شرح الموطأ -258- كتاب الصّيد: باب ما جاء في صَيْد البَحْر، وباب تحريم أَكْل كل ذي نابٍ من السِّباعِ

شرح الموطأ -258- باب مَا جَاءَ فِي صَيْدِ الْبَحْرِ، من حديث نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أبِي هُرَيْرَةَ سَأَلَ عَبْدَ الله بْنَ عُمَرَ عَمَّا لَفَظَ الْبَحْرُ، فَنَهَاهُ عَنْ أَكْلِهِ
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الصيد، باب مَا جَاءَ فِي صَيْدِ الْبَحْرِ، وباب تَحْرِيمِ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ.

فجر الثلاثاء 14 صفر 1443هـ.

باب مَا جَاءَ فِي صَيْدِ الْبَحْرِ

1431- وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أبِي هُرَيْرَةَ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَمَّا لَفَظَ الْبَحْرُ، فَنَهَاهُ عَنْ أَكْلِهِ.

قَالَ نَافِعٌ: ثُمَّ انْقَلَبَ عَبْدُ اللَّهِ فَدَعَا بِالْمُصْحَفِ فَقَرَأَ: (أُحِلَّ لَكُمۡ صَیۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ) [المائدة:96] قَالَ نَافِعٌ: فَأَرْسَلَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِأَكْلِهِ.

1432- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ سَعْدٍ الْجَارِيِّ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنِ الْحِيتَانِ يَقْتُلُ بَعْضُهَا بَعْضاً، أَوْ تَمُوتُ صَرَداً؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ. قَالَ سَعْدٌ: ثُمَّ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ.

1433- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُمَا كَانَا لاَ يَرَيَانِ بِمَا لَفَظَ الْبَحْرُ بَأْساً.

1434- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ نَاساً مِنْ أَهْلِ الْجَارِ قَدِمُوا، فَسَأَلُوا مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ عَمَّا لَفَظَ الْبَحْرُ، فَقَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَقَالَ: اذْهَبُوا إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأبِي هُرَيْرَةَ فَاسْأَلُوهُمَا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ ائْتُونِي فَأَخْبِرُونِي مَاذَا يَقُولاَنِ، فَأَتَوْهُمَا فَسَأَلُوهُمَا، فَقَالاَ: لاَ بَأْسَ بِهِ. فَأَتَوْا مَرْوَانَ فَأَخْبَرُوهُ. فَقَالَ مَرْوَانُ: قَدْ قُلْتُ لَكُمْ.

1435- قَالَ مَالِكٌ: لاَ بَأْسَ بِأَكْلِ الْحِيتَانِ يَصِيدُهَا الْمَجُوسِيُّ، لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ فِي الْبَحْرِ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ".

1436- قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا أُكِلَ ذَلِكَ مَيْتاً فَلاَ يَضُرُّهُ مَنْ صَادَهُ.

باب تَحْرِيمِ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ

1437- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ أبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ، عَنْ أبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ".

1438- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أبِي حَكِيمٍ، عَنْ عَبِيدَةَ بْنِ سُفْيَانَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ".

قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الأَمْرُ عِنْدَنَا.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرِمِنا بالشريعة وبيانها على لسان عبده سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه وعلى مَن سار في دربه إلى يوم الدِّين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين وآلهم وصحبهم والتّابعين، وعلى ملائكة الله المُقرّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين. 

وبعدُ،

فيذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- في هذا الباب ما يتعلّق بصَيْدِ الْبَحْرِ؛ أي المصيد منه والذي يؤخذ من الحيوان الذي يعيش في البحر، ولقد جاءنا عنه ﷺ عن البحر  أنه "الحِلُّ ميتتُه"، وقد قال لنا تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ۖ) [المائدة:96]. ومن هنا نظر العلماء إلى ميتة البحر وطعام البحر.

  • وقال الجمهور: والأكثر أن كل ما لا يعيش إلا في الماء -سواءً كان بحرًا أو نهرًا أو غيرها من المياه الجارية- فإنه من جملة ما يكون من ميتة البحر؛ فيحلّ أكله ولا يحتاج إلى ذكاة. 

  • ونظروا إلى ما يمكن عيشه في البر والبحر، فهذا أكثره، قال الاكثرون: بأنه حرام، كمثل الضفدع؛ ممكن أن يعيش في الماء وممكن أن يعيش خارج الماء، فالأكثرون على أن ذلك حرام لا يجوز، كمثل السُّلحفاة على خلافٍ فيها. 

وما هو طعام البحر؟ إذا علِمنا صيد البحر؛ ما صدناه منه طعام البحر. طعام البحر:

○ ما ألقاه البحر إلى البر.

○ أو انحسر عنه الماء فمات.

○ أو كان قتله بعض الصيد.

فهذا طعام البحر. 

وقيل: أن طعام البحر ما ملحناه وخبأناه وتزودناه من هذا الصّيد، فيصير هو الطّعام. (أُحِلَّ لَكُمۡ صَیۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ) وَطَعَامُهُۥ؛ أي: وأحل لكم طعامه. فما أطعمكم مما لم تعالجوا فيه، إخراجه باصطيادٍ منكم فهذا طعام البحر، مثل ما يلقيه إلى الساحل أو ينحسر عنه الماء فيموت أو يقتله سمكٌ أخر. وقيل أيضًا في طعام البحر: أنه الذي لا يُقصد للأكل، وما يُستخرج من بعض حيوانات البحر لأجل عظامها ولأجل أسنانها والاستفادة منها، ما يقصد به الأكل فالأصح في هذه الأوجه الأول: ما ألقاه البحر وما انحسر عنه فهو طعام البحر (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ۖ) [المائدة:96]. 

أما نوع السمك من البحر فبالإجماع متفق على حله، وما عدا ذلك:

  • فالإمام أبو حنيفة حصر الإباحة في ميتة البحر للسمك، وما ليس من السمك لا يعد عنده من الحلال. 

ثم إنهم اختلفوا  أيضًا غير الإمام أبي حنيفة اختلفوا في ما يسمى بخنزير البحر؛ لأجل الاسم، (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) [الأنعام:145].

  • والذي عليه الإمام الشَّافعي والإمام أحمد: أن ما لا يعيش إلا في الماء وأنه إذا أُخرِج من الماء مات؛ فهو حلال وإن سمّي بأي اسمٍ كان. 

وهكذا بقي بعض أنواع مختلف فيها، أما أكثر ما يمكن عيشه في البرّ والبحر فالأكثرون على أنه حرام، لا يحل لا ميتته ولا بذكاة. 

إذًا فعَلِمنا ميتة البحر لهذه الآية، وأن جميع حيوانات البحر سواء كانت سمك أو غيره؛ حلال لقوله: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ)؛ أي مصيده ومطعومُه قال ﷺ: "الطَّهورُ ماؤهُ، الحلُّ ميتتُه".  وما يعيش في البر والبحر مثل الضفدع والتمساح وحية البحر فإنه يكون حرامًا. وقد نهى ﷺ عن قتل الضفدع، والتمساح مستخبثٌ عند النَّاس، وهو أيضًا يأكل النَّاس، وفي الحيّة سُم. 

  • وخصّص الحنفية كما سمِعنا الجواز بالسمك وبشرط أن لا توجد طافيه؛ أما ما طفا على البحر منه، فلا يدخل عندهم في طعامه ولا في صيده، ما طفا على الماء. 

  • وجماعة غير الحنفية أيضًا حرَّموا ما طفا دون ما ألقاه البحر أو انحسر عنه. 

  • ولم يفرِّق البقية بين شيءٍ من هذا فقالوا: كل ما لا يعيش إلا في الماء طفا على البحر أو ألقى به البحر إلى البر أو انحسر عنه الماء أو قتله سمكٌ أخر؛ فكله حلال. 

وفي هذا جاءنا الأحاديث، ومنها هذا الذي أورده مَالِك: "أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أبِي هُرَيْرَةَ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَمَّا لَفَظَ الْبَحْرُ، فَنَهَاهُ عَنْ أَكْلِهِ" في البداية، ثم تأمّل "ثُمَّ انْقَلَبَ عَبْدُ اللَّهِ فَدَعَا بِالْمُصْحَفِ فَقَرَأَ: (أُحِلَّ لَكُمۡ صَیۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ) [المائدة:96]." الصيد؛ ما الذي اصطدناه؛ استخرجناه بحيلة وجهد. (وَطَعَامُهُۥ)؛ هذا الذي ألقاه؛ الذي سألني عنه عبد الرحمن بن أبي هريرة.. "قَالَ نَافِعٌ: -مولاه- فَأَرْسَلَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِأَكْلِهِ."، حلال فهو من طعام البحر. فما لفظه البحر سواءً لفظه حيًا أو ميتًا. 

  • وفرّق مالك بين ما لفظه حيًا أو ميتًا:

○ ما لفظه حيًا يجوز أكله. وكذلك ما لفظه ميتًا عند الجمهور.

○ وخصص الإمام مالك بقوله ﷺ: "الحلُّ ميتتُه". ميتتُه؛ أنه لا تؤكل إلا ما مات بسبب مثل أن يؤخذ فيموت أو يموت من شدة حر أو برد أو تقتله سمكة أُخرى أو ينضب عنه الماء وينحسر أو يلفظه البحر حيًا فيموت. 

قال: أما إن مات حتف أنفه أو لفظه البحر ميتًا أو طفا على الماء؛ فلا يجوز عند أبي حنيفة، مع أننا قدمنا أنه عنده لا يجوز إلا السمك بخصوصه، ومع ذلك اشترط هذه الشروط ولكن الجمهور غيره أن كل ذلك حلال.

ثم ذكر لنا حديث: "سَعْدٍ الْجَارِيِّ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنِ الْحِيتَانِ يَقْتُلُ بَعْضُهَا بَعْضاً، أَوْ تَمُوتُ صَرَداً؟" تَمُوتُ صَرَدًا؛ يعني: بردًا، تموت بسبب البرد؛ صردًا. "فَقَالَ: لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ"؛ أي: يحل أكلها فهي من جملة صيد البحر وطعامه. "قَالَ سَعْدٌ: ثُمَّ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ". جاء عند أبي شيبة أنه قال سعيد الجاري هذا قال: سألت ابن عُمَر وابن عمرو عن الحيتان تموت سُددًا أو صردًا أو يقتل بعضها بعضًا، فقالا: حلال. قال ابن عُمَر أيضًا مثل ذلك؛ أي لا بأس بذلك، وهكذا إذا ماتت بأي سبب. واستثنى الإمام أبي حنيفة ما مات حتف أنفه من غير سبب؛ فإنه لا يحل أكله. 

ثم أورد لنا حديث: "أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُمَا كَانَا لاَ يَرَيَانِ بِمَا لَفَظَ الْبَحْرُ بَأْساً". بل هو عندهم من طعام البحر الذي أحلَّه الله لنا (أُحِلَّ لَكُمۡ صَیۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُ). وذكر لنا: "عَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ نَاساً مِنْ أَهْلِ الْجَارِ قَدِمُوا"، على مروان بن الحكم أيام إمارته للمدينة "فَسَأَلُوا مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ عَمَّا لَفَظَ الْبَحْرُ"؛ أي: رمى به البحر من الحيتان، "فَقَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَقَالَ: اذْهَبُوا إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأبِي هُرَيْرَةَ" فهم من عُلماء الصَّحابة الذين بقوا في ذلك الوقت، "فَاسْأَلُوهُمَا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ ائْتُونِي فَأَخْبِرُونِي مَاذَا يَقُولاَنِ"، ليتأكد من فهمه لحكمه في المسألة "فَأَتَوْهُمَا فَسَأَلُوهُمَا، فَقَالا" كل من سيِّدنا زيد بن ثابت وأبي هريرة: "لاَ بَأْسَ بِهِ"؛ يجوز أكله ما لفظه البحر. "فَأَتَوْا مَرْوَانَ فَأَخْبَرُوهُ" بما قالا، "فَقَالَ مَرْوَانُ: قَدْ قُلْتُ لَكُمْ" أنه لا بأس به، فالأمر كما فهمت من قبل، وهو كذلك متأكدٌ من فتوى سيِّدنا زيد بن ثابت وسيِّدنا أبو هريرة -رضي الله عنهم- لأنهما كانا من أعلم من بقي في ذلك الوقت من أصحاب النَّبي ﷺ في المدينة.

"قَالَ مَالِكٌ: لاَ بَأْسَ بِأَكْلِ الْحِيتَانِ"؛ يعني التي "يَصِيدُهَا الْمَجُوسِيُّ"، فليس حالها حال الذَّكاة. وقد تقدَّم معنا في الذَّكاة أنه لو ذكى المجوسي ولو بشفرة مسلم فإنه ميتة حرام لا يجوز تناولها؛ ما يحتاج إلى ذكاة. كذلك ذكاة المسلم حلال ولو بشفرة مجوسي؛ فلا عبرة بالآلة ولا بمالك الآلة لكن بالذابح المُذكّي هو الذي يعتبر مسلم أو غير مسلم. أما الحيوانات من البحر فما يشترط أن يصيدها مسلم، كل من صادها مجوسي أو يهودي أو نصراني أو ملحد أو كافر؛ حلال للمسلمين أن يأكلوها (أُحِلَّ لَكُمۡ صَیۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ) فلا تحتاج إلى إسلام الصائد. مثل المُذكاة تحتاج إلى إسلام المُذكي، لا بُدّ أن يكون الذي يذكيها مسلم. أما حيتان البحر فيجوز أن يصيدها أي أحد ويأكلها المسلم. "لاَ بَأْسَ بِأَكْلِ الْحِيتَانِ يَصِيدُهَا الْمَجُوسِيُّ، لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ فِي الْبَحْرِ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ". فما دامت حلال؛ فلا تحتاج إلى إسلام مَن يأخذها ويصيدها. 

"قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا أُكِلَ ذَلِكَ"؛ أي: الذي في البحر حال كونه "مَيْتاً فَلاَ يَضُرُّهُ مَنْ صَادَهُ". وهكذا بخلاف ما كان من صيد حيوانات البَر؛ فلا يحل ما صاده المجوسي ولا غيره من الكفَّار الذين لا تحل ذبيحتهم، فإن الاصطياد للبَرّ بمنزلة ذكاته. بخلاف صيد البحر أحلت ميتته، فلا يعتبر من صاده مسلمًا كان أو كافرًا. 

أما ما يحتاج إلى ذكاة أو ما يُصاد بكلب أو نحوه من حيوانات البَرّ، فبالاجماع إذا صاده مجوسي لا يجوز أن يأكله المسلم؛ لأن الصّيد بمنزلة الذّكاة. لكن صيد البحر ما يلزم فيه الذّكاة أصلًا، أحلت ميتته، فلا يضر مَن صاده كما أشار الإمام مالك عليه رحمة الله تبارك وتعالى. 

وهكذا يقول سيِّدنا الحسن البصري: رأيت سبعين من الصّحابة يأكلون صيد المجوسي من الحيتان، ما يقولون هذا صاده مجوسي لا يحل لنا، لا يختلج في صدورهم شيء من ذلك. ومثله الجراد، إذا صاده كافر وبعد ذلك مات أو قتله الكافر، فهو حلال لنا أصلًا وإن كان، هذا حكم الجراد والسمك. أما غير ذلك من حيوانات البر فلا يصح؛ فلا يجوز أكلها إلا أن يكون المذكي مسلمًا أو من أهل الكتاب الذين أُحلت لنا ذبيحتهم. وهكذا كان ابن العباس يقول: كُل من صيد البحر وإن صاده نصراني أو يهودي أو مجوسي. ويُروى عن سيِّدنا علي أنه كره -أي على سبيل التنزيه- صيد المجوسي للسمك. وجاء في رواية ابن أبي شيبة أيضًا عن سيِّدنا علي ما يدل على كراهيته صيد المجوسي السمك ومحمول ذلك على كراهة التنزيه.

 

باب تَحْرِيمِ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ

 

ثم يتحدث عن "تَحْرِيمِ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ"؛ وهي: الذي يفترس ويؤذي الآدمي ويأكله. يقول: "تَحْرِيمِ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ". ما له ناب؛ والمراد به: النَّاب الذي يفترس به، فالحيوان المفترس، هو الذي يقال له سَبُع، ويجمع على أسبع وسباع. قيل: سمِّي سبُع لأنه يمكث في بطن أمه سبعة أشهر. و "كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ"، وعليه الجمهور أنه مُحرّم كل السِّباع المفترسة المؤذية. أكل أي ذي ناب قويّ من السِّباع يعدو به ويكسر به، واختلفوا بعد ذلك في الضّبع. وقال تعالى: (إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) [البقرة:173] إلى آخر ما جاء في الآية. ونهى ﷺ عن أكل كل ذي نابٍ من السِّباع، جاء في الصَّحيحين كما أورده الإمام مالك في الموطأ، فهذا فيه نصّ صريح يخصّ عموم الآيات فيصير هذا حرام، من مثل هذا: الأسد، والنمر، والفهد، والذئب، والكلب، والخنزير؛ كلها محرَّمات لا يجوز تناول شيء منها بذكاة ولا غيرها.

وأورد: "عَنْ أبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ"، وهو ممَّن بايع تحت الشجرة وضرب له النَّبي ﷺ بسهمه في خيبر، أرسله النَّبي إلى قومه فأسلموا، سيِّدنا أبو ثعلبة الخشني كان يقول: إني لأرجو الله أن لا يخنقني كما تُخنقون عند الموت. بينما هو يصلي في جوف الليل، قُبضت روحه وهو ساجد في الصَّلاة، ورأت ابنته في النوم أن أباها مات فاستيقظت فزعة، تقول: أين أبي؟ قيل لها: في مُصلاه، نادته، فلم يجبها. أتته، فوجدته ساجد، حرّكته، فإذا به ميت، كان ذلك سنة خمس وسبعين من الهجرة، وقيل قبل ذلك. 

يقول أبو ثعلبة: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ". وجاء أيضًا في الحديث أن رسول الله ﷺ نهى عن أكل كل ذي ناب من السِّباع. وأورد: "عَنْ عَبِيدَةَ بْنِ سُفْيَانَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ".

"قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ"؛ أي: تحريمها، "الأَمْرُ"؛ يعني: المعمول به "عِنْدَنَا"؛ أي: في المدينة المنوَّرة من أقوال الفقهاء السبعة. وفرَّق بعضهم بين:

  • ما يعدو من السِّباع مثل الأسد والنمر؛ فيحرم باتفاق. 

  • وبين ما لا يعدو كالضبع والهر والذئب؛ 

    • أيضًا الأكثر على أنه حرام. 

    • وكرهه بعضهم. 

    • وأحلّه بعضهم. 

فقيل أن المراد في ذي النَّاب ما يقول ابن حجر في الفتح أنه ما يتقوى به، ويصول على غيره، ويصطاد ويعدو بطبعه غالبًا؛ هذا هو ذو النَّاب مثل الأسد والفهد والصقر والعقاب. وأما ما لا يعدو كالضبع والثعلب؛ فلا.

وسُئل الإمام أحمد عن ابن آوى وابن عرس، فقال: كل شيءٍ ينهش بأنيابه فهو من السِّباع. وكذلك يقول الإمام أبو حنيفة. والملاحظ عند الشَّافعية: أنه ما ليس له ناب قويّ كابن عرس فيشبه الضَّب، ولهذا جاء عند الشَّافعية وجهان في ابن آوى: حِلّه وحرمته. ولا يخفى أن المُحتاط لدينه يترك ما اختُلف فيه. 

"حرَّم رسول اللَّه ﷺ - يعني يوم خيبر - الحُمُرَ الإِنْسِيَّةَ، وَلحومَ البِغَال، وَكلَ ذي نابٍ من السِّبَاع، وذي مِخْلَبٍ من الطَّير"، رواه أحمد والترمذي. 

فالله يرزقنا الطَّيبات، ويدفع عنّا الخبائث في المطعومات والمشروبات، والمقول والفعل والأخلاق والأحوال كلَّها، ويجعلنا ممَّن ترعاهم عين عنايته في الشؤون كلَّها، ويقينا والأُمة الأسواء وكل بلوى بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ. 

 

تاريخ النشر الهجري

19 صفَر 1443

تاريخ النشر الميلادي

26 سبتمبر 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام