شرح الموطأ - 335 - كتاب البيوع: باب بَيْعِ الفاكِهَة

شرح الموطأ - 335 - كتاب البيوع: باب بَيْعِ الْفَاكِهَةِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب بَيْعِ الْفَاكِهَةِ.

فجر الأحد 26 رجب 1443هـ.

باب بَيْعِ الْفَاكِهَةِ

1848- قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا: أَنَّ مَنِ ابْتَاعَ شَيْئاً مِنَ الْفَاكِهَةِ مِنْ رَطْبِهَا، أَوْ يَابِسِهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَبِيعُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ، وَلاَ يُبَاعُ شَيْءٌ مِنْهَا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، إِلاَّ يَداً بِيَدٍ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مِمَّا يَيْبَسُ، فَيَصِيرُ فَاكِهَةً يَابِسَةً تُدَّخَرُ وَتُؤْكَلُ، فَلاَ يُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، إِلاَّ يَداً بِيَدٍ، وَمِثْلاً بِمِثْلٍ، إِذَا كَانَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ صِنْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يُبَاعَ مِنْهُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ، يَداً بِيَدٍ، وَلاَ يَصْلُحُ إِلَى أَجَلٍ، وَمَا كَانَ مِنْهُمَا مِمَّا لاَ يَيْبَسُ وَلاَ يُدَّخَرُ، وَإِنَّمَا يُؤْكَلُ رَطْباً، كَهَيْئَةِ الْبِطِّيخِ، وَالْقِثَّاءِ، وَالْخِرْبِزِ، وَالْجَزَرِ، وَالأُتْرُجِّ، وَالْمَوْزِ، وَالرُّمَّانِ، وَمَا كَانَ مِثْلَهُ، وَإِنْ يَبِسَ لَمْ يَكُنْ فَاكِهَةً بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يُدَّخَرُ، وَيَكُونُ فَاكِهَةً قَالَ: فَأَرَاهُ حَقِيقاً أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، اثْنَانِ بِوَاحِدٍ، يَداً بِيَدٍ، فَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الأَجَلِ، فَإِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرمِنا بشريعته الغرّاء وبيانها على لسان خير الورى، سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحبه الكُبراء، وعلى مَن والاهم في الله واتبع سبيلهم وبمجراهم جرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين المُرتقين في الفضل أعلى الذُّرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم برحمته إنه أرحم الرَّاحمين وأكرم الأكرمين. 

وبعدُ،

فيتحدّث الإمام مالك -عليه رضوان الله- في هذا الباب عن بيع الفاكهة والمطعوم بالمطعوم، وما يصح من البيع في المثلي بالتماثُل والتقابض وعدم النّسيئة، وما يكون من جواز التفاضُل بين غير المثليين؛ أي إذا كانا من جنس آخر، وما يكون من منع بيع المبيع قبل قبضه وصحته بعد أن يقبض. 

فيتحدّث في هذا الحديث يقول: "الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا"؛ يعني: علماء المدينة المُنوَّرة: "أَنَّ مَنِ ابْتَاعَ"؛ أي: اشترى "شَيْئاً مِنَ الْفَاكِهَةِ مِنْ رَطْبِهَا، أَوْ يَابِسِهَا"؛ يعني: سواءً كانت الفاكهة رطبة أو يابسة، مجففة "فَإِنَّهُ لاَ يَبِيعُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ"؛ أي: يقبضه؛ لأن الفواكه من جُملة الطعام. وقد تقدَّم معنا:

  • أن العلَّة في الرّبا عند الشَّافعية: الطعمية والنقدية. 

  • وعند الحنفية، الكيل فما جمعه كيل أو وزن فعندهم هذه العلة في الرّبا. 

فالمكيلات لا بُد فيها من التقابُض في المجلس، فلا يجوز فيها النّسيئة وإن كانت من جنسٍ واحد، فلا بُد من التماثل بعدم التفاضُل.

يقول: "وَلاَ يُبَاعُ شَيْءٌ مِنْهَا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، إِلاَّ يَداً بِيَدٍ"، سواءً من جنسه أو من غير جنسه، "وَمَا كَانَ مِنْهَا مِمَّا يَيْبَسُ" وجُفِّف، "فَيَصِيرُ فَاكِهَةً يَابِسَةً" مثل التمر "تُدَّخَرُ وَتُؤْكَلُ، فَلاَ يُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ" أيضًا، "إِلاَّ يَداً بِيَدٍ" مناجزة، "وَمِثْلاً بِمِثْلٍ، إِذَا كَانَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ"، إذا كان من نفس النوع. 

"فَإِنْ كَانَ مِنْ صِنْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَلاَ بَأْسَ"؛ أي: يجوز "بِأَنْ يُبَاعَ مِنْهُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ"، لكن بشرط أن يكون يَداً بِيَدٍ، "وَلاَ يَصْلُحُ إِلَى أَجَلٍ"، لأجل وجود علة ربا النَّسأ وهي عندنا وعند المالكية: الطعم، فكل طعام لا يجوز فيه بيع بعضه ببعضه مؤجلًا، ولا أن يتفرّقا قبل أن يقبض كل منهما ما بايع عليه. 

قال: "وَلاَ يَصْلُحُ إِلَى أَجَلٍ، وَمَا كَانَ مِنْهُمَا"؛ أي: من الفواكه "مِمَّا لاَ يَيْبَسُ وَلاَ يُدَّخَرُ، وَإِنَّمَا يُؤْكَلُ رَطْباً، كَهَيْئَةِ الْبِطِّيخِ، وَالْقِثَّاءِ"؛ الخيار، "وَالْخِرْبِزِ"؛ نوع أصفر من البطيخ، "وَالْجَزَرِ، وَالأُتْرُجِّ"؛ الذي مثّله النَّبي بالمؤمن "الذي يَقْرَأُ القُرْآنَ، مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ، رِيحُها طَيِّبٌ وطَعْمُها طَيِّبٌ"، نوعٌ من النبات يشبه الحبحب وهو أكثر قسوة منه، له رائحة طيبة، وله طعمٌ طيّب. "وَالْجَزَرِ"، يقال: في الجُزر والجِزر والجَزر، "وَالْمَوْزِ، وَالرُّمَّانِ" كل هذا ما يُجفّف، "وَمَا كَانَ مِثْلَهُ"، من الفواكه الأخر التي تؤكل رطبة، لا تُدّخر. "وَإِنْ يَبِسَ" هذه الأنواع التي أشار إليها "لَمْ يَكُنْ فَاكِهَةً"؛ أي: ما يُسمى "بَعْدَ ذَلِكَ"، فاكهة، "وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يُدَّخَرُ، وَيَكُونُ فَاكِهَةً" مثل العنب يتحول إلى زبيب، والرُّطب يتحول إلى تمر. 

"قَالَ: فَأَرَاهُ حَقِيقاً"؛ يعني: أراه مستحقًا "أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، اثْنَانِ بِوَاحِدٍ"، بعد أن يُبسيه لأنها عنده لم يبقّ فيه علة الطعم موجودة، قال: "فَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الأَجَلِ، فَإِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ". 

  • يعني: لا يزال علة الرّبا موجودة بوجود الطعم وإن كان يابسًا، ولكنه ما دام مما لا يُدّخر، أسقط فيه الإمام مالك التماثل، وأباح فيه التفاضل لكن أن يكون يَداً بِيَدٍ، هذا مذهب الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-. 

  • ولا فرق عند الشَّافعية بين ما جفّ وما لم يجِف، مما يُعتاد جفافه ومما لا يُعتاد إن كان من جنسٍ واحد. فلا بُدّ من الشروط الثلاثة: 

    • وهو التماثل. 

    • والتقابض في المجلس. 

    • والإنجاز بأن لا يكون بأجل ولا نسيئة.

وهكذا فيما أشار إليه من بيع المبيع قبل قبضه، فلا يصح بيع المبيع حتى يُقبض سواءً كان ذلك المبيع منقولًا أو عقارًا. وإن أذن البائع وقبض الثمن، لما جاء عن رسول الله ﷺ: أنه قال له سيِّدنا حكيم بن حزام: إني أشتري بيوعًا، فما يحل لي منها؟ وما يحرم عليّ؟ فقال: "إذا اشتريت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه". فيكون الملك ضعيف قبل القبض، بالإمكان انفساخ العقد بتلفه وما إلى ذلك. فإذًا؛ لا يجوز بيع المبيع حتى يقبضه المشتري، وقبض كل شيء بحسبه. 

  • فما كان منقولًا؛ بنقله عن مكانه واستلامه. 

  • وما لم يكن كذلك؛ بتسليم المفاتيح لمثل البيت. 

  • وبالإخلاء بينه وبين العقار وما إلى ذلك.

