شرح الموطأ - 316 - كتاب الطلاق: باب مَقَام المُتَوَفَّى عنها زوجها في بيتها حتى تَحِلَّ

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطلاق، باب مَقَامَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فِي بَيْتِهَا حَتَّى تَحِلَّ.
فجر الأربعاء 23 جمادى الآخرة 1443هـ.
باب مَقَامَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فِي بَيْتِهَا حَتَّى تَحِلَّ
1734 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أَنَّ الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ - وَهِيَ أُخْتُ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ – أَخْبَرَتْهَا: أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَسْأَلُهُ، أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ، فَإِنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِطَرَفِ الْقَدُومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ. قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي فِي بَنِي خُدْرَةَ، فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلاَ نَفَقَةَ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "نَعَمْ". قَالَتْ: فَانْصَرَفْتُ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، أَوْ أَمَرَ بِي فَنُودِيتُ لَهُ، فَقَالَ: "كَيْفَ قُلْتِ؟". فَرَدَّدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِي، فَقَالَ: "امْكُثِي فِي بَيْتِكِ، حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ". قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ.
1735 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَرُدُّ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ مِنَ الْبَيْدَاءِ، يَمْنَعُهُنَّ الْحَجَّ.
1736 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ السَّائِبَ بْنَ خَبَّابٍ تَوَفَّى، وَإِنَّ امْرَأَتَهُ جَاءَتْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَذَكَرَتْ لَهُ وَفَاةَ زَوْجِهَا, وَذَكَرَتْ لَهُ حَرْثاً لَهُمْ بِقَنَاةَ، وَسَأَلَتْهُ هَلْ يَصْلُحُ لَهَا أَنْ تَبِيتَ فِيهِ، فَنَهَاهَا عَنْ ذَلِكَ، فَكَانَتْ تَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ سَحَراً، فَتُصْبِحُ فِي حَرْثِهِمْ، فَتَظَلُّ فِيهِ يَوْمَهَا، ثُمَّ تَدْخُلُ الْمَدِينَةَ إِذَا أَمْسَتْ فَتَبِيتُ فِي بَيْتِهَا.
1737 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْمَرْأَةِ الْبَدَوِيَّةِ، يُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا: إِنَّهَا تَنْتَوِي حَيْثُ انْتَوَى أَهْلُهَا.
قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا الأَمْرُ عِنْدَنَا.
1738 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لاَ تَبِيتُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَلاَ الْمَبْتُوتَةُ إِلاَّ فِي بَيْتِهَا.
نص الدرس مكتوب:
الحمدُ لله مُكرِمنا بشريعته وبيانها على لسان خير بريّته، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحابته، وأهل ولائه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المرتقين في الفضل أعلى ذروته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
يذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- المكان الذي تقيم به المُعتدَّة إذا مات عنها زوجها، فأين تسكن؟ وأين تقيم؟ وتلازم المسكن. فيقول: "باب مَقَامَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا"؛ أي: المكان الذي تقيم فيه مقامها المتوفى زوجها "فِي بَيْتِهَا حَتَّى تَحِلَّ"؛ أي: تخرج من العِدَّة. فعلى المتوفى عنها زوجها أن تعتدَّ في منزلها الذي تسكنه من قبل وفاة زوجها، فتلازم ذلك المسكن، وعلى هذا عامة الصَّحابة وأكثر الصَّحابة والتابعين، وعليه الأئمة الأربعة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى- أنها تواصل العِدَّة في السكن الذي تسكنه من قبل وفاة زوجها.
وأورد لنا حديث الْفُرَيْعَةَ، ويقول: أن "الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ - وَهِيَ أُخْتُ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ-" بنت مالك بن سنان "أَخْبَرَتْهَا: أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ"؛ أي: ومعها أخوها كما جاء في رواية النَّسائي، "أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَسْأَلُهُ"؛ أي: تستأذن منه "أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ" مكان للأنصار، "فَإِنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ"، كان له مملوكين فأبقوا؛ خرجوا عن الطاعة وتمردوا، فخرج يطلبهم ليعيدهم، "حَتَّى إِذَا كَانُوا بِطَرَفِ الْقَدُومِ لَحِقَهُمْ"، أو القدُّوم موضع على ست أميال من المدينة المنورة، يقال له القدوم أو القدَّوم -بالتشديد- أدركهم، وجدهم هناك وحصّلهم، فقاموا في عنادهم، "فَقَتَلُوهُ"، وصل الخبر إلى زوجته.
"قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي فِي بَنِي خُدْرَةَ"، بعد أن قالت خرج في طلب علاجٍ له من العلوج المملوكين، فأدركهم في طرف القَدوم فقتلوه، فجاء نعي زوجي وأنا في دارٍ من دور الأنصار شاسعة من دار أهلي، يعني بعيدة عن دار أهلي، فأتيت النبي ﷺ فقلت: يا رسول الله إنه قد جاء نعي زوجي، وأنا في دارٍ شاسعة عن دار أهلي ودار إخواني، ولم يدع مالًا يُنفق عليّ، ولا مالًا ورثته، ولا دارًا يملكها؛ أي: الدار التي أسكنني فيها إنما هي بأُجرة أستأجرها أو بإعارة، فأنا ساكنٌ في تلك الدار، فإن رأيت أن تأذن لي فألحق بدار أهلي ودار إخوتي، فيكون أسهل عليَّ من أن أكتسب وأُنفق على نفسي، وأقرب لي في صلاح حوائجي، فإنَّهُ أحبَّ إليّ وأجمع لي في بعض أمري، في البداية قال لها فافعلي إن شئتِ، ثُمَّ تبين منها أنَّ الدار التي تركها ساكنةُ فيهِ لا يزال صالح لِسُكناها، ولا مانع من أن تسكُن فيه، ولا أحد يُخرجها منهُ، فأمرها أن تُلازم البيت.
قالت: "فخرجت قريرةً عيني لما قضى الله لي على لسان رسوله، حتى إذا كنتُ في المَسْجد وفي بعض الحُجر دعاني، فقال: ما زعمتِ؟" إيش قُلتِ؟ ما مسألتكِ وشأنكِ؟ فقصصتُ عليهِ، قال: امكثي في بيتك؛ أي: ما دام البيت الذي تركه لك صالح لسُكناك، ولا خوفٌ عليك فيهِ، ولا ضرر يلحقك من ذلك فاسكُني فيه، حيثُ ترككِ زوجكِ حتى تنقضي العِدَّة. قال: امْكُثِي في بَيْتِكِ الذي جاء فيهِ نعيُّ زوجكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ. وفيه:
-
الإقرار على خُروجها للمسألة، فخرجتْ تسألهُ ﷺ من البيت الذي تسكنُ فيه، وجاءتْ تستفتيه، فلم ينهها عن ذلك ولم يقل لِمَ جِئت إليّ ولكن قال ارجعي إلى هذا البيت، قالت فاعتددتُ فيه أربعة أشهر وعشرًا.
تقول عليها الرضوان: "فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ"؛ أي: ليس بُملكه الذي أسكنها فيه، "وَلاَ نَفَقَةَ" اعتقدت أنَّ للمُتوفى عنها زوجها نفقتها في ماله، أو أن جعلتْ ذلك من عُذرها في الانتقال إلى قومها، لأنَّها ترِث من زوجها إذا كان صاحب مال؛ ولكن أرادت أن تُخبر أنَّه ليس لهُ مال فترِث منه ما يكفيها للنفقة، فأرادت أن يكون هذا عذرًا لذهابها إلى أهلها، فرأى ﷺ أنَّ نفقتها تتيسر عليها وهي في ذلك المسكن ولا ضرر عليها في الإقامة فيه، فأمرها أن تلازمه.
"قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: نَعَمْ"؛ يعني: ارجعي إلى أهلك، "قَالَتْ: فَانْصَرَفْتُ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ" أو أمام بعض الحُجر، أو في المَسْجد، "نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ"؛ إما ناداني بنفسه بصوتهِ الكريم، "أَوْ أَمَرَ بِي فَنُودِيتُ لَهُ"؛ رُدّوا عليَّ فُرَيْعَة بنت مَالِكْ بن سنان، فأرجعوها إليه، "فَقَالَ: كَيْفَ قُلْتِ؟" أعيدي سؤالكِ، فرددت القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، فتبيّن أنَّه يمكن سُكناها بنفس المكان وأنَّه لم يكن هُناك عذرٌ صحيحٌ قوي، يُبيح لها الانتقال إلى مكانٍ آخر، (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ) [الطلاق:1]. "فَقَالَ ﷺ: امْكُثِي فِي بَيْتِكِ، حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ"؛ أي: تنقضي العدة، كما قال تعالى: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) [البقرة:235]، أي: تنقضي العدَّة.
"قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ"؛ أي: المسكن الذي تركهُ زوجي، "أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ"؛ يعني: صار عثمان بن عفان رضي الله عنه أميرًا للمؤمنين، فوقعت مسألة مثلها، فأرسل إلي رسولاً، لأنه سأل نسائه هل عند أحد عِلِم عن رسول الله ﷺ في هذه المسألة، مكان اعتداد المرأة إذا توفي عنها زوجها؟ قالوا هذه فُرَيْعَة بنت مَالِكْ بن سنان، لا زالت حية وهي تُوفي عنها زوجها في حياة النَّبي ﷺ وسألتهُ، فأرسل إليها سيدنا عثمان، فجاءتْ إليه قالت: "فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرْتُهُ" بالقصة بقضاء رسول الله ﷺ الذي قضاه، قالت: "فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ"، ولم يزل ذلك على مرأى من الصَّحابة -عليهم الرضوان- وأقرّوا كلهم بذلك، وأنَّه قضاء رسول الله ﷺ فكان على ذلك جماهير الصحابة.
يقول: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَرُدُّ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ مِنَ الْبَيْدَاءِ، يَمْنَعُهُنَّ الْحَجَّ"؛ فلا يجوز للمُعتدَّة أن تذهب إلى حجٍ ولا إلى غيره من أنواع القُربات، ولا تخرج الا للضرورة،
-
إمّا إستفتاء في الدين.
-
أو كسب لقوت اليوم والليلة وما تعلق بذلك.
ولغير ذلك لا تخرج من مسكنها. فلمّا بلغه أن بعض النساء في العِدِّة الوفاة خرج يُرِدن الحج أمر بهنَّ "مِنَ الْبَيْدَاءِ"؛ من الصحراء، أن يرجعنَّ إلى بيوتهنَّ ولا يحجُجنَّ، وهكذا قال عامةُ أهل العلم: لا يجوز للمُعتدَّة أن تذهبَ إلى الحج، فإذا سافرت إلى الحج فتوفي زوجها فكان عليها العِدة، فماذا تصنع؟
-
إن كانت قريبة ولا مشقة عليها في الرجوع ولم تُحْرِم بعد، فترجع.
-
وإن كانت قد بعدت عن المكان وتحتاج الى سفر على كل حال ويشقّ عليها الرجوع فتمضي في حجّتها ثم تعود فتمكُث بقية العِدة.
"كَانَ يَرُدُّ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ مِنَ الْبَيْدَاءِ"، فليس لها ان تحجَّ حتى الفريضة حتى تنقضي عدتها سواءً من وفاة أو طلاق.
ويقول: "أَنَّ السَّائِبَ بْنَ خَبَّابٍ تَوَفَّى، وَإِنَّ امْرَأَتَهُ جَاءَتْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ"، السائب بن خبَّاب يُكنى أبو مُسلم، مولى فاطمة بنت عُتبة، وله صحبة مع النبي ﷺ، "تَوَفَّى، وَإِنَّ امْرَأَتَهُ" أُم مُسلم ويقال أُم سُليم، "جَاءَتْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ"؛ أي: تستفتيه، "فَذَكَرَتْ لَهُ وَفَاةَ زَوْجِهَا, وَذَكَرَتْ لَهُ حَرْثاً لَهُمْ بِقَنَاةَ"؛ موضع في المدينة المنورة، في جانب المدينة، ويُطلق على مجرى الماء تحت الأرض: قناة، وهو موضع هناك لهم فيه مزرعة، أي تأكل منها، تحتاج للعمل فيها من أجل نفقتها، "وَسَأَلَتْهُ هَلْ يَصْلُحُ لَهَا أَنْ تَبِيتَ فِيهِ"؛ أي: تبيت في محلها في المزرعة، محل العمل، "فَنَهَاهَا عَنْ ذَلِكَ"، قال: لا، لا تبيتي إلاَّ في المسكن. قالت: "فَكَانَتْ تَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ سَحَراً"؛ أي: لضرورة العمل لأجل نفقتها "فَتُصْبِحُ فِي حَرْثِهِمْ"؛ أي: تصل إليه بعد الفجر، "فَتَظَلُّ فِيهِ يَوْمَهَا، ثُمَّ تَدْخُلُ الْمَدِينَةَ"، في آخر النهار، "إِذَا أَمْسَتْ فَتَبِيتُ فِي بَيْتِهَا"، فهذا خروج المرأة لحاجة النفقة، إذا لم يكن معها ما تنفقُ على نفسها.
وذكر: "عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْمَرْأَةِ الْبَدَوِيَّةِ، يُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا: إِنَّهَا تَنْتَوِي حَيْثُ انْتَوَى أَهْلُهَا"؛ يعني: حيث استقرّوا، وحيث سكنوا، وحيث انتقلوا تنتقل معهم، والمراد: أن أهل البدوية يتتبعون أماكن القَطر، وأماكن الكلأ، فلا يستقرّون في مكان، فإذا انتقلوا إلى مكان آخر قال: تنتقل مع أهلها لا تبقى وحدها مُعرّضة للخطر، لا.. بل لأجل الضرورة والحاجة تنتقل معهم، فإذا كان أثناء العِدَّة سار بهم طلب الرعي وطلب الماء من مكان إلى مكان، فتمشي معهم، ولا تبقى وحدها في مكان بدون أهلها فتتعرض للخطر، فلهذا العذر يجوز لها أن تنتوي حيث انتوى أهلها، أي: تنزل حيث نزلوا.
وهكذا في قالوا في المرأة البدوية يريد الذين ينتقلون وليس معهم محل؛ أمَّا في البادية معهم مساكن، فتسكن معهم، تسكن في المكان نفسه الذي يسكنوا فيه، ولا يجوز لها الإنتقال، وإن انتقل بعض جماعتها؛ إلاَّ ألاَّ تكون مساكن لهم ويضربون خيامهم، فينتقلون من مكان إلى مكان فتتبعهم حيث ما انتقلوا.
"قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا الأَمْرُ عِنْدَنَا"؛ يعني: أثر عروة، الأمر الثابت في المسألة؛ تنتوي حيث انتوى أهلها.
وذكر: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لاَ تَبِيتُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَلاَ الْمَبْتُوتَةُ إِلاَّ فِي بَيْتِهَا"؛ أي: إن اقتضت الحاجة خروجها نهارًا فليس لها المبيت إلاَّ في بيتها الذي يضمّها، والذي تُوفّي زوجها وهي ساكنةٌ فيه أو أعدّهُ لسُكناها، والله أعلم.
رزقنا الله الإيمان واليقين، والاقتداء بحبيبهِ الأمين، وأصلح شؤوننا وشؤون المسلمين أجمعين، ودفع الآفات عنّا وعن جميع المؤمنين، وحوّل الأحوال لأحسنها، وختم لنا بأكمل الحُسنى وهو راضٍ عنا في لطفٍ وعافية والى حضرة النَّبي ﷺ.
28 جمادى الآخر 1443