(228)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطهارة، تتمة باب في التَّيمم، وباب الْعَمَلِ فِي التَّيَمُّمِ.
فجر الأربعاء 8 ذي الحجة 1441هـ.
باب فِي التَّيَمُّمِ
137 - وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ تَيَمَّمَ لِصَلاَةٍ حَضَرَتْ، ثُمَّ حَضَرَتْ صَلاَةٌ أُخْرَى، أَيَتَيَمَّمُ لَهَا، أَمْ يَكْفِيهِ تَيَمُّمُهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: بَلْ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلاَةٍ، لأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَغِيَ الْمَاءَ لِكُلِّ صَلاَةٍ، فَمَنِ ابْتَغَى الْمَاءَ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ.
138 - وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ تَيَمَّمَ، أَيَؤُمُّ أَصْحَابَهُ وَهُمْ عَلَى وُضُوءٍ؟ قَالَ: يَؤُمُّهُمْ غَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَلَوْ أَمَّهُمْ هُوَ لَمْ أَرَ بِذَلِكَ بَأْساً.
139 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ تَيَمَّمَ حِينَ لَمْ يَجِدْ مَاءً، فَقَامَ وَكَبَّرَ وَدَخَلَ فِي الصَّلاَةِ، فَطَلَعَ عَلَيْهِ إِنْسَانٌ مَعَهُ مَاءٌ. قَالَ: لاَ يَقْطَعُ صَلاَتَهُ بَلْ يُتِمُّهَا بِالتَّيَمُّمِ، وَلْيَتَوَضَّأْ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الصَّلَوَاتِ.
140 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: مَنْ قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً، فَعَمِلَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ التَّيَمُّمِ، فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَلَيْسَ الَّذِي وَجَدَ الْمَاءَ بِأَطْهَرَ مِنْهُ، وَلاَ أَتَمَّ صَلاَةً، لأَنَّهُمَا أُمِرَا جَمِيعاً، فَكُلٌّ عَمِلَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَإِنَّمَا الْعَمَلُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْوُضُوءِ لِمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ، وَالتَّيَمُّمِ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّلاَةِ.
141 - وَقَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ الْجُنُبِ: إِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيَقْرَأُ حِزْبَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَتَنَفَّلُ مَا لَمْ يَجِدْ مَاءً، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ بِالتَّيَمُّمِ.
باب الْعَمَلِ فِي التَّيَمُّمِ
142 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّهُ أَقْبَلَ هُوَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنَ الْجُرُفِ، حَتَّى إِذَا كَانَا بِالْمِرْبَدِ، نَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ فَتَيَمَّمَ صَعِيداً طَيِّباً، فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى.
143 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَتَيَمَّمُ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ.
144 - وَسُئِلَ مَالِكٌ كَيْفَ التَّيَمُّمُ، وَأَيْنَ يَبْلُغُ بِهِ؟ فَقَالَ يَضْرِبُ ضَرْبَةً لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةً لِلْيَدَيْنِ، وَيَمْسَحُهُمَا إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ.
الحمد لله مُكرِمنا بالشريعة الغراء الطاهرة، وبيانها على لسان عبده المُجتبى مُحمَّد سيِّد أهل الدنيا والآخرة، اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرِّم على عبدك المُجتبى المُختار سيِّدنا مُحمَّد، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار النجوم السافرة، وعلى مَن تبعهم بإحسان واقتدى بهم في أحواله وشؤونه الباطنة والظاهرة، وعلى آبائه وإخوانه مِنَ الأنبياء والمُرسلين أهل الدرجات العُلا والمراتب الفاخرة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقربين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وابتدأ الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- يذكر في الموطأ الأحاديث المتعلقة بالتَّيَمُّمِ، ومرَّ معنا مسائل في التيمم منها أنَّه، "سُئِلَ مَالِكٌ" عليه رضوان الله تعالى "عَنْ رَجُلٍ تَيَمَّمَ لِصَلاَةٍ حَضَرَتْ، ثُمَّ حَضَرَتْ صَلاَةٌ أُخْرَى، أَيَتَيَمَّمُ لَهَا، أَمْ يَكْفِيهِ تَيَمُّمُهُ ذَلِكَ؟". وذكر الحديث في خروجِه ﷺ إلى غزوة المُرَيسيع -بني المُصطلق- وضياع العقد من السيدة عائشة، وانحباسِهم بمكان ليس فيه ماء، ونزول الآية، وقلنا أنه رجَّح البخاري أنها الآية التي في سورة المائدة، لا التي في سورة النِّساء. فذكر هذه المسألة: المُتيمّم يُصلي بالتيمم الواحد فريضة واحدة، وما شاء من النوافل.
ويذكُر لنا في هذه المسألة "وسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ تَيَمَّمَ، أَيَؤُمُّ أَصْحَابَهُ وَهُمْ عَلَى وُضُوءٍ؟ قَالَ: يَؤُمُّهُمْ غَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَلَوْ أَمَّهُمْ هُوَ لَمْ أَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا." يُبيّن بذلك مسألة إِذا كان الإمام مُتيمّم، والمأموم أو المأمومون على وضوء، فهل يجوز أَنْ يقتدي المُتوضئ بالمُتيمّم؟ فذكر جواز الاقتداء على كراهة عند الإمام مالك، المُشار إليه بقوله: "أَحَبُّ إِلَيَّ،" أنّ يؤمّهم غيره، "وَلَوْ أَمَّهُمْ هُوَ لَمْ أَرَ بِذَلِكَ بَأْساً."فيجوز اقتداء المُتوضئ بالمُتيمم، وهو كذلك عند جماهير الفقهاء.
فيدور الحكم عندهم أنَّه إنْ كان الإمام لا يلزمه القضاء، فيصحّ أنْ يؤمّ بالمتوضئين، وإنْ كان مُتيممًا. وإنْ كان القضاء لازم عليه وهو مُتيمّم أو غير متيمّم، فلا يصح أن يؤمّ ويقتدي به غيره.
وعَلمت أنَّ بقية الحنفية وبقية الأئمة على خلاف ذلك، وأجازوا أنْ يتقدم المُتيمم. واشترط الشافعية، أنْ لا يكون عليه القضاء. كما قال الحنابلة: أنَّ إمامة المُتوضئ أولى مِنْ إمامة المُتيمم؛ ولكن اتفقوا على الجواز.
ثُمَّ ذكر المسألة الثالثة، "قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ تَيَمَّمَ حِينَ لَمْ يَجِدْ مَاءً، فَقَامَ وَكَبَّرَ وَدَخَلَ فِي الصَّلاَةِ، فَطَلَعَ عَلَيْهِ إِنْسَانٌ مَعَهُ مَاءٌ." وهو تيمّم لفقد الماء، فصار الماء موجودًا؛ وجد الماء بعد دخوله الصَّلاة. "قَالَ: لاَ يَقْطَعُ صَلاَتَهُ بَلْ يُتِمُّهَا بِالتَّيَمُّمِ، وَلْيَتَوَضَّأْ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الصَّلَوَاتِ" بعد ذلك. أمَّا هذه فقد دخلها وهو على مسلك صحيح مِنْ طلب الماء فلم يجده، ومِنَ التيمم لقوله تعالى: (..فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا..) [النساء:43] فصلَّى صلاةً صحيحة. فهذه المسألةُ في إذا وجد الماء وكان تيمّم لفقد الماء، فإذا وجد الماء بعد الفراغ مِنَ الصَّلاة أو في أثنائها وقبل الفراغ أو يجد الماء قبل الدخول في الصَّلاة.
إذًا فواجد الماء بعد فقده، قد يكون قبل الصَّلاة؛ فعليه استعمال الماء. وقد يكون أثناء الصَّلاة؛ وهذا الخلاف فيه. وقد يكون بعد الفراغ من الصَّلاة؛ لا يلزمه قضاء؛ لا يلزمه الإعادة، ويُسن له أنْ يُصلي بالوضوء.
وبذلك ذكروا ما يبطُل به التيمم بالنسبة للمُتيمم لفقد الماء؛ أنه يبطُل تيممه: برؤية الماء أو القدرة على استعمال الماء.
فيلزمه عند ذلك أنْ يخرج مِنَ الصَّلاة لبُطلان تيممه. إنْ كان على الخلاف الذي ذكرنا، فإنْ كان قبل دخوله في الصَّلاة، فقد بطَل تيممه برؤية هذا الماء والقُدرة على استعمال الماء.
فإذًا رؤية الماء والقُدرة على الاستعمال؛ تُبطل التيمم، إنْ كان كافيًا باتفاق. وإنْ كان يكفي بعض الوضوء فعند الشافعية والحنابلة، فإنَّه بطل ويستعمل ما استطاع، ثُمَّ يتيمم عن الباقي عند الشافعية.
ويأتي فيه أيضًا التفصيل لمَنْ كان وسط الصَّلاة أو بعد الصَّلاة، وقول الشافعية: أنَّه إنْ كان تلزمه الإعادة، فيبطُل برؤية الماء. يقول: "قالَ: لاَ يَقْطَعُ صَلاَتَهُ بَلْ يُتِمُّهَا بِالتَّيَمُّمِ، وَلْيَتَوَضَّأْ لِمَا يُسْتَقْبَلُ"؛ لأنَّه أدى ما عليه وقد دخل الصَّلاة. قال الآخرون: إنَّه كان أدى ما عليه، فلمَّا وجد الماء، بَطل لقوله: (..فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا..) وهو الآن وجد. كان قبل أنْ يجد الماء مؤديًا ما عليه، أمَّا الآن.. فقد بطل أداء ما عليه لأن عليه أن يتوضأ؛ لأنَّه اشترط في الآية (..فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً..).
ثُمَّ ذكر لنا المسألة الرابعة: "قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ الْجُنُبِ: إِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيَقْرَأُ حِزْبَهُ"؛ يعني: ورده "مِنَ الْقُرْآنِ،" الكريم "وَيَتَنَفَّلُ" ما شاء من النوافل. فيجوز للمُتيمّم أنْ يُصلي مع الفرض ما شاء مِنَ النوافل، وأنْ يقرأ بذلك التيمّم القرآن وإن كان جُنبًا أو يمسّه ويحمله إنْ كان مُحدثًا. وكما يجوز له سجود التلاوة، وسجود الشكر، ويجوز له ما يجوز للمُتوضئ بذلك التيمّم الصحيح.
"قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: مَنْ قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً، فَعَمِلَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ التَّيَمُّمِ، فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَلَيْسَ الَّذِي وَجَدَ الْمَاءَ بِأَطْهَرَ مِنْهُ، وَلاَ أَتَمَّ صَلاَةً، لأَنَّهُمَا أُمِرَا جَمِيعاً، فَكُلٌّ عَمِلَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ،" جلّ جلاله وتعالى في علاه. "عَمِلَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ"؛ يعني: من التيمم، كان مِمَن يجوز له التيمم لاجتماع شروط التيمم، مِنْ عدم الماء بعد الطلب. "وَلَيْسَ الَّذِي وَجَدَ الْمَاءَ بِأَطْهَرَ مِنْهُ"؛ يعني: أنَّ المُتيمم قد أدّى فرضه كما أدى المُتوضئ كذلك فرضه. وما يتعلق بذلك مِنْ قراءة القرآن ونحوه فإنَّه يجوز للمُتيمّم حتى يجد الماء أو يذهب عنه العُذر في عدم استعمال الماء، ويستبيح ما يستبيحه المُتوضئ. إذًا عند وجود الماء وإمكان استعماله لا يصح فعل عبادة مبنية على الطهارة بتيمّم ونحوه؛ ولكن لا بُدَّ مِنْ استعمال الماء. لكن عند عدم القدرة على استعمال الماء، فالحنفية يقولون: التيمّم لخوف فوت صلاة أو جنازة. أمَّا إذا كان يرجو أنْ يُدرك بعض تكبيراتها أو بعض الصَّلاة في الوقت إذا أخّرها، فلا يجوز أنْ يتيمّم في هذه الحالة.
وذكر لنا بعد ذلك "باب الْعَمَلِ فِي التَّيَمُّمِ"، وذكر أنَّ للتيمم ضربتان، يقول: "عَنْ نَافِعٍ: أَنَّهُ أَقْبَلَ هُوَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنَ الْجُرُفِ"؛ الموضع الذي بجانب المدينة المنورة، على ثلاثة أميال مِنَ المدينة، يُقال له الجُرُف، وجُرْف "حَتَّى إِذَا كَانَا بِالْمِرْبَدِ"، بالمربد؛ مكان قريب مِنَ المدينة المنورة، مجلس الإبل يُقال له: المِربد، وهو موضع أيضًا على بعد ميل مِنَ المدينة المنورة، "نَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ" بن عُمَر "فَتَيَمَّمَ". وبذلك يقول الحنفية: أنَّه إذا كان الماء على مسافة ميل، فهو كالمعدوم، فيجوز أنْ يتمّم؛ لأن بينه وبين المدينة ميل واحد، و"تَيَمَّمَ". وقال: "نَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ، فَتَيَمَّمَ صَعِيداً طَيِّباً، فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى."فسرَّ قوله: "تَيَمَّمَ"، بقوله: "فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى".
فالتيمم محل الوضوء، والوضوء (..وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ..)، فكذلك المسح في التيمم إلى المرافق. وجاء في الحديث كما أشرنا قوله ﷺ: "التيمّم ضربتان، ضربةٌ للوجه وضربةٌ لليدين إلى المرفقين". فقوله: "إلى المرفقين" في هذه الرواية، بيان لِما ذهب إليه الجمهور: أنَّه لابد مِنْ مسح اليد في التيمم إلى المرفق. وهكذا في كيفية التيمم، أنْ يكون أمام الصعيد الطيب، خصّصه الشافعية بالتراب الطاهر الذي له غبار. أما الرمل الذي لا غبار له، وكل ما لا غبار له، فلا يصح منه التيمم. وفسّره بعض الأئمة: بما صعد على ظهر الأرض مِنْ تراب، أو حجر، أو شجر، أو نحو ذلك، فيتيمّم منه.
فالأولى أنْ يأتي ما استطاع مِنَ السُنن؛ كاستقبال القبلة، وكاستعمال السواك، وكالتسمية، ثُمَّ يضرب الضربة الأولى، ومُفرَّقة الأصابع يضع يديه على التراب مُفرَّقة الأصابع، ثُمَّ يُخفّف التراب إما بالنفض أو بالنفخ، ثُمَّ يمسح وجهه؛ ويستوعب ما يجب غسله في الوجه، مِنْ منابت شعر الرأس إلى الذقن طولًا، وعرضًا مِنَ الأذن إلى الأذن. ولا يلزمه أنْ يمسح مِنْ شعور الوجه كلها إلا ظاهرها. ولا يلزمه أنْ يوصل أثر المسح أو الغبار إلى منابت الشعر، فإنَّ ذلك يشق ويصعب عليه بخلاف الماء؛ جوهر لطيف يسهل وصوله إلى المنابت. فيجب غسل منابت الشعر كلها إلا اللحية الكثيفة والعارضين الخفيفين، وبقية شعور الوجه يجب أنْ يصل الماء إلى المنابت. أمَّا في التيمم، فيكفي ظاهر هذا الشعر، ولا يُسنّ التثليث في التيمم، بل مرة واحدة يمسح الوجه، ومرة واحدة يمسح اليدين.
ثُمَّ يضرب الضربة الثانية، وهنا أيضًا يُنبه الشافعية يقول: إذا ضرب الضربة الأولى، فمسح وجهه، فلا يجعل وجهه فوق التراب الذي يمسح منه، فإنَّه يتناثر مِنَ التراب الذي مسح به وجهه فوق التراب فيكون مُستعملًا. فيكون التراب الذي تناثر فوق التراب الآخر مُستعملًا.. فيضرب الضربة الثانية فلا يصح منه التيمم! فيبعد عن التراب الذي يتيمم منه، ويمسح وجهه في ناحية أخرى، حتى لا يصيب النازل والمتناثر مِنْ غبار الوجه، التراب الذي يتيمم به فيصير تيمّم بترابٍ مستعمل. فإذا مسح وجهه مِنْ دون أنْ يتناثر التراب فوق التراب، يضرب الضربة الثانية فوق التراب.
إنْ كان عنده خاتم:
ويمسح اليدين، وكيفية مسحهما للاستيعاب كما ورَد في السُنة، وهنا يقول الشافعية: أنَّه إذا ضرب التراب بيديه فى الضربة الأولى، يجب نية استباحة فرض الصلاة، عند الضربة وتستمر إلى أنْ يمسح أول الوجه. فلابد مِنَ النية عند الضرب ثم عند مسح الوجه تكون النية حاضرة. في المسحة الثانية لليدين، يضرب يديه ويضع الأربعة الأصابع تحت الأربعة الأصابع، ويمضي بهما حتى يُكمل مسح الكفِّ. فإذا أكمل مسح الكف، قبض بطرف أصابعه على حرف الذراع ليمسح طرف الذراع، ويمشي به، فيُدير راحته في المرفق ويردها، ويمضي به ليمسح بقية الذراع كُله، فيصل إلى الكفّ فيمسحه، ويبقى أثر الغبار فى الإبهام فيمسح به الإبهام، فيكون انتهى مِنَ المسحة الأولى. فيمسح الثانية كذلك بأنْ يضع الأربعة أصابع تحت الأربعة، ويمضي فيمسح ظهور الأصابع وظهر الكف. فإذا انتهى مِنَ الكف، ضمَّ أصابعه ليمسح حرف الذراع والساعد ويمضي به، ويضع راحته في المرفقين ويمضي بهما، فيكمل مسح الذراع وظاهر الكف والأصابع. فيبقى محتفظ أثر التراب في الإبهام، فيمسح به الإبهام. فهذه الكيفية الأفضل في كيفية مسح اليدين عند التيمم. ويُسن التشبيك بين الأصابع بعد أنْ يمسَح اليدين.
وهكذا قال الشافعية: كُل سُنةٍ مِنْ سُنن الوضوء يتأتى نقلُها للتَيمم، فيُنقل؛ مثل ما ذكرنا مِنَ السواك والاستقبال ومسح الكفّين أولًا، وما يتأتى مضمضة، ولا استنشاق، إلا التثليث؛ فالتثليث يتأتى ولا يُسنّ. فلا يُسن التثليث بل مرة واحدة يمسح لأنه لم يرد المسح إلا مرة واحدة. والواجب استيعاب الوجه بالمسح سواء بضربة، أو ضربتين، أو بثلاث. وكذلك في اليدين الواجب الاستيعاب، بضربة، بضربتين أو بِثلاث. لكن هذه الكيفية التي ذكرناها ليستوعب ما يجب مسحه بضربة واحدة في اليدين، بعد ضربةٍ سابقةٍ لمسح الوجه.
في العمل في التيمم يقول: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَتَيَمَّمُ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ". وعَلِمت ما قال الحنابلة: إنَّ الواجب مسح الكفين فقط. وسبب اختلافهم أنَّ الآية الكريمة لم تذكر المرفق في التيمّم، لا في سورة النساء، ولا في سورة المائدة. أما الوضوء فقال: (..فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ..) [المائدة:6]. فبالإجماع يجب غسل المرفقين في الوضوء. أما في التيمم:
وذلك أنَّ الله قال في سورة النساء: (..فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء:43] ما قال إلى المرافق! وكذلك في سورة المائدة، قال: (..فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ..) [المائدة:43] ما ذكر إلى المرافق. وفي آية الوضوء قال: (..فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ..) [المائدة:6]. فالمُجمع على أنه يجب إيصال الماء في الوضوء إلى المرفق. أما المسح في التراب فمُختَلفٌ فيه. وعلمت قول الجمهور: من أنه يجب إيصال المسح للمرفق لأنه بدل عن الوضوء. وقال آخرون كالإمام أحمد وهو قول عند الشافعية: أنَّه يكفي مسح الكفين فقط؛ مِنْ أطراف الأصابع إلى الكوعين.
وجاء في ذلك أحاديث لمَنْ استدلّ أنَّه لابد مِنَ المسح إلى المرفقين. هذا الحديث الذي ذكرناه: "التيمّم ضربتان؛ ضربةٌ للوجه وضربةٌ لليدين إلى المرفقين". والحديث الثاني، رواية عمار قال: كنت في القوم حين نزلت الرخصة في المسح بالتراب "إذا لم نجد الماء فأُمرنا فضربنا واحدة للوجه ثم ضربة أخرى لليدين إلى المرفقين" رواه البزار، يقول الحافظ بن حجر باسناٍد حسن. وكذلك حديث سيدنا جابر -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ قال: "التيمّم ضربة للوجه وضربةٌ للذراعين إلى المرفقين" رواه الدارقطني والحاكم قال صحيح الإسناد. وكذلك حديث عن جابر أيضًا: "جاء رجل فقال: أصابتني جنابة وإني تمعكّت في التراب، قال: اضرب، فضرب بيده الأرض فمسح بها وجهه، ثم ضرب بيديه أخرى فمسح بهما يديه إلى المرفقين" رواه الحاكم والدارقطني صحح الحاكم إسناده.
بهذه الأحاديث، وحديث أيضًا عن نافع قال: "سألت ابن عمر عن التيمّم فضربَ بيديه الأرض فمسح يديه ووجهه وضرب الأرض مرة أخرى فمسح بهما ذراعيه" رواه الطحاوي. لهذا قال الجمهور: لابد مِنَ المسح إلى المرافق. ثم ذكر لنا حديث ابن عمر أنه كان يتيمم إلى المرفقين وهذا مذهبه. وكذلك "وَسُئِلَ مَالِكٌ كَيْفَ التَّيَمُّمُ، وَأَيْنَ يَبْلُغُ بِهِ؟ فَقَالَ يَضْرِبُ ضَرْبَةً لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةً لِلْيَدَيْنِ، وَيَمْسَحُهُمَا إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ." فهي رواية عن الإمام مالك. والرواية الثانية يعدّ هذا للاستحباب، والواجب مسح الكفين فقط، والله أعلم.
الفاتحة بأن يفقّهنا في دينه، ويرزقنا حُسن المتابعة لحبيبه وأمينه، ويرفعنا مراتب قُربه مع خواصّ أهل محبته -سبحانه وتعالى- مِنْ حزبه، وأنْ يقينا السوء مِنْ حيث أحاط به علمه في الدارين، ويُحلّينا بكل زين، ويخلّينا عنْ كل شين، ويفرّج كروب الأمة أجمعين، ويجعل هذه الأيام مِنْ أبرك الأيام علينا وعلى المسلمين، ويبارك لنا في العيد ويحقق لنا المزيد في عافية وإلى حضرة النبي ﷺ.
سائل يسأل هل تأتي مسألة التقدير للماء المستعمل في التراب المستعمل؟
الجواب: لا! الماء يمتزج بعضه ببعض ويختلط اختلاطًا تامًا. أما التراب فإنَّ الأجزاء لا يختلط في باقي التراب وتبقى بحد ذاتها منفصلة عن بقية التراب فهي مُستعملة. فإذا اختلطت اختلط ما يرفعه، ما يصح وما لا يصح، فربما وصل للعضو بعض مِنَ الذي قد استُعمل فيبطُل بذلك التيمم، فليست كالماء؛ بل الماء يمتزج ببعضه البعض، ولا يبقى به شيء، فيحتاجون إلى التقدير فيه. فإذا اختلط مُستعمل وغير مُستعمل. والمُستعمل إما في التيمم وإما في إزالة النجاسة الكلبية، يبقى مُستعملًا فلا يعود إلى طهور بعد ذلك. وأما تيمم المُتيمّمين لمثل إرادة نوم، أو لاستدامة طهارة، أو لأجل قراءة القرآن مِنْ غير مسٍّ، أو لأجل حضور مجلس، فهذه مواطن السُنن والنوافل، لا يأتي فيها الالتزام بالحكم الذي عليه جماهير الأئمة، فإنَّما هذا يُستعمل لفعل سُنةٍ على قول مَنْ يقول به، وإن كان الماء موجودًا فلا إشكال في ذلك لأجل السُنة.
أما التشبيك باليد عند الجلوس أمر آخر، أما التشبيك لأجل تخليلٍ ولأجل تنظيفٍ وغير ذلك، لا شيء فيه. ولكن حين يجلس الإنسان في مجلس العلم أو مجلس الذكر… فالتَشبيك باليد مما ينافي الأدب، ومما كرهه جماعة مِنْ أهل العلم. وممّا يُقال أنَّه يُحرم به نزول النفحات، وحظّه مِنَ الرحمات النازلة في المجلس، إذا كان مُشبكًا فإنَّه مِنْ فعل المُتكبرين والغافلين؛ أنْ يجلسوا مشبّكي الأيادي؛ إمّا اليد مع اليد مستقلة، أو على ركبته؛ يضع اليد مع اليد ويشبك بين الأصابع، فهو فعل المتكبرين، كوضع اليد على الخاصرة كذلك مِنْ أفعال المتكبرين، فهو خلاف الأولى، ويقال: بكَراهته ولا يليق في مختلف الأحوال، وفي مجالس العلم والذكر مِنْ باب أولى. فلا ينبغي أنْ يعتاد الإنسان أو يتساهل بتشبيك أصابعه إلا لأجل مسحٍ وتخليلٍ في الوضوء أو في التَيمم أو لأجل إرادة تنظيفٍ أو لحاجةٍ أخرى، لا أنْ يُمسكها استراحةً كما يفعل ذلك المتكبّرون. والله أعلم.
21 ذو الحِجّة 1441