شرح الموطأ - 320 - كتاب الرضاع: باب رَضَاعَةِ الصَّغِير

شرح الموطأ - 320 - كتاب الرضاع: باب رَضَاعَةِ الصَّغِيرِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الرضاع، باب رَضَاعَةِ الصَّغِيرِ.

فجر الثلاثاء 29 جمادى الآخرة 1443هـ.

 باب رَضَاعَةِ الصَّغِير

1768- حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبَرَتْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أُرَاهُ فُلاَناً". لِعَمٍّ لِحَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ كَانَ فُلاَنٌ حَيًّا -لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ- دَخَلَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "نَعَمْ، إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلاَدَةُ".

1769- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَ عَمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ يَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ عَلَيَّ، حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "إِنَّهُ عَمُّكِ فَأْذَنِي لَهُ". قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ، وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ. فَقَالَ: "إِنَّهُ عَمُّكِ، فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ". قَالَتْ عَائِشَةُ: وَذَلِكَ بَعْدَ مَا ضُرِبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلاَدَةِ.

1770- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أبِي الْقُعَيْسِ، جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا، وَهُوَ عَمُّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَ الْحِجَابُ، قَالَتْ: فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ عَلَيَّ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَلَيَّ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته وأحكامها وبيانها على لسان عبده المُصطفى، سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه ومَن حظي بولائه ومتابعته والائتمام به، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورسله سادات أهل رضوان الله وقُربه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المُقرّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.

وابتدأ الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- يذكر الأحاديث المُتعلِّقة بالرضاع. 

  • الرَضاع والرِضاع -بفتح الراء وبكسرها-؛ ما يصل من اللَّبن إلى جوف الطفل من لبن المرأة الآدمية، ما يصل إلى جوف الطّفل هو المسمى بالرضاع.

 يترتب عليه أحكام. الأحكام التي تترتب عليه فيما يتعلق بالمحرمية:

  • من حيث حُرمة النِّكاح. 

  • ومن حيث جواز الدُّخول والخلوة.

  • وأن يكون محرمًا في السَّفر.

 فهذه الأشياء التي تثبت. أما ما يتعلق بالنفقات، وما يتعلق بالميراث أو نحو ذلك؛ فلا دخل له في هذا الأمر، ولا يثبت بالرضاع من ذلك شيء. إنما يختص الرّضاع بالمحرمية من حيث تحريم النِّكاح ومن حيث جواز النَّظر والخلوة. 

يقول: كتاب الرضاع، "باب رَضَاعَةِ الصَّغِير"؛ في إشارة إلى أنه يشترط أن يكون الرضيع دون الحولين، لقول الله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) [البقرة:233]، فما بعد الحولين من الرضاع، ما يؤثر ولا يصير ذلك الرضيع ابنًا لمرضعته ولا لزوجها.

  • بذلك قال الشَّافعية والحنابلة والمُفتى به كذلك عند الحنفية. 

  • وقال المالكية: بزيادة شهرٍ أو شهرين فوق الحولين، وألّا يُفطم قبل انتهاء الحولين بطعام يستغني فيه بالطعام عن اللَّبن. فإذا فُطم واستغنى بالطعام عن اللَّبن ثم جاءت امرأة وأرضعته؛ فلا يُحرِّم عندهم، وإن كان دون الحولين لأنه قد استغنى بالطعام. 

  • وقال غيرهم: الشرط الحولان. 

  • ويُروى عن أبي حنيفة: حولان ونصف، ولا يحرم بعد هذه المدة، ولكن المفتى به عند الحنفية، أنه حولان فقط، كما يقول الشَّافعية، ويقول الحنابلة كذلك. وهو قول أبي يوسف ومُحمَّد من الحنفية فبه يُفتى، ويُروى عن الإمام أبي حنيفة، حولان ونصف حول.

وأورد لنا في هذا أحاديث، منها هذا الحديث يقول: "عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبَرَتْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ"؛ يعني: كان عندها ﷺ في حجرتها "سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ"، أم المؤمنين بنت عُمَر؛ لأنها كانت ملاصقة لبيت عائشة. قال: "قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أُرَاهُ فُلاَناً". لِعَمٍّ لِحَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ"؛ وهو أخو أبيها من الرضاعة؛ وأبوها من الرضاعة؛ زوج المرأة التي أرضعتها؛ صار زوج المرأة التي أرضعت حفصة أبًا لحفصة من الرضاعة، فإخوانه صاروا أعمامًا لها من الرضاعة. "فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ كَانَ فُلاَنٌ حَيًّا"؛ سمّت رجل لعم لها -لعائشة- من الرضاعة "دَخَلَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: نَعَمْ، إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلاَدَةُ". ففيه: بيان السُّنّة لحكم الرضاع، فإنه لم يأتِ معنا في القرآن إلا: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ) [النساء:23]، ولكن بيّنت لنا السُّنّة أنه في الرضاع يأتي الأصناف السَّبع المحرّمات من النّسب كلهن، المحرّمات بسبب بالولادة: 

  1. الأمهات 

  2. والبنات 

  3. والأخوات

  4. والعمات

  5. والخالات

  6. وبنات الأخ

  7. وبنات الأخت

 كله يأتي من الرضاع  لقوله : "إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلاَدَةُ". والحديث في الصَّحيحين وغيرهما. فكأنها استنكرت رجل يريد أن يدخل إلى الحجرة؛ حجرة السَّيدة حفصة؛ بيت النَّبي 

قالت: "سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ". قالت: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ"؛ يدخل بيتك؛ يعني وأهلك هناك في البيت. كيف يدخل الرجل إلى بيتك وهو أجنبي؟! "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أُرَاهُ فُلاَناً". لِعَمٍّ لِحَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ". قالت: لو كان فلان حي -عمّها من الرضاع- كان يدخل عليّ؟ قال ﷺ: "نَعَمْ، إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلاَدَةُ"؛ أي: كل من يتعلّق به التحريم بسبب الولادة، يتعلق به التحريم بسبب الرضاعة. فكما أن الولادة تُحرّم الأعمام والإخوة والأجداد؛ فكذلك الرضاعة، سبب الرضاعة. 

إذًا؛ فما يتعلّق بتحريم النِّكاح وتوابعه، وانتشار الحرمة بين الرضيع وأولاد المرضعة، وتنزيلهم منزلة الأقارب في جواز النَّظر والخلوة والمُسافرة، هذا بالإجماع. ولا يترتب عليه باقي أحكام الأمومة: 

  • لا في التّوارث 

  • ولا في وجوب النّفقة 

  • ولا في العتق بالملك كذلك 

  • ولا في بطلان الشّهادة 

  • ولا في العقل؛ في الدية؛ ما يدخل في العاقلة 

  • ولا يدخل في إسقاط القصاص إذا قتله وقال: أنا أبوه من الرضاع. يُقال له: ونقتلك به أيضًا.. فالأصل ما يُقتل قصاصًا للفرع إذا كان من نسب لا بالرضاع؛ لا يتعلق بالرضاع حكم بهذا. 

إنما في ما يتعلق بجواز النظر، وجواز المُسافرة معه، وبجواز الخلوة، وبتحريم النّكاح فقط هذا الذي يترتب من الأحكام على الرضاعة.

والرضاع يغيّر الطّباع؛ أي: 

  • إذا أرضعت الولد صالحة وتقية، سَرَت سراية الصلاح إلى الرضيع. 

  • وإن أرضعته فاجرة وشريرة، سرى الشّر والفجور إلى الرضيع. 

لذا كانوا يتحرّون ألّا يرضع أولادهم إلا أهل التُّقى، ويشترطون عليهنّ عند الرضاع أن يشتغلن بالذكر: إما تلاوة قرآن، وإما صلاة على النَّبي مُحمَّد، وإما تسبيح أو تهليل طيلة ما ترضع لأن لذلك آثار. وأما من ترضع ولدها وهي تتفرج على المناظر السيئة، ومن ترضع ولدها وهي تغتاب الناس مع من عندها، فيوشك أن تسري الظلمة والكدورة والشّر إلى قلب الصّبي وإلى روح الصّبي بسبب الرضاع، ولهذا قالوا الرضاع يغيّر الطباع.

وتترتب عليه هذه الأحكام التي أشرنا إليها. يقول: "عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَ عَمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ يَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ"، هذا آخر غير الذي ذكرته الذي مات في الواقعة الأولى، هذا لا يزال حيّ؛ اسمه أفلح. وأفلح هذا هو أخو أبو القعيس، وأبو القعيس زوجته أرضعت عائشة أم المؤمنين. فلما أرضعتها زوجته صار أبو القعيس أبًا لعائشة من الرضاع، فصار أفلح هذا أخو أبو القعيس عمًّا لعائشة من الرضاعة.

"قَالَتْ: جَاءَ عَمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ يَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ"؛ أي: الدخول إلى بيتها، "فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ عَلَيَّ"، فإن آيات الحجاب قد نزلت، ولم تعلم أن حكم العم من الرضاع حكم العم من النّسب في جواز الدخول، لم تكن تعلم ذلك، وفيه أنه ابتنى الحال عندهم في مجتمعهم الإيماني على الغيْرة، وعلى اتقاء الحُرمات، وعلى الحياء والحشمة، فأشكل عليها شأن عمها من الرضاع. "فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ عَلَيَّ، حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ"، حتى ترى هل الحكم في الشَّريعة أنه مثل العم من النّسب في الظُّهور عليها أوَ ليس كذلك؟ فاحتاطت ولم تأذن لعمها حتى تسأل النَّبي مُحمَّد صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.

يقول: تقول "حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ"، قالت: "فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ عَمُّكِ"؛ أي: ثبتت له العمومة بالرضاع "فَأْذَنِي لَهُ" في الدخول. "قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ"، زوجة هذا، "وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ" أبو القعيس هذا. هل أنا أرضعت من أبو القعيس حتى يصير أخوه عم لي، إنما أرضعتني المرأة زوجة أبو القعيس "وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ" الذي هو أخوه حتى يكون هذا عمي.. 

وقالت في رواية جاءت في الصَّحيحين، قالت: يا رسول الله إن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، "فَقَالَ : إِنَّهُ عَمُّكِ، فَلْيَلِجْ"؛ أي: فيدخل "عَلَيْكِ". إذًا؛ فتنتشر الحُرمة لمَن ارتضع الصغير بلبنه، فلا تحلِّ بنت زوج المرأة التي أرضعته من غيرها. يقول: "فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ". 

فكيف تأتي لنا هذه القصة وقد سبقت قصة حفصة، وقالت السيدة عائشة: لو كان عمي فلان -عمها من الرضاع- حي لدخل عليّ؟ قال لها: نعم. فقد علمت الحُكم، فلمَ لم تأذن لعمها لمّا جاء؟ وإن كانت هذه مُتقدّمة، فلِمَ أشكل عليها استئذان الرجل في بيت حفصة؟ الذي تقدَّم معنا. فيُقال: أن الذي تقدَّم إنما قصتها هي في منعها لعمها أن يدخل عليها، فلمَّا سمعت صوت رجل لم تعلم مَن هو؛ صوت الرجل الذي يستأذن في بيت حفصة، لم تعلم مَن هو. فلمَّا أخبرت النَّبي قال: "أُرَاهُ فُلاَناً" عمها، فتذكرت انتشار تحريم المحرمية من الرضاع، فذكرت عمها الآخر الميت فقالت: ولو كان فلان حي، لدخل؟ قال: نعم. وأكّد الحكم الذي قد علّمها سابقًا بقوله: "إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلاَدَةُ".

وجاء في قصة أخرى ثالثة، عن عائشة أن النَّبي دخل عليها وعندها رجل، فكأنه تغيّر وجهه ﷺ، قالت: إنه أخي. قال: انظُرن مَن إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة؛ يعني: ما هو مجرد أي رضاع، ولكن الرضاع الذي يُشبع أو يتغذى به. كما جاء في الخبر الآخر: "إنما الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم"؛ هذا يكون الرضاع، ولهذا جاء: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان، ولا المصّة ولا المصّتان"، فأراد أن تُستجمع شروط الرضاع المحرِّم. "قَالَتْ عَائِشَةُ: وَذَلِكَ بَعْدَ مَا ضُرِبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ"، وقد ضُرب في السَّنة الخامسة من الهجرة في شهر ذي القعدة. "وَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلاَدَةِ"، فأفتت بما سمعت من رسول الله وفهمت عنه ﷺ.

وقال: "عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أبِي الْقُعَيْسِ، جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا، وَهُوَ عَمُّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَ الْحِجَابُ، قَالَتْ: فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ عَلَيَّ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَلَيَّ". وهو أيضًا هذا الحديث في الصَّحيحين، وتبيّن الحُكم لعائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها.

قال: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَصَّةً وَاحِدَةً، فَهُوَ يُحَرِّمُ". وهو قول مَن قال: يحرِّم قليل الرضاع وكثيره. 

  • والجمهور: اشترطوا عددًا في الرضاع. 

  • وقال مَن قال بأن قليل الرضاع وكثيره سواء، قال به بعض الصَّحابة كما هو عند أصحاب أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل: أنه يحرِّم قليل الرضاع وكثيره. 

  • والرواية الثانية عن الإمام أحمد: أنه لا بُد من خمس رضعات، وهو الصَّحيح في مذهبهم كما هو عند الشَّافعية. 

  • وجاءت رواية ثالثة عن الإمام أحمد كمذهب الحنفية: أنه ثلاث رضعات؛ يعني الثلاث من بعد "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان، ولا المصّة ولا المصّتان". قالوا معناه ثلاث تُحرّم، فجعلوه بالثلاث. 

  • واستدل الشَّافعية والحنابلة في المعتمد عندهم أنه كان فيما أُنزل عشر رضعات معلومات يُحرِّمن، فنُسِخنَ بخمس فصار التحريم يترتّب على خمس رضعات.

وهكذا تأتي بقية أحكام الرضاعة معنا، والله يصلح شؤوننا والمسلمين .

فلا يتعلق الحكم إلا بلبن المرأة التي تهيأت للولادة ويتعلق بلبنها التحريم. أما لو ثار لبنٌ في ضرع رجل، فأرضع أحدًا، فلا يترتب عليه حكم! ولو ارتضعوا من ثدي بقرة أو غنمة، لم يؤثر ذلك شيء. ولو شربوا من لبن ناقة واحدة، لم يؤثر ذلك شيء لأن الأخوّة تبع للأمومة، ولا تثبت أمومة ما يتأتى حيوان أم لآدمي ما يتأتى!.. فلا يتأتى الأخوة، إنما تترتب الأخوة على الأمومة؛ إذا ثبتت الأمومة ثبتت الأخوة؛ وهذا ما تثبت به أخوّة ولا أمومة ولا أبوّة، ما يتأتى يكون حيوان أب لإنسان ولا حيوان أم لإنسان، فلا يتأتى أن لبنه يصيّرهم أخوان!... لكن لا بُد من رضاع امرأة قد بلغت أوان الحيض، وبلغت وتهيأت أن تكون أمّ ولد.

جعلنا الله من المُقبلين بالكلّية عليه، وأقبل بوجهه الكريم علينا، ورزقنا ارتضاع ألبان الصِّدق معه والوجهة إليه، والاتباع لحبيبه مُحمَّد، ومحبته ومحبة رسوله حتى يكون ورسوله أحب إلينا مما سواهما، وأن يصلح شؤوننا والمسلمين ويتولّانا بموالاته في كل شأن وحال وحين، وأن يبارك لنا في خاتمة شهر جمادى الآخرة، وأن يبارك لنا في هلال شهر رجب، ويجعله من أبرك الشهور علينا وعلى أُمة حبيبه المقرّب، وأن يدفع عنهم البلايا والنَّصب والتَّعب والشَّغب، وأن يحول أحوالهم إلى أحسن الأحوال المرضية له ولحبيبه الأطيب، وأن يفرّج كروب المسلمين ويجعلنا في الهداة المهتدين، ويحققنا بحقائق الاستغفار وصدق الإقبال آناء الليل وأطراف النهار عليه -سبحانه وتعالى- مخلصين لوجهه مقبولين عنده، بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.

 

 

تاريخ النشر الهجري

08 رَجب 1443

تاريخ النشر الميلادي

09 فبراير 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام