شرح الموطأ - 371 - كتاب القراض: باب ما يجوز من النَّفَقَة في القِرَاض، وباب ما لا يجوز منها، وباب الدَّيْن في القِراض

شرح الموطأ - 371 - كتاب القراض: باب مَا يَجُوزُ مِنَ النَّفَقَةِ فِي الْقِرَاضِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب القِراض، باب مَا يَجُوزُ مِنَ النَّفَقَةِ فِي الْقِرَاضِ، وباب مَا لاَ يَجُوزُ مِنَ النَّفَقَةِ فِي الْقِرَاضِ، باب الدَّيْنِ فِي الْقِرَاضِ.

فجر الإثنين 7 ذو القعدة 1443هـ.

باب مَا يَجُوزُ مِنَ النَّفَقَةِ فِي الْقِرَاضِ

2039 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالاً قِرَاضاً: إِنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَالُ كَثِيراً يَحْمِلُ النَّفَقَةَ، فَإِذَا شَخَصَ فِيهِ الْعَامِلُ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَيَكْتَسِيَ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ قَدْرِ الْمَالِ، وَيَسْتَأْجِرَ مِنَ الْمَالِ إِذَا كَانَ كَثِيراً لاَ يَقْوَى عَلَيْهِ بَعْضَ مَنْ يَكْفِيهِ بَعْضَ مَئُونَتِهِ، وَمِنَ الأَعْمَالِ أَعْمَالٌ لاَ يَعْمَلُهَا الَّذِي يَأْخُذُ الْمَالَ، وَلَيْسَ مِثْلُهُ يَعْمَلُهَا مِنْ ذَلِكَ تَقَاضِي الدَّيْنِ، وَنَقْلُ الْمَتَاعِ وَشَدُّهُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنَ الْمَالِ مَنْ يَكْفِيهِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلْمُقَارَضِ أَنْ يَسْتَنْفِقَ مِنَ الْمَالِ وَلاَ يَكْتَسِيَ مِنْهُ، مَا كَانَ مُقِيماً فِي أَهْلِهِ، إِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ النَّفَقَةُ إِذَا شَخَصَ فِي الْمَالِ، وَكَانَ الْمَالُ يَحْمِلُ النَّفَقَةَ، فَإِنْ كَانَ إِنَّمَا يَتَّجِرُ فِي الْمَالِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ بِهِ مُقِيمٌ، فَلاَ نَفَقَةَ لَهُ مِنَ الْمَالِ وَلاَ كِسْوَةَ.

2040 - قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالاً قِرَاضاً، فَخَرَجَ بِهِ وَبِمَالِ نَفْسِهِ قَالَ: يَجْعَلُ النَّفَقَةَ مِنَ الْقِرَاضِ وَمِنْ مَالِهِ عَلَى قَدْرِ حِصَصِ الْمَالِ.

باب مَا لاَ يَجُوزُ مِنَ النَّفَقَةِ فِي الْقِرَاضِ

2041 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ مَعَهُ مَالٌ قِرَاضٌ فَهُوَ يَسْتَنْفِقُ مِنْهُ وَيَكْتَسِي: إِنَّهُ لاَ يَهَبُ مِنْهُ شَيْئاً، وَلاَ يُعْطِي مِنْهُ سَائِلاً وَلاَ غَيْرَهُ، وَلاَ يُكَافِئُ فِيهِ أَحَداً، فَأَمَّا إِنِ اجْتَمَعَ هُوَ وَقَوْمٌ، فَجَاؤُوا بِطَعَامٍ، وَجَاءَ هُوَ بِطَعَامٍ، فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاسِعاً، إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، أَوْ مَا يُشْبِهُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِ الْمَالِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ رَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ حَلَّلَهُ ذَلِكَ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُحَلِّلَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُكَافِئَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ شَيْئاً لَهُ مُكَافَأَةٌ.

