شرح الموطأ -451 - كتاب الأشربة: باب مَا يُنهى أن يُنْبَذ فِيه، و باب ما يُكْرَه أن يُنْبَذ جميعًا
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحدود: باب مَا يُنْهَى أَنْ يُنْبَذَ فِيهِ، وباب مَا يُكْرَهُ أَنْ يُنْبَذَ جَمِيعاً.
فجر الإثنين 12 ربيع الثاني 1444هـ.
باب مَا يُنْهَى أَنْ يُنْبَذَ فِيهِ
2468- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَطَبَ النَّاسَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَأَقْبَلْتُ نَحْوَهُ فَانْصَرَفَ قَبْلَ أَنْ أَبْلُغَهُ، فَسَأَلْتُ مَاذَا قَالَ؟ فَقِيلَ لِي: نَهَى أَنْ يُنْبَذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ.
2469- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى أَنْ يُنْبَذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ.
باب مَا يُكْرَهُ أَنْ يُنْبَذَ جَمِيعاً
2470- وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى أَنْ يُنْبَذَ الْبُسْرُ وَالرُّطَبُ جَمِيعاً، وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعاً.
2471- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الثِّقَةِ عِنْدَهُ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحُبَابِ الأَنْصَاري، عَنْ أبِي قَتَادَةَ الأَنْصَاري: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى أَنْ يُشْرَبَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعاً، وَالزَّهْوُ وَالرُّطَبُ جَمِيعاً.
2472- قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا: أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِنَهْي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنْهُ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكْرِمِنا بالشريعة الغرّاء وبيانها على لسان عبده وحبيبه خير الورى، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله الأطهار وصحبه مَن رفع الله لهم قدرًا، وعلى مَن والاهم في الله واتبعهم بإحسانٍ وجرى بمجراهم خير مجرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين مَن خصّصهم رّب العزة على جميع العالمين فجعلهم أعظم منزلةً وأعلى قدرًا، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المُقربين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
ويواصل سيِّدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ما يتعلّق بشؤون الخمر والمُسكر وما يُنتبذ فيه من الآنية، وما لا ينبغي الانتباذ فيه من الأواني. فإن من الأواني ما يُسرع فيه التّخمر إذا نُبذ فيه تمرٌ أو عنبٌ أو غيره من أنواع المطعومات إذا نُبذت بالماء. فإن بعض الأوعية يسرع فيها التخمر؛ أي: تحوله إلى خمرٍ يؤدي إلى الإسكار، ومنها ما لا يكون كذلك.
- فهو من حيث الأواني مختلف.
- ثم التوقيت العام أيضًا.
إذا مضى وقت طويل، فإن ذلك النبيذ يتحول إلى خمر، يتحول إلى أمرٍ مُسكر. وجاء في التوقيت في الحديث، أن التوقيت يومين، وأن ما زاد بقاؤه في الإناء على يومين فلا يُتعاطى، ولا يُتناول، ولا يُشرب لأنه يكون قد أشرف على الخمر إن لم يكن قد تخمّر.
وذكر لنا في هذا الباب، ما يُكره "مَا يُنْهَى أَنْ يُنْبَذَ فِيهِ"؛ يعني: الأواني التي يُنبذ فيها؛ أي يُصنع فيها النبيذ، فنهى عن أواني كما هو في البُخاري وغيره. وذكر الإمام مالك من تلك الأواني: الدُّبَّاء وَالْمُزَفَّت، وكذلك جاء عن الحنتمة وغيرها من الأواني في عدد من الأحاديث. فذكر لنا حديث ابن عمر "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَطَبَ النَّاسَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ"، يقول على حسب ما كان يفعل من إلقاء الأحكام إليهم وتعليم ما يجب عليهم في المغازي وحسب ما يرى من الحاجة ﷺ فهو مُحسن البلاغ، ومؤدي الأمانة، صلوات ربي وسلامه عليه.
"عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَطَبَ النَّاسَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَأَقْبَلْتُ نَحْوَهُ" لأسمع الخطبة "فَانْصَرَفَ" النَّبي ﷺ عن الخطبة "قَبْلَ أَنْ أَبْلُغَهُ"؛ أي: أن أصل إليه "فَسَأَلْتُ"؛ يعني: مَن حضر الخطبة: "مَاذَا قَالَ" في خطبته؟ "فَقِيلَ لِي" أي: قال لي من سمعها منه ﷺ "نَهَى أَنْ يُنْبَذَ فِي الدُّبَّاءِ" وهو الوعاء الذي يُخرج من الدُّبَّاء لبّها فيبقى قشرها وما حوليه ييبس، فيُتخذ إناءً. وهكذا كان اتخاذ الأواني من هذه الأشياء الطبيعية وكانت هي الأقرب لصحة الإنسان، فيتّخذون الأواني مما خلق الله تعالى لهم من أنواع المأكولات إذا ييبس ظرفها فيحتمل وضع الأشربة فيه، وغير ذلك من مثل الدُّبَّاء. فهذا الدُّبَّاء -اليقطين والقرع- من الأواني التي يسرُع التخمر فيها إذا انتُبذ فيها زبيب بماءٍ أو تمر بماءٍ أو غيرها من الأطعمة، فإنه يُسرع التخمّر فيها، فنهى عنها صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
"وَالْمُزَفَّتِ"؛ وهو الإناء المطلي بالزفت؛ بالقار. كذلك يؤثر عليه هذا الزّفت أنه يسرع بسببه التخمّر؛ فلذلك نهى عنه. وكان ذلك النهي في ابتداء الأمر خشية التساهل والوقوع في المحذور حتى رسخ تحريم المُسكرات، فأُبيح ما شاءوا من الآنية، بشرط أن يكون ما فيها لم يبلغ حد الإسكار. فإذا لم يبلغ حد الإسكار؛ جاز ذلك، وإلا اعتنى به ﷺ في بداية تحريم الخمر لإبعاد الأمة عن القُرب من المُسكرات وما إليها حتى أوصى به الوفد الذين وفدوا عليه، وجعل لهم من النهي أن نهاهم عن الدُّبَّاء والحنتم والمُزفَّت والمقيّر وهكذا، وهي الأواني التي يسرع التخمّر فيها. وهذا الحديث الذي أورده الإمام مالك هو أيضًا رواه من بعده وأورده الإمام مُسلم في صحيحه، في نهيه ﷺ عن الانتباذ في الدُّبَّاء والمُزفَّت. وكذلك جاء عن النقير، والنقير ما يكون من جذر النخلة، أيضًا يُتخذ منها إناء فهو حكمه كذلك، تُنقر نقرًا وتُجعل آنية.
وهكذا جاء عن عبد الله بن عُمَر، يقول مُشيرًا إلى منبر رسول الله ﷺ: قدِمَ وفد عبد القيس على النَّبي ﷺ فسألوه عن الأشربة، فنهاهم عن الدُّبَّاء والنقير والحنتم والمُزفَّت. وهكذا جاء في روايةٍ عنه: سمعت النَّبي ﷺ ينهى عن الجرّ والدُّبَّاء والمُزفَّت وغير ذلك من الروايات. الرواية التي ذكرها عند الإمام مالك، أنه لم يحضر الخطبة ثم سأل مَن حضرها ولكن روايات أخرى جاءت وكأنها في مواقف أخرى وساعات أخرى، بنفسه سمع من رسول الله ﷺ النهي عن الانتباذ في تلك الأواني.
وفيه: ترتيب الشَّريعة للمؤمنين شؤون شرابهم وطعامهم وأوانيهم وما يتعلّق بذلك؛ لكمال الشَّريعة وشمولها لكل حركة الإنسان في هذه الحياة، منهج رباني يحميه من الآفات وييسر له سبيل السَّعادات، والفوز في الدُّنيا والآخرات، فما أعظمه من نظام من ملكٍ علّام، يغتني أصحابه عن أن يُنظّم لهم أحدٌ من الأنام، فكيف بنظام أنظمة شرار الأنام وفسّاق الخلق -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، أنّى لها أن تحلّ محل نظام الخلّاق! جلّ جلاله وتعالى في عُلاه.
وذكر لنا حديث "أبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى أَنْ يُنْبَذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ." ومعلومٌ أن الحكمة سرعان التخمر فيها، وأن الحكم منوطٌ بالإسكار؛ إن وصل إلى حد الإسكار ولو كان المسكر كثيره؛ فهو حرام وإلا فلا. وأما الأسقية فنحوها فإنه يبطئ ويتأخر التغيّر فيها والانتباذ، فلذا أجمعوا على عدم كراهة الانتباذ في الأسقية. وجاء هذه الكراهة، اختلف فيها الأئمة، هل هي ثابتة أم أنها كانت في أول الأمر؟ وهل هي مجرد كراهة التنزيه؟ ولكن أجمعوا على أن الحكم أيضًا متعلّق بوجود الإسكار، إذا وُجد الإسكار، ففي أي إناءٍ كان وبعد أيّ مدةٍ كانت يحرم تناول شيء من ذلك المُسكر.
وجاء عن سيِّدنا جابر، أن النَّبي ﷺ قال: "كنت نهيتكم عن أن تنبذوا في الدُّبَّاء والحنتم والنَّقير والمُزفّٰت، فانتبذوا، ولا أُحلّ مُسكِرًا". وقد رسخ عندكم تحريم المُسكرات وبعدتم عنها، فالآن الحكم مُعلَّق بها، وإنما نهيتكم عن تلك الأواني في بداية الأمر خوفًا عليكم لأنه يسرع فيها التخّمر أن تتساهلوا فتقعوا في المحذور، فإذا قد رسختم الآن على الأمر فانتبذوا في أي إناء.
ولهذا قال الجمهور من أهل العلم: أنه يجوز الانتباذ في أي إناء ولكن يجب أن يُلاحظ ويُراعى مسألة الخمرية، إن تحوّل إلى خمرٍ فهو حرام.
كما يقول الإمام أحمد، يقول الجمهور: أن الانتباذ في الأوعية جائز كله. وفي رواية عن الإمام أحمد إلا الأربعة المذكورة في الحديث، لوجود النهي عنها، ولكن الأصح من رواياته أن النّهي أيضًا كان مؤقتًا لإبعاد النَّاس عن القرب ممّا اعتادوه، وقد ظهر فيهم التأثر بالتحريم فكانت الخمور متوفرة في البيوت، فكل من سمِع المنادي يُنادي: إنّ الله أنزلَ تحريم الخمر على رسوله، عَمِدَ إلى ما في بيته من الخمر، فرمى به حتى سالت شوارع المدينة، فلو دخل الداخل إليها ذاك اليوم لظن أنها أمطرت خمرًا من كثرة ما أريق، عندما أرسل ﷺ مناديًا ينادي، يدور على النَّاس في الشوارع أن الله أنزل على رسوله تحريم الخمر ألا فإنّها حرام. كل مَن سمع مباشرة جاء للذي عنده في البيت، من عنده في سقاوة، ومن عنده في جرّة من الجرّات من الفخار، ورموها كلّها حتى سالت في شوارع المدينة؛ من حُسن امتثالهم لأمر الله ورسوله صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
والرواية في البُخاري، عن وفد عبد القيس أنهم قالوا للنّبي إنا نأتيك من شُـقّـة؛ يعني: مسافة بعيدة، وبيننا وبينك هذا الحي من كفَّار مُضَر، ولا نستطيع أن نأتيك لوجود الثارات بينهم وتعرّض بعضهم لبعض إلا في شهرٍ حرام، ما أحد فيه يقتل أحد، فمُرنا بأمرٍ نُخبر به من وراءنا ندخل به الجنَّة، فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده، لا إله إلا الله، وقال لهم: تدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: ما الإيمان بالله؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله ومُحمَّد رسول الله، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، وصوم رمضان، هذه الركائز الأربع التي أمرهم بها، ونهاهم ﷺ عن أربع كذلك: الدُّبّاء، والحنتم، والمُزفّت، والنقير، وربما قال المقيّر، وقال: "احفظوها، وأخبروا بها من وراءكم."
- الحنتم؛ هذا الجر، ما كان من فخار أبيض أو أخضر، وما طُلِيَ من الفخار بالحنتم المعمول من الزجاج وغيره، وهذا يُعجّل الشدّة في الشّراب.
- والنقير هذا عود النّخلة المنقور من جذر النّخلة ينقرونه ويبقى إناء لهم.
- والإناء المطلي بالزفت، يُقال له: مُزفّت.
ثم ذكر أيضًا الجمع بين مادتين، بعضها أيضًا إذا اجتمعت مع الأخرى يُسرع بها الإسكار والعلّة تدور حوله، "كلُّ مسكرٍ خمرٌ وكلُّ خمر حرامٌ".
وإن كان في الاصطلاح:
- يطلق الخمر على ما اتُخذ من عصير العنب
- وأن النبيذ ما اتُخذ من عصير التمر
ولكن الكل في حكم الشَّريعة واحد؛ ما أسكر؛ فهو خمرٌ وهو حرام.
- فهكذا يقول الإمام مالك والشَّافعي: أن اسم الخمر يقع على كل شراب مُسكر من عنب أو غيره.
ولاحظ الإمام أبو حنيفة اصطلاحهم من أن الخمر؛ اسم المُسكر من عصير العنب ما لم يُطبَخ ولكن الحكم واحد عند الكل، أن ما أسكر؛ فهو خمرٌ وهو حرام. باب تحريم الخمر، باب ما نهى أن يجمع؛ يعني من المواد، يجمع بين مادتين فيسرع الخمر.
باب مَا يُكْرَهُ أَنْ يُنْبَذَ جَمِيعاً
باب مَا يُكْرَهُ أَنْ يُنْبَذَ جَمِيعاً"؛ ما يجمع؛ يعني من المواد، يجمع بين مادتين فيسرع الخمر، الأشياء التي نهى عنها النَّبي ﷺ يجمع بينهما في النبيذ سواءً اتُخذ من تمر أو من زبيب أو من عسل أو من بُر أو من أرز أو غير ذلك، بأن يُلقى في الماء، ويُترك حتى يُستخرج منه، مُشتق من النبذ والإلقاء. يقول: "عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ -رضي الله تعالى عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى أَنْ يُنْبَذَ الْبُسْرُ". البسر؛ التمر قبل أن يتحول إلى رُطب يكون بسر. الواحدة بُسرة؛ فهو ما أزهى من التمر ولم يبدأ فيه الإرطاب. "وَالرُّطَبُ" ما نضج من البُسر يصير رطب "جَمِيعاً"؛ يعني: في إناء واحد، كذلك "وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ" يُجمع أيضًا في إناء واحد.
وسبب النَّهي: يقول الإمام النَّووي: أن الخليط هذا أن الإسكار يسرع عليه بسبب الخلط؛ قبل أن يشتد، فيظن الشارب أنه لم يبلغ حد الإسكار ويكون قد بلغه. وقد يكون أيضًا مع هذه الحكمة أن المادتين هاتين إذا اجتمعتا أورثتا بعض الضرر على الجسد، وهو ﷺ مأمون الحق لصلاح الأجساد والقلوب والأرواح والمعاش والمعاد صلوات ربي وسلامه عليه، وجاء بالشريعة الكاملة البيّنة الواضحة العظيمة.
فنهى أن يُجمع بين هاتين المادتين في إناءٍ واحد، أن يُنبذ "وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعاً. نَهَى أَنْ يُنْبَذَ الْبُسْرُ وَالرُّطَبُ جَمِيعاً." نهى عن خليط الزبيب والتمر، عن خليط البُسر والتمر، وعن خليط الزهو والتمر، وقال: انتبذوا كل واحدةٍ على حِدة؛ في إناء وحده، ويكون ذلك أقرب إلى الصحة ومنفعة الجسد وأبعد عن سرعة التخمّر. فنهى أن يُخلط "التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعاً"، وأن يخلط التمر والبُسر جميعًا. "وَنَهَى أَنْ يُنْبَذَ الْبُسْرُ وَالرُّطَبُ جَمِيعاً، وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعاً". وهكذا يقول أبو سعيد الخُدري -عليه رحمة الله ورضوانه-: نهانا ﷺ أن نخلط بُسرًا بتمرٍ، أو زبيبًا بتمر، أو زبيبًا ببُسر. وقال: مَن شرب منكم النبيذ فليشربه زبيبًا فردًا، أو تمرًا فردًا، أو بُسرًا فردًا. فما أدّقه من مُعلّم صلوات الله وسلامه عليه.
وهكذا حتى يقول ابن حبيب من المالكية: لا يجوز شرب الخليطين يُنبذان كذلك أو يخلطان عند الشراب، سواءً كان من جنسٍ واحدٍ مثل عنب وزبيب، أو من جنسين مثل زبيب وتمر. وهكذا يقول المالكية، كما يحكي الدردير من أئمة المالكية، يقول: من المكروه شراب خليطين خُلطا عند الانتباذ أو الشرب، ومحل الكراهة حيث أمكن الإسكار، فإن لم يُمكن لِقِصر مدة الانتباذ؛ فلا كراهة. وهذا أتى من ملاحظة خشية سرعة الإسكار فقط، وكثير من أوامره ونواهيه ﷺ تحمل وجوهًا متعددة، وحِكَمًا متنوعة.
وذكر لنا: "عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحُبَابِ الأَنْصَاري" السُّلمي -رضي الله عنه-، "عَنْ أبِي قَتَادَةَ الأَنْصَاري: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى أَنْ يُشْرَبَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعاً"؛ يعني: في إناء واحد، "وَالزَّهْوُ" البُسر الملون هذا؛ يعني: البُسر الذي بدأ فيه حُمرة أو صُفرة-. "وَالرُّطَبُ جَمِيعاً" الذي قد نضج هذا، بداية نضجه وهذا قد نضج، فلا يُجمعان في الانتباذ. وهكذا جاء في صحيح البخاري: نهى النَّبي ﷺ أن يُجمع بين التمر والزهو، والتمر والزبيب، وليُـنبذ كل واحدٍ منهما على حدته. في لفظ الإمام مسلم: "لا تنتبذوا الزهو والرطب جميعا"؛ لأنه بهذا الخلط يسرع التخمّر، ويظنّ الشارب أنه ليس مُسكرًا، ويكون مسكرًا في الأمر. وهكذا يقول الجمهور: أن هذا النهي لكراهة التنزيه، مكروه كراهة تنزيه، وأما الحكم في التحريم، فيدور على وجود الإسكار.
ثم ذكر لنا -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ما جاء في تحريم الخمر على وجه العموم، وهو مجمعٌ على تحريمها معلومٌ ذلك من الدين بالضرورة، فمُستحِلّها كافر -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، خارجٌ عن الملّة، وسيأتي كلامه عن هذا وعن الجامع لتحريم الخمر في الباب الذي بعده، إن شاء الله تعالى.
جنبنا الله وأهالينا وأولادنا وأحبابنا والمسلمين المحرّمات والمنهيّات في الظواهر وفي الخفيّات، ورزقنا الاستقامة والثبات على مرضاته وما يحبه منّا في الأطعمة والأشربة والألبسة، والأقوال والأفعال، والحركات والسكنات، وأثبـتـنا في ديوان أهل الصِّدق معه وأهل الإنابة والإخبات في لطفٍ وعافية بِسِرّ الفاتحة، وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.
14 ربيع الثاني 1444