شرح الموطأ -249- كتاب الضَّحايا: باب ما يُنهى عنه من الضَّحايا، وباب ما يُستحب من الضّحايا

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الضَّحايا، باب مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ الضَّحَايَا، وباب مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الضَّحَايَا.
فجر الثلاثاء 30 محرم 1443هـ.
باب مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ الضَّحَايَا
- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ فَيْرُوزٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ مَاذَا يُتَّقَي مِنَ الضَّحَايَا؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ وَقَالَ: "أَرْبَعاً". وَكَانَ الْبَرَاءُ يُشِيرُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: يَدِي أَقْصَرُ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: "الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِى لاَ تُنْقِى".
1391- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَتَّقِي مِنَ الضَّحَايَا وَالْبُدْنِ الَّتِي لَمْ تُسِنَّ، وَالَّتِي نَقَصَ مِنْ خَلْقِهَا.
قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ.
باب مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الضَّحَايَا
1392- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ضَحَّى مَرَّةً بِالْمَدِينَةِ. قَالَ نَافِعٌ: فَأَمَرَنِى أَنْ أَشْتَرِيَ لَهُ كَبْشاً فَحِيلاً أَقْرَنَ، ثُمَّ أَذْبَحَهُ يَوْمَ الأَضْحَى فِي مُصَلَّى النَّاسِ. قَالَ نَافِعٌ: فَفَعَلْتُ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ حِينَ ذُبِحَ الْكَبْشُ، وَكَانَ مَرِيضاً لَمْ يَشْهَدِ الْعِيدَ مَعَ النَّاسِ. قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَيْسَ حِلاَقُ الرَّأْسِ بِوَاجِبٍ عَلَى مَنْ ضَحَّى. وَقَدْ فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته، وبيانها على لسان خير بريَّته، سيِّدنا مُحمَّد خيرته وصفوته، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحابته وأهل ولائه ومتابعته، وآبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين محل نظر الله -سبحانه وتعالى- في خليقته، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم والملائكة المقرَّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وابتدأ الإمام مالك -عليه رحمة الله- يذكر الأحاديث المتعلِّقة بالضحايا، جمع الأُضحية.
-
وهي من السُّنن التي هي عند جمهور فقهاء الأُمة: سُنَّة مؤكدة.
-
وقيل: فرض على الكفاية.
-
وقيل: واجبة. كذلك في مذهب الإمام أبي حنيفة للمقيم الموسر، مَن كان مقيمًا وموسرًا يستطيع. وفي رواية كذلك عن الإمام مالك، وعن الإمام أحمد،
-
والمشهور في مذهب الإمام مالك، ومذهب الإمام أحمد كالشافعي، أنَّها سُنَّة من السُّنن.
الأُضحية؛ أُضحية بضم الهمزة، وكذلك بكسرها: إِضحية، جمعها أضاحي. ويقال فيها: ضحية وجمعها ضحايا مثل عطية وعطايا. ويقال فيها: أضحى والجمع أضحى. هذه الأضحية، قال بعض أهل التفسير: أنها المشار إليها في قول الله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر:2] وأن المراد صلاة عيد يوم الأضحى وانحر الأضحية. وقد ثبت ذلك في السُّنّة وفي الإجماع، فهي مُجمع عليها وعلى مشروعيتها بين علماء الشَّرع المصون.
كتاب الضَّحايا يقول: "باب مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ الضَّحَايَا"؛ أي: ما لا يصح، ولا يجوز أن يُضحّى به لشيءٍ من الخلل الذي يكون في الأضحية، فإنه إنما يُذبح ويُقدم لله -تبارك وتعالى- الأطيب والأحسن. فما كان فيها من مرض وعور وعرج وما إلى ذلك؛ يمنع صحة الأضحية، "إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلَّا طيِّبًا".
يقول في الحديث: "عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ مَاذَا يُتَّقَي مِنَ الضَّحَايَا؟ فَأَشَارَ ﷺ بِيَدِهِ" الشَّريفة؛ يعني: عدَّدها بأصبعه -عليه الصَّلاة والسَّلام- وَقَالَ: "أَرْبَعاً". وَكَانَ الْبَرَاءُ" بن عازب أيضًا "يُشِيرُ بِيَدِهِ" وإذا أشار بيده" وَيَقُولُ:" في أدبه "يَدِي أَقْصَرُ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ."، وهكذا جاء عند أبي داود بلفظ يقول: قام فينا رسول الله ﷺ وعدّ، وقال: وأصابعي أقصر من أصابعه، وأناملي أقصر من أنامله، ثم قال: أربع لا تجوز في الأضاحي. فهذا من الأدب الذي تذرّع وظفر به الصَّحب الأكرمين، والصَّحابة أكثر الأُمة أدبًا مع الحق ورسوله ﷺ، وقد أدّبهم الله على يد ولسان رسوله ومُصطفاه، فمَن ذا الذي يفوقهم في الأدب ومؤدبهم حبيب الرَّب ﷺ. فكان يريد أن يشير أيضًا ويعدّ بأصابعه، فلمَّا يتذكر إشارة إصبعه، يقول: يدي أقصر من يده، أناملي أقصر من أنامله، أصابعي أقصر؛ يعني ما تساوي شيء يدي ولكني سأترجم لكم وأحكي لكم كيف عدّ أصابعه، ولا تقيسوا أصابعه بأصابع غيره، ولا يده بيد غيره، وأين يدي من يده؟ وأين إصبعي من إصبعه؟! ولا شك وأنها يد وإصبع جاوزت بعظمها ولحمها وشعرها وجلدها وظفرها السَّماوات السَّبع وسِدرة المنتهى، ووصلت إلى العرش. فأي يد مثل هذه اليد؟ وأي إصبع مثل هذه الإصبع؟! صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال: "وَكَانَ الْبَرَاءُ يُشِيرُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: يَدِي أَقْصَرُ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ:" وعدّ "الْعَرْجَاء"؛ أي: لا تجزئ في الأضحية، "الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ" الواضح الظاهر عرجها "ظَلْعُهَا". ظلعها؛ أي: عرجها، وفي هذا إشارة إلى أنه لو كان عرج خفيف في رجلها لم يضر ذلك، وضابطه أن تكون لاحقة لأخواتها في المرعى، لا تتخلف عنهن في المرعى ولا في الخروج للعرج القليل الذي فيها؛ فذلك لا يضر. ولكن إذا كان بيّن ظلعها؛ أي بيّن عرجها، فتتخلف عن أخواتها في المرعى؛ فحينئذٍ لا يُجزئ أن يضحي بها، إنما يضحي بما هو أطيب وأحسن وأنفع للطاعمين والآكلين منها. يقول: "الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا"، إذًا؛ فالعرجاء ما هو خفيف ظلعها؛ أي: عرجها، ومنها ما هو بيّن.
-
فإذا كان خفيفًا لا تتأخر عن صويحباتها في المرعى؛ فلا يضر.
-
وإذا كان العرج واضحًا بيّنًا يخلّفها عن صاحباتها في المرعى؛ فلا يصح أن يضحي بها.
"وَالْعَوْرَاءُ"؛ وهي التي ذهب بصر إحدى عينيها، وهذه العوراء. أيضًا قال: "الْبَيِّنُ عَوَرُهَا"،
-
فأما التي فيها بياض في عينها لكن لا يمنعها عن أصل النظر؛ فذلك لا يضر وتكون مجزية في الأضحية.
-
ولكن إذا بان عورها فصارت إنما تلتفت إلى جهة واحدة وتأخذ المرعى من جهة واحدة لأنها ترى بعين واحدة وفقدت الأخرى البصر؛ فلا تصح في الأضحية.
وكذلك المريضة، قال: "وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ" الظاهر الواضح "مَرَضُهَا"؛ بأي مرض كان، بشرط وضوحه، فهي تمنع الصحة والإجزاء في الأضحية؛ لأن المرض يكون نهك بدنها فينقص لحمها أو يفسده حتى تعافه النَّفس أو ينقص ثمنها كل هذه موانع من صحة الأضحية. وبان أيضًا من اللفظ أنه إذا كان مرضًا خفيف لا يُنقص اللحم ولا يؤثر عليها، فإن ذلك لا يضر في صحة التضحية بها. "وَالْعَجْفَاءُ"؛ أي: الهزيلة والنحيفة "الَّتِى لاَ تُنْقِى". معنى تنقي؛ لا شحم لها؛ لا نقي لها، والنقي؛ الشحم؛ فهي التي صارت من هُزالها ما ينبت لها الشحم، فلا يوجد فيها. فإذا بلغت هذا الحد لا تجزئ.
وهكذا أجمع الفقهاء -عليهم رضوان الله- أن هذه العيوب المذكورة الأربعة البيّنة مانعة من صحة الأضحية؛ فلا يجزئ الأضحية بشيء منها. وجاءنا بعد ذلك في الروايات الأخرى بيان أيضًا عن مقطوعة الأذن ونحوها، فتبيّن أن كل عيبٍ يُنقص اللحم أو الثمن يضر بالأضحية فلا تصح. وينبغي أن نجعل لله أحسن ما عندنا ونقدم أغلى ما لدينا فنجعله لله جلّ جلاله وتعالى في عُلاه.
وذكر لنا عن "عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ" أنه "كَانَ يَتَّقِي مِنَ الضَّحَايَا وَالْبُدْنِ الَّتِي لَمْ تُسِنَّ"، أو لم تُسَن أو لم تُسَنِّن، فيأتي المعنى: "الَّتِي لَمْ تُسِنَّ" ويقال: أسن الإنسان؛ يعني بذلك إذا كبر، التي لم تبلغ سن السن وهو سنتان من المعز ومن البقر، وأربع سنوات من الإبل أو خمس، وسنة واحدة من الضأن إلا أن تكون أجذعت لحسن صحتها وقوة جسدها. فأجذعت؛ أي أسقطت مقدّم أسنانها.
وهكذا أيضًا الرواية بضم التاء وفتح السين تُسَن؛ يعني: لم تكن مُسِنَة مأخوذة من السن. وكذلك التي أسقطت أسنانها فصارت هتماء لا سن لها؛ فلا تصح أيضًا في الأضحية التي لم تنبت أسنانها. والتي يقال فيها لم تسِن؛ أي لم تُخرج سنها؛ لم تعطي أسنانها فهي كذلك إذا كانت هتماء.. لا تصح، ولكن التفسير في الرواية، أن المراد بها لم تبلغ السنّ الذي تصح به. كما جاء في الحديث عنه ﷺ، وكذلك فيما يأتي معنا من تأخير الأضحية عن دخول وقت الصَّلاة وعن صلاة الإمام.
باب مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الضَّحَايَا
يقول: "باب مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الضَّحَايَا"، فكل ما كان أسمن وأعظم وأكثر ثمنًا فهو الأفضل. وأورد لنا حديث: "عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ضَحَّى مَرَّةً بِالْمَدِينَةِ. قَالَ نَافِعٌ" مولى بن عُمَر -رضي الله تعالى عنه-: "فَأَمَرَنِى أَنْ أَشْتَرِيَ لَهُ كَبْشاً" فحل الضأن "فَحِيلاً"؛ أي: ذكرًا لا أنثى. فإما أراد به مجرد الذكورة، وإما أراد به أنه لم يُخصى كذلك. "أَقْرَنَ"؛ أي ذا قرنين كبيرين "ثُمَّ أَذْبَحَهُ يَوْمَ الأَضْحَى فِي مُصَلَّى النَّاسِ."، فاختار الكبش وأن يكون فحيلًا؛ يعني ذكرًا. أقرن؛ أي له قرون تامة على أنه لو انكسر القرن فالجمهور أن ذلك لا يضر في الأضحية. فالجمَّاء التي لا قرون لها أنها ستصلح في الأضحية. بخلاف إذا انقطع أذنها. وكذلك في مقطوعة الذنب، وأما إذا قُطع شيء يسير؛ فلا يضر. وذلك أنه عرض بعض الصَّحابة عليه ﷺ شاة أصابها الذئب شيئًا من ذنبها فيتمنى أن يكون ذلك شيئًا يسيرًا، فأمره ﷺ أن يضحي بها.
وفي هذا اعتناء ابن عُمَر بالأضحية، وهكذا تدخل إذا أُعدّت من أجل السُّنة في شعائر الله التي تعظيمها من تقوى القلوب، (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ۖ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ) [الحج:36] وبذلك كان كثير من المؤمنين يعدّون للأضحية عدّة تعظيمًا لشعائر الله، ويبقونها تحت نظرهم أشهرًا يُحسنون علفها حتى لا يأتي وقت عيد الأضحى إلا وهي في حالة طيبة. فمنهم من يعتني بما ربّاه من البداية، ومنهم مَن كان يشتري في شهر شعبان ما يربيه من الأضاحي لأجل شهر ذي الحجة عندما يأتي عيد الأضحى، وفي خلال هذه الأشهر: شعبان، ورمضان، وشوال، والقعدة يتولى بنفسه علفها والإشراف على تغذيتها لتكون أطيب وقت التضحية.
وبذلك جاء أيضًا في تعظيم الأضاحي أنه ﷺ لمّا أرادت ابنته السيدة فاطمة -عليها رضوان الله وسلامه- أن تُضحّي وأعدت أضحيتها الحسنة الجميلة، فقال لها ﷺ: قومي اشهدي أضحيتك، قومي اشهدي أضحيتك فإن لك بأول قطرة من دمها أن يغفر الله لك، وأنها توضع بأظلافها وعظمها وشعرها في ميزانك فتُضاعف سبعين ضعفًا. ومن هنا قالوا:
-
يُسن للمضحي أن يضحي بيده بنفسه.
-
أو يشهد الأضحية إذا لم يتولى الذبح بيده.
وقد كان ﷺ يتناول المُدية ويذبح بيده أضحيته. وفي الحديث أنه صلّى العيد ثم ضحّى بكبشين أقرنين أملحين.
يقول: "فَأَمَرَنِى أَنْ أَشْتَرِيَ لَهُ كَبْشاً فَحِيلاً"؛ أي: ذكرًا "أَقْرَنَ"؛ ذا قرنين كبيرين "ثُمَّ أَذْبَحَهُ يَوْمَ الأَضْحَى فِي مُصَلَّى النَّاسِ."، فالأضحية من القُرَب العامة المسنونة..
-
فإظهارها أفضل لأنه في إحياء لسنتها.
-
وفي الإعلان بها أيضًا، حثٌّ للناس على الأضحية وإعلانٌ للشعيرة المباركة.
وهكذا في ذلك الاتباع له ﷺ كما جاء عنه:
-
أنه كان يذبح أضحيته بالمصلى.
-
وكان يفطر على كبد أضحيته.
أي: يمسك عن الطعام بعد الفجر يوم العيد حتى يصلي العيد ويذبح الأضحية ويفطر على كبد أضحيته ﷺ. وهكذا جاء في البُخاري: عن عبد الله بن عُمَر أنه كان ينحر في المنحر؛ يعني: في منحر النَّبي ﷺ، حيث نحر أضحيته لشدة تشبثه بالمتابعة لرسول الله ﷺ. وكان رسول الله ﷺ يذبح وينحر بالمُصلى. وكان من الحِكم التي ذكرها الإمام مالك وغيره، ذبحه ﷺ في المصلى أن لا يسبقه أحد؛ أن لا يذبح أحد قبله من أمته، فيكون هو المُقتدى ويتضاعف لهم الأجر بعد ذبحه ﷺ.
فبهذا رأى الإمام مالك كغيره من أهل العلم: أن الإمام ينبغي أن يُبرز أضحيته للمصلى فيذبح هناك. وهكذا يقول أيضًا أبو حنيفة والإمام مالك: لا ينبغي لأحد أن يذبح أضحيته حتى يذبح الإمام إن كان ممَن يذبح. وهذا من باب الاستحسان والاستحباب وإلا فالأمر واسع. واتفقوا على أن الذبح قبل الصَّلاة لا يجوز، لقوله: مَن ذبح قبل الصَّلاة فإنما هي شاة لحم. يقول ﷺ: "إنَّ أوَّلَ ما نبدَأُ به في يومِنا هذا أنْ نُصَلِّيَ ثمَّ نرجِعَ فننحَرَ". أما قبل الإمام؛ فلا إشكال فيه ولكن الأفضل أن يؤخره.
-
كما أن الإمام مالك شدّد وقال: لا ينبغي لأحد أن يذبح حتى يذبح الإمام، لما جاء في رواية أنه أمر لمَن ذبح قبل ذبحه أن يُعيد.
-
وقال الجمهور: إنما المقصود مرور الوقت الذي يسع الصَّلاة.
-
فهكذا يقول الإمام الشَّافعي: أنه إذا قد مضى من طلوع الشَّمس مقدار ما يسع الصَّلاة والخُطبة؛ فقد دخل وقت الأضحية.
-
وجاء عن الإمام أبي حنيفة، أن مَن ذبح من بعد الفجر أجزأه.
-
وبعضهم قال: بل بعد طلوع الشَّمس؛ لأنه اليوم الذي يبدأ فيه. يُعلم من ذلك أن تأخير الأضحية هو الأولى لتكون صحيحة عند الأئمة كلهم رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
ويستمر وقت الأضحية يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة، واختُلف في اليوم الثالث من أيام التشريق فتقديمها عليه أفضل، وكل يوم أفضل من اليوم الذي بعده.
"قَالَ نَافِعٌ: فَفَعَلْتُ"؛ أي: اشتريت له الكبش الذي وصفه لي "ثُمَّ حُمِلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ"؛ يعني: بعد أن ذُبحت أضحيته. "فَحَلَقَ رَأْسَهُ حِينَ ذُبِحَ الْكَبْشُ"، ومن المعلوم أن مَن أراد أن يُضحّي إن كان غير حاج؛ فينبغي إذا دخل العشر من ذي الحجة أن لا يمسّ شيئًا من شعره ولا ظفره حتى يُضحي أولًا، وبعد الأضحية يقص أظافره ويحلق شعره. قال: "وَكَانَ" في تلك السَّنة ابن عُمَر "مَرِيضاً لَمْ يَشْهَدِ الْعِيدَ مَعَ النَّاسِ." ولا قصّر في الأضحية فلهذا استناب من يُضحي عنه ويذبح عنه تعظيمًا لهذه الشَّعيرة.
"قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَيْسَ حِلاَقُ الرَّأْسِ"؛ أي: حلق شعر الرأس "بِوَاجِبٍ عَلَى مَنْ ضَحَّى." إنما يكون الحلق أو التقصير للحاج، "وَقَدْ فَعَلَهُ"؛ أي: عبد الله بن عُمَرَ -رضي الله عنهما- إما على سبيل الاستحباب أو أنه احتاج إلى حلق شعر رأسه، فجعل ذلك بعد أن ضحى.
-
ويقول الجمهور أيضًا: أن المُضحي يُسن له أن لا يأخذ شيئًا من شعره وأظفاره في أيام العشر حتى يضحي، لا يمس شيئًا من ظفره وشعره.
-
وقال الإمام أحمد: واجب أن لا يمس شيئّا من شعره وظفره حتى يُضحي.
-
ولم يرَ السُّنية في ذلك الإمام أبو حنيفة عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
-
وهكذا مَن أراد أن يُضحي، فدخل العشر، فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئًا. أخذ بظاهره الحنابلة، فحرّموا على مَن أراد أن يُضحي أن يقصّ شعره أو أظافره.
نسأل الله أن يرزقنا تعظيم الشَّعائر، واقتفاء أثر الحبيب في الباطن والظاهر، وأن يصلح لنا شؤوننا بما أصلح به شؤون الصَّالحين الأكابر، وأن يفرِّج كروبنا وكروب المسلمين ويدفع البلاء عنّا وعن المؤمنين، ويبارك لنا في الأعياد ويسعدنا بأعلى الإسعاد، ويُوفر حظنا من المِنن والمواهب وواسع الإمداد، مع صلاح الجسم والفؤاد والخافي والباد في الدُّنيا والبرزخ والمعاد، وأن يختم لنا بأكمل الحسنى وهو راضٍ عنا بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
05 صفَر 1443