(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في أُمِّ الكتابِ، وباب الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الإِمَامِ فِيمَا لاَ يَجْهَرُ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ.
فجر الأربعاء 7 محرم 1442هـ
باب مَا جَاءَ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ
224 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ مَوْلَى عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَادَى أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ لَحِقَهُ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَهُ عَلَى يَدِهِ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: "إنِّي لأَرْجُو أَنْ لاَ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى تَعْلَمَ سُورَةً، مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَلاَ فِي الإِنْجِيلِ، وَلاَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَهَا". قَالَ أُبَيٌّ: فَجَعَلْتُ أُبْطِئُ فِي الْمَشْي، رَجَاءَ ذَلِكَ، ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ السُّورَةَ الَّتِي وَعَدْتَنِي. قَالَ: "كَيْفَ تَقْرَأُ إِذَا افْتَتَحْتَ الصَّلاَةَ". قَالَ: فَقَرَأْتُ (الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "هِيَ هَذِهِ السُّورَةُ، وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُ".
225 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي نُعَيْمٍ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: مَنْ صَلَّى رَكْعَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، فَلَمْ يُصَلِّ إِلاَّ وَرَاءَ الإِمَامِ.
باب الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الإِمَامِ فِيمَا لاَ يَجْهَرُ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ
226 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، فَهِيَ خِدَاجٌ، هِيَ خِدَاجٌ، هِيَ خِدَاجٌ، غَيْرُ تَمَامٍ". قَالَ : فَقُلْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إنِّي أَحْيَاناً أَكُونُ وَرَاءَ الإِمَامِ، قَالَ: فَغَمَزَ ذِرَاعِي، ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ يَا فَارِسِيُّ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "اقْرَؤُوا، يَقُولُ الْعَبْدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَيَقُولُ الْعَبْدُ: ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) يَقُولُ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَيَقُولُ الْعَبْدُ: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) يَقُولُ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، يَقُولُ الْعَبْدُ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فَهَذِهِ الآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، يَقُولُ الْعَبْدُ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) فَهَؤُلاَءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ".
227 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ خَلْفَ الإِمَامِ فِيمَا لاَ يَجْهَرُ فِيهِ الإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ.
228 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ كَانَ يَقْرَأُ خَلْفَ الإِمَامِ، فِيمَا لاَ يَجْهَرُ فِيهِ الإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ.
229 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ: أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، كَانَ يَقْرَأُ خَلْفَ الإِمَامِ فِيمَا لاَ يَجْهَرُ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ. قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ.
الحمدُ لله مُكْرِمِنا بنور الإيمان والإسلام، وبيَان السَبيل والأحكام، على لسانِ خير الأنام، عبدِه المُصْطفى مُحمَّد إمام كُلِّ إمام. اللَّهم أدِمْ صلواتِك على صفوتِك مِنَ البريَّة، سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه الكِرام، وعلى مَنْ والاهُم فيك واقتدى بِهم وائتَمَّ خير ائتِمام إلى يوم القِيام، وعلى آبائِه وإخوانِه مِنَ الأنبياء والمُرسَلين القادة المُعظَّمين المَخصوصين مِنْك بأجَلِّ الإكرام، وعلى آلِهم وصحبِهم وتابعيهِم والملائكة المُقربين وعبادِك الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحم الرَّاحمين.
وبَعدُ،
فيواصل الإمام مالك -عليه رِضوان الله تبارك وتعالى- ذِكرَ الأحاديث في الصَّلاة فأفرَد في هذا الباب: "باب مَا جَاءَ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ". وأُمُّ الشيء: أصْلُه، وأصل القُرآن: فاتحةُ الكِتاب التي أُفْتُتِح بها كتاب الله -تبارك وتعالى- في ترتيبه، وهي أعظمُ سورة في القُرآن، وأَمَّت القُرآن؛ أي: جعلَته قُدامه وأَمَامَه، فهي أُمُّ القُرآن مُتقدمة تأُمُّه. وكذلك أُمُّ القُرآن؛ أصل القُرآن وأساسُه. وقد جَمَع الله أسرَار الكُتُب المُنْزلة في القُرآن، وجمع أسرَار القُرآن في الفاتحة المُعظَّمة؛ جعلنا اللهُ مِنَ المٌطَّلِعين على أسرَارِها.