باب الدَّيْنِ فِي الْقِرَاضِ

2042 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالاً قِرَاضاً، فَاشْتَرَى بِهِ سِلْعَةً، ثُمَّ بَاعَ السِّلْعَةَ بِدَيْنٍ، فَرَبِحَ فِي الْمَالِ، ثُمَّ هَلَكَ الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمَالَ، قَالَ إِنْ أَرَادَ وَرَثَتُهُ أَنْ يَقْبِضُوا ذَلِكَ الْمَالَ وَهُمْ عَلَى شَرْطِ أَبِيهِمْ مِنَ الرِّبْحِ، فَذَلِكَ لَهُمْ إِذَا كَانُوا أُمَنَاءَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَرِهُوا أَنْ يَقْتَضُوهُ وَخَلَّوْا بَيْنَ صَاحِبِ الْمَالِ وَبَيْنَهُ، لَمْ يُكَلَّفُوا أَنْ يَقْتَضُوهُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمْ، وَلاَ شَيْءَ لَهُمْ إِذَا أَسْلَمُوهُ إِلَى رَبِّ الْمَالِ، فَإِنِ اقْتَضَوْهُ، فَلَهُمْ فِيهِ مِنَ الشَّرْطِ وَالنَّفَقَةِ، مِثْلُ مَا كَانَ لأَبِيهِمْ فِي ذَلِكَ، هُمْ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ عَلَى المَالِ، فَإِنَّ لَهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِأَمِينٍ ثِقَةٍ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ الْمَالَ، فَإِذَا اقْتَضَى جَمِيعَ الْمَالِ، وَجَمِيعَ الرِّبْحِ، كَانُوا فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهِمْ.

2043 - قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالاً قِرَاضاً عَلَى أَنَّهُ يَعْمَلُ فِيهِ، فَمَا بَاعَ بِهِ مِنْ دَيْنٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ، إِنَّ ذَلِكَ لاَزِمٌ لَهُ إِنْ بَاعَ بِدَيْنٍ فَقَدْ ضَمِنَهُ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا بشريعته وبيانها على لسان عبده وحبيبه وصفوته، سيدنا محمدٍ خير بريته، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه أفضلَ صلواته وأزكى تسليماته وأعظم تبريكاته، وعلى آله وصحابته وأهل مودته ومتابعته، وآبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرة الله من خليقته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

ويواصل سيدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ذكر المسائل المتعلقة بالقِراض والمضاربة، ويذكر في هذا الباب ما يكون من النفقة للمقارَض؛ ما الذي ينفقه، أو يأخذه نفقةً له من مال القِراض، وما الذي لا يجوز، فقال: "باب مَا يَجُوزُ مِنَ النَّفَقَةِ فِي الْقِرَاضِ".

"قَالَ مَالِكٌ: فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالاً قِرَاضاً: إِنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَالُ كَثِيراً يَحْمِلُ النَّفَقَةَ، فَإِذَا شَخَصَ فِيهِ الْعَامِلُ"؛ يعني: سافر وتوجّه وخرج من البلد، "فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَيَكْتَسِيَ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ قَدْرِ الْمَالِ، وَيَسْتَأْجِرَ مِنَ الْمَالِ إِذَا كَانَ كَثِيراً لاَ يَقْوَى عَلَيْهِ بَعْضَ مَنْ يَكْفِيهِ بَعْضَ مَئُونَتِهِ، وَمِنَ الأَعْمَالِ أَعْمَالٌ لاَ يَعْمَلُهَا الَّذِي يَأْخُذُ الْمَالَ"، بحسب العادة، أنَّه ما يقوم العامل بها، فيستأجر غيرَه ليقوم بها، فكلُّ ذلك من مال القِراض أو من رأس مال القِراض، عند الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-.

  • فإن المالكية والحنفية يرون أنَّه إذا سافر؛ أي: احتاج في تنمية المال إلى السفر، فإن النفقة في السفر تكونُ من مال القراض، وله أن يأخذَ من مال القراض بالمعروف.
  • وقال الشافعية والحنابلة: لا حق له أن يأخذ من مال القِراض، فإن له جزءًا من الربح ليس له سواه، وإنَّما إذا اشترط على رب المال، أو استأذنه في أن يأخذ نفقةً معروفة، فله ذلك بقدر ما اتفقا عليه، سواءً كان في الحضر أو في السفر، فلا يأخذ شيئًا من رأس مال القِراض.

إذًا؛ فيقول الحنفية: 

  • يستحق المضارِب النفقةَ، إذا خرج بالمال من البلد والمِصر الذي هو فيه، أما ما دام يعمل في البلد، فلا شيء له؛ يأكل من نفقة نفسه. 
  • وكذلك من كان مع المضارب، ممن يعينُه على العمل:
  • مثل أجير يخدمه 
  • أو نفقة دابة يستخدمها في العمل 
  • إلى غير ذلك، مثل بترول السيارة والدراجة التي يستخدمها للعمل

 فيحتسب هذه النفقة، وكذلك ذكروا الكسوة.

وقال الإمام أحمد: إذا اشترط عليه النفقة في السفر فله النفقة، قالوا الكسوة؟ قال: لا، لا تدخل الكسوة في هذا، وإنما يأخذ مقدار النفقة.

وهكذا كما سمعتَ الإمام مالك، يقول المالكية: العامل في المضاربة له الإنفاق على نفسه في زمن سفره للتجارة، وكذلك إقامته في البلد الذي يتَّجر فيه خارج بلده، وفي حال رجوعه، واستثنى بعضُهم حالة الرجوع، وقالوا: إنَّما له نفقةُ الذهاب وأيام الإقامة لأجل العمل، أما الرجوع إلى البلد، فلا يُحسب من مال القراض.

وإذًا؛ علمنا ما قال الشافعية ومثلهم الحنابلة: 

  • لا ينفق العامل من مال المضاربة على نفسه في الحضر جزمًا. 
  • وكذا في السفر على الأظهر عند الشافعية، ليس له أن ينفق على نفسه. 
  • إلا أن يشترط على رب المال، أن له النفقةَ في السفر، فله شرط النفقة.

وعلى مقابل الأظهر، ينفق من مال المضاربة بالمعروف، ما يزيد بسبب السفر، لأنه حَبَسه عن الكسب بالسفر لأجل المضاربة، فإذًا عليه النفقة.

وهكذا يقول الحنابلة: ليس لهذا المضارِب أو المقارَض نفقة من مال المضاربة، ولو مع السفر، لأنه دخَلَ على استحقاقِ الربح فقط، لا سوى ذلك.. 

  • فإن كان شَرَطَها ربُّ المال وقدَّرها فيجوز ذلك. 
  • وإن لم يقدرها، فيـُرجَع إلى العـُرف في النفقة، إذا اشترطا النفقة، وكذلك ما كان من كسوة.

إذًا؛ السفر نفسه بالنسبة للعامل، إن كان من مصلحة التجارة والتنمية، فإن مطلقَ الإذن له بالعمل يتضمن أيضًا شأن السفر. فإذا أراد العامل أن يسافر بمال المضاربة فله السفر إن أطلق ربُّ المال الإذن للعامل ولم يقيّده؛ لأن الإذن المُطلَق ينصرف إلى ما جَرَت به العادة، وهي جارية في التجارة أن يعملوا على الأسفار من أجل التنمية والربح، لأن المقصودَ من عقد القراض استنماء المال، وقد يتوفرُ في السفر أكثر.

  • فهو كذلك عند الأئمة الثلاثة: أنه إذا أذِنَ له إذنًا مطلقًا في التجارة، دخل في ذلك الإذنَ بالسفر.
  • وهكذا يقول المالكيةما لم يَحجُر عليه، أما إذا اشترط عليه أن يبقى في البلد، فلا يخرج.
  • وهكذا في المشهور عند الشافعية، وهو وجه عند الحنابلة كذلك؛ ليس للعامل أن يسافر بالمال إلا بإذن المالك؛ لأن السفر مظنة للخطر وللتعرض لأنواع من الآفات، وقد يُعرِّض المال إما لضياعٍ أو لنهبٍ أو لسرقةٍ أو لجمارك أو لغير ذلك، فينقص المال عليه، فإذا أذن له رب المال أن يسافر إلى بلدٍ معينةٍ ومكانٍ معينٍ فليسافر، وإلا لا يسافر من غير إذن.

والمعتمد عند الأئمة الثلاثة: أنه إذا أعطاه الإذنَ المطلَق في التجارة، دخل السفرُ فيه.

"قال يحيى: قال مالكفِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالاً قِرَاضاً: إِنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَالُ كَثِيراً" -وهذا اشترطه الإمام مالك-، أما إذا كان المال كله قليلاً، ولا يحتمل الأسفار والنفقة منها، فاقعد محلك تاجر، أو أنفق على نفسك واذهب، عند الإمام مالك إذ أنَّه كله رأس المال قليل وعادك بتروح به هنا وهناك! خلاص اقعد محلك، تاجر في البلد التي أنت فيها، وإن أردت أن تسافر على نفقتك، فعلى نفقتك، لا تأخذ شيئاً من رأس المال، فإذا كان رأس المال كثير ويحتمل السفر، فيدخل في ضمن الإذن بالتجارة، فخُذ لك النفقة بالمعروف.

قال: "فَإِذَا شَخَصَ"؛ يعني: سافر "فِيهِ الْعَامِلُ" فإنّ له أن يأكل منه -من مال القِراض- "وَيَكْتَسِيَ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ قَدْرِ الْمَالِ، وَيَسْتَأْجِرَ مِنَ الْمَالِ إِذَا كَانَ كَثِيراً ما يتحمله" بنفسه "وَمِنَ الأَعْمَالِ لاَ يَقْوَى عَلَيْهِ بَعْضَ مَنْ يَكْفِيهِ بَعْضَ مَئُونَتِهِ"؛ فينفق عليهم أجرتَهم من مال القراض، "وَمِنَ الأَعْمَالِ أَعْمَالٌ لاَ يَعْمَلُهَا"؛ يعني: لا يتحملها "الَّذِي يَأْخُذُ الْمَالَ"؛ العامل، وليس مثله أن يعملها في العرف والعادة، مثل صبغٍ أو خياطةٍ وأمثال ذلك، وإنما جرت العادة أن يعملَها الصناع، فيذهب إلى الصناع، ويعطيهم أجرتهم من مال القراض.

وكذلك إذا كثرت البضاعة، ويكون فيها شدٌ وطيٌّ ونقل، وما إلى ذلك، وفي العادة ما يتّحمله العامل ويعمل ذلك كله، فبحسب العرف والعادة، ينفق من المال أجرةً على من يقوم بهذه الأعمال.

"مِنْ ذَلِكَ تَقَاضِي الدَّيْنِ"؛ أي:  طلبه ممن هو عليه، يريد حقه والمطالبة به، أما قبْضُه فيختص به العامل. ولكن إذا احتاج إلى مطالبة ومتابعة، يمكنه أن يستأجر في ذلك. 

"وَنَقْلُ الْمَتَاعِ" من موضعٍ إلى آخر، "وَنَقْلُ الْمَتَاعِ وَشَدُّهُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنَ الْمَالِ مَنْ يَكْفِيهِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلْمُقَارَضِ أَنْ يَسْتَنْفِقَ مِنَ الْمَالِ وَلاَ يَكْتَسِيَ مِنْهُ، مَا كَانَ مُقِيماً فِي أَهْلِهِ"، فإنما يختصّ جواز أخذ النفقة عند السفر. "فَإِذَا شَخَصَ"، وكان رأس المال -كما ذكر الإمام مالك- كثيرًا،  فحينئذٍ عند السفر يأخذ حظّه، بخلاف إقامته في البلد. 

وأما لو مَرِض، فإن العلاج ونحوه لا يكون من رأس المال، هذا أمرٌ طارئٌ عليه يختصّ به.

 "قَالَ مَالِكٌ: فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالاً قِرَاضاً، فَخَرَجَ بِهِ وَبِمَالِ نَفْسِهِ" خرج بمال القراض، وبمالٍ ثانٍ خاص به، يتاجر فيه أيضًا. وقد قال الإمام مالك: أن له حق النفقة في السفر، قال: الآن يأخذ النفقة من مال القراض أم من مال نفسه؟ هو معه مالٌ خاص يتاجر به، ومعه مال القراض كذلك.. 

قال: يتقسم على حسب النسبة، يتقسم على هذا وعلى هذا؛ "قَالَ: يَجْعَلُ النَّفَقَةَ مِنَ الْقِرَاضِ وَمِنْ مَالِهِ عَلَى قَدْرِ حِصَصِ الْمَالِ."وعليه عامة الفقهاء. ما خرج من أجل مال القراض وحده، بل معه مال قراض ومال آخر، لا يمكن أن يحمل النفقة كلها  مالُ القراض، ولا يأخذ شيئًا من ماله الخاص الذي هو يتجر فيه، بل يقسم الأمر بين هذا وهذا، على قدر الحصص.

أو مضاربةً أخرى كذلك مع واحد ثاني، فالنفقة في السفر، وهو يضارب لهذا ولهذا، مقسومةٌ على هذا وعلى هذا، ولا يمكن أن  يحملها واحدٌ دون الآخر، لأنه لم يسافر بمالٍ واحد، سافر بمال اثنين، فحينئذٍ تنقسم عليهم بحسب الحصص. فتكون النفقة بحسب الحصص، سواءً من ماله ومن مال المضاربة، أو من مال المضاربة ومال مضاربة أخرى؛ مال غيره كذلك، كلهم ولو بالوكالة؛ وكَّله شخص أن يبيع مالاً له ويسافر به، فسافر ليبيع المال هذا الذي هو وكيل فيه، ويقارضُ للرجل الثاني، فنفقة السفر ما يمكن تختص بمال القراض، أنت سافرت لمالين الآن ليس مال واحد، فتقسمها على هذا وعلى هذا، بحسب الحصص.

 

باب مَا لاَ يَجُوزُ مِنَ النَّفَقَةِ فِي الْقِرَاضِ

 

قال: "باب مَا لاَ يَجُوزُ مِنَ النَّفَقَةِ فِي الْقِرَاضِ". "قال مالك -عليه رحمة الله- فِي رَجُلٍ مَعَهُ مَالٌ قِرَاضٌ فَهُوَ يَسْتَنْفِقُ مِنْهُ وَيَكْتَسِي: إِنَّهُ لاَ يَهَبُ مِنْهُ شَيْئاً"، قال أراد يظهر نفسه كريم ويتجمّل عند ذا وعند ذاك ويعطي ذا وذا.. هل هو  حقك أصلًا؟ خذ من مالك الخاص وأنفق على خلق الله كما تشاء، وأما من مال القراض تتكرّم وتتجمّل أمام الناس بمال غيرك!! فلا يجوز ذلك. 

حتى الذين أجازوا لك النفقة قالوا: نفقتك أنت لا أن تعطيه الناس الآخرين، تقول: تفضلوا على حسابي اليوم، بنتغدى نحن وإياكم، حسابك من أين؟ من حق القراض؟ أم من حقك أنت؟ إن كان مال خاص لك الحق في التصرف فيه، وأما من مال القراض فما لك إلا نفقتك أنت فقط.

فإن كان في العُرف، أن يجتمع المسافرون، وكلٌ يسلم شيء من عنده، فالمعتاد في العرف أن الذين يسافرون، يكتفون بمؤونة مع بعضهم البعض، فبحسب العُرف يجوز ذلك، وأما تتحمّل شيء زائد على سبيل التكرم، وعلى سبيل الجمالة بين الناس، وأنت تأخذ من مال القراض فلا!.. ولا تتصدق منه، ولا تعطِ أحدًا منه شيء، تصدق من مالك الخاص ومن حسابك الخاص، ولا تأخذ من مال القراض شيء."قال:  فَهُوَ يَسْتَنْفِقُ مِنْهُ وَيَكْتَسِي: إِنَّهُ لاَ يَهَبُ مِنْهُ شَيْئاً"؛ ما يعطي للآخرين منه شيئاً وهكذا.

واستثنى بعض أهل العلم، ما كان من يسير الأمر لسائلٍ يقنع بالقليل، يعطيه كسرةً ونحوَها، من مثل هذا، مما لا يؤثر، ويُتسامَح به في العرف والعادة والغالب، وأما عطية وهبة واسعة من مال القراض، فلا يجوز ذلك.

"قال: وَلاَ يُعْطِي مِنْهُ سَائِلاً وَلاَ غَيْرَهُ، وَلاَ يُكَافِئُ فِيهِ أَحَداً"؛ يعني: يجازيه فيه، يعطيه مكافأة، أسدى إليه معروف، أخذ بخاطره، يقول: تفضل خذ هذا لك، خذ هذا من أين؟ من مالك أنت نعم، أما من مال القراض لا! كافئهم من مالك إذا فعلوا إليك المعروف، وإن أحسنوا استقبالك، وإن عملوا وأردت أن تكافئهم، كافئهم من مالك الخاص، لا من مال القراض.

"وَلاَ يُكَافِئُ فِيهِ أَحَداً" ممن أسدى له معروف ونحوه، "فَأَمَّا إِنِ اجْتَمَعَ هُوَ وَقَوْمٌ، فَجَاؤُوا بِطَعَامٍ، وَجَاءَ هُوَ بِطَعَامٍ"، على عادة الرفقاء في السفر، "فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاسِعاً" جائز، لا حرج فيه بحسب المعروف.

لأنهم يحتاجون في السفر أن يعين بعضهم بعضًا، وأن يتكافلوا ويحمل بعضهم بعضًا، فإن لاستقلال كل واحد منهم مشقة، فإذا تجمعوا على المساعدة، فبحسب المعروف من ذلك يمكن الدخول معهم. قال: "فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاسِعاً، إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ،" هو ويعينهم بالإطعام، "فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، أَوْ مَا يُشْبِهُهُ"؛ يعني: يشبه التفضّل عليهم "بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِ الْمَالِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ ذَلِكَ"؛ يعني: يطلب العفو والمسامحة والإذن من رب المال، "فَإِنْ حَلَّلَهُ"؛ يعني: عفا رب المال عن ذلك، "فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُحَلِّلَهُ فَعَلَيْهِ"؛ على العامل "أَنْ يُكَافِئَهُ"؛ أي: يرد مقابل ذلك إلى مال القراض، "بِمِثْلِ ذَلِكَ" الذي بذله في التفضل، يعيده إلى مال القراض، "إِنْ كَانَ ذَلِكَ شَيْئاً لَهُ مُكَافَأَةٌ." قدرًا وقيمة، وأما إذا خرّج كسرةً صغيرة أعطاها سائل ونحوه ... إيش عاده باقي؟ ما عاد في هذا مشاحة، لأنه أمرٌ يُستهان به، ويُسمحُ بمثله.                           

 

باب الدَّيْنِ فِي الْقِرَاضِ

 

"قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالاً قِرَاضاً، فَاشْتَرَى بِهِ سِلْعَةً، ثُمَّ بَاعَ السِّلْعَةَ بِدَيْنٍ، فَرَبِحَ فِي الْمَالِ، ثُمَّ هَلَكَ الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ" توفي "قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمَالَ قال: إِنْ أَرَادَ وَرَثَتُهُ أَنْ يَقْبِضُوا ذَلِكَ الْمَالَ" فيرثون حق القِراض عن مورِّثهم "وإِنْ أَرَادَ وَرَثَتُهُ أَنْ يَقْبِضُوا ذَلِكَ الْمَالَ وَهُمْ عَلَى شَرْطِ أَبِيهِمْ مِنَ الرِّبْحِ، فَذَلِكَ لَهُمْ إِذَا كَانُوا أُمَنَاءَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَرِهُوا أَنْ يَقْتَضُوهُ"، فيقول إن العامل إذا توفي بعد أن اشتغل في المال -مال القراض- فإن حق عمله فيه يكون لورثته، وليس لرب المال أن ينتزعَه منهم، لأن ذلك حقٌ لهم في المال، انتقل إليهم عن موروثهم.

فإذا أراد ورثته أن يكملوا العمل، فلهم ذلك كما أشار الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- فيكملوا العمل حتى ينتهي، لكنهم أيضًا اختلفوا في متى يملك العامل، أبظهور الربح، أو بعد القسمة؟

 الذين قالوا أنه بظهور الربح يملك فالملك ناقصٌ غير تام، ولو كان ملك تام لكان شريك لا مقارض، صار شريك في المال مع المالك، ولكنه ملك ناقص. أو أنه لا يتم الملك إلا بعد القسمة، ولكن يثبت الحق، فلذا لو مات قبل القسمة، فالحق فيما مضى من العمل، وفي تنضيض الباقي من البضاعة، حق للورثة أن يأخذوا مقدار ما تمّ من الربح في الماضي.

"قال: فَإِنْ كَرِهُوا أَنْ يَقْتَضُوهُ"؛ يعني: يستوفوا الدين، "وَخَلَّوْا بَيْنَ صَاحِبِ الْمَالِ وَبَيْنَهُ، لَمْ يُكَلَّفُوا أَنْ يَقْتَضُوهُ"ما راحوا هم يخرجون الدين الذي استدانه مورثهم هذا،  "وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمْ، وَلاَ شَيْءَ لَهُمْ إِذَا أَسْلَمُوهُ إِلَى رَبِّ الْمَالِ"، سلموا له ماله وهو يتابع دَينه، ولا تطالبونه بالربح فيما يأتي من هذا الديْن، لأن مورّثكم لم يستردّ الدين بنفسه، وإنما قام العامل الآن باسترداده، بعد وفاة مورّثكم، ولكن فيما مضى، أو أنتم تقومون فتستقضون الديون وتجمعونها، فلكم ما شُرط لمورّثكم، تأخذونه من هذا الربح، من تحصيل ذلك الديْن.

 "فَإِنِ اقْتَضَوْهُ، فَلَهُمْ فِيهِ مِنَ الشَّرْطِ وَالنَّفَقَةِ، مِثْلُ مَا كَانَ لأَبِيهِمْ فِي ذَلِكَ، هُمْ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا" عالمين بالعمل أو غير أمناء، فيجوز لهم أن يأتوا بعارف أمين، يقوم مقام أبيهم، ويتفقون هم وإياه. 

فإذا لم يكن ذلك، ليسوا أمناء، ولم يأتوا بأمين، وأرادوا ترك العمل، لم يكن لهم من ربحه شيء، ولا من خسارته شيء. قال: "فَإِنَّ لَهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِأَمِينٍ ثِقَةٍ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ الْمَالَ، فَإِذَا اقْتَضَى جَمِيعَ الْمَالِ، وَجَمِيعَ الرِّبْحِ، كَانُوا فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهِمْ."

"قال مالك: فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالاً قِرَاضاً عَلَى أَنَّهُ يَعْمَلُ فِيهِ، فَمَا بَاعَ بِهِ مِنْ دَيْنٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ، إِنَّ ذَلِكَ لاَزِمٌ لَهُ إِنْ بَاعَ بِدَيْنٍ فَقَدْ ضَمِنَهُ" العامل؛ لأنه لم يستنقد الثمن، وجعله ديْن، "فَمَا بَاعَ بِهِ مِنْ دَيْنٍ"؛ باعه نسيئة، "فَهُوَ"؛ يعني: العامل "ضَامِنٌ لَهُ، إِنَّ ذَلِكَ لاَزِمٌ لَهُ إِنْ بَاعَ بِدَيْنٍ فَقَدْ ضَمِنَهُ".

إذًا؛ 

  • فكما يقول الحنفية: لعامل القِراض أن يبيع نسيئةً إذا رأى في ذلك فائدةً ومصلحة، لأن ذلك مما يحصل بين الناس كثيرًا.
  • ويقول المالكية: ما يجوز يشتري العامل سلع للمضاربة بنسيئة؛ بديْن، يقول: إنما هذا يُعرضِه للخطر.
  • ويقول هكذا الشافعية: من يجب عليه الاحتياط عند التصرف في مال الغير، كالعامل في المضاربة، لا يبيع بنسيئةٍ بلا إذنٍ من مالك رأس المال، وإذا أذن له وقال له: لا بأس أن تُدَيِّن من تثق فيه فتديّنه فيجوز، وإلا فإن ذلك يخالف الاحتياط .
  • وهكذا جاءت روايتان عن الإمام أحمد بن حنبل: إذا لم ينص على الإذن بالنسيئة، وأعطاه المال، فهل يجوز له أن يقرض؟ فيبيع على حدين؟ في هذا جاءت روايتان عن الإمام أحمد، في جواز ذلك وعدم جوازه.

فإذا مات، إما -كما ذكر لنا- العامل، أو مات صاحب المال كذلك، فبالموت ينفسخ الِقراض، خلاص ينفسخ الآن القراض، كما هو عند الأئمة الثلاثة. الإمام مالك ذكر الإرث فيه هنا، ولكن يقول الأئمة الثلاثة: أنه بموت أحدهما ينفسخ القراض، إذا مات أحدُهما فيبطل بموت العامل، أو موت صاحب المال؛ رأس المال.

وهكذا سمعت من قول المالكية، إذا مات العامل قبل نضوض رأس المال: 

  • فللوارث الأمين أن يكمل العمل. 
  • أو يستنيبَ غيره ممن يقوم في إكمال العمل. 

كما سمعنا من كلامه في الموطأ، وكذلك كلامه عند أئمة مذهبه -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.

وانتقل إلى ذكر البضاعة في القراض، والله أعلم.

يجعلنا من الهداة المهتدين، الصادقين المخلصين الموفقين المتفقهين في الدين، ويفقّه في الدين أهالينا وقراباتنا وجيراننا وأهل بلداننا، وينشر الفقه في الدين في الأمة، ويجعلنا ممن يستقيم على منهاج المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، في الأخذ والعطاء، وفي مختلف الأحوال على ما هو أحب وأطيب وأرضى للرب وحبيبه المقرّب، ويدفع عنا وعن الأمة البلايا والرزايا في الظواهر والخفايا، بسِر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

12 ذو القِعدة 1443

تاريخ النشر الميلادي

11 يونيو 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام