شرح الموطأ - 354 - كتاب البيوع: باب بَيْعِ المُرَابَحَة

شرح الموطأ - 354 - كتاب البيوع: باب بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ.

فجر السبت 13 شوال 1443هـ.

باب بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ

1958 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي الْبَزِّ يَشْتَرِيهِ الرَّجُلُ بِبَلَدٍ، ثُمَّ يَقْدَمُ بِهِ بَلَداً آخَرَ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً: إِنَّهُ لاَ يَحْسِبُ فِيهِ أَجْرَ السَّمَاسِرَةِ، وَلاَ أَجْرَ الطَّيِّ، وَلاَ الشَّدِّ، وَلاَ النَّفَقَةَ، وَلاَ كِرَاءَ بَيْتٍ، فَأَمَّا كِرَاءُ الْبَزِّ فِي حُمْلاَنِهِ، فَإِنَّهُ يُحْسَبُ فِي أَصْلِ الثَّمَنِ، وَلاَ يُحْسَبُ فِيهِ رِبْحٌ، إِلاَّ أَنْ يُعْلِمَ البَّائِعُ مَنْ يُسَاوِمُهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنْ رَبَّحُوهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ.

1959 - قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا الْقِصَارَةُ وَالْخِيَاطَةُ وَالصِّبَاغُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَزِّ، يُحْسَبُ فِيهِ الرِّبْحُ كَمَا يُحْسَبُ فِي الْبَزِّ، فَإِنْ بَاعَ الْبَزَّ وَلَمْ يُبَيِّنْ شَيْئاً مِمَّا سَمَّيْتُ، إِنَّهُ لاَ يُحْسَبُ لَهُ فِيهِ رِبْحٌ، فَإِنْ فَاتَ الْبَزُّ، فَإِنَّ الْكِرَاءَ يُحْسَبُ وَلاَ يُحْسَبُ عَلَيْهِ رِبْحٌ، فَإِنْ لَمْ يَفُتِ الْبَزُّ، فَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ بَيْنَهُمَا، إِلاَّ أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يَجُوزُ بَيْنَهُمَا.

1960 - قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي الْمَتَاعَ بِالذَّهَبِ أَوْ بِالْوَرِقِ، وَالصَّرْفُ يَوْمَ اشْتَرَاهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ، فَيَقْدَمُ بِهِ بَلَداً فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً، أَوْ يَبِيعُهُ حَيْثُ اشْتَرَاهُ مُرَابَحَةً عَلَى صَرْفِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي بَاعَهُ فِيهِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ ابْتَاعَهُ بِدَرَاهِمَ وَبَاعَهُ بِدَنَانِيرَ، أَوِ ابْتَاعَهُ بِدَنَانِيرَ وَبَاعَهُ بِدَرَاهِمَ، وَكَانَ الْمَتَاعُ لَمْ يَفُتْ فَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، فَإِنْ فَاتَ الْمَتَاعُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَهُ بِهِ الْبَائِعُ، وَيُحْسَبُ لِلْبَائِعِ الرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَاهُ بِهِ عَلَى مَا رَبَّحَهُ الْمُبْتَاعُ.

1961 - قَالَ مَالِكٌ: إِذَا بَاعَ رَجُلٌ سِلْعَةً قَامَتْ عَلَيْهِ بِمِئَةِ دِينَارٍ، لِلْعَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ، ثُمَّ جَاءَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا قَامَتْ عَلَيْهِ بِتِسْعِينَ دِينَاراً، وَقَدْ فَاتَتِ السِّلْعَةُ خُيِّرَ الْبَائِعُ، فَإِنْ أَحَبَّ فَلَهُ قِيمَةُ سِلْعَتِهِ يَوْمَ قُبِضَتْ مِنْهُ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي وَجَبَ لَهُ بِهِ الْبَيْعُ أَوَّلَ يَوْمٍ، فَلاَ يَكُونُ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِئَةُ دِينَارٍ وَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ، وَإِنْ أَحَبَّ ضُرِبَ لَهُ الرِّبْحُ عَلَى التِّسْعِينَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الَّذِي بَلَغَتْ سِلْعَتُهُ مِنَ الثَّمَنِ أَقَلَّ مِنَ الْقِيمَةِ، فَيُخَيَّرُ فِي الَّذِي بَلَغَتْ سِلْعَتُهُ، وَفِي رَأْسِ مَالِهِ وَرِبْحِهِ، وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِينَاراً.