ويقول الحنفية: 

○ إن كان منقول؛ لا يصح بيعه قبل قبضه، ولو من بائعه من أجل هذا الحديث. 

○ وأما ما كان من عقار فعندهم القول بجواز بيعه ولو قبل القبض.

وكما سمعنا في إشارة الإمام مالك أن العلة عنده، إذا كانت الطعمية موجودة. 

  • فالمَطعوم بالمطعوم: 

    • يجب أن يكون يَداً بِيَدٍ. 

    • ولا يصح فيه النّسيئة. 

    • ويجب التقابض في الحال. 

وأما غير الطعام 

  • عند المالكية: فيجوز بيعه قبل القبض، وخصّصوا بحديث "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه"، فقالوا: إنه خصّصه بالطعام.

  • وجاء روايات عن الإمام أحمد بن حنبل: فالرواية المشهورة في مذهبه لا يجوز بيع الطعام وما يشبهه قبل قبضه؛ سواءً كان مكيلًا أو موزونًا. 

  • وجاءت رواية عن الإمام أحمد: 

    • أن ما كان مُتعينًا مثل الصُبرة؛ تباع  من غير كيل؛ يجوز بيعها قبل قبضها. 

    • وما ليس بمتعيّن مثل قفيز من صُبرة، رطل من زُبرة حديد؛ لا يجوز بيعها قبل قبضها حتى تُكال أو تُوزن أولًا. 

  • ورواية ثالثة عن الإمام أحمد: أنه لا يجوز بيع شيءٍ قبل قبضه أصلًا، وهذه وافق فيها الإمام الشَّافعي. 

  • والمشهور في مذهب الإمام أحمد -عليه الرحمة-: أن المكيل، والموزون، والمعدود، والمذروع؛ لا يصح تصرُّف المشتري فيه قبل قبضه من بائعه؛ فبقي كمذهب الإمام أبي حنيفة في غير الموزون والمكيل والمذروع.

وعَلِمنا أن ربا الفضل يحرم في السبعة الأصناف المذكورة في الحديث بالاتفاق. وفيما عداها، فما علة التحريم؛ هذا الذي أشرنا إليه إلى مذهب الإمام الشَّافعي: أن العلة الطعمية أو النقدية. وإلى مذهب الإمام أبي حنيفة: أنه الكيل والوزن. 

أما السبعة الأصناف فمتفق عليها: الذهب، والفضة، والبُر، والشعير، والتمر، والزبيب، والملح؛ هذه منصوص عليها في الحديث، فمتفق على وجود الربا بالتفاضل فيها وبالنسيئة وبالتفرُّق قبل القبض. 

فإذًا؛ 

  • الظاهرية قصروا الربا في هذه الأصناف المنصوص عليها. 

  • قال آخرون: بل الحكم يتبع العلة. 

    • فمذهب الإمام أبي حنيفة كما أشرنا وهو الرواية المشهورة عن الإمام أحمد: أن العلة فيها الكيل والوزن؛ فالمكيل والموزون سواءً من الأصناف المذكورة في الحديث وغيرها، لا بُد فيها من الحلول والتقابض. وإن كان من جنس واحد، فلا بُد من التماثل. 

    • ورواية ثانية عن الإمام أحمد مثل الإمام الشَّافعي: أنه يقول العلة فيه النقدية والطعمية. وهو أيضًا كما سمعت مذهب الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-. 

ويتابع في بيع الذهب بالفضة تِبرًا وعينًا، والله أعلم. 

رزقنا الله الإيمان واليقين والفقه في الدِّين، والمتابعة لحبيبه الأمين والاقتداء به، والسير في دربه والشرب من شربه، ووقانا من الأسواء ووفّر حظنا من ذكر الإسراء والمعراج، ومن إراءة الرَّحمن حبيبه الآيات الكبرى في ليلة المعراج والإسراء، ومن الحبيب ﷺ، وفّر الله حظنا في كل اعتبار وادّكار واستنارة وقُرب ودنوّ ومجد وفَهم ومعرفة وإدراك ومعارف ولطائف ووصلة ورابطة وارتقاء، وتحقق بالتُقى والشرب من شراب خير ما يُسقى في عافية، بنية أن الله يفرج كروب أمته ويدفع البلاء عنا وعنهم، ويحوّل أحوالهم إلى أحسن الأحوال في لطف وعافية بِسِرّ الفاتحة، وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

30 رَجب 1443

تاريخ النشر الميلادي

03 مارس 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام