شرح الموطأ -244- كتاب النذور والأيمان: باب ما يَجب مِن النُّذور في الْمَشْي، وباب فيمن نَذَرَ مَشيًا إِلى بيت اللَّه فَعَجَز

شرح الموطأ -244- كتاب النذور والأيمان، باب مَا يَجِبُ مِنَ النُّذُورِ فِي الْمَشْي، من حديث عبدالله بن عباس
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب النذور والأيمان: باب مَا يَجِبُ مِنَ النُّذُورِ فِي الْمَشْي، باب فِيمَنْ نَذَرَ مَشْياً إِلَى بَيْتِ اللَّهِ فَعَجَزَ.

فجر الثلاثاء 23 محرم 1443هـ.

باب مَا يَجِبُ مِنَ النُّذُورِ فِي الْمَشْي

1353 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ وَلَمْ تَقْضِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "اقْضِهِ عَنْهَا".

1354 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمَّتِهِ، أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ عَنْ جَدَّتِهِ: أَنَّهَا كَانَتْ جَعَلَتْ عَلَى نَفْسِهَا مَشْياً إِلَى مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَمَاتَتْ وَلَمْ تَقْضِهِ، فَأَفْتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ابْنَتَهَا أَنْ تَمْشِيَ عَنْهَا.

1355 - قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: لاَ يَمْشِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ.

1356 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي حَبِيبَةَ قَالَ: قُلْتُ لِرَجُلٍ وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ مَا عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ: عَلَىَّ مَشْيٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ عَلَىَّ نَذْرُ مَشْيٍ. فَقَالَ لِي رَجُلٌ: هَلْ لَكَ أَنْ أُعْطِيَكَ هَذَا الْجِرْوَ - لِجِرْوِ قِثَّاءٍ فِي يَدِهِ – وَتَقُولُ: عَلَيَّ مَشْيٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، قَالَ: فَقُلْتُ نَعَمْ، فَقُلْتُهُ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ، ثُمَّ مَكَثْتُ حَتَّى عَقَلْتُ، فَقِيلَ لِي: إِنَّ عَلَيْكَ مَشْياً، فَجِئْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِي: عَلَيْكَ مَشْيٌ. فَمَشَيْتُ.

قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا الأَمْرُ عِنْدَنَا.

باب فِيمَنْ نَذَرَ مَشْياً إِلَى بَيْتِ اللَّهِ فَعَجَزَ

1357 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أُذَيْنَةَ اللَّيْثِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ جَدَّةٍ لِي عَلَيْهَا مَشْيٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَجَزَتْ، فَأَرْسَلَتْ مَوْلًى لَهَا يَسْأَلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَسَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ، ثُمَّ لْتَمْشِي مِنْ حَيْثُ عَجَزَتْ.

1358 - قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: وَنَرَى عَلَيْهَا مَعَ ذَلِكَ الْهَدْيَ.

1359 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَا يَقُولاَنِ: مِثْلَ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

1360 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عَلَيَّ مَشْيٌ، فَأَصَابَتْنِي خَاصِرَةٌ، فَرَكِبْتُ حَتَّى أَتَيْتُ مَكَّةَ، فَسَأَلْتُ عَطَاءَ بْنَ أبِي رَبَاحٍ وَغَيْرَهُ، فَقَالُوا: عَلَيْكَ هَدْيٌ. فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ سَأَلْتُ عُلَمَاءَهَا، فَأَمَرُونِي أَنْ أَمْشِيَ مَرَّةً أُخْرَى مِنْ حَيْثُ عَجَزْتُ، فَمَشَيْتُ.

1361 - قَالَ يَحْيَى ك: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: فَالأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ يَقُولُ: عَلَيَّ مَشْيٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، أَنَّهُ إِذَا عَجَزَ رَكِبَ، ثُمَّ عَادَ فَمَشَى مِنْ حَيْثُ عَجَزَ، فَإِنْ كَانَ لاَ يَسْتَطِيعُ الْمَشْيَ فَلْيَمْشِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيَرْكَبْ، وَعَلَيْهِ هَدْيُ بَدَنَةٍ، أَوْ بَقَرَةٍ، أَوْ شَاةٍ، إِنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ هِيَ.

1362 - وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: أَنَا أَحْمِلُكَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ نَوَى أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ الْمَشَقَّةَ وَتَعَبَ نَفْسِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلْيَمْشِ عَلَى رِجْلَيْهِ وَلْيُهْدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَوَى شَيْئاً، فَلْيَحْجُجْ وَلْيَرْكَبْ، وَلْيَحْجُجْ بِذَلِكَ الرَّجُلِ مَعَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَحْمِلُكَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحُجَّ مَعَهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ.

1363 - قَالَ يَحْيَى: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَحْلِفُ بِنُذُورٍ مُسَمَّاةٍ مَشْياً إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، أَنْ لاَ يُكَلِّمَ أَخَاهُ أَوْ أَبَاهُ بِكَذَا وَكَذَا، نَذْراً لِشَيْءٍ لاَ يَقْوَى عَلَيْهِ، وَلَوْ تَكَلَّفَ ذَلِكَ كُلَّ عَامٍ، لَعُرِفَ أَنَّهُ لاَ يَبْلُغُ عُمْرُهُ مَا جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ يُجْزِيهِ مِنْ ذَلِكَ نَذْرٌ وَاحِدٌ أَوْ نُذُورٌ مُسَمَّاةٌ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: مَا أَعْلَمُهُ يُجْزِئُهُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ الْوَفَاءُ بِمَا جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ، فَلْيَمْشِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّمَانِ، وَلْيَتَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا اسْتَطَاعَ مِنَ الْخَيْرِ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرِمنا بالشريعة وأحكامها، وبيانها على لسان عبده مُحمدٍ صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم، المُبيّن لحقائقها وقِوامها، وعلى آله وصحبه ومن سار في سبيله إلى ربه، وعلى آبائه وإخوانه مِنَ الأنبياء والمرسلين المبشّرين به، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين، وجميع عباد الله الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

ويذكر لنا الإمام مَالِكْ -عليه رضوان الله تعالى-: "كتابُ النُذُورِ والأَيمَان"، 

  • والنُذُورُ: جمع نَذرٍ، وهو التزام قُربةٍ غيرِ لازمةٍ بأصل الشرع مقصودة، وهو أن يلتزم بفعل شيء مِنَ السُّنَنِ والطاعات وأنواع الخيرات والقربات. 

    • إنما يؤثر النَذر في السُّنة، وفي المَندوب المُتقرّب به إلى الله، فيُحوّله على ناذره فرضًا وواجبًا. 

    • وأما النَذر في المباحات فلا يؤثر شيئًا، ولا يُخرِجها عن حكمها. 

    • كالنَذر في المكروهات، أو الحرام فلا يؤثر شيئًا. 

    • أما الواجبات فهي بالأصل الشرعي واجبة لا يؤثر فيها النذر مزيدة وجوب.

أجمع فقهاء الشرع المصون على الاعتداد بالنَذر وصحَته ووجوب الوفاء به. 

  • لقول الله تعالى (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) [الحج:29] 

  • وقوله ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) [الإنسان:7]، 

  • وقوله: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [التوبة:75-76-77]، 

  • وقال النَّبي ﷺ: "مَن نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْه، ومَن نَذَرَ أنْ يَعْصِيَهُ فلا يَعْصِهِ"، لأنَّ النذر لا يؤثر في المعاصي شيء.

إذًا؛ فالنذر الذي يُطلق في اللغة على النحبِ بما ينذره الإنسان فيجعله على نفسه نحبًا واجبًا، فهو معناه في الشرع: أن يلتزم المكلَّف -مختارًا لله تعالى- بقول شيءٍ غير لازم بأصل الشرع يُتقرب به إلى الله جلَّ جلاله وتعالى في علاه.

فإذًا إنما يصح النذر في القُربة المقصودة، وتتحول من سُنَّةٍ وقُربةٍ غير لازمةٍ إلى لازمةٍ بواسطة النذر، فهو إذًا التزام قُربةٍ لم تتعيّن؛ أي: لم تجب على الأعيان بحُكم الشرع، كمثل فرض الكفاية، وأنواع السُنن والطاعات، التي يَصِحّ فيها النذر. وهناك نذرٌ يُسمى بنذر اللَجاج والغضب، الذي يُخرجه مخرج اليمين على فعل شيء، أو المنع مِنْ فعل شيء، وهذا هو عند الحَنَابِلَة وغيرهم يُسلك بمسلك اليمين.

وما ذكرناه نذر الطاعة والتبرّر، مِنْ مثل صومٍ مندوبٍ أو قراءة قرآنٍ، أو صلةٍ لرحمٍ، أو صدقةٍ أو غير ذلك، فهذا بالإجماع يلزم الوفاء به إذا نذره. وكذلك وإن لم يكن في مقابله شيءٍ يحصُل له، الذي يكون في المقابل يقول إن شفى الله مريضي  عليّ صوم كذا وما إلى ذلك، أو أي شيءٍ مِنْ أعمال الصالحات فيلزمه إذا تمّ ما نذر عليه، كذلك التزامه مِنْ غير شرطٍ، يقول إنَّ لله عليه أن يصوم يومًا، أو أن يقرأ من القرآن كذا، وما إلى ذلك، فكذلك عند أهل العلم وأكثرهم أنه كذلك يلزم الوفاء به.

وأما إن نذر شيئا مُبهمًا فقال: لله عليَّ نذر فقط، فهذا نذر المُبهم، 

  • قال الشَّافعية: لا ينعقد، لا معنى له؛ لله عليَّ نذر.

  • وقال غيرهم: يجب أن يُخرج كفارةً عن ذلك.

وأما المُباحات فلا يتغير حُكمها، كأن نذر أن يلبس هذا الثوب المعيّن مثلًا، أو أن يأكل هذا النوع مِنَ الطعام وما إلى ذلك، قال الإمام مَالِكْ والإمام الشَّافعي: هذا لا ينعقد النذر من أصله، وإن شاء فعل وإن شاء ترك. من باب أولى إذا نذر فعل مكروهٍ، ومن باب أولى إذا نذر فعل حرامٍ فيبقى الحرام حرامًا لا يؤثر فيه نذره شيء.

أورد لنا -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-: "مَا يَجِبُ مِنَ النُّذُورِ فِي الْمَشْي"، وأورد لنا حديث: "سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ وَلَمْ تَقْضِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اقْضِهِ عَنْهَا". وهذا سؤال سيدنا سعد بن عُبادة، سيد الخزرج من الأنصار -رضي الله تعالى عنهُ- رسول الله ﷺ، قال: "إِنَّ أُمِّي"؛ أُمه عمرة بنت مسعود، يقول "إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ"  فأرشده النبي ﷺ يقضي عن أمه النذر الذي لم تقضه؛ لم تقم به ولم تفعله في حياتها، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "اقْضِهِ عَنْهَا". كما يقضي عن ميته أنواع الدَّين، فكذلك ما كان من نذر في قُربةٍ فينبغي للورثة أن يوفوا به عن ميتهم، وإن كان ذلك عند أكثر أهل العلم مُستحبٌّ وليس بواجبٍ عليهم؛ إلا ما كان من حقٍ مُعيَّنٍ في المال فإنه يجب أن يُخرج عنه ذلك مِنْ قبل أن تُقسم الترِكة ويُقسم المال.

ويقول: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمَّتِهِ، أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ عَنْ جَدَّتِهِ"، فيروي عن عمته: عَمرة بنت حرام، يقول "أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ عَنْ جَدَّتِهِ" جدة عبد الله، "أَنَّهَا كَانَتْ جَعَلَتْ عَلَى نَفْسِهَا مَشْياً إِلَى مَسْجِدِ قُبَاءٍ"؛ أي: التزمت ونذرت أن تمشي على رجليها إلى مسجد قباء، وهو المسجد الذي اشتغل بتأسيسه ﷺ أول ما وصل إلى المدينة المنورة، "فَمَاتَتْ وَلَمْ تَقْضِهِ، فَأَفْتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ابْنَتَهَا أَنْ تَمْشِيَ عَنْهَا"، عن أمّها، وفيه صحة هذا النذر، وهنا النيابة في المشي وفيه خلافٌ بين أهل العلم:

  • فمن نذر أن يُصلِّي في مسجدٍ من المساجد. 

    • إن كان غير المساجد الثلاثة فلا يلزمه ذلك.

    • وإن كان أحد المساجد الثلاثة فيجب عليه أن يفي بنذره.

  •  فإذا نذر المشي إلى المَسْجد غير المساجد الثلاثة لم يلزمه، ولم ينعقد نذره عند الشَّافعية وكذلك الإمام مَالِكْ وما جاء عن الإمام أحمَدْ عليه رضوان الله تعالى؛ لكن يقول الإمام أحمَدْ أن عليه أن يُخرج كفَّارة يمين.

 والحديث جاء في مسجد قباء وهو غير المساجد الثلاثة؛ ولكن أيضًا كان ﷺ يخصّه بالمشي إليه ويأتي قباء كل سبت، راكبًا وماشيًا؛ أحيانًا يمشي وأحيانا يكون راكبًا على الدابة صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.

ثم أورد لنا قول يحيى: "لاَ يَمْشِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ"، لأن المشي طاعة بدنية، ولا نيابة في الطاعات البدنية عند الإمام مَالِكْ والحَنَفِية وكثير من أهل العلم.

وأورد لنا حديث: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي حَبِيبَةَ قَالَ: قُلْتُ لِرَجُلٍ وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ مَا عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ: عَلَىَّ مَشْيٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ عَلَىَّ نَذْرُ مَشْيٍ. فَقَالَ لِي رَجُلٌ: هَلْ لَكَ أَنْ أُعْطِيَكَ هَذَا الْجِرْوَ - لِجِرْوِ قِثَّاءٍ فِي يَدِهِ - وَتَقُولُ: عَلَيَّ مَشْيٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، قَالَ: فَقُلْتُ نَعَمْ،" من أجل ليأخذ منه القِثَّاء الذي يعطيه، يعني قطعة صغيرة مِنَ القِثَّة، وقالوا: "وَتَقُولُ: عَلَيَّ مَشْيٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، قَالَ: فَقُلْتُ نَعَمْ، فَقُلْتُهُ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ"، لا أفقه ما يلزم عليّ، "ثُمَّ مَكَثْتُ حَتَّى عَقَلْتُ، فَقِيلَ لِي: إِنَّ عَلَيْكَ مَشْياً" إلى بيته؛ أي: لَزِم عليك بما قلته أن تمضي ماشيًا مؤديًا حق النذر الذي نذرته، "فَجِئْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِي: عَلَيْكَ مَشْيٌ"؛ أي: يلزمك مشيٌ إلى بيت الله بقولك هذا، والمشهور عن سعيد بن المُسيَّب في مذهبه غير هذا؛ أنه لا يلزمه الوفاء بمشيٍ إلى الكعبة ولا غيرها. قال: "فَمَشَيْتُ"؛ يعني: التزمت بقضاء النذر الذي عليّ، "قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا الأَمْرُ عِنْدَنَا."؛ يعني: إذا التزم أن يحج ماشيًا وجب عليه ذلك، وبيّن ذلك في الباب الذي يليه.

 

بابٌ فِيمَنْ نَذَرَ مَشْياً إِلَى بَيْتِ اللَّهِ فَعَجَزَ

 

فإذا لم يستطع ولم يتأتى له بعد ذلك النذر فيحجّ راكبًا يؤدّي أصل الحجّ؛ وما طرأ عليه من العجزِ في المشي سقط عنه، ووجب أن يؤدي الحجّ.

وجاء "عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أُذَيْنَةَ اللَّيْثِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ جَدَّةٍ لِي عَلَيْهَا مَشْيٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَجَزَتْ" ما قدرت تُتِم مشيها، "فَأَرْسَلَتْ مَوْلًى لَهَا يَسْأَلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَسَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ، ثُمَّ لْتَمْشِي"؛ يعني: في سنة أخرى "مِنْ حَيْثُ عَجَزَتْ"؛ يعني: إذا قدرت بعد ذلك فتقضي ذلك.

قال الإمام "مَالِكْ: وَنَرَى عَلَيْهَا مَعَ ذَلِكَ الْهَدْيَ"، وإن قَضَت فيما بعد المشي؛ لكن لعجزها في هذه الحَجّة التي مضت إليها، أن تُخرج الهَدْي. وكذلك يقول الشَّافعية: إذا نذر أن يحج ماشيًا فأخلف نذره فعليه فدية، إن لم يحجّ ماشيًا بل ركب فعليه فدية أن يذبح شاةً، أو يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع؛ إذا نذر أن يحجّ ماشيًا فأخلف ذلك وركب فعليه الدم، وهو أن يذبح شاةً فإن عجز عن الشاة فليَصُم عشرة أيام، ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع. وفي ذلك يقول ابنِ المقرئ في المشي في الحجّ إذا نذر:

 أو كمشيٍ أخلفه ناذرهُ

 يصوم إن دمًا فقدْ ***  ثلاثة فيه وسبعًا في البلد

وكان "سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَا يَقُولاَنِ: مِثْلَ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ".

وذكر: "عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عَلَيَّ مَشْيٌ"؛ يعني: التزمه أو نذره، "فَأَصَابَتْنِي خَاصِرَةٌ،"؛ أي: وجع في خاصرتي، "فَرَكِبْتُ حَتَّى أَتَيْتُ مَكَّةَ، فَسَأَلْتُ عَطَاءَ بْنَ أبِي رَبَاحٍ وَغَيْرَهُ"؛ أي: من العلماء الموجودين في مكة "فَقَالُوا: عَلَيْكَ هَدْيٌ". 

  • وفيه: احتياط المؤمن لنفسه، وسؤاله عدد من العلماء حتى يتبيّن ما عليه بينه وبين الله.

"فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ سَأَلْتُ عُلَمَاءَهَا، فَأَمَرُونِي أَنْ أَمْشِيَ مَرَّةً أُخْرَى مِنْ حَيْثُ عَجَزْتُ، فَمَشَيْتُ".

يقول: "الإمام مَالِكْ فَالأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ يَقُولُ: عَلَيَّ مَشْيٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، أَنَّهُ إِذَا عَجَزَ رَكِبَ، ثُمَّ عَادَ فَمَشَى مِنْ حَيْثُ عَجَزَ"؛ أي: في سنةٍ أخرى، "فَإِنْ كَانَ لاَ يَسْتَطِيعُ الْمَشْيَ فَلْيَمْشِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيَرْكَبْ، وَعَلَيْهِ هَدْيُ"؛ والهدي عند الإمام مَالِكْ في هذا: بَدَنَةٍ، أَوْ بَقَرَةٍ، أَوْ شَاةٍ، إِنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ هِيَ". 

  • فهذا مذهب الإمام مَالِكْ عليه رضوان الله تبارك وتعالى.

  • لكن عند الحَنَفِية كالشَّافعية: إنما عليه شاة؛ ليس عليه بَدَنة ولا بقرة، إذا أخلف الناذر المشي في الحجّ فعليه شاة؛ فإن عجز فصيام عشرة أيام.

"وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: أَنَا أَحْمِلُكَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ؟"؛ يعني: ماذا يلزم عليه؟ "فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ نَوَى أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ الْمَشَقَّةَ وَتَعَبَ نَفْسِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ"، وما يجب عليه بذلك شيء، "وَلْيَمْشِ عَلَى رِجْلَيْهِ" وليحجّ لنفسه وَلْيُهْدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَوَى شَيْئاً، فَلْيَحْجُجْ وَلْيَرْكَبْ، وَلْيَحْجُجْ بِذَلِكَ الرَّجُلِ مَعَهُ"؛ يعني: يعطيه نفقة الطريق أو يُركبه على دابته، "وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَحْمِلُكَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحُجَّ مَعَهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ."؛ لأنه رفض الذي له حق النذر، وقال ما أريد أن أمشي، فعليه إن رضيَ ورغب المنذور له بالمشيّ للحج أن يحج به، فإن أبى ذلك سقط عنه الأمر.

"قَالَ يَحْيَى: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَحْلِفُ بِنُذُورٍ مُسَمَّاةٍ مَشْياً إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، أَنْ لاَ يُكَلِّمَ أَخَاهُ أَوْ أَبَاهُ بِكَذَا وَكَذَا، نَذْراً لِشَيْءٍ لاَ يَقْوَى عَلَيْهِ، وَلَوْ تَكَلَّفَ ذَلِكَ كُلَّ عَامٍ، لَعُرِفَ أَنَّهُ لاَ يَبْلُغُ عُمْرُهُ مَا جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ" النذر، مثلًا ينذر ألف حَجّة، "فَقِيلَ لَهُ: هَلْ يُجْزِيهِ مِنْ ذَلِكَ نَذْرٌ وَاحِدٌ"؛ يعني: حجّة واحدة "أَوْ نُذُورٌ مُسَمَّاةٌ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: مَا أَعْلَمُهُ يُجْزِئُهُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ الْوَفَاءُ بِمَا جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ، فَلْيَمْشِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّمَان"؛ أي: يحج ماشيًا مدة حياته، فإن قال هو سبعين حجة ونحوها فهذا يحكمه فيه عمره، فإن مات فتبيَّن أنه لم يدخل ذلك في دائرة مقدرته، وهو عاجز عنه.

رزقنا الله بركة العُمرِ وصَرفه في مرضاته، والمُبادرة إلى طاعاته والحرص عليها، وجعلنا منَ الذين يُقبِلون بالكُّلية على المولى ويقبلهم بإفضاله، ويجزل لهم من عطاءهِ ونواله بِسر الفاتحة إلى حضرة النَّبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

28 مُحرَّم 1443

تاريخ النشر الميلادي

05 سبتمبر 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام