بين العبد وبين ربه، ويبقى الكبائر فلا تُكفَّر إلا بالتوبة الخالصة الصادقة، وكذلك حقوق الخلق لا يُتسامَح فيها حتى تؤدى الحقوق لأهلها.
"قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: آمِينَ"، ويَحذَرُ من تشديد الميم، فإنه يغير المعنى، فلا يقول آمّين، فإن الآمُّ هو: القاصد للشيء والمتوجّه نحوه، فلا يقول آمّين كما يقول بعض العوام، وهو خطأ باتفاق المذاهب الأربعة، وقيل: تفسد به الصلاة، ومنهم ما جاء عند الحنفية أنَّه تفسد به الصلاة، وقال الشافعية: إن قصد به خطاب الرب -أي قصدناك يا رب نؤمك ونقصدك- فلا تبطل صلاته، وإن لم يقصد خطاب الرب كان إخباراً بكلامٍ غير متعلق بالصلاة، فتبطل بذلك صلاته، فيقول: آمين أو أمين التي معناها استجب.
التأمين خلف الإمام ذكر ابن شهاب في هذا الحديث المرسل أن رسول الله ﷺ كان يقول: آمين، وفهمنا تفسير بعضهم لقوله: "إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ" أنه معناه: إذا بلغ موضع التأمين فقولوا: آمين، سواءً أمّن أو لا، فيُسَنُ له -كما علمتَ عند الجمهور- أن يقول آمين إذا أكمل فاتحته، وإن كان هناك سكتة خفيفة بمقدار التسبيحة الواحدة -بمقدار سبحان الله- بين آخر الفاتحة وبين آمين، وكذلك بين آمين وبين السورة. كما يُسَنُ الفصل بين السورة وبين الركوع، فإنه صحّ عنه ﷺ أنه لم يكن يصل السورة بالركوع، ولم يكن يصل الركوع بالسورة أي: يقف قليلا ثم يركع ﷺ. "يَقُولُ: آمِينَ" وجاء مسندًا عند حفص ابن عمر بن عبد الملك ولكن جمهور المحدثين على أنَّه مرسل، ولكن إنَّما يحكيه عمن سمعه ممن قبله.
وعلمنا اللغتين في آمين؛ المد: آمين، والقصر: أمين، وليس فيه مد طويل كما يفعله أكثر الناس، إنَّما مدّه قصير، إلا أنّ مد الميم بالياء إذا وُقِفَ عليه يأتي فيه مد الوقف.
وهكذا يقول الشافعية كما هو الأصح عند الحنابلة: أنه يسن مقارنة تأمين الإمام لتأمين المأموم، "إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". وفي الخبر أيضا: "إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ آمِينَ، وَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ، فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". وفي مقابل الأصح عند الحنابلة: أن المأموم يترك الإمام يؤمّن، ثم يؤمّن بعده، لكنّ الأصح عندهم أن يُؤَمّن مع الإمام. وهكذا فإذا أمَّنَ المأموم فينبغي أن يوافق الإمام فيؤمن مع تأمين الإمام، وقوله: "مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ" إشارة إلى أن الملائكة يؤمنون مع الإمام، فلهذا قال: "مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ".
ويقول ﷺ: "إِذَا قَالَ الْإِمَامُ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فَقُولُوا: آمِينَ" يعني: أمَّنَ أو لم يُؤَمّن الإمام، وقال: "إذا قال ولا الضالين" لأنَّه عند من يقول بسِرّية الإمام بالتأمين ما يظهر، ظهر أو لم يظهر، أمّن أو لم يؤمّن.. فالمأموم ينبغي له أن يؤَمِّن. سمعتَ تفسير بعضهم لقوله: "فإذا أمّن الإمام" أي: فإذا بلغ موضع التأمين، يبين هذا الحديث -هذه الرواية التي ذكرها- يقول: "إِذَا قَالَ الْإِمَامُ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فَقُولُوا: آمِينَ" فهذا موضع التأمين، ولم يقيّدها بتأمين الإمام. وبها أيضًا أخذ مَن استحب للإمام أن يُسِرّ، فيقول: أنَّه في هذا الحديث علّق التأمين للمأموم على قوله: ولا الضالين؛ فلكونه لا يسمع تأمين الإمام لم يُعلِّقه عليه. "فَقُولُوا: آمِينَ" يقول في رواية عند أبي هريرة: "فإن الإمام يقولها" معناه أنه يُسر بها، وهذا مذهب الحنفية كما علمت. وأيضًا جاء في حديث وائل بن حجر أنه ﷺ لما بلغ الإمام ولا الضالين قال آمين، يقول: أخفى بها صوته، وهذه أدلة من يقول بأن الإمام يؤمّن سرًا.
وأورد حديث: "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ آمِينَ، وَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ، فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"." فتعددت وسائل المغفرة لهذه الأمة فضلّا من الله عليهم. وجاء أيضًا: "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"." وفيه أنَّ الملائكة تحمد الله تعالى، عند رفع المصلين من الركوع إلى الاعتدال، "قولوا: اللَّهمَّ ربَّنا لَكَ الحمدُ"، في رواية: "اللَّهمَّ ربَّنا" وفي رواية: "ربَّنا" أي: يا ربنا، وفي رواية: "اللَّهمَّ لَكَ الحمدُ"، وفي رواية: "ولَكَ الحمدُ".
فجاء رواية: "اللَّهمَّ ربَّنا لَكَ الحمدُ"، "اللَّهمَّ ربَّنا وَلَكَ الحمدُ"، "ربَّنا لَكَ الحمدُ"، "ربَّنا وَلَكَ الحمدُ" أربع روايات، خلافًا لمن قال إنَّه لم ترد رواية في الجمع بين اللهمّ والواو، "اللَّهمَّ ربَّنا وَلَكَ الحمدُ"، بل وردت، فكله ورد، بالواو وبغير واو، مع إضافة اللهم قبل ربنا، ومع عدم إضافتها: "ربَّنا لَكَ الحمدُ"، "ربَّنا وَلَكَ الحمدُ"، "اللَّهمَّ ربَّنا لَكَ الحمدُ"، "اللَّهمَّ ربَّنا وَلَكَ الحمدُ". وفي البخاري: أنَّه ﷺ سمع أعرابيًا صلَّى معه، فلمَّا رفَع رأسَه من الرَّكوع وقال: سمِعَ اللهُ لِمَن حمِدَه، قال الأعرابي: اللَّهمَّ ربَّنا لَكَ الحمدُ، حمدًا طيِّبًا كثيرًا مبارَكًا فيه، فلما سلَّم قال: مَنِ القائل؟ قال الأعرابي: أنا يا رسول الله، قال: لَقد رأيتُ بِضعَةً وثلاثينَ مَلَكًا يبتَدِرونها؛ أيُّهم يكتبُها أولُ. ثُمَّ وردت من قوله بنفسه عليه الصلاة والسلام.
حتى قال الإمام ابن حجر في فتح الباري: وهذا دليلٌ على إحداث الذكر، وعلى الجهر به، فإنَّ الأعرابي أحدث الذكر من عنده، وجَهَر به حتى سمعه النبي ﷺ والمصلّون معه، ولم ينكِر عليه إحداثَ ذلك الذكر، ولم ينكِر عليه الجهر به، بل أخبر أن الملائكة ابتدروا لكتابة هذا الحمد من لفظ هذا الأعرابي، "رأيتُ بِضعَةً وثلاثينَ مَلَكًا يبتَدِرونها، أيُّهم يكتبُها أولُ" ﷺ وبالله التوفيق.
الفاتحة أن يثبتنا في ديوان أهل الصلاح، والفوز والنجاح والسعادة والأرباح، ويرزقنا الصدق والإخلاص لوجهه الكريم، وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
12 مُحرَّم 1442