شرح الموطأ - 276 - كتاب النكاح: تتمة باب ما جاء في الصَّدَاقِ والحِباء

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب النكاح، تتمة باب ما جاء في الصَّدَاقِ وَالْحِبَاءِ.
فجر الأربعاء 14 ربيع الأول 1443هـ.
تتمة باب مَا جَاءَ فِي الصَّدَاقِ وَالْحِبَاءِ
1502 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ، فَقَامَتْ قِيَاماً طَوِيلاً، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا، إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا إِيَّاهُ؟" فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلاَّ إِزَارِي هَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ، جَلَسْتَ لاَ إِزَارَ لَكَ، فَالْتَمِسْ شَيْئاً". فَقَالَ: مَا أَجِدُ شَيْئاً. قَالَ: "الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ". فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئاً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ؟" فَقَالَ: نَعَمْ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا. لِسُوَرٍ سَمَّاهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "قَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ".
1503 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَبِهَا جُنُونٌ، أَوْ جُذَامٌ، أَوْ بَرَصٌ، فَمَسَّهَا، فَلَهَا صَدَاقُهَا كَامِلاً، وَذَلِكَ لِزَوْجِهَا غُرْمٌ عَلَى وَلِيِّهَا.
قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ غُرْماً عَلَى وَلِيِّهَا لِزَوْجِهَا، إِذَا كَانَ وَلِيُّهَا الَّذِي أَنْكَحَهَا، هُوَ أَبُوهَا أَوْ أَخُوهَا، أَوْ مَنْ يُرَى أَنَّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهَا، فَأَمَّا إِذَا كَانَ وَلِيُّهَا الَّذِي أَنْكَحَهَا ابْنَ عَمٍّ، أَوْ مَوْلًى، أَوْ مِنَ الْعَشِيرَةِ، مِمَّنْ يُرَى أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ غُرْمٌ، وَتَرُدُّ تِلْكَ الْمَرْأَةُ مَا أَخَذَتْهُ مِنْ صَدَاقِهَا، وَيَتْرُكُ لَهَا قَدْرَ مَا تُسْتَحَلُّ بِهِ.
1504 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأُمُّهَا بِنْتُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، كَانَتْ تَحْتَ ابْنٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَمَاتَ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا صَدَاقاً، فَابْتَغَتْ أُمُّهَا صَدَاقَهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَيْسَ لَهَا صَدَاقٌ، وَلَوْ كَانَ لَهَا صَدَاقٌ لَمْ نُمْسِكْهُ وَلَمْ نَظْلِمْهَا. فَأَبَتْ أُمُّهَا أَنْ تَقْبَلَ ذَلِكَ، فَجَعَلُوا بَيْنَهُمْ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَقَضَى أَنْ لاَ صَدَاقَ لَهَا وَلَهَا الْمِيرَاثُ.
1505 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ فِي خِلاَفَتِهِ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: أَنَّ كُلَّ مَا اشْتَرَطَ الْمُنْكِحُ، مَنْ كَانَ أَباً أَوْ غَيْرَهُ، مِنْ حِبَاءٍ أَوْ كَرَامَةٍ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ إِنِ ابْتَغَتْهُ.
1506 - قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَرْأَةِ يُنْكِحُهَا أَبُوهَا، وَيَشْتَرِطُ فِي صَدَاقِهَا الْحِبَاءَ، يُحْبَى بِهِ، إِنَّ مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ يَقَعُ بِهِ النِّكَاحُ، فَهُوَ لاِبْنَتِهِ إِنِ ابْتَغَتْهُ، وَإِنْ فَارَقَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَلِزَوْجِهَا شَطْرُ الْحِبَاءِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ النِّكَاحُ.
1507 - قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُزَوِّجُ ابْنَهُ صَغِيراً، لاَ مَالَ لَهُ: إِنَّ الصَّدَاقَ عَلَى أَبِيهِ، إِذَا كَانَ الْغُلاَمُ يَوْمَ تَزَوَّجَ لاَ مَالَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لِلْغُلاَمِ مَالٌ، فَالصَّدَاقُ فِي مَالِ الْغُلاَمِ، إِلاَّ أَنْ يُسَمِّىَ الأَبُ أَنَّ الصَّدَاقَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ النِّكَاحُ ثَابِتٌ عَلَى الاِبْنِ إِذَا كَانَ صَغِيراً، وَكَانَ فِي وِلاَيَةِ أَبِيهِ.
1508 - قَالَ مَالِكٌ فِي طَلاَقِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا وَهِيَ بِكْرٌ، فَيَعْفُوَ أَبُوهَا عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ: إِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِزَوْجِهَا مِنْ أَبِيهَا فِيمَا وَضَعَ عَنْهُ. قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ) [البقرة:237] فَهُنَّ النِّسَاءُ الَّلاَتِى قَدْ دُخِلَ بِهِنَّ (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) [البقرة:237] فَهُوَ الأَبُ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ، وَالسَّيِّدُ فِي أَمَتِهِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا الَّذِي سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الأَمْرُ عِنْدَنَا.
1509 - قَالَ مَالِكٌ فِي الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ، تَحْتَ الْيَهُودِيِّ أَوِ النَّصْرَانِيِّ فَتُسْلِمُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا: إَنَّهُ لاَ صَدَاقَ لَهَا.
1510 - قَالَ مَالِكٌ: لاَ أَرَى أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ بِأَقَلَّ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ، وَذَلِكَ أَدْنَى مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرِمنا بالشَّريعة الغراء، وبيان أحكامها على لسان خير الورى سيدنا مُحمَّد وآله وصحبه الكبراء، وعلى مَنْ والاهم في الله وتابعهم بإحسان سرًا وجهرًا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين مَنْ رفع الله لهم مكانةً وقدرا، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم والتابعين والملائكة المقربين وعلينا معهم وفيهم انه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
فيذكر الإمام مَالِكْ -عليه رحمة الله تعالى- في هذه الأحاديث المسائل التي يحق بها فسخ النِّكاح إما للرجل وإما للمرأة؛ إذا وجِد شيءٌ مِنْ هذه العيوب وذلك لمراعاة الشَّريعة المُطهرة لمصالح العباد في ظاهرهم وباطنهم، ولإقامة العدل والحق بينهم.
فهنا مسائل يحصل بها الخِيار وذلك أنه وجب على المسلم سواءً في نِكاح أو بيعٍ وشراء، أو في أي معاملة أن لا يغش، وأن يبيِّن ما في سلعته وما في حالهِ مما يتعلق بالمقاصد التي يقصدها النَّاس في معاملاتهم، وتداولهم العِوض في أنواع الإيجارات والبيع والشراء، والمعاوضات الأخرى.
فمن جملة ذلك في النِّكاح:
-
يجب أن يكونوا على وضوحٍ وصفاءٍ.
-
ولا يكتمون في الزوج عيبًا لو علمته المرأة أو أهلها ردّوه.
-
ولا يكتمون في المرأة شيئًا لو علمه زوجها لردّوها ولم يقبلوا ذلك.
ومن جملة ذلك ما أشار إليه مِنْ حصول "جُنُون" فإذا تزوجت فوجدت زوجها مجنونًا لم يخبرها بجنونه، فلها حق فسخ النِّكاح، أو تزوجها فوجد المرأة مجنونة -والعياذ بالله تعالى- فحينئذٍ له حق فسخ النِّكاح وعليهم الإثم في التغرير عليه، ويردون إليه ما سلَّم مِنَ المهر وغيره وينفسخ النِّكاح، بسبب الجنون الذي هو زوال العقل.
كذلك الـ"جُذَامٌ": وهو المرض الذي يتشقق به الجلد ويُنتن ويُقطع اللحم، "أَوْ بَرَصٌ"؛ البياض الذي يظهر في ظاهر البدن، هذا مِنْ جملة ما يُثبت الحقَّ للزوج في فسخ النِّكاح،
-
فإذا لم يمسها وجَبَ أن يردوا إليه جميع ما سلَّم وينفسخ النِّكاح.
-
أما إذا قد دخل بها ومسّها فعليه أن يُسلِّم لها المهر كما أشار الإمام مَالِكْ رضي الله تعالى عنه.
واختلفوا في إذا حدث هذا العيب بعد العقد، فهل يثبُت الخيار ويصح الفسخ أو لا بُدّ من الطلاق فهو كغيره مِنَ الأشياء وهكذا.. فالوجه عند أصحاب الشَّافعي كغيرهم من الأئمة أنَّ الخيار يثبت ولو بحدوثه، فإن حدث للزوج ثبت الخيار للمرأة، وإن حدث للمرأة فكذلك في أحد الوجهين.
قال الإمام مَالِكْ: "فَمَسَّهَا"؛ أي: الزوج "فَلَهَا"؛ أي: المرأة "صَدَاقُهَا كَامِلاً"؛ لأنه دخل بها، "وَذَلِكَ" يعني: الصِداق الذي أدّاه الزوج لها يثبت "لِزَوْجِهَا غُرْمٌ عَلَى وَلِيِّهَا" وليِّ المرأة لأنه غَشَّ ولم يُبين أنَّ بها هذا الجنون.
وقد جاء عن يحيى بن سعيد يقول: "أيُّما امرأةٍ غُرَّ بها رجُلٌ، بها جُنونٌ، أو جُذامٌ، أو بَرَصٌ، فلها مهرها بما أصابَ منها، وصَداقُ الرجُلِ على وليّها الذي غرَّه."
كذلك جاء أنَّ سيدنا عُمَر بِنْ الخطاب -رضي الله عنه- قضى في البرصاء والمجذومة والمجنونة إن دخل بها فُرِّق بينهما والصَداق لها لمسيسه إياها وهو له على وليِّها.
وهكذا "قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ غُرْماً عَلَى وَلِيِّهَا لِزَوْجِهَا، إِذَا كَانَ وَلِيُّهَا الَّذِي أَنْكَحَهَا، هُوَ أَبُوهَا أَوْ أَخُوهَا، أَوْ مَنْ يُرَى"؛ يعني يُظن به مِنَ الأولياء، "أَنَّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهَا" وأما إن كان وليُّها أبن عمها، وهو لا يدخل عليها، ولا يدري بها، فإن كان كذلك وهو لا يعلم، "فَأَمَّا إِذَا كَانَ وَلِيُّهَا الَّذِي أَنْكَحَهَا ابْنَ عَمٍّ، أَوْ مَوْلًى، أَوْ مِنَ الْعَشِيرَةِ، مِمَّنْ يُرَى أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ غُرْمٌ، وَتَرُدُّ تِلْكَ الْمَرْأَةُ مَا أَخَذَتْهُ مِنْ صَدَاقِهَا،" أي: ترد للزوج الصَداق الزائد على أقل مقدار المهر، قال: "وَيَتْرُكُ لَهَا قَدْرَ مَا تُسْتَحَلُّ بِهِ."؛ يعني: أقل ما يَصِح، وهو عند:
-
المَالِكْية: رُبع دينار، ربع دينار عندهم أقل المهر.
-
وكذلك يقول الحَنَفِية: ثلاث دراهم.
-
وفيما تقدم معنا من حديث "التَمِسْ ولو خاتَمًا مِن حَديد" دليل الشَّافعية والحَنَابِلَة أنه لا حدّ لأقل المهر ولو كان من أقلِ الشيء كخاتمٍ من حديد.
إلا أنه إذا غَلَا مهرها كانت شؤمًا، وأبركهنّ أخفهنّ مهورًا وأيسرهنّ مؤونة، ومن هنا كان التغالي في المهور مِنْ جملة البِدع التي استُحدثت، والتي ترتب عليها تصعيب أمر الزواج، وكثيرٌ مِنَ الآفات والإشكالات قال ﷺ وأبركهنّ أخفهنّ مهورًا، وفي لفظ: أقلهن مهورًا وأيسرهنّ مؤونة.
وهكذا لا يكون ما بين المتزوجين قناعةٌ ورضىً بما تيسّر إلا بورك لهما في أمرهما وشأنهما. ولا يكون لهما تطّلُعٌ إلى المفاخرة والمكاثرة إلا وحصل عليهما شؤمٌ في حالهما قريبًا أو بعيدًا غالبا، وهكذا كلما كانت المقاصد هي المؤثرة و الفعَّالة والحاضرة في الأذهان والعقول، لكل مِنَ الزوج والزوجة المقاصد العالية، السامية، الشريفة في مقاصد النِّكاح، والمعاشرة بالمعروف، وسرور قلب المُصطفى ﷺ، وتكثير مباهاته، وقصد محبة الحق جلَّ جلاله، وقصد العفاف والستر، وقصد الإحسان، والسعي في المصالح، وما إلى ذلك مِنَ المقاصد السامية، وبالإشارة إلى ذلك قال ﷺ: "فاظْفَرْ بذاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَداكَ"
-
ومن تزوجها لمالها لم يزده الله إلا فقرًا.
-
ومن تزوجها لجمالها لم يزده الله إلا قُبحًا.
-
ومن تزوجها لحَسَبها لم يزده الله إلا دناءة.
-
ومن تزوجها ليغضّ بها بصره ويُحصِّن بها فرجه بارك الله له فيها، وبارك لها فيه.
فينبغي أن تغلُب على أذهان المسلمين المقاصد، كما أنَّ المسلك الهدى، أن يغلب عليهم المقاصد في الملابس، والمقاصد في الأطعمة والأشربة، والمقاصد في بناء البيوت، والمقاصد في شؤون الحياة ما المقصود منها، وما يُنوى بها، وما هو الغرض الصحيح فيها، وتكون قلوبهم معلقة بذلك لا مسترسلةً مع رعونات النفوس، والتكاثر والمفاخرات، وما يوحي، ما توحي النفوس، ويوحي شياطين الإنس والجن إلى إكبار وتعظيم ما ليس بكبيرٍ ولا عظيم، ومن الاعتداد بما ليس تحته شيءٌ يُعتبر في ميزان الشرع ولا عند الله تبارك وتعالى. فهذا الاسترسال وراء هذه الإيحاءات مصدر للانحراف في الفكر والتصور، وعليه يترتب الانطلاق على عِوج في إرادة الكسب، وفي إنفاق المال كذلك وفي شؤون الأسر وما تقوم به.
قال -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-: أنَّ "بِنْتُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، كَانَتْ تَحْتَ ابْنٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ"، زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أخو سيدنا عُمَرَ، وبنته زوجة عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِنْ الْخَطَّابِ، "فَمَاتَ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا" مات عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِنْ الْخَطَّابِ ولم يدخل بها، "وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا صَدَاقاً"؛ يعني: لم يُعين لها مهر بل نكحها تفويضًا، "فَابْتَغَتْ"؛ أي: طلبت "أُمُّهَا" بنت زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، "صَدَاقَهَا" طلبت صَداقها وكالةً عن ابنتها "فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ:"، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أبو الزوج، والزوج ولد عَبْدُ اللَّهِ، والزوجة بنت عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِنْ الْخَطَّابِ، وزوجة عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هذه هي ابنة زَيْد، ابنة عمه زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، طلبت المهر طلبت صَداق ابنتها. "فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ:"؛ يعني: أبو الزوج "لَيْسَ لَهَا صَدَاقٌ" لا تستحق، "وَلَوْ كَانَ لَهَا صَدَاقٌ لَمْ نُمْسِكْهُ وَلَمْ نَظْلِمْهَا." به "فَأَبَتْ أُمُّهَا أَنْ تَقْبَلَ ذَلِكَ"، كلام عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ "فَجَعَلُوا بَيْنَهُمْ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ" الأنصاري، كاتب الوحي، حَكَمًا لفصل هذه القضية، "فَجَعَلُوا بَيْنَهُمْ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَقَضَى أَنْ لاَ صَدَاقَ لَهَا وَلَهَا الْمِيرَاثُ".
-
وهذا هو المُرجَّح عند المَالِكْية
-
وللمالكية قول آخر: أنه يثبت لها الصَدَاق بالموت، وكذلك مَنْ تزوج على تفويض، مِنْ دون تسمية مهر، ومات أحد الزوجين قبل التسمية، وقبل أن يدخل بها، والتوارث ثابت.
-
وقال أبو حَنِيفَة كالشَّافِعية: أنَّ لها الصَداق ولكن مثل ما إذا طلَّقها قبل أن يدخل بها فلها نصف المهر، (فَنِصۡفُ مَا فَرَضۡتُمۡ) [البقرة:237] أو نصف مهر المثل ثُمَّ أنها أيضًا ترث
-
في القول الثاني عند الشَّافعية كالمَالِكْية أنه إذا حصل الموت ولم يُسمَّى لها مهرٌ، فإنما تنتقل للإرث، فترث منه كزوجةٍ إن كانت منفردةً فلها الثُمُن، أو معها غيرها فالثُمُن بينهن.
"فَقَضَى أَنْ لاَ صَدَاقَ لَهَا وَلَهَا الْمِيرَاثُ".
وذكر: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ فِي خِلاَفَتِهِ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: أَنَّ كُلَّ مَا اشْتَرَطَ الْمُنْكِحُ، مَنْ كَانَ أَباً أَوْ غَيْرَهُ، مِنْ حِبَاءٍ أَوْ كَرَامَةٍ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ إِنِ ابْتَغَتْهُ"؛ أي: طلبته، أي: فحقُ المهر ليس للولي، ليس لولي المرأة؛ وليس لأمها؛ وليس لإخوانها؛ ولكن حقٌ لها هي، فالمهر يجب أن تُسلَمه الزوجة.
" كُلَّ مَا اشْتَرَطَ الْمُنْكِحُ"؛ يعني: الولي، كائنًا مَنْ كان سواءً "كَانَ أَباً أَوْ غَيْرَهُ" مِنَ الأولياء، ما اشترط "مِنْ حِبَاءٍ"؛ أي: العطية التي هي المهر، "أَوْ كَرَامَةٍ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ" المنكوحة "إِنِ ابْتَغَتْهُ"؛ أي: طلبته. فالمهر يكون ملكًا للزوجة ليس لأبيها منه شيء؛ بل يجب أن تُسلَمه هي، وهي تملكه وتصرفه حيث شاءت.
يقول: "مَالِكٌ فِي الْمَرْأَةِ يُنْكِحُهَا أَبُوهَا، وَيَشْتَرِطُ فِي صَدَاقِهَا الْحِبَاءَ، يُحْبَى بِهِ،"؛ يعني: يشترط لنفسه مِنَ العطاء شيء مِنَ الصَداق، "إِنَّ مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ يَقَعُ بِهِ النِّكَاحُ، فَهُوَ لاِبْنَتِهِ إِنِ ابْتَغَتْهُ"، فيجوز لها أن تُسلمه لوالدها ومن شاءت، "وَإِنْ فَارَقَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَلِزَوْجِهَا شَطْرُ الْحِبَاءِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ النِّكَاحُ"، يعني: النصف، الشطر يعني النصف، لزوجها شطر الحباء.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) [الأحزاب:49].
وقال سبحانه وتعالى: (لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) عينتم مهرًا (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) [البقرة:236 -237] يلزم النصف إذا طلقها قبل أن يدخل بها، (إِلَّا أَن يَعْفُونَ) النساء، المرأة تقول ما أريد شيء، (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) [البقرة:237] الولي.
وهكذا يقول الحَنَابِلَة: يجوز لأبي المرأة أن يشترط شيئًا من صداق ابنته لنفسه. وقالوا في قوله تعالى في قصة شعيب: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) جعل الصَدَاق الإجارة على رعاية غنمه، وهذا الشرط لنفسه قال: (عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) [القصص:27].
يقول أيضًا الحَنَابِلَة: أما إذا اشترط شيء من الصَداق يرجع إليه، غير الأب مِنَ الأولياء، كمثل الجد أو الأخ فالشرط باطل، وجميع ما سُمي يكون للزوجة، ليس لأبيها ولا غيره مِنْ ذلك شيء.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُزَوِّجُ ابْنَهُ" حال كونه "صَغِيراً، لاَ مَالَ لَهُ: إِنَّ الصَّدَاقَ عَلَى أَبِيهِ،" سواء "إِذَا كَانَ الْغُلاَمُ يَوْمَ تَزَوَّجَ لاَ مَالَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لِلْغُلاَمِ مَالٌ"، في وقت الزواج والنكاح، "فَالصَّدَاقُ فِي مَالِ الْغُلاَمِ، إِلاَّ أَنْ يُسَمِّي الأَبُ"، يُصّرح "أَنَّ الصَّدَاقَ عَلَيْهِ"، فيصير عليه ولا يأخذ من مال الغلام شيء.
"قَالَ مَالِكٌ فِي طَلاَقِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا وَهِيَ بِكْرٌ، فَيَعْفُوَ أَبُوهَا عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ: إِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِزَوْجِهَا مِنْ أَبِيهَا فِيمَا وَضَعَ عَنْهُ. قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ) [البقرة:237] "فَهُنَّ" أي المراد بضمير الجمع في الآية: النساء، (يَعْفُونَ) يعني "النِّسَاءُ الَّلاَتِى قَدْ دُخِلَ بِهِنَّ (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ)"؛ الأب، "(أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) [البقرة:237] فَهُوَ الأَبُ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ، وَالسَّيِّدُ فِي أَمَتِهِ"، فيجوز لهم أنَّ يعفون وينَّقصوا مِنَ المهر، "قال مالك: وَهَذَا الَّذِي سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الأَمْرُ عِنْدَنَا"؛ يعني: بالمدينة المنورة.
وقال الأئمة الثلاثة: إنَّ الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، عفوه بإتمام الصَداق، (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) فكيف؟ لا يُسلَّم نصف يُسلَّمه كامل خذوه المهر كامل. ويقال أَّنه الولي، الذي بيده عقدة النكاح، فإذا عفا وسلَّم فذلك من حسن المعاملة، يُسلّم المهر كاملًا، أو هي تقول: ما أريد شيء أبدًا وترد إليه المهر كاملًا، (يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) الزوج.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ" كتابية "تَحْتَ الْيَهُودِيِّ أَوِ النَّصْرَانِيِّ فَتُسْلِمُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا: إَنَّهُ لاَ صَدَاقَ لَهَا". يقول مَالِكْ في اليهودية و النصرانية: "فَتُسْلِمُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا: إَنَّهُ لاَ صَدَاقَ لَهَا"، فإن أسلمت بعد أن دخل بها فلها مطالبة به وأخذه منه.
هي تحت يهودي أو نصراني، ولكن أسلمت، فأنجاها الله مِنَ الكفر بفضله، فإذا كان المهر مما يحِل لها أخذه؛ مثل الدراهم والدنانير ونحوها، وأسلمت بعد أن دخل بها فلها الحق في ذلك المهر. إن كان في النصرانية تزوّجت على مهر لا يحل لها أخذه ؛مثل خمر ونحوه، فلا شيء لها من هذا المهر لأنه مُحرّمٌ في الشريعة.
ويقول الحَنَفِية: إذا أسلمت الكتابية قبل دخوله بها فعليه نصف المهر، لها نصف المهر، وإن أسلمت بعد الدخول بها فلها المهر كاملًا.
"قَالَ مَالِكٌ: لاَ أَرَى أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ بِأَقَلَّ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ، وَذَلِكَ أَدْنَى مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ."، وهذا مذهب الإمام مَالِكْ عليه رضوان الله تبارك وتعالى. وقال الشَّافعية و الحَنَابِلة لا تحديد في أقل المهر ولو خاتمًا من حديد كما جاء في الحديث الماضي.
إذًا؛ حدده المَالِكْية بربع دينار، والحَنَفِية بثلاث دراهم، وقال غيرهم لا حدَّ لأقله، وعلمنا أنه لا ينبغي أن يزيد على أربعمئة درهم وهو صداق النَّبي ﷺ في نسائه، وأن أبركهن أخفهن مهورًا وأيسرهن مؤونة.
أصلح الله أحوال المسلمين وديارهم، ومنازلهم، وبيوتهم، وأهاليهم، وأولادهم، وذراريهم بالصلاح الكامل، ولطف بنا وبهم وبالأمة باللطف الشامل، وعاملنا بما هو أهله، ودفع عنا السوء وأهله بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
19 ربيع الأول 1443