وهكذا جاءت تسميَتُها في الحديث عنهُ ﷺ بأنَّها أُمُّ القُرآن، ولها أسماء كثيرة: ففاتحة الكِتاب؛ لأنَّها يُفتَتَح بها الكتاب في المَصاحف وعند التَّعليم. وتُسمى أيضًا بأُمِّ القُرآن، وتُسمى بالكنز، وتُسمى بالوافية. وتُسمى بسورة الحمد، وتُسمى: الحمد لله ربِّ العالمين -سورة الفاتحة-؛ لأنَّ أولها الحمد. وتُسمى سورة الصَّلاة، وتُسمى السَبعُ المَثاني كما سمَّاها ﷺ، وتُسمى الشِّفاء والشَّافية، وتُسمى الكافية، وتُسمى الأساس لأنَّها أساس القُرآن. وتُسمى سورة السُّؤال؛ فيها سؤال العبد لربه أعظم ما يكون، وتُسمى أيضًا سورة الشُّكر لأنَّ فيها الثناء والحمد لله تعالى، وتُسمى سورة الدعاء، فهذه أسماء سورة الفاتحة، ذكر الإمام السُيوطي في الإتقان للفاتحة خمسة وعشرين اسمًا؛ فاتحةُ الكِتاب.
يروي لنا ما قال: ابن "عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ" هذا تابعي مدني "مَوْلَى عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَادَى أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَهُوَ يُصَلِّي"، يعني: سيِّدنا أُبَيَّ كان يُصلي صلاة نافلةٍ. وجاء في رِواية أنَّ رسول الله ﷺ خرج على أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وقال ﷺ: يا أُبَيَّ، وَهُوَ يُصَلِّي، فالتفت أُبَيٌّ، وصلَّى أُبَيٌّ، فخفَفَ ثُمَّ انصرف، فناداه فلم يُجب لانشغاله بالصَّلاة. "فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ لَحِقَهُ"، فلمَّا لحِق النَّبي ﷺ قال: السَّلام عليك يا رسول الله، قال ﷺ: وعليك السَّلام، ما منعك إذ دعوتُك أنْ تُجيبَني؟ قال: كُنت أصلي يا رسول الله، قال: أوليس تجد فيما أَوحى الله -عزَّ وجل- إليَّ أنْ (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ..) [الأنفال: 24] ؟ قلت: بلى يا رسول الله، ولا أعودُ إنْ شاء الله تعالى؛ أي: لا أعودُ إلى ترك إجابتك ولو كُنت في الصَّلاة، ففيه وجوب إجابة دعوة ﷺ لِمَنْ دعاه ولو كان في الصَّلاة.
ولهذا قال جماعةٌ مِنْ أهل العِلم: هذا مُستثنى مِنْ عُموم تحريم الكلام في الصَّلاة، إلَّا الإجابة على رسول الله ﷺ، فيجيبه؛ لأنَّ طاعتَه واجبة، وإجابته واجبة عليه الصَّلاة والسَّلام. وتكلَّف بعضُهم أنَّه يُريد ﷺ أنْ يَجهَر بشيءٍ مِنَ القُرآن أو القراءة؛ ليَعلم أنَّه في الصَّلاة، وإنَّما يكون ذلك في حقِّ غيره عليه الصَّلاة والسَّلام؛ لأنَّ الحديث فيه تصريحُ ونَصْ لمَّا قال: ما منعك أنْ تُجيب؟ قال: في الصَّلاة. فاحتج ﷺ بالآية، فدلَّ على أنَّ معنى الآية أنَّه يُجيب على النَّبي ولا تبطُل صلاتُه. فمَنْ ناداه ﷺ، فأجاب عليه بلبيك أو مرحبًا؛ لم تبطُل صلاته. كما لا تبطُل صلاتنا ونحن نقول السَّلام عليك آيُّها النَّبي ورحمة الله وبركاته، مع أنَّه إذا خاطبنا أيّ أحد مِنْ الخلق بطَلت صلاتُنا، ولكنْ هو لا بُدَّ مِنْ خطابه في السَّلام عليه وإلَّا بطَلت صلاتُنا إذا لم نُخاطبُه بطَلت صلاتُنا. أمَّا غيرُه إذا خاطبناه ونحن في الصَّلاة مُتعمدين؛ بطَلت صلاتُنا. فاحتجَّ عليه ﷺ بقوله: أوليس تجد فيما أَوحى الله -عزَّ وجل- إليَّ أنْ (..اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحييكم) [الأنفال: 24]، وبعد ذلك اعتذر سيِّدنا أُبَيَّ، عَلِمَ أنَّه ما كان يعلَم أنَّ الحُكْمَ هكذا والخصوصية؛ أنَّه يجب الإجابة في الصَّلاة، ثُمَّ أعلن توبته، وقال: لا أعود إن شاء الله لمِثل هذا مرة أًخرى، وأُجيبك أنا في صلاة أو في غير صلاة؛ لأنَّ إجابته عليه الصَّلاة والسَّلام واجبة.
وبذلك أيضًا قال الفُقهاء،
وهذا كُله عند المذاهب كٌلهم مِنْ خصائص سيِّدنا رسول الله ﷺ. فأمَّا غيرُه إذا نادى أحدًا وهو في الصَّلاة، لا يجوز له أنْ يُكلمه ولا أنْ يُجيبه، ولا يجوز له أنْ يرفع صوته بشيءٍ مِنَ الذكر أو التلاوة، إذا قصد مع ذلك الذكر أو التلاوة.. جازَ، وإلَّا.. فلا، وبطلت صلاته؛ إذا لم يقصد ولم ينوِ التلاوة، ولم ينوِ الذِّكر لله -تبارك وتعالى-. وجاء أنَّه دخل بعضهم على سيِّدنا ابن مسعود وهو يُصلي، فوقف على الباب يستأذنه للدخول، فقال: (ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) [يوسف: 99] وهو في الصَّلاة؛ يعني يأذن له بالدخول وهو في الصَّلاة. فإذا قَصَدَ القراءة مع ذلك، لم تبطُل صلاتُه.
فكذلك إذا ناداه أحدُ الأبوين:
ويُشير إليه ما جاء عند الإمام البخاري في كتابه الأدب المُفرد، أنَّ جُرَيجًا كان يُصلي، فنادته أُمُّه: يا جُرَيج يا جُرَيج.. فكان يقول: يا ربي صلاتي أو أُمِّي؟ فآثر أنْ يبقى في الصَّلاة، وترك أُمَّه، نادَتْه مرّاتٍ ولم يُجِبها، فشقَّ عليها ذلك، فلمَّا تأخر عليها، ولم يُجيب، قالت: لا أماتَك اللهُ حتَّى يُريَك وجوه المُومِسات! فدَعت عليه أنْ يرى وجوه ذوات المَعاصي والذُنوب قبل أنْ يموت، فاستجاب الله دُعاءَها. ففيه إشارة إلى أنَّه كان ينبغي لَهُ أنْ يُجيبَها. فإذا كان يعلَم مِنْ طبع أبيه أو أُمّه أنه يشُقَّ عليه، وهو في نفل، فليقطع النفل. وإنْ كان في فرضٍ، فليتجَوّز ثُمَّ يذهب إليه. وعلى خلافٍ في ذلك بيَّن الخُلفاء؛ ولكنَّ التَجَوز وسرعة الإجابة، مُجمعٌ عليه.
وبعد ذلك جاءت امرأةٌ بَغي مِنْ بغايا بني إسرائيل إلى صومعة جُريْج، كان له صومعة يعبد الله فيها، وحاولت أنْ يُكلِّمها وتلفِت نظره فلم يلتفت إليها، فذهبت إلى رّجُل يُسمى الرَّاعي، ومكَّنّته مِنْ نفسها، فحَمَلت مِنْه، فلمَّا ولدت، أُوتي بها إلى عند السُلطان، وأُوتي ببعض هؤلاء المُومِسات، فحُبِسنَ عند السُلطان، وقيل لها: كيف ولَدت وليس عندك زوج؟ مِمّن ولدت؟ فقالت: مِنْ جُريْج! كذَبت على سيِّدنا جُريْج العابد مِنْ أجل دعوة أُمه التي دَعَت عليه، تتحقق، ويُظهِر الله كرامة على يده. فما شعر إلَّا وجُنود السُلطان يهُدّون عليه صومعته، يقولون: اخرج. قال: ما بكم؟ قالوا: أخرج وتعال أنت إلى هُنا إلى عند السُلطان. قال: ما الذي حصل؟ قالوا: ما الذي حصل! ما تدري بنفسك وتدّعي أنك عابد.. كسَّروا صَومَعته، وحملوه ومشوا فيه إلى عند السُلطان، ومرَّ وهؤلاء محبوسات، فوقعت عينُه على وجوههنَّ، فتذكر دعوة أُمِّه، وتبَسَم، ضَحك، قال: جاء بي إلى هنا دعوة أُمي! وأدخلوه على السُلطان وقال له: أنت تدَّعي العِبادة والطَّاعة وأنَّك مُتقرب إلى الله وتفعل الأفاعيل؟! قال: ما ذاك؟ قال: هذه المرأة قد حَمَلت مِنْك. قال: معاذ الله! ما عرفتها. قالوا: هي تقول ذلك، قال: أين الطفل؟ هاتوا الطِّفل نَستشهده. احضروه. قال: مَنْ أبوك؟ فنطق الصَّبي وهو في المهد وقال: أبي الرَّاعي فلان.. فاهتَزوا لذلك ورأوا الكرامة. قال ﷺ: فأقبلوا عليه يتمسّحون به. إذًا، إذا كان هذا فِعلُ الصُّوفية، فمنذ متى الصُّوفية، وتاريخُهم في العَالَم مِنْ سنة كم هؤلاء؟ هذا فِعلُ المُؤمنين، وفِعل الصَّالحين وفعل الأولياء في كُلِّ أُمَّة مِنَ الأُمم. فأقبلوا عليه يتمسَّحون به، وقالوا: أنبني صومَعتك مِنْ ذهب أم نبني صومَعتك مِنْ فضة؟ قال: لا ذهب ولا فضة، ارجِعوها كما كانتْ، حِجارة وطين كمَا كانتْ، أعبدُ الله فيها. فعرفوا قدْرَه وأعادوا له صومَعته. وشهِدوا أنَّه بتركه الإجابة على أُمِّه، تعرَّض لِقُبول دعوتها فيه؛ فَدَعت عليه، فوقعَت عليه الدَّعوة.
"فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَهُ عَلَى يَدِهِ" -على يد أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ-، وكان هذا تأنيسٌ مِنْه ﷺ. وكان مِنْ عادَتِه مع عامة أصحابه، أنَّه يخلِط نفسَه بِهم. ويقول بعض سادتنا الصَّحابة: ما رأيت أحدًا أكثر خلطًا لنفسه بأصحابه مِنْ رسول الله ﷺ. فامسك بيد سيِّدنا أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، ويمشى معه في المسجد، "يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ" ﷺ "قَالَ: إنِّي لأَرْجُو أَنْ لاَ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى تَعْلَمَ سُورَةً" في كِتابِ الله "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَلاَ فِي الإِنْجِيلِ، وَلاَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَهَا"؛ يعني: أعظم سورة في كتابِ الله. كما جاء في رِواية: "حتَّى تَعْلَم أيّ سُور القُرآن أعظم" أو "أيّ سُورة أعظم في القُرآن"، وهنا قال:"حَتَّى تَعْلَمَ سُورَةً مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَلاَ فِي الإِنْجِيلِ، وَلاَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَهَا". فلهذا لا يقوم مقامها شيء في الصَّلاة، وهي تقوم بنفسها، ولا تحتاج إلى غيرها، فعظَّمها ﷺ، وأنَّها أعظم سور القُرآن. قالوا: وإنَّ في البَسملة أسرار الفاتحة، وفي مَطويّ معاني الباء مِنْ بِسم الله أسرار البَسملة. وجاء عن سيِّدنا علي قال: لو شِئت أنْ أُوقِرَ سبعين بعير مِنْ تفسير أُمِّ القرآن، لفعلت. "قَالَ أُبَيٌّ: فَجَعَلْتُ أُبْطِئُ فِي الْمَشْي، رَجَاءَ ذَلِكَ" أنْ يُعلِمني ما هي أعظم سورة بالقُرآن؟ ما هي السورة التي ليس مثلها في التوراة والإنجيل والقُرآن؟ لحرصِه على العِلْم.
وهكذا كانوا حريصين على العِلْم، حتَّى أنَّ الذي تَصوّر بصورة إنسان، ويسرق على سيِّدنا أبو هُريرة مِنْ طعام الصَّدقة، خارَجَ نفسه، وفكَّ على نفسه مِنْه بتعليمه. عرض عليه عِلْمًا، قال: ألا أُعلِمُك آية مِنْ كتاب الله مِنْ قرأها لا يقربُه شيطان طول ليله. وكانوا أحرص شئ على العِلْم، فكَّه، قال ثالث مرة: أنا أفُكك، ما هي الآية؟ قال: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ..) [البقرة:255] إلى آخرها -آية الكُرسي- وذهب. وجاء سيِّدنا أبو هُريرة في اليوم الثالث ويقول للنبي ﷺ: "ما فَعَلَ أسِيرُكَ البَارِحَة" يا أبا هُريرة؟ قال: زعم أنَّه يُعَلِمُني آية مِنْ كِتاب الله إذا قرأتُها إذا أتيت فراشي؛ لم يقربني شيطان ولا بيتي طول اللَّيل. قال: "صَدَقَكَ، وهو كَذُوبٌ" هو كذَّاب ولكنْ هذا الكلام صحيح صَدَقك فيه، هذه الآية مَنْ قرأها لا يقربه شيطان طول اللَّيل. أتدري من تُخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هِر؟ قَالَ: لَا، قَالَ: شَيطان! هذا واحد مِنَ الشَّياطين تصوِّر لك، جاء يسرق عليك حق الصَّدقة، وتعذَّر أول يوم بالعِيال والفاقَّة، فرَثيه أبو هُريرة، وكان يُربيهم ﷺ على الرَّحمة والرَّأفة؛ فأطلقه، وجاء عند النَّبي يُصلي الصُّبَح، قال:"ما فَعَلَ أسِيرُكَ البَارِحَة". قال: شكى فاقَّة وعِيال وفقر. فقال: "كَذَبَكَ وسَيَعُودُ". قال سيِّدنا أبو هُريرة: عَلِمْت أنه لابد سيجيء وترقّبت، وما دريت إلَّا وهو يأخُذ طعام، فأمسكتُه، وقُلت له: "لَأَرْفَعَنَّكَ إلى رَسولِ اللَّهِ"، تُعاهدني ألَّا تأتي، قال: أنا عندي عيال، وشَكى وبكى رَثيه ثاني مرة وأطلَقه. جاء عند النَّبي في الصُّبح، قال: ما فَعَلَ أسِيرُكَ البَارِحَة يا أبا هِرْ؟، قال: شكى العِيال والفقر؛ فرحمتُه. قال: "كَذَبَكَ وسَيَعُودُ". سيرجع ثالث مرة ترقبه، وإذ به يحثو مِنَ الطعام. قال: هذه ثالث ليلة تكذب لَأَرْفَعَنَّكَ إلى رَسولِ اللَّهِ!، قال: أُعلِّمُك آية مِنْ كتاب الله، مَنْ قرأها ما يقربُه شيطان، وتفُكُني هذه المرة. قال: هات. مِنْ حِرصه على العِلمِ. لِما يعلم مِنْ حرص الصَّحابة على العِلم، هاتِها وأفكّك! فعلَّمَه أنَّها آية الكُرسي. فلمَّا جاء عند النَّبي قال: "ما فَعَلَ أسِيرُكَ البَارِحَة". قال: زعم أنَّه يُعلمني. قال: صَدَقَكَ وإنّه لكَذُوب، أتدري مَن تُخَاطِبُ منذ ثَلَاث؟ شَيطان؛ واحد مِنَ الشَّياطين يأتي عندك كُلَّ ليلة؛ ولكنْ الكلام هذا صحيح، مَنْ قرأ آية الكُرسي لم يقرَبَه شَيطان طول الليل. فما أعظم آية الكُرسي.
وسيِّدنا أُبَيٌّ حريص على العلم، فكيف وهو سيأخُذه مِنْ مَعدنه الأعلى، مِنْ عند رسول الله ﷺ، وقال: "جَعَلْتُ أُبْطِئُ" لمَّا قلت ﷺ لما يخرج رسول من المسجد "يَا رَسُولَ اللَّهِ السُّورَةَ الَّتِي وَعَدْتَنِي. قَالَ" له: "كَيْفَ تَقْرَأُ إِذَا افْتَتَحْتَ الصَّلاَةَ" فأتيت "(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا؛ يعني سورة ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) وهي الفاتحة. "قال ﷺ: "هِيَ هَذِهِ السُّورَةُ، وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُ" " السَّبْعُ الْمَثَانِي: التي تُثَنى في الرَّكعات، وتُكرّر كثيرًا. ولهذا نَقَل الإجماع على أنَّها سَبْع آيات، ولم يَعتبروا ما ذُكِر عن بعض مِنَ النَّاس أنَّها ستة، وأنَّها ثمان؛ ولكنْ ثُمَّ بعد ذلك مَنْ جعل البسملة آية مِنها، فهي السَّابعة، ومَنْ لم يجعلها آية مِنها، جعل بعضًا مِنها جعل آية (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة: 7] آية، (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 7] آية، فصارت سبعًا. فهي سَبع آيات مِنْ كِتاب الله -تبارك وتعالى-. خالية عن سَبع أحرُف: ليس فيها: ثاءٌ، ولا جيمٌ، وليس فيها خاءٌ، ولا زايٌ، ولا شينٌ، ولا ظاءٌ، ولا فاءٌ. يقولون عن هذه السَبعة أحرف: سَجنٌ خَزنٌ شَظفنٍ؛ هذه سَبعة أحرُف ليست في الفاتحة، وبقية الأحرُف العربية كُلها في الفاتحة.
* (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر:87]، قيل: هي الفاتحة. وقيل: هي السَبع الطوال، والقُرآن العظيم الذي أُعطيت كيف هذا؟ اسم الفاتحة أيضًا يُطلق عليها اسم القُرآن العظيم؛ لكونها أُمُّ القُرآن، كُل شيء مِنَ القُرآن عظيم. فيه دلالة على أنَّ الفاتحة هي القُرآن العظيم. ومالَ بعضُهم إلى أنَّ المعنى فيه غير مُتعلِّق بالفاتحة، وأنَّهم قالوا: السَبع المثاني والقُرآن العظيم الذي أُعطيت؛ يعني: هو الذي أُعطيت كله مِنْ سائر القُرآن. فقوله السَبع المثاني انتهى، وبعد ذلك قال: والقُرآن العظيم الذي أُعطيته؛ يعني كُلُه فاضل، وإنْ كانت الفاتحة أفضل. وهذا ما ليس يوجد مثلها في بقية آيات القُرآن الكريم.
ففي هذا إشارة إلى وجوب قراءة الفاتحة في الصَّلاة، وعليه الأئمة الثلاثة: الإمام مالك والإمام الشَّافعي والإمام أحمد بن حنبل.
وجاء في ذلك رِواية قوله ﷺ للمُسيء صلاته: ثُمَّ اقرأ ما معك مِنَ القُرآن. وحملوا قول الله: (..فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنۡهُ..) [المزمل:20] أنَّ الأمر للوجوب، ولا تجب إلَّا في الصَّلاة؛ فيجب قراءة ما تيسّر.
وقد أورد عندنا الحديث هُنا، ومِنها الحديث الذي أورد عن سيِّدنا جابر يقول: "مَنْ صَلَّى رَكْعَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، فَلَمْ يُصَلِّ إِلاَّ وَرَاءَ الإِمَامِ" ففي هذا استثناء. إذًا، فتجب الفاتحة عند الأئمة الثلاثة:
إذًا عَلِمنا أنَّ قراءة الفاتحة واجبة عند الأئمة الثلاثة. وهي الأفضل عند الحنفية كذلك فهي الأفضل والأولى؛ ولأنَّ صلاته تكون صحيحة باتفاق، ولكن لو قرأ غيرها أجزأ عندهم. وهذا لكُل قادر على الفاتحة، فمَنْ لم يكُن قادر على الفاتحة كالأخرس، فبالاتفاق ما يجب عليه شي،، يجب عليه يُصلِّي مِنْ دون ما يقرأ، وينتظر في القيام حتَّى يَمُر وقت يسعُ قراءة الفاتحة، كذلك ينتظر في الجلوس حتَّى يَمُر وقت يسعُ قراءة التَّشهُد. وكذلك مَنْ كان حديث عهد بالإسلام، لا يعرف الفاتحة، فقبل أنْ يتعلم الفاتحة، يجب عليه أنْ يقرأ شيئًا مِنَ القُرآن غير الفاتحة. فإنْ لم يحفظ شيئًا، فيُسبح الله ويحمده بمقدار الفاتحة، ثُمَّ عليه أنْ يتعلم. فإنْ لم يُقَصِّر في التَّعليم، فلا قضاء عليه، وإلَّا وجب عليه القضاء.
ثُمَّ عَلِمْنا ما ذكرنا في البسملة
لا يُجهر بها في الصَّلاة كالتعوذ عند الشَّافعية، في قول: أنَّه يُجهر. والمُعتمد أنَّه لا يُجهر بالتعوذ. وكذلك البسملة عند الحنابلة وعند الحنفية، لا يُجهر بها في الصَّلاة، أمَّا التعوذ فسُنَّة. وقد عَلِمنا في مذهب مالك، أنَّه لا يرى دُعاء الافتتاح ولا التعوّذ، ولا يرى البسملة آية؛ لا مِنَ الفاتحة ولا من غيرها مِنَ السور؛ إنَّما هي آية في سورة النَّمل فقط.
أمَّا التعوّذ فهو سُنَّة قبل القراءة عند الأئمة الثلاثة كذلك.فقبل القراءة يتعوذ وهو متأكدٌ في الرِّكعة الأولى، آكد. ولا يُسَنُّ في الثانية والثالثة على قولٍ عند الشَّافعية، وهو كذلك مذهب الحنفية؛ لا يُعيد التَّعوذ في الرَّكعة الثانية والثالثة، يكفي أنْ يتعوذ في الأولى. وعند الشَّافعية فيها قولان أو وجهان: في أنْ يُعيد التَّعوذ لكل قراءة؛ باعتبار أنَّه قطع القراءة بالرُكوع والسُجود، وعاد للقراءة كما إذا اشتغل بشئٍ مِنَ القراءة، ثُمَّ أراد أنْ يقرأ فيُعيد التَّعوذ. أعوذ بالله مِنَ الشَّيطان الرَّجيم؛ اتحفَّظ واتحصَّن بالله مِنَ الشَّيطان وكيده. نعم فهذا حُكمُ التَّعوذ والبَسملة والفاتحة في الصَّلاة.
ثُمَّ تكلَّم عن الصَّلاة خلف الإمام. وجاء بهذا الحديث أو الأثر: "لا صلاة إلَّا بفاتحة الكِتاب"، مُجمعٌ عليه عند أكثر الأئمة.
وهذا في غير ركعة المسبوق. فامَّا المسبوق الذي أدرك الإمام في الرُكوع، تسقُط عنه الفاتحة، وتُحسب له الرَّكعة مِنْ دون أنْ يقرأ الفاتحة، بلْ يُكبِّر ويُصلي ويلحق الإمام في الرُكوع مِنْ دون أنْ يقرأ الفاتحة.
"سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، فَهِيَ خِدَاجٌ..". والخِدَاج؛ النَّقص والفساد؛ أي: صلاة ناقصة أو فاسدة. فلا بُدَّ مِنْ قراءة الفاتحة. "قَالَ: فَقُلْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إنِّي أَحْيَاناً أَكُونُ وَرَاءَ الإِمَامِ، قَالَ: فَغَمَزَ ذِرَاعِي، ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ يَا فَارِسِيُّإنِّي أَحْيَاناً أَكُونُ وَرَاءَ الإِمَامِ، قَالَ: فَغَمَزَ ذِرَاعِي، ثُمَّ قَالَ : اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ يَا فَارِسِيُّ"؛ يعني: يا أعجمي، أو أنَّ أصله مِنْ فارس -خِراز وما حواليها-، يُقال فارس مِنْ جُملة خُراسان. وعَلِمت مذهب مالك في أنَّه، تسقط عن المأموم في الجهريَّة. وأمَّا هذا فيدل على وجوب القراءة على المأموم. "قَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ" عند أبي هُريرة. وهذا عند الإمام مالك في السِريَّة، وكذلك عند أبي حنيفة.
"فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلاَةَ"؛ يعني: الفاتحة، فمِنْ أسمائها الصَّلاة. "قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي"؛ المُؤمن الذي يقرأ بها في الصَّلاة، "نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي"، الله أكبر! وفصَّل ذلك قال: "وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ" أعطيه الذي يسأل. "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اقْرَؤُوا، يَقُولُ الْعَبْدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)"، وهذا استدَلَّ به أيضًا على مَنْ لم يرَ أنَّ البسملة آية مِنَ الفاتحة، "(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، يَقُولُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: حَمِدَنِي عَبْدِي"، أثنى عليَّ، "(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)"، "يَقُولُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي"، يَقُولُ الْعَبْدُ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يَقُولُ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي"؛ يعني: عظَّمني، "يَقُولُ الْعَبْدُ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)" يقول الله: هذا "بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ"، "يَقُولُ الْعَبْدُ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) فَهَؤُلاَءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ". الله أكبر!
ثُمَّ ذَكر "عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ خَلْفَ الإِمَامِ فِيمَا لاَ يَجْهَرُ فِيهِ الإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ"؛ يعني: الظُهر والعَصر، وهو مذهب مالك. وكذلك "أن الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ كَانَ يَقْرَأُ خَلْفَ الإِمَامِ، فِيمَا لاَ يَجْهَرُ فِيهِ الإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ". وكذلك "أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، كَانَ يَقْرَأُ خَلْفَ الإِمَامِ فِيمَا لاَ يَجْهَرُ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ". "قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ" فهو مذهبه -رضي الله تعالى عنهم أجمعين-. والله أعلم.
اكتُبْنا في ديوان أهل الصِّدق والحُضور في الصَّلاة، والإنابة والخَشية والاستقامة مع مَنْ اصطفاه واجتباه في عافية. بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
09 مُحرَّم 1442