شرح الموطأ - 312 - كتاب الطلاق: باب أَجَلِ الذي لا يَمَسُّ امْرَأَتَه

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطلاق، باب أَجَلِ الَّذِي لاَ يَمَسُّ امْرَأَتَه.
فجر الأحد 6 جمادى الآخرة 1443هـ.
باب أَجَلِ الَّذِي لاَ يَمَسُّ امْرَأَتَهُ
1719- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَمَسَّهَا، فَإِنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ أَجَلٌ سَنَةً، فَإِنْ مَسَّهَا، وَإِلاَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا.
1720- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ مَتَى يُضْرَبُ لَهُ الأَجَلُ، أَمِنْ يَوْمِ يَبْنِي بِهَا، أَمْ مِنْ يَوْمِ تُرَافِعُهُ إِلَى السُّلْطَانِ؟ فَقَالَ: بَلْ مِنْ يَوْمِ تُرَافِعُهُ إِلَى السُّلْطَانِ.
1721- قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا الَّذِي قَدْ مَسَّ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ اعْتَرَضَ عَنْهَا، فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْ أَنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ أَجَلٌ، وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته وبيانها على لسان خير بريته سيِّدنا مُحمَّد عبد الله وصفوته، اللَّهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك المُصطفى سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحابته، وعلى أهل ولائه ومحبته ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين سُرج دين الله وملّته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
فيذكر الإمام مَالِك -عليه رضوان الله تعالى- في هذا الباب حُكم مَن إذا تزّوج فوجدته المرأة غير قادر على الجِماع وغير قادر على أن يمسّها. وثبت باجتهاد سيِّدنا عُمَر -رضي الله تعالى عنه- أن يؤجّل إذا ترافعا إلى الحاكم إلى سنة، فتمر به الفصول الأربعة في خلال العام. فإن ابتدأ في أول شهر من الأشهر، فالعبرة بمرور الأشهر. فإن كان في أثناء الشهر، فيبتدأ من الشهر الذي بعده، ويكمل أيام ما كان في أثناء هذا الشهر إلى ثلاثين يوم من الشهر الذي يأتي في العام الذي يليه حتى يكمُل العام بذلك.
وعلى ذلك مضى أكثر أهل العلم -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى- أنه يؤجّل لمدة سنة، وأن هذه من المسائل التي يكون الخيار فيها للزوجة إذا وجدت زوجها عنّينًا، لا يقدر على أن يمسها. فإذا وجدت هذا العيب في زوجها، فلها الحق أن ترافعه إلى الحاكم ثم يؤجّل إلى سنة.
-
قال بعض الحنابلة: لها الحق أن تفسخ في الحال.
-
وجمهور الأئمة الأربعة، على أنها تؤجّل إلى سنة.
فيترك الفرصة للزوج إلى سنة إن قدر على المساس بها واستكمال مقاصد الزوجية فانتهت المسألة وإلا كان لها حق الفسخ.
-
وهذا عند الشَّافعية فسخ لا يُعد طلاقًا.
-
ولكن قال أكثر الأئمة: أنه يُعد طلاقًا.
-
قال الشَّافعية: إنما هذا فسخٌ أوقعه هذا العيب الذي بالزوج كما أن وجدته مجنونًا أو مجذومًا وما إلى ذلك، مما يثبت به حق الخيار.
قال -عليه رحمة الله-: "عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَمَسَّهَا، فَإِنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ أَجَلٌ سَنَةً"، هكذا قال عامة أهل العلم كما سمعت، فتُضرب له سنة لتمرّ به الفصول الأربعة. وكما جاء عن سيِّدنا عُمَر -رضي الله تعالى عنه- أنه أجّل العِنّين سنة، جاء في رواية الدار قطني وغيره، وبذلك حكم ابن مسعود والمغيرة ابن شُعبة ولا مخالف لهم، فتبعهم الأئمة من بعد ذلك.
قال: "فَإِنْ مَسَّهَا"، في هذه المُدة خلال السنة "وَإِلاَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا"؛ أي فإذا انقضت المدة ولم يفيء إليها فلها الخيار. فإن اختارت الفسخ، فيحكم به الحاكم لأجل الاختلاف فيه فيرفع الخلاف أو يفسخ الحاكم.
ويقول: "وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ" الزُّهري "مَتَى يُضْرَبُ لَهُ الأَجَلُ، أَمِنْ يَوْمِ يَبْنِي بِهَا"، أي يدخل بها؛ يتزوج، "أَمْ مِنْ يَوْمِ تُرَافِعُهُ إِلَى السُّلْطَانِ؟"؛ أي: تقدّم الشكوى عليه إلى الحاكم. "فَقَالَ" الزُّهري: "بَلْ مِنْ يَوْمِ تُرَافِعُهُ إِلَى السُّلْطَانِ."، وهكذا جاء أيضًا في رواية ابن أبي شيبة عن الشّعبي، أن عُمَر -رضي الله عنه- كتب إلى شريح: يؤجل سنة من يوم يرفع إليه. من يوم قدّمت عليه ورفعته إلى الحاكم. قال: فإن استطاعها وإلا خيّرها. إذًا، تبتدأ السنة من حين الترافع؛ أجل سنة من يوم ترافعه.
"قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا الَّذِي قَدْ مَسَّ امْرَأَتَهُ"، ولو مرة "ثُمَّ اعْتَرَضَ عَنْهَا"؛ منعه مانع عارض "فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْ"؛ يعني: من أحد من أهل العلم "أَنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ أَجَلٌ"، فليكن هذا كمَن طرأ عليه أمر ينظر فيه ويعالجه وليس من قبيل الأول؛ لأنه ثبت أنه غير عِنّين.
قال: "وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا"؛ يعني: بمجرد ذلك الأمر ما لم تتضرر بعد ذلك. فتأتي اجتهادات الفقهاء في ما بيّنوا في الفروع من إذا تضررت من هذا الذي اعتُرض، فلها الحق بالمطالبة بالطلاق. فأكثر أهل العلم يقولون: متى وطئ امرأته ولو مرة ثم ادّعت عجزه لم تُسمع دعواها ولم تُضرب له مدة، وعليه أكثر الأئمة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-، إلا ما جاء عن أبي ثور يقول أيضًا: أنه إذا طرأ عليه العجز؛ أُجِّل لها. وهذا خلاصة ما مضى عليه الأئمة -عليهم رضوان الله تعالى- في شأن العِنّين.
كذلك لو وجدت المرأة الزوج ذا جنون أو جُذام أو برص فالجمهور أيضًا يقولون: أن لها الخيار، يثبت لها الخيار. ولم يعدّه الشَّافعية طلاقًا، بل عدّه فسخًا. وهكذا أيضًا قولهم في حكم المُعترض وهو الذي قد حصل منه إتيانها ثم اعترض بعد ذلك فلم يتمكن من إتيانها، لم يلحقوا به نفس الحكم ولكن على قول من قال: أنه إذا تضررت بذلك؛ فحكمها حكم التضرر بأي شيء آخر، ليس حكم صاحب العِنّة، والله أعلم.
أحيا الله فينا شريعته، ورزقنا متابعة حبيبه صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله، والعمل على سنته، وملأ قلوبنا بمحبته وتوفانا على ملته، وأصلح أُسر المسلمين ودفع عنهم اتباع أهل الهوى والشّياطين، وجعلنا وإياهم أتباعًا لما بعث به المأمون الأمين، وفرَّج كروبهم أجمعين في لطف وعافية وتمكين بِسِرّ الفاتحة، وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.
07 جمادى الآخر 1443