1962 - قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ بَاعَ رَجُلٌ سِلْعَةً مُرَابَحَةً فَقَالَ : قَامَتْ عَلَىَّ بِمِئَةِ دِينَارٍ، ثُمَّ جَاءَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا قَامَتْ بِمِئَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَاراً، خُيِّرَ الْمُبْتَاعُ، فَإِنْ شَاءَ أَعْطَى الْبَائِعَ قِيمَةَ السِّلْعَةِ يَوْمَ قَبَضَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى الثَّمَنَ الَّذِي ابْتَاعَ بِهِ عَلَى حِسَابِ مَا رَبَّحَهُ، بَالِغاً مَا بَلَغَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَ بِهِ السِّلْعَةَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنَقِّصَ رَبَّ الْسِّلْعَةِ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَهَا بِهِ، لأَنَّهُ قَدْ كَانَ رَضِيَ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا جَاءَ رَبُّ السِّلْعَةِ يَطْلُبُ الْفَضْلَ، فَلَيْسَ لِلْمُبْتَاعِ فِي هَذَا حُجَّةٌ عَلَى الْبَائِعِ بِأَنْ يَضَعَ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَ بِهِ عَلَى الْبَرْنَامِجِ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا بشريعته الغرّاء، وبيانها على لسان عبده خير الورى، سيدنا مُحمد أفضل الخلائق طُرًّا، صلَّى الله وسلَّم وباركَ وكرَّم عليه وعلى آله الأطهار وصحبه الكُبراء، وعلى من والاهم في الله واتبعهم بإحسان سِرًّا وجهرا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المرتقين في المعرفة بالله والتعريف به وبأحكامه أعلى الذرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.

 وبعدُ،

فيذكر الإمام مَالِكْ -عليه رضوان الله تعالى- في هذا الباب: بيع المُرابحة فيقول: "باب بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ"؛ وهو عبارةٌ عن بضاعةٍ يملكها شخصٌ إما بشراءٍ أو بغير ثمنٍ معلوم، فيقول لمشترٍ منه بعتك هذه البضاعة وثمنها كذا بزيادةٍ وربحٍ في الثمن؛ في المائة عشرة ونحو ذلك؛ هذه المُرابحة. 

  • وإذا قال: بربح كذا وكذا فهو واضح ومتفقٌ عليه وعدم كراهته. 

  • فإن قال: في كل عشرةٍ ربح درهم أو في كل مائة عشر ونحو ذلك فكرهه المالكية وبعض الحَنَفِية وخافوا أن يكون فيه نوع جهلٍ بالثمن؛ ولكن عند من يعرف الحساب يكون واضحًا لديه.

إذًا فبيعُ المُرابحة، أحد بيوع الائتمان؛ أن يبيعه السلعة التي اشتراها بثمن وزيادة ربحٍ معلوم في الثمن، ويأتي من هذا القبيل ما يسمى

  •  بالتولية: وهو أن يبيعه إياه بنفس الثمن.

  • ويأتي أيضًا النقيصة أو الوضيعة: وهو أن يبيعه بأقل من الثمن.

  • وقد يسمى الجميع بيع مُرابحة من حيث العُرف، ولأنه إذا نقص الثمن فالرِبح للمشتري فالمُرابحة حاصلة فيها.

يقول: "باب بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ"؛ يعني: بيع السلعة بالثمن الذي اشتراها به وزيادة ربح معلوم للبائع والمشتري.

  • وكذلك البيع بالمساواة، الذي يقال له التولية. 

  • والبيع بالوَضيعة؛ وهو النقص من الثمن 

يدخل في هذا.

 فإذًا؛ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ: أن يبيع برأس المال وربحٍ معلوم يعلمه البائع والمشتري. فإذا قال له: هو عليّ بمائة، بعتك بها والربح عشرة فوق المائة، يعني بمائة وعشرة، لا خلاف في صحته ولا قائل في كراهته. 

ولكن إذا قال: برأسِ مالي فيه وهو مائة وأربح في كل عشرة درهمًا، هذا الذي كرهه الإمام أحمَدْ، ورُويت كراهته عن ابن عُمَر وابن عباس مع أن المؤدى بعد ذلك واحد؛ إلا أنه في أول الصفقة قد لا يتبيّن كم مقدار الربح على الإجمال حتى يجمله ويفكر فيه بأَنه سيكون كذا كذا بمقابل كذا كذا، فلأجل هذا الجهالة كرهه هؤلاء كراهة التنزيه مع صحة البيع مع قولهم بصحة البيع. 

يقول: "قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا"؛ يعني: في المدينة المنورة، يعني علمائها، "فِي الْبَزِّ" يعني: الثياب، وقد يُطلق على متاع البيت عمومًا من ثيابٍ وغيره، يقال له بَز. يقول: "يَشْتَرِيهِ الرَّجُلُ بِبَلَدٍ، ثُمَّ يَقْدَمُ بِهِ بَلَداً آخَرَ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً"؛ يعني: بالثمن الأول وزيادة ربح، يقول مَالِك: "إِنَّهُ لاَ يَحْسِبُ فِيهِ"؛ يعني: في أصل الثمن "أَجْرَ السَّمَاسِرَةِ" جمع سمسار المتوسط بين البائع والمشتري الذي يقولون له عندنا الدلّال، "وَلاَ أَجْرَ الطَّيِّ" للثياب، "وَلاَ الشَّدِّ" لها على الأحمال "وَلاَ النَّفَقَةَ" التي أنفق على المبيع "وَلاَ كِرَاءَ بَيْت"؛ معنى غرفة حفظها فيها، حفظ المتاع فيها، يعني: هذا لا يدخل في أصل الثمن عند الإمام مَالِكْ -عليه رضوان الله تعالى- إلا أن يُعلم المشتري أن الثمن كذا وخسرت فوقه كذا وكذا وكذا وكذا فتُربحني في الكل، وهكذا

  • يقول الشَّافعية والحَنَابِلَة والحَنَفِية وغيرهم يقولون: إذا بيَّن وقال له اشتريته بكذا فلا يجوز يُدّخل في غير ثمن الشراء، وإذا قال: قام عليّ بكذا فيضيف إليه ما كان من أتعابه في حفظه، أو نقله، أو طيّه، أو استصلاحه، وما إلى ذلك.

يقول: "فَأَمَّا كِرَاءُ الْبَزِّ فِي حُمْلاَنِهِ، فَإِنَّهُ يُحْسَبُ فِي أَصْلِ الثَّمَنِ"؛ حُملانه يعني: في حمله، "وَلاَ يُحْسَبُ فِيهِ رِبْحٌ" عند الإمام مَالِكْ "إِلاَّ أَنْ يُعْلِمَ البَّائِعُ مَنْ يُسَاوِمُهُ"؛ يعني: يُعلم المشتري فيقول الثمن الذي اشتريته بكذا؛ ولكن في نقله؛ نقلته من مكانه بكذا وكذا فَيضيفها إلى فوق الثمن ويأخذ الربح في الجميع. 

قال: فأما إذا لم يذكر ذلك يقول الإمام مَالِك، ولم يُعلم البائع المشتري فيُحسب في أصل الثمن ولكن ما صار فيه الربح، الربح في الثمن وحده، وهذا الخسران حق النقل وهذا احسبه كم ويعطيك مقابله من دون ربح فيه. قال له: الربح عشرة في المائة من الثمن، وأما ما كان من دون ذلك يقول لا. "إِلاَّ أَنْ يُعْلِمَ البَّائِعُ مَنْ يُسَاوِمُهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ" من أُجرة السماسرة والطيّ وكذا وكذا، قال فَالمجموع كذا فقام عليّ بكذا فأبيعك إياه به والربح فدخل كله، يربح في المجموع في كل شيء، يربح العشرة التي ذكرها، أو الواحد في العشرة، أو العشرة في المائة. 

"قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا الْقِصَارَةُ" للقصَّار، هذا الذي يحوّر الثياب، يعني: أجرة تحوير الثياب، "وَالْخِيَاطَةُ"؛ أي: أجرة الخياطة، "وَالصِّبَاغُ"؛ ما صبغه به فَيتغير لذلك قيمته، "وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ"؛ مثل طرز وفتل وغير ذلك من كل ما له عين قائمة، قال: "فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَزِّ"؛ منزلة أصل البَز لظهور أثر الصنع فيه، "يُحْسَبُ فِيهِ الرِّبْحُ كَمَا يُحْسَبُ فِي الْبَزِّ"؛ ففرّق بين حملانه وأجرة السمسار، وبينما تعلّق بذات البضاعة من تحويرها وخياطتها وصِباغها هذا يدخل في الثمن، ويكون داخل في المُرابحة في أن يربح منها. "فَإِنْ بَاعَ الْبَزَّ وَلَمْ يُبَيِّنْ شَيْئاً مِمَّا سَمَّيْتُ، إِنَّهُ لاَ يُحْسَبُ لَهُ فِيهِ رِبْحٌ"، بل يُعطى الربح في عين الثمن، وما بقي من المصروفات يعطى مقابلها فقط من دون ربح.

يقول: "فَإِنْ فَاتَ الْبَزُّ" بأن باعه المبتاع مثلًا أو ضاع عنده، "فَإِنَّ الْكِرَاءَ يُحْسَبُ وَلاَ يُحْسَبُ عَلَيْهِ رِبْحٌ" على الكِراء، "فَإِنْ لَمْ يَفُتِ الْبَزُّ، فَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ بَيْنَهُمَا"؛ يعني: يرد المشتري البز ويأخذ ثمنه، لأن البائع يقول لا أبيع إلا بما سمّيت من الثمن والربح، المُشتري يقول لا أحسب في رأس المال شيئًا مما سمّيته إلا أن يتراضيا، قال الإمام مَالِكْ: "أَنْ يَتَرَاضَيَا" يعني البائع والمشتري، "عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يَجُوزُ" التراضي عليه "بَيْنَهُمَا" فحينئذ لا يُفسخ البيع.

فلما أنَّها من جملة البيوع التي يُتعامل بها ولا شيء فيها يخالف أصل ما جاء في الشريعة، فذهب جمهور الفقهاء إلى جواز هذه المُرابحة ومشروعيتها في عموم قوله: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة:275] إلى عموم قوله: (إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) [النساء:29] فهو بيعٌ بالتراضي بين العاقديَن.

وقال المالكية مع ذلك هو جائز، ولكن خلاف الأَولى، فبيعُ المساومة أولى، بيعُ المساومة فقط من دون أن يذكر الثمن الذي  اشتراه به؛ يُساومه ويتفق هو وإياه بشروط البيع على ثمن لهذه البضاعة التي يبيعه إياها من دون ذكر شيء من المرابحة، عندهم هذا أفضل، وأن هذا خلاف الأَولى. 

وعلمنا رواية كراهَتها عند الحنابلة لما جاء عن ابن عمر وابِن عباس كراهة ذلك، فإنهم رأوا أن فيه نوع من الجهالة في الثمن حال العقد، فبذلك كرِهوه، ولذلك جاءت كراهة الحنابلة ولكن كراهة تنزيه مع صحة البيع.

وهكذا يقول الحنفِية: لا بأس يُلحِق برأس المال أُجرة القصّار، والصبّاغ، والغسّال، والخيّاط، وسائق الغنم، والكراء، وعلف الدواب، ويدخله فوقه، ويُباع مرابحة وتولية على الكل، قال الحَنَفِية، لأن العادة أن التجار يلحقون هذه المؤن برأس المال ويحطونها في الكُلفة. ولكن قال الشَّافعية يقول بما قام عليه، والحَنَفِية كذلك، وأما إذا قال ثمنه اشتريته بكذا فهو كذّاب ما اشتراه بكذا، هذا زاد من بعد الشراء.

وهكذا يقول سمعتم قول المالكية فيما بيّنه الإمام مالك يقول يحسب البائع على المشتري ربح ما له عين قائمة بالسلعة نفسها، أما أُجرة خيّاط، وأجرة السمسار، وأجرة نقل من عنده، لا، يحطها مقابلها فقط من غير مُرابحة؛ إلا أن يُعلمه ويشترط عليه، فهذا جائز للتراضي بينهم.

وكذلك يقول الشَّافعية: أنه يدخل في الثمن أجرة الكيّال، والدلَّال، والحارس، والقصّار، والطرّاز، والصَّباغ، وقيمة الصبغ، وهذه سائر المؤن؛ ولكن يقول: قام عليّ بكذا، ما يقول اشتريت، إن قال اشتريتها أصبح كذاب ما اشترى بكذا، ويصبح بعدها في حكم إذا تبيّن أنه غشّ وكذب، وقد ذكر ثمن غير الذي اشتراه به، فكما يُشير إليه في المسألة في الباب.

وهكذا يقول الحنَابِلَة: إذا عمل المشتري الأول في السلعة، عمل كأن يُقصِّرها، أو يجعلها ثوب، أو يخيّطها، وأراد بيعها مُرابحة فعليه أن يُخبر بالحال على وجهه؛ يقول أصلًا اشتريتها بكذا، وخيّطتها بكذا، وقصَّرتها بكذا، وخسرت عليها كذا، ووكلت الدابَّة كذا، والآن هذا مجموع ثمنها فأريد فيه الربح، يقول تحصّلت عليّ بكذا وكذا.

 إذًا؛ فهذا جوازه مبني على صحة العقد الأول، فإذا تبيّن أن العقد الأول من قِبل المشتري الأول أنه فاسد وهذا فاسد مثله إلا إذا صحَّ العقد الأول فيصِحّ العقد الثاني، ولا بد من العلمِ بالثمن؛ يكون الثمن معلوم للمشتري الثاني هذا، حتى تصّح المُرابحة، لأن العلم بالثمن شرط في صحة البُيوع، فإذا ما علم الثمن ففسد العقد. لو قال بعتك عليّ هذا بما اشتريت به مع ربح عشرة، قال: اشتريتها بكم؟ ما يدري ألف، ألفين، ثلاثمائة، ما يدري! العقد كله باطل، لابد تعرف الثمن..

فيُشترط العلم بالثمن، فإذا لم يُعلم الثمن فسدَ العقد. وأن يكون رأس المال من ذوات الأمثال، مثل مكيلات، وموزونات، وعدديات متقاربة. 

  • فإذا كان مِثلي يباع مُرابحةً على الثمن الأول. 

  • وإن كان قِيَمي، كيف يبيعه مرابحة؟ إلا إن كان ممن ذلك العَرضُ في ملكه. فإذا جعل الربح مُستقل كذا كذا عن هذا فهو، وإما إلا أجزاء تلك البضاعة غير المكيلة والموزونة ما يتأتى فيها تحديد المُرابحة.

يقول: "قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي الْمَتَاعَ بِالذَّهَبِ أَوْ بِالْوَرِقِ، وَالصَّرْفُ يَوْمَ اشْتَرَاهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ، فَيَقْدَمُ بِهِ بَلَداً فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً". يقدم بالمتاع إلى بلدٍ آخر، يبيعه في هذا البلد مُرابحة، أي: بالربح المعلوم على الثمن، "أَوْ يَبِيعُهُ حَيْثُ اشْتَرَاهُ" -به في البلد الذي اشتراه به- "مُرَابَحَةً عَلَى صَرْفِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي بَاعَهُ فِيهِ" صار اختلف صرف  يوم الشراء ويوم البيع، إذًا يكون صرف ذلك اليوم، أو صرف هذا البلد الآخر كل دينار بخمسة عشر، وهناك في البلد التي اشترى فيها الدينار بعشرة دراهم مثلًا، "فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ ابْتَاعَهُ بِدَرَاهِمَ وَبَاعَهُ بِدَنَانِيرَ، أَوِ ابْتَاعَهُ بِدَنَانِيرَ وَبَاعَهُ بِدَرَاهِمَ، وَكَانَ الْمَتَاعُ لَمْ يَفُتْ فَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، -بالثمن- وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ"؛ لاختلاف الصرف، للمشتري، "فَإِنْ فَاتَ الْمَتَاعُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَهُ بِهِ الْبَائِعُ، وَيُحْسَبُ لِلْبَائِعِ الرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَاهُ بِهِ عَلَى مَا رَبَّحَهُ الْمُبْتَاعُ.".

أيضًا يأتي فيه إذا كان المال الذي اشتراه من الربويات، فاشتراه بمثله مثلًا، مطعوم بمطعوم، فأراد أن يبيعه بالمُرابحة كيف يبيعه بالمُرابحة؟ لأنه هو اشترى بمثله من الطعام نفسه، وما يجوز زيادة إلا مثلًا بمثل، فإذا يبيعه مُرابحة فلا يصح إلا أن يبيعه مساومة بثمن، أما إذا قال بما اشتريته وربح كذا؛ فصار الذي اشتراه طعام مثله، ويجب فيه المُماثلة وهذا ما تماثل زيادة ذي بطلت، يعني صار دخل فيه الرِبا، ولكن يبيعه مُساومة، يقول بعته بكذا وكذا. 

"قَالَ مَالِكٌ: إِذَا بَاعَ رَجُلٌ سِلْعَةً قَامَتْ عَلَيْهِ بِمِئَةِ دِينَارٍ، لِلْعَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ"؛ يعني: زيادة واحد في كل عشرة، للعشرة أحد عشر، فباعها صارت مائة وعشرة الآن، لأن لكل عشرة إحدى عشر صارت المائة مائة وعشرة، "ثُمَّ جَاءَهُ بَعْدَ ذَلِكَ"؛ أي: تحقق المشتري أنها -يعني السلعة- ما قامت على البائع بمائة، لا، إنما بتسعين، قامت بتسعين فقط لكن هو قال مائة! لا حول ولا قوة إلا بالله!.. فهذا فيه الغش، وقد غلِط البائع إذا قال قامت عليّ بمائة دينار، إن كان من غير قصد منه، فظن أنها قامت عليه بمائة فباع بذلك، ثم جاءه العلم هو نفسه البائع بأنها قامت عليه بتسعين ملا بمائة.

 أو أن البائع قامت عليه، قال قامت عليّ بمائة ثم علِم وتحقق المشتري الثاني أنها ما قامت عليه إلا بتسعين، 

  • فإذا علمنا هذا الخبر قبل أن تفوت السلعة فللمُشتري أن يأخذها بجميع الثمن، ويرضى هو بذلك، فيلزم ذلك البيع.

  • أو يردها، فيلزم البائع أن يقبلها ذلك؛ لأنه تبيّن كذبه.

 وليس للبائع أن يقول آخذها بتسعين وربحها إلا أن يرضى البائع، وهذا مذهب الإمام مَالِكْ، وهو الذي ذكره بن القاسم في (المدونة). 

لكن يقول الشَّافعية وغيرهم: العقد يبقى ثابت ولكن يسقط منه مقدار ما سقط من أصل الثمن، فإذا قال له: بِعتكها قامت عليّ بمائة، وبِعتكها في كل عشرة درهم، بمائة وعشرة مثلًا، ووافق، فتبيّن أنه إنما ابتاعها، اشتراها بتسعين، فعليه في كل عشرة من التسعين واحد، صار تسعة وتسعين، ما يسلم له مائة وعشرة، يُسلمه مائة بتسعة وتسعين، تسعة وتسعين درهم، ما يُسلمه مائة وعشرة،  يُسلمه تسعة وتسعين، لأنه كل واحد من العشرة تسعة وهي تسعين، وفيها التسعة زائدة فوق التسعين، تسعة وتسعين.

قال: ولا يفسخ، يقول الإمام الشَّافعي والإمام أحمَدْ بن حَنبَل لا يفسخه، لماذا؟ لأنه ما لهم حق الفسخ، لأن المشتري الثاني قد رضي بالأكثر، فَلماذا يفسخ؟ عادها الآن رخصت له، والبائع هذا هو غشاش، غش ما له حق الخيار، يلزم أن يبيعها بالربح الذي واقع الثمن لا بما زاد.

  • وقال الإمام مَالِكْ: لا، بل يتخيّر. 

    • إما أن يرضى ويشتريها بنفس الثمن الذي اتفق هو وإياه عليه. ولا  ينظر إلى أنه كان اشتراها بأقل.

    • وإلا يردها على البائع، فيلزم البائع أن يردّه؛ لأن الخيار يصير للمشتري الثاني هذا فقط. 

قال: "فَإِنْ أَحَبَّ فَلَهُ قِيمَةُ سِلْعَتِهِ يَوْمَ قُبِضَتْ مِنْهُ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي وَجَبَ لَهُ بِهِ الْبَيْعُ أَوَّلَ يَوْمٍ، فَلاَ يَكُونُ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ". قال: "وَذَلِكَ"؛ يعني: الثمن، الذي وجب له أول يوم "مِئَةُ دِينَارٍ وَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ، وَإِنْ أَحَبَّ ضُرِبَ لَهُ الرِّبْحُ عَلَى التِّسْعِينَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الَّذِي بَلَغَتْ سِلْعَتُهُ مِنَ الثَّمَنِ أَقَلَّ مِنَ الْقِيمَةِ، فَيُخَيَّرُ فِي الَّذِي بَلَغَتْ سِلْعَتُهُ، وَفِي رَأْسِ مَالِهِ وَرِبْحِهِ، وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِينَاراً.".

 قال: اشتريت سلعة مُرابحة، فأتلَفتها أو لم تتلفها ثُمَّ أطّلعتُ على البائع أنه زاد عليّ أو كذبني؟ 

قال مَالِكْ: إن كان لم يتلفها المشتري كان بالخيار إن شاء أخذها بجميع الثمن، وإن شاء تركها، وليس زيادته وظلمه بالذي يُحمَل عليه بأن يؤخذ بما لم يبِع به، قال: الثمن هو نفسه؛ إما يرضى بنفس الثمن… وإن فاتت السلعة قُوّمت، فإن كانت قيمتها أقل من رأس المال والربح لم ينقص من ذلك، وإن كانت قيمتها أكثر مما ابتاعها به المبتاع وربحه لم يزد على ذلك، لأنه قد رضي بذلك أولًا. هذا كلام الإمام مالك -عليه رضوان الله- في مذهبه الذي أشرنا إليه.

"قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ بَاعَ رَجُلٌ سِلْعَةً مُرَابَحَةً فَقَالَ: قَامَتْ عَلَىَّ بِمِئَةِ دِينَارٍ، ثُمَّ جَاءَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا قَامَتْ بِمِئَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَاراً"، استدرك وقال غلطت إنما دخلت عليّ بمائة وعشرين لا بمائة، قامت عليّ بمائة وعشرين دينارا، "خُيِّرَ الْمُبْتَاعُ"؛ المشتري الثاني يُخيّر، "فَإِنْ شَاءَ أَعْطَى الْبَائِعَ قِيمَةَ السِّلْعَةِ يَوْمَ قَبَضَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى الثَّمَنَ الَّذِي ابْتَاعَ بِهِ عَلَى حِسَابِ مَا رَبَّحَهُ بَالِغاً مَا بَلَغَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَ بِهِ السِّلْعَةَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنَقِّصَ رَبَّ الْسِّلْعَةِ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَهَا بِهِ"؛ لأنه قد كان رضيَ بذلك؛ وإنما جاء ربَّ السلعة يطلب الفضل، غلط المسكين فخلاص لا تؤاخذه بالغلط، "فَلَيْسَ لِلْمُبْتَاعِ فِي هَذَا حُجَّةٌ عَلَى الْبَائِعِ بِأَنْ يَضَعَ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَ بِهِ عَلَى الْبَرْنَامِجِ".

ويتكلم في الفصل الآتي على بيع البرنامج هذا، الذي هو عبارة عن أعطيات يعطيها الأمراء في أوراق، يحوّلونها على أهل خزائنهم، فيجيء واحد يشتري منه هذه الورقة، يريد يشتريها منه، فيبيعها على البرنامج، فيأتي الكلام في الفصل الآتي.

الله يُكرمنا بصدق الإقبال، وكمال القبول والتوفيق لما يحب، والدخول فيمن يحب، وحسن العمل بالشريعة على الوجه المرضي للرحمن، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي مُحمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

24 شوّال 1443

تاريخ النشر الميلادي

25 مايو 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام