شرح الموطأ -282 - كتاب النكاح: باب نكاح الأمَة على الحُرَّة

شرح الموطأ -282 - باب نكاح الأمَة على الحُرَّة، من حديث الإمام مالك رضي الله تعالى عنه
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب النكاح، باب نكاح الأمَة على الحُرَّة، وباب مَا جَاءَ فِي الرَّجُلِ يَمْلِكُ الأَمَة وَقَدْ كَانَتْ تَحْتَهُ فَفَارَقَهَا.

فجر الثلاثاء 4 ربيع الثاني 1443هـ.

باب نِكَاحِ الأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ

1538 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرُ سُئِلاَ،عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ حُرَّةٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَنْكِحَ عَلَيْهَا أَمَةً. فَكَرِهَا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا.

1539 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لاَ تُنْكَحُ الأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ، إِلاَّ أَنْ تَشَاءَ الْحُرَّةُ، فَإِنْ طَاعَتِ الْحُرَّةُ، فَلَهَا الثُّلُثَانِ مِنَ الْقَسْمِ.

1540 - قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَنْبَغِي لِحُرٍّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً، وَهُوَ يَجِدُ طَوْلاً لِحُرَّةٍ، وَلاَ يَتَزَوَّجَ أَمَةً إِذَا لَمْ يَجِدْ طَوْلاً لِحُرَّةٍ، إِلاَّ أَنْ يَخْشَى الْعَنَتَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) [النساء:25] وَقَالَ: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) [النساء:25].

قَالَ مَالِكٌ: وَالْعَنَتُ هُوَ الزِّنَا.

باب مَا جَاءَ فِي الرَّجُلِ يَمْلِكُ الأَمَة وَقَدْ كَانَتْ تَحْتَهُ فَفَارَقَهَا

1541- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ الأَمَةَ ثَلاَثاً، ثُمَّ يَشْتَرِيهَا: إِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ.

1542 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، سُئِلاَ عَنْ رَجُلٍ زَوَّجَ عَبْداً لَهُ جَارِيَةً لَهُ، فَطَلَّقَهَا الْعَبْدُ الْبَتَّةَ، ثُمَّ وَهَبَهَا سَيِّدُهَا لَهُ، هَلْ تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ؟ فَقَالاَ: لاَ تَحِلُّ لَهُ، حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ.

1543 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ تَحْتَهُ أَمَةٌ مَمْلُوكَةٌ، فَاشْتَرَاهَا وَقَدْ كَانَ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، فَقَالَ: تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ يَمِينِهِ، مَا لَمْ يَبُتَّ طَلاَقَهَا، فَإِنْ بَتَّ طَلاَقَهَا، فَلاَ تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ يَمِينِهِ، حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ.

1544 - قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَنْكِحُ الأَمَةَ، فَتَلِدُ مِنْهُ، ثُمَّ يَبْتَاعُهَا: إِنَّهَا لاَ تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، بِذَلِكَ الْوَلَدِ الَّذِي وَلَدَتْ مِنْهُ وَهِيَ لِغَيْرِهِ، حَتَّى تَلِدَ مِنْهُ وَهِيَ فِي مِلْكِهِ، بَعْدَ ابْتِيَاعِهِ إِيَّاهَا.

1545 - قَالَ مَالِكٌ: وَإِنِ اشْتَرَاهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ، ثُمَّ وَضَعَتْ عِنْدَهُ، كَانَتْ أُمَّ وَلَدِهِ بِذَلِكَ الْحَمْلِ، فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا بشريعتهِ وبيانها، على لسان خير بريّتِه، سيدنا مُحمَّد خيرة الحق تعالى وصَّفوته، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه وأهل محبته ومودّته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وأصحابهم وتابعيهم، والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنهُ أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعدُ،

 فيواصل سيدنا الإمام مَالِك -عليه رحمة الله- ذكر الأحاديث المتعلقة بالنكاح، ويذكر في هذا الباب: نكاح الحُرّ للأمَة، "نِكَاحِ الأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ"، فمن كان عنده حُرَّة فنكح أمَةً أو كان عنده أمَةً فنكح حُرَّة، ومتى يجوز أن ينكح الحُرّ الأمَة.

وقد ذكر الحق -تبارك وتعالى- في قرآنه بيان هذه المسألة وذكر شرطين:

  1. عدم القدرة على طَوْل الحرة 

  2. وخشية العنت على نفسه 

قال سبحانه وتعالى: (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا)؛ أي: صداقًا (أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ۚ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۚ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ۚ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)،  ثم قال: (ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ)، فهذا الشرط الثاني، (وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ)[النساء:25]، أي: حتى يتيسر لكم مهر الحُرَّة، لأن الشارع يتشوّف إلى العتق، والتزوّج بالأمَة يجعل الأبناء منها أرقّاء مملوكين لمالك أمّهم، فحينئذٍ يكثر الرق والشرع يتشوّف لقلة الرقّ، ولكثرة الأحرار لما يكره من كثرة الأرقّاء، حُرّم على الحرِّ أن ينكح أمَةً مملوكةً إلا بهذين الشرطين اللذين ذكرهما الله تعالى في كتابه، إذاً؛ ليس لحُرٍ مسلم، أن يتزوج أمَةً مسلمة إلا إذا لم يجد الطوْل وخاف العنت.

 إذًا؛ تبيّن الشرطان وأشار إليهما القرآن، وهكذا يقول عامة العلماء من الأئمة الأربعة ومن سواهم. 

  • فأما إذا عُدم الشرطان أو عُدم أحدهما لم يحل للحُرّ أن ينكح الأمَة.

  • وهكذا جاء مذهب الإمام مالك والإمام الشافعي -كما هو مذهب الكثير من الصحابة والتابعين-: لابد من وجود الشرطين معًا.

  • و جاء عند أبي حنيفة: أنه وإن كان موسرًا، ليس تحته حُرَّة، فيجوز أن ينكح الأمَة، والشرط ألا يكون تحته حُرّة، فيما جاء في رواية عن الإمام أبي حنيفة عليه، رحمة الله تبارك وتعالى.

  • وهكذا يقول الجمهور: لو قدر على تزوّج كتابية تعفّه، لم يجز له أن ينكح الأمَة،

 إذًا؛ لا يجوز إلا بالشرطين عند جماهير أهل العلم كما أسلفنا، فإذا كانت تحته حُرّة؛ أي: في عقده فهي إذًا طَوْلٌ عند الإمام أبي حنيفة، فقد استطاع الطَوْل فلا يجوز له حينئذٍ أن ينكح الأمة.

 ويروي لنا بعد ذلك: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرُ سُئِلاَ، عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ حُرَّةٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَنْكِحَ عَلَيْهَا أَمَةً، فَكَرِهَا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا"؛ يعني ابن عباس وابن عمر كرها أن يجمع بينهما، أي: مادامت تحت حُرّة فهو غير مضطر ولا محتاج من تزوّج الأمَة، فلا يجوز. ورد على نكاح الأمَة على الحُرَّة، فأجاب عن منع الجمع بينهما، لأن الجمع بينهما إما يكون

  • يتزوج الأمَة على الحُرَّة كما هو في السؤال 

  • أو يتزوجهما معاً في عقد واحد، كذلك لا يجوز 

  • أو يتجوز الحُرَّة على الأمَة 

فكرها الجمع بينهما، ويقال عن الإمام مالك: أنه بعد ذلك رأى أنه يجوز ويتخيّر الحُرَّة.

وقال: عن  سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: "لاَ تُنْكَحُ الأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ، إِلاَّ أَنْ تَشَاءَ الْحُرَّةُ"؛ يعني: اشترط رضا الحُرَّة بأن يكون معها الأمَة، وذلك في مثل حالةِ ألا تكون الحُرَّة صالحة للاستمتاع، ويخشى العنت فيتزوّج الأمَة لأجل ذلك. "فَإِنْ طَاعَتِ الْحُرَّةُ، فَلَهَا الثُّلُثَانِ مِنَ الْقَسْمِ"؛ أي: يكون لها في القَسْم في الليالي لزوجته الحُرَّة، ليلتان وللمملوكة ليلة، هكذا جاء عن أكثر أهل العلم في قوله تعالى(فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)[النساء:25]، فكذلك لهن من القسمة نصف ما للمحصنات في حالة الجمع بين الحُرَّة والأمَة.

 "قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَنْبَغِي لِحُرٍّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً، وَهُوَ يَجِدُ طَوْلاً لِحُرَّةٍ، وَلاَ يَتَزَوَّجَ أَمَةً إِذَا لَمْ يَجِدْ طَوْلاً لِحُرَّةٍ، إِلاَّ أَنْ يَخْشَى الْعَنَتَ"؛ هذا الذي أشرنا إليه، وعليه عامة أهل العلم، "وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً)، ثم قال: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) [النساء:25]، قَالَ مَالِكٌ: وَالْعَنَتُ هُوَ الزِّنَا" والعياذ بالله تبارك وتعالى.

فحينئذٍ؛ لا يجوز أن يتزوّج الحُرّ الأمَة إلا بالشرطين المذكورين، وفيه التخيّر أيضًا للنطف كما هو سُنّةٌ في غير هذه المسألة، إذا أراد أن يتزوّج فليختر ذات الدين وذات التقوى، فهو أجدر أن يأتي منها أولاد أهل صلاح وأهل خير، وأن يتزوج امرأة حسناء في منبت سوء، فهذا ممّا حذر منه ﷺ؛ فإن العِرق دسّاس، كما يقول عليه الصلاة والسلام: "تَخيَّروا لنُطَفِكُم"؛ وفيه: بيان هذا الحكم لما قد يقع من الضرورة، وفيه استيعاب الشريعة لحاجات المكلّفين، ووضع كل شيءٍ في موضعه.

 

باب مَا جَاءَ فِي الرَّجُلِ يَمْلِكُ الأَمَة وَقَدْ كَانَتْ تَحْتَهُ فَفَارَقَهَا

 

ذكر: "عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ" وأبو عبد الرحمن قيل: 

  • أنه سليمان بن يسار 

  • وقيل هو أبو الزناد 

وهذان أيضًا بعيدان 

  • وقيل هو طاووس؛ وهو أشبه بالصواب أن المراد بعبد الرحمن هو طاووس. 

وقالوا: احتاج الراوي إلى أن يقول: "عن أبي عبد الرحمن" ولم يصرّح بطاووس مع أنه كان معروف وجليل بين الناس، لأنه كان يطعن على بني أمية ويدعو عليهم في مجالسه، وكان ابن شهاب يدخل عليهم، فلم يصرح بذكر اسمه وقايةً لشرّهم وأذاهم وضُرهم له. وبذا نعلم شرّ وضرر السياسات على كثير من أحوال المسلمين، وأحوال الدين، لما يصحَبهم من الأهواء والمغالبة على مقاعد السلطان، فيُوقعون الناس في حرج كثير، حتى يضطر الرواة أن يكتموا بعض الأسماء خشيةً من سطواتهم، إلى غير ذلك من المفاسد التي تحصل. وإن بداية تدخل الأهواء في شأن الدين جاءت من بعد الخلافة الراشدة، من بعد الثلاثين العام، اللاتي قال فيها ﷺ: "الخلافة بعد ثلاثون عامًا"، ففي خلال الثلاثين العام، ما كان هناك قولٌ في الدين ينتشر، ويؤخذ به على غير وجهٍ صحيح من نظرٍ صحيح واجتهادٍ صحيح، ولم تكن الأهواء لها مجال في أن تلعب على النصوص وأحكام الدين. فلما انتهت الخلافة الراشدة وجاء الملك العضوض، بدأ ظهور بعض الأهواء ومساسها ببعض الأحكام في طفيفٍ من الأمرِ، ولم يزل حتى جاءت الجبرية بعد الملك العضوض فتحكم شأن السياسة في كثير من أمر الدين، وتدخّل فيها أكثر فأكثر إلى أن انتهى إلى ما نحن عليه في هذا الزمان، ولا يزال الأمر كذلك بِعِلَله هذه وآفاته، دفع الله عن المسلمين جميع  الشرور، إلى أن تعود حال الأمة إلى خلافة على منهاج النبوة كما أخبر ﷺ.

وإلا فدين الله أكبر من أن يكون ألعوبةً ولا ضحكًا ولا خادمًا لكرسي أحد، ولا سلطة أحد، ولا اتجاه أحد، ولا رأي أحد، وليس الدين بالرأي، وإنما الدين عبودية واستسلام للحق الحي القيوم، وتبعية خالصة لعبده السيد المعصوم ﷺ استسلامًا وانقيادًا لأوامر الله وخضوعٍ لها، ونبذ للطاغوت وجميع الآراء والنظرات لآل الشرق والغرب دون منهج الله -تبارك وتعالى-، وحكمه وأخذه والعمل به على الوجه الذي يُطلب به رضا الذي شرع لنا الشرع وأنزل لنا الكتب وأرسل الرسل، ربنا الرحمن جلّ جلاله وتعالى في علاه.

ومع ذلك فلم يزل في الأمة في أيام الملك العضوض وأيام الجبرية من يصدق مع الله ويخلص لوجه الله، ولا يبالي بسلطان ولا غيره، حتى فيهم من خيار الشهداء من يقول كلمة الحق عند السلطان الجائر فيقتله.. إلى غير ذلك، ولم يزل في الأمة من ينتمي إلى العلم ويتقربون إلى السلاطين والأمراء وغيرهم، ويداهنون ويكذبون ويتحيّلون، وهم من فريق علماء السوء المحذَّر منهم، والذين هم في بعض الأحوال أشدّ على الأمة وأخوف من الدجّال -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، كما أخبر الصادق المصدوق. وجاء في مسند الإمام أحمد: إني من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال قالوا: ماذا يا رسول الله؟ قال: "الأئمة المضلين"، أجارنا الله وأعاذنا وجعل هوانا تبعًا لما جاء به نبينا مُحمَّد ﷺ.

"عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ" رضي الله تعالى عنه، الصحابي المشهور الذي هو من أقوى الصحابة اطلاعًا في علم الفرائض، "أفرضكم زيد"، أنه كان يقول: "لرَّجُلِ يُطَلِّقُ الأَمَةَ ثَلاَثاً، ثُمَّ يَشْتَرِيهَا"؛ أي: تلك المرأة الأمَة 

  • إما إن كان صح له نكاح الأمَة وهو حُرّ

  • أو كان مثلها مملوكاً، ثم عتق

وكان قد طلقها أيام زواجه بها ثلاثًا بعد ذلك اشتراها، قال:" إِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لَهُ"؛ يعني: لا يجوز أن يطأها بملك اليمين، "حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ" وأخذ بعموم الآية: (فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) [البقرة:.230]. وهكذا جاءت أقوال الأئمة الأربعة -عليهم رضوان الله تعالى- وعامة السلف والخلف: أنه مادام قد سبق له أن دخلت عصمة نكاحه ثم طلقها ثلاثًا، فحينئذٍ لا تحِلّ له ولو بملك اليمين حتى تنكح زوجًا غيره، لعموم قوله (فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ).

وذكر: "أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، "سُئِلاَ عَنْ رَجُلٍ زَوَّجَ عَبْداً لَهُ جَارِيَةً لَهُ، فَطَلَّقَهَا الْعَبْدُ الْبَتَّةَ"؛ يعني: ثلاثاً، "ثُمَّ وَهَبَهَا سَيِّدُهَا لَهُ، هَلْ تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ؟ فَقَالاَ: لاَ تَحِلُّ لَهُ، حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ" وعلمت أن هذا مذهب عامة فقهاء الشريعة المطهرة.

وذكر: "أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ تَحْتَهُ أَمَةٌ مَمْلُوكَةٌ، فَاشْتَرَاهَا وَقَدْ كَانَ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، فَقَالَ: تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ يَمِينِهِ، مَا لَمْ يَبُتَّ طَلاَقَهَا"؛ أي: الطلقة الواحدة والاثنتين لا تحرم أن يتزوجها مرة أخرى، فكذلك لا تحرم أن يطأها بملك اليمين إذا ملكها "فَإِنْ بَتَّ طَلاَقَهَا، فَلاَ تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ يَمِينِهِ، حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ".

"قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَنْكِحُ الأَمَةَ، فَتَلِدُ مِنْهُ، ثُمَّ يَبْتَاعُهَا: إِنَّهَا لاَ تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ"؛ لأنها ولدت منه وهي مملوكةً لغيره، قال: "إِنَّهَا لاَ تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، بِذَلِكَ الْوَلَدِ الَّذِي وَلَدَتْ مِنْهُ وَهِيَ لِغَيْرِهِ، حَتَّى تَلِدَ مِنْهُ وَهِيَ فِي مِلْكِهِ، بَعْدَ ابْتِيَاعِهِ إِيَّاهَا". لأن المالك إذا وطئ الأمَة بملك اليمين فولدت منه صارت أمّ ولد، لا يجوز له أن يتصرّف فيها بل تبقى حتى يموت، فإذا مات صارت حُرَّة -أم الولد-، فهذا مذهب الإمام -عليه رحمة الله تعالى- أنها لا تكون أمّ ولد حتى تلد منه وهي في ملكه. "وَإِنِ اشْتَرَاهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ، ثُمَّ وَضَعَتْ عِنْدَهُ"؛ يعني: وهي حامل منه؛ من المشتري نفسه، " كَانَتْ أُمَّ وَلَد" عند الإمام مالك بذلك الحمل، لأنها ولدته في  ملك الزوج الذي صار الآن مالكًا.

  • قال الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل: لا، لا تصير أم ولد وإن ملكها حاملاً حتى تحمل منه وهو حُرَ سيّدٌ لها وهي في ملكه. 

  • وعند الإمام أبي حنيفة -عليه رحمة الله-: إذا ملكها حتى بعد ولادتها منه صارت أم ولد.

 إذاً؛ اتفقوا أنها تكون أم ولد إذا ملكها قبل حملها وحملت منه وولدت.

أما إذا ملكها وهي حامل منه أو بعد أن ولدت منه، فلا تكون أم ولد عند عامة الفقهاء. وقال أبو حنيفة: تكون أم ولد؛ وهذا حكم المستولدة يسمّونها -أم ولد- أنه تصير حُرَّةً بمجرد موت سيدها لأنها أم ولده.

أصلح الله أحوالنا والمسلمين، ودفع الآفات عنّا وعن والمؤمنين، وألهمنا رشدنا في كل حركة وسكون، ولا وكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحدٍ من خلقه طرفة عين، وحلّانا بكل ما يحب، ونقّانا وطهّرنا وصفّانا عن كل ما لا يحب، قولًا وفعلاً ووصفًا وأخذًا وردًّا وحركةً وسكون، وجعلنا فيمن يهدون بالحق وبه يعدلون في لطفٍ وعافية مع صلاح شؤوننا والمسلمين أجمعين وإلى حضرة النبي ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

08 ربيع الثاني 1443

تاريخ النشر الميلادي

13 نوفمبر 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام