شرح الموطأ -237- كتاب الجهاد: باب ما جاء في السَّلَبِ فِي النَّفل، وباب ما جاء في إعطاء النّفل من الخُمس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجهاد، بَابُ مَا جَاءَ فِي السَّلَبِ فِي النَّفَلِ، وباب مَا جَاءَ فِي إِعْطَاءِ النَّفْلِ مِنَ الْخُمْسِ.
فجر الأحد 14 محرم 1443هـ.
باب مَا جَاءَ فِي السَّلَبِ فِي النَّفْلِ
1313- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ، عَنْ أبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أبِي قَتَادَةَ، عَنْ أبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ، أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، قَالَ: فَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلاَ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: فَاسْتَدَرْتُ لَهُ حَتَّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ، فَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي، قَالَ: فَلَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقُلْتُ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ فَقَالَ: أَمْرُ اللَّهِ.، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً، لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ". قَالَ: فَقُمْتُ، ثُمَّ قُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي، ثُمَّ جَلَسْتُ. ثُمَّ قَالَ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً، لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ". قَالَ: فَقُمْتُ، ثُمَّ قُلْتُ مَنْ يَشْهَدُ لِي، ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ: ذَلِكَ الثَّالِثَةَ فَقُمْتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ". قَالَ: فَاقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لاَ هَاءَ اللَّهِ، إِذنْ لاَ يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ، يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "صَدَقَ فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ". فَأَعْطَانِيهِ، فَبِعْتُ الدِّرْعَ، فَاشْتَرَيْتُ بِهِ مَخْرَفاً فِي بَنِي سَلِمَةَ، فَإِنَّهُ لأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الإِسْلاَمِ.
1314- وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلاً يَسْأَلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الأَنْفَالِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَرَسُ مِنَ النَّفَلِ، وَالسَّلَبُ مِنَ النَّفَلِ. قَالَ: ثُمَّ عَادَ الرَّجُلُ لِمَسْأَلَتِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ أَيْضاً، ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ: الأَنْفَالُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مَا هِي؟َ قَالَ: الْقَاسِمُ فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُهُ حَتَّى كَادَ أَنْ يُحْرِجَهُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَدْرُونَ مَا مَثَلُ هَذَا، مَثَلُ صَبِيغٍ الَّذِي ضَرَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
1315- قَالَ: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ قَتَلَ قَتِيلاً مِنَ الْعَدُوِّ، أَيَكُونُ لَهُ سَلَبُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِمَامِ؟ قَالَ: لاَ يَكُونُ ذَلِكَ لأَحَدٍ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِمَامِ، وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الإِمَامِ إِلاَّ عَلَى وَجْهِ الاِجْتِهَادِ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً، فَلَهُ سَلَبُهُ". إِلاَّ يَوْمَ حُنَيْنٍ.
باب مَا جَاءَ فِي إِعْطَاءِ النَّفْلِ مِنَ الْخُمْسِ
1316- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُعْطَوْنَ النَّفَلَ مِنَ الْخُمُسِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ.
1317- وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ النَّفَلِ، هَلْ يَكُونُ فِي أَوَّلِ مَغْنَمٍ؟ قَالَ: ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الاِجْتِهَادِ مِنَ الإِمَامِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ مَوقُوفٌ إِلاَّ اجْتِهَادُ السُّلْطَانِ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَفَّلَ فِي مَغَازِيهِ كُلِّهَا، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ نَفَّلَ فِي بَعْضِهَا يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الاِجْتِهَادِ مِنَ الإِمَامِ فِي أَوَّلِ مَغْنَمٍ، وَفِيمَا بَعْدَهُ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكْرِمِنا بالشريعة والدّين وحسن التوضيح والتّبيين على لسان عبده وحبيبه الأمين، سيِّدنا مُحمَّد خاتم النَّبيّن وسيّد المرسلين. اللَّهم صلّ وسلِّم وبارك وكرّم في كل وقتٍ ونفسٍ وحين، على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وأهل بيته الطَّاهرين وصحابته الغر الميامين، وعلى من والاهم فيك واتبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، وعلى آبائه وإخوانه من النّبيّن والمرسلين، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقرّبين، وجميع عباد الله الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
يتابع الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- ذكر الأحاديث المتعلّقة بالجهاد، ويتكلم في هذا الباب عن "السَّلَبِ فِي النَّفْل"،
-
والسَّلَب يراد به؛ ما يحمله المقاتل معه من عُدة وأُهبةٍ للقتال من سيف أو رمح أو درع يلبسه يقي به نفسه أو مغفر يضعه على رأسه يمنعه ضرب الرأس إلى غير ذلك من عُدة القتال؛ فهذا هو السَّلَب. السَّلَب؛ أصل ما يسلب والمراد به؛ ما يستعدّ به المقاتل في قتاله مما يحمله معه أثناء القتال، فهذا هو السَّلَب.
-
والنَّفل؛ ما يُنفِّله الإمام المجاهدين غير ما كان من حظهم في الأربعة الأخماس في الغنيمة.
يتكلم عن حكم هذا السَّلَب، ويذكر الإمام مالك أنه إنما قال ﷺ هذا القول في حُنين ولكن قد بلغ غير الإمام مالك أنه قال ذلك في غير حُنين كذلك، ونفَّل كذلك السَّلب في غير حُنين وفي عدد من غزواته الكريمة صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
ورأى الإمام مالك أنه إنما قال ذلك بعد انتهاء القتال، وأنه لا ينبغي للإمام ولا لغيره أن يقول للناس مَن قتل قتيل له سلبه، ولا له كذا ولا نعطي من قاتل كذا حتى لا يكدِّر عليهم قتالهم لله -جلّ جلاله-، لتكون كلمة الله هي العليا، فلا يندفع للقتال للتحصيل، فإنما هذا مثل الجُعُل، يُجعل على القتل فليس هو من الجهاد في سبيل الله، فلهذا كره الإمام مالك أن يقول الإمام ذلك قبل القتل. وقال: وإنما قال النَّبي هذا في حُنين بعد الغزو؛ بعد ما قد قاتلوا، قال: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ".
-
وكان مذهب الإمام مالك أن السَّلب إنما يكون من جملة الغنيمة ولا يختصّ بالقاتل. وكذلك قال الإمام أبو حنيفة -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- وقال: إلا أن يجعل الإمام -وعند الإمام مالك إنما يكون ذلك بعد المعركة- يجعل الإمام للذي قتل سلب القتيل فيكون له.
-
فقال الإمام الشَّافعي والإمام أحمد بن حنبل: أن قوله ﷺ "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ .. فَلَهُ سَلَبُهُ"؛ حكمٌ ثابت عام، فكل مقاتل في سبيل الله إذا قتل أحد فله سلب ذلك القتيل، أَذِنَ الإمام أم لم يأذن، أمر أم لم يأمر، فإن ذلك حكمٌ من رسول الله ﷺ فهموه من الحديث أنه حكمٌ عام، حكم به رسول الله ﷺ فحكم بالسَّلب للقاتل.
وأورد لنا هذا الحديث: "عَنْ أبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ"، الأنصاري -رضي الله تبارك وتعالى عنه- الذي شهد أُحد وما بعدها من المشاهد، "أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا"؛ يعني: من مكَّة المُكرَّمة بعد فتح مكَّة العام الثامن من الهجرة. "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ"؛ يعني: لأجل غزوة حُنين والطائف، يوم السبت لستّ ليالٍ خلونَ من شوال، خرجوا في اثني عشر ألف من المسلمين، عشر آلاف ممَن وفد مع النَّبي ﷺ من المهاجرين والانصار، وألفان ممَن أسلموا من أهل مكَّة، وكانوا أكثر عدد عن كل الغزوات حتى قال قائلهم: لن نُغلب اليوم من قلة، فانهزموا في أول الأمر، وأشار الحق إلى ذلك بقوله: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) [التوبة:25]، يربي الله أصحاب نبينا والأُمة أن لا يعتمدوا على غيره، ولا يعتمدوا كثرة عدد ولا عُدة، ولا يعجبوا بشيء من ذلك ولا يعتمدون إلا عليه سبحانه وتعالى. (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران:126]. فأطنبوا السّير يوم حُنين حتى كان عشية جاء فاسق لرسول الله ﷺ اطلعتُّ على جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم؛ تعني أنهم اجتمعوا على حُنين، فتبسم رسول الله ﷺ قال: تلك غنيمة للمسلمين غدًا إن شاء الله تعالى. "عَامَ حُنَيْنٍ"؛ أصل بلد هناك وبقعة (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ).
"فَلَمَّا الْتَقَيْنَا" مع المشركين "كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ"؛ يعني: حركة فيها اختلاط وتقدُّم وتأخر، قال: ولم ينهزم إلا أكثر الجيش، وأما رسول الله ﷺ وطائفة معه نحو المئة لم يزالوا ثابتين حتى رجع البقية ونصرهم الله -تبارك وتعالى- بعد هزيمة الأكثر. أحد عشر ألف وتسع مئة كلهم انهزموا وبقي هؤلاء المئة مع رسول الله ﷺ، ولذا لمَّا قال بعض اليهود: أفررتم عن رسول الله ﷺ يوم حُنين؟، قالوا: لكن رسول الله ﷺ لم يفر. "قَالَ: فَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلاَ"؛ أي: غلب وظهر على "رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ:" أبو قتادة لما رأيته يكاد يقتل المسلم "فَاسْتَدَرْتُ لَهُ" من الاستدارة "حَتَّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ، فَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ". في رواية جاءت عند البخاري يقول: نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجل من المشركين وآخر من المشركين يختِل من ورائه ليقتله؛ يعني ليخدع المؤمن ويقتله من وراءه، فأسرعت للذي يختله فرفع يده ليضربني وأضرب يده فقطعتها ثم أخذني فضمّني ضمة شممت منها ريح الموت. فيختل؛ يريد أن يأخذه على غرة فلما رأى كذلك تقدّم فقتله وجاءه حتى لا يقتل المسلم. يقول: ضربته "عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ"؛ حبل العاتق: يعني: عصب عاتقه، العاتق موضع الرداء من المنكب يقال له عاتق. "فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي"؛ أي: بقوة شدني شدة؛ "ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ"؛ أي: وجدت منها شدة كشدة الموت أو أني قاربت الموت، "ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي"؛ يعني: أطلقني.
"قَالَ: فَلَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقُلْتُ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ فَقَالَ: أَمْرُ اللَّهِ"؛ يعني: قضاؤه، "ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا" بعد هذه الهزيمة وبعد أن استمر رسول الله ﷺ ومعه من الثابتين ومنهم معه سيِّدنا العباس بن عبد المُطلب عمه وكان يمسك بغلته ورسول الله يقدمها إلى جهة الكُفَّار، ويرفع صوته ويقول: أنا النَّبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب! ثم قال للعباس نادِهم قُل: يا أهل السّمرة، يا أهل العقبة، يا أهل بيعة الرضوان، هذا رسول الله.. فلما نادى كل من سمع الصَّوت التفت، فحنّوا إليه وأقبلوا من كل حدب وصوب بعد أن استقبلهم رمي شديد بالحجارة من الكُفَّار كانوا في أماكن اختبأوا فيها فرّوا، فلمّا كان بعد ذلك وسمعوا الصَّوت يقول: هذا رسول الله ﷺ أقبلوا من كل جانب ورجعوا. "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً، لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ"، بعد أن انتهت المعركة "فَلَهُ سَلَبُهُ"؛ يعني: بعد رجوعهم من الغزوة وانتهائها، قال ذلك صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
"قَالَ: فَقُمْتُ، ثُمَّ قُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي"؛ أي: بقتل ذاك الشَّيطان الكافر الذي كان يختِل المسلمين من وراءه، "ثُمَّ جَلَسْتُ. ثُمَّ قَالَ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً، لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ". قَالَ: فَقُمْتُ، ثُمَّ قُلْتُ مَنْ يَشْهَدُ لِي، ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ: ذَلِكَ الثَّالِثَةَ فَقُمْتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ". إيش قصتك؟ "قَالَ: فَاقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ"؛ قلت: حصل كذا كذا. "فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ"؛ أي: صدق أبو قتادة في دعواه قتل ذلك، "وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ مِنْهُ"؛ راضِه على شيء تعطيه مني "يَا رَسُولَ اللَّهِ" أنا سآخذ هذا السَّلب، أعجبه السَّلب؛ يعني أعطِه عوض عن ذلك السَّلب ليكون هذا السَّلب لي أو أرضه مصالحه بيني وبينه. "فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ" رضي الله عنه، في رواية جاءت أن الذي خاطب سيِّدنا عُمَر، والمشهور في الموطأ وعند الصَّحيحين أنه أبو بكر، قال: "لاَ هَاءَ اللَّهِ"؛ يعني: لا والله. "إِذنْ لاَ يَعْمِدُ"؛ أي: لا يقصد النَّبي ﷺ "إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ"؛ يعني: شبهه بالأسد في الشجاعة؛ يعني أبا قتادة. "مِنْ أُسْدِ اللَّهِ"؛ جمع أسد، الله أكبر! "لاَ يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ"، ويقف هذا الموقف وينجّي المسلم، ويقتل ذلك العِلج الكافر "فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ"، تريد النَّبي ﷺ يأتي لأحد من الأسود الأقوياء في الحرب، يقول له: اذهب أنت خذ سلبه، أنت مجنون! هو أحق بسلبه منك قال سيِّدنا أبو بكر. "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "صَدَقَ"؛ يعني: صدق أبو بكر الصِّديق في هذه، "فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ، فَأَعْطَانِيهِ"؛ أعطى النَّبي ﷺ أبا قتادة لما علم أنه هو القاتل لذلك. قال: "فَبِعْتُ الدِّرْعَ"، جاء في رواية: بسبع أواق "فَاشْتَرَيْتُ بِهِ مَخْرَفاً"؛ أي: بستانًا يكون فيه الخريف، يقول: "فِي بَنِي سَلِمَةَ"، بطن من بطون الأنصار "فَإِنَّهُ لأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ"؛ أي: تكلّفت جمعه "فِي الإِسْلاَمِ"؛ أراد أنه ما مَلَك شيء ثابت معين من نخيل ولا أرضية قبل ذلك، هذا "أَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الإِسْلاَمِ"؛ يدلّك على أحوال الصَّحابة في صدقهم واقبالهم، ما أقبلوا بالمال ولا للمال، ولا أحد منهم عن الصِّدق مع الله ورسوله مال، وأن الله تعالى سخّر لهم الأسباب ورزقهم بعد ما ظهر حقائق صدقهم وإخلاصهم وصبرهم رضي الله عنهم وعنا بهم. وهكذا جاء الحديث في الصَّحيحين وغيرهما.
ويقول: "الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: سَمِعْتُ رَجُلاً يَسْأَلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الأَنْفَالِ؟" (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ) "فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَرَسُ مِنَ النَّفَلِ، وَالسَّلَبُ مِنَ النَّفَلِ"؛ أي: داخلان في النفل الذي يأخذه الغازي؛ يعني زائد على سهمه، ليست من السهم ولا تقسم. "قَالَ: ثُمَّ عَادَ الرَّجُلُ لِمَسْأَلَتِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ أَيْضاً، ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ: الأَنْفَالُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مَا هِي؟َ قَالَ: الْقَاسِمُ فَلَمْ يَزَلْ ويَسْأَلُهُ" ويتشدّق ويقلِّب المسائل حتى آذى ابن عباس "حَتَّى كَادَ أَنْ يُحْرِجَهُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَدْرُونَ مَا مَثَلُ هَذَ"ا، المتشدق، المُلِحّ، كثير السؤال.. قال: "مَثَلُ صَبِيغٍ"؛ مَثَلُ صَبِيغ؛ واحد من رؤوس مسلك الفتنة الذين جاءوا وظهروا من بعد العهد الأول في آخر أيام الصَّحابة، هكذا يتتبع بعض ما تشابه من آيات القرآن وغيرها ويصلح عليها مسائل، يقال له: صبيغ، عَلِم به سيِّدنا عُمَر وما يفعل في هذا الأسلوب الذي بَعُـد عن مسلك الصَّحابة وما تركهم عليه النَّبي ﷺ، وعابَ الحق تعالى أهله وذمّهم في كتابه بقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران:7-8]. فلمَّا عرف عنه سيِّدنا عُمَر وعلم أن صبيغ يسلك هذا المسلك الذميم، أخذ يسأل عنه، فلما وصل عند سيِّدنا عُمَر قال: أنت الذي تقول وتقول، وتُحاجّ في آيات؟ تعنت النَّاس في السؤال؟ قال: نعم، أخذ الدُّرة فضربه على رأسه. قال: بس، قال: دعه يخرج شيطانه، وبعدها كفّ من أذاه وطول لسانه وكفى المسلمين شره. قال سيِّدنا عباس: هذا الرجل مثل صبيغ، يردّد عليّ في الكلام والسؤال؛ وأكلمه وأجيب عليه أول مرة وثاني مرة... قال: هذا "مَثَلُ صَبِيغٍ الَّذِي ضَرَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ".
جاء في الرّواية: سأل رجل قَدِمَ من الشَّام، قال فيها رجل يسأل عن متشابه القرآن، قالوا له يقال له صبيغ يريد قدوم المدينة، قال عُمَر: لئن لم تأتني لأفعلن بك! هاته إلى هنا، فجعل الرجل يختلف إلى الثنية يسأل عن صبيغ حتى طلع بعير، وقد لهج بقول: مَن يلبّس الفقه يفقهه إليه! فانتزع الرجل خطامًا من يده حتى أتى به عُمَر، فضربه ضربًا شديدًا ثم حبسه ثم ضربه. قال صبيغ: إن كنت تريد قتلي فأجهِز علي، وإن كنت تريد شفائي فقد شفيتني، شفاك الله! فأرسله سيِّدنا عُمَر. جاء في رواية عند الدَّارمي: قدم رجل المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، ثم أرسل إليه عُمَر وقد أعدّ له عراجين النَّخل، قال: مَن أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ. قال: وأنا عبد الله عُمَر فضربه حتى دميَ رأسه. قال: حسبك يا أمير المؤمنين قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي… هذا هو صبيغ العراقي، جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين حتى قَدِم مصر فبعبث به عمرو بن العاص إلى عُمَر بن الخطاب، لمَّا أتى أرسل عُمَر إلى رطائب من جريد فضربه بها حتى ترك ظهره دبره ثم تركه حتى برئ ثم عاد له ثم تركه حتى برئ حتى عاد له، قال صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلًا جميعًا، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برأت، خلاص راح الذي في رأسي كله.. فأذِن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين، فكانوا يسدّون أبواب الفتنة ولا يدعونها. عكس مسلك إبليس وعمله وقومه الذي في زماننا والذين قبلهم والذين بعدهم، يحبون فتح أبواب الفتنة وكثرة اللجاج والكلام السيء، وكل من شافوا عنده شيء يبلبل ويضر يفسحوا له المجال، ويقولون له: تفضل القنوات قدامك والنشرات قدامك، صلّح اشتغل على خلق الله، إلعب على عباد الله، هذا مسلك إبليس وجنده، أما مسلك الأنبياء والصَّالحين الذي سيضر النَّاس في دينهم يوقّفوه حتى يمشي النَّاس في سبيلهم على بيّنة، بلا زعزعه للعامة.
وجاء في رواية ابن عساكر، أن سيِّدنا عُمَر كتب إلى أهل البصرة أن لا يجالسوا صبيغًا، قالوا: فصار النَّاس على هذا القدم في امتثال أمر العلماء والأمراء والخلفاء الراشدين، يقول: لو جاء ونحن مئة لتفرقّنا! ما يجالسونه أبدًا، ولا يتركون له مجال يأتي بحقه السفسطة. وجاء أنه كتب إلى أبي موسى يقول له: أما بعد، فإن الأصبغ تكلّف ما يخفى وضيّع ما وُلي، فإذا جاءك كتابي هذا فلا تبايعوه، وإن مرض فلا تعودوه، وإن مات فلا تشهدوه، فلم يزل كذلك حتى جاء لعند أبي موسى فحلف له أنه لا يجد في نفسه شيء، صار كما النَّاس وكما طريقة الصَّحابة ولا عاد عنده شيء من هذا الكلام، فكتب إلى سيِّدنا عُمَر قال: خلِّ بينه وبين النَّاس.
"وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ قَتَلَ قَتِيلاً مِنَ الْعَدُوِّ، أَيَكُونُ لَهُ سَلَبُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِمَامِ؟ قَالَ: لاَ يَكُونُ ذَلِكَ لأَحَدٍ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِمَامِ"، وهذا مذهب الإمام مالك وعليه الإمام أبو حنيفة. "وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الإِمَامِ إِلاَّ عَلَى وَجْهِ الاِجْتِهَادِ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً، فَلَهُ سَلَبُهُ". إِلاَّ يَوْمَ حُنَيْنٍ"، لكن قلنا أنه ثبت ذلك لم يبلغ الإمام مالك، بلغ غيره.
باب مَا جَاءَ فِي إِعْطَاءِ النَّفْلِ مِنَ الْخُمْسِ
وذكر في نفس الموضوع "باب مَا جَاءَ فِي إِعْطَاءِ النَّفْلِ مِنَ الْخُمْسِ". "كَانَ النَّاسُ يُعْطَوْنَ النَّفَلَ مِنَ الْخُمُسِ"، وهو أيضًا مذهب الإمام الشَّافعي وأنه برأي الإمام؛ فيمكن أن يُنفّلهم من الخمس ما يشاء، وينفّل من شاء منهم على حسب ما يرى فيه المصلحة والأهلية. "قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ".
"وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ النَّفَلِ، هَلْ يَكُونُ فِي أَوَّلِ مَغْنَمٍ؟ قَالَ: ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الاِجْتِهَادِ مِنَ الإِمَامِ"، يرجع إليه، وأن رسول الله ﷺ كان ينفّل بعض من يبعث في السرايا لأنفسهم خاصة، سوى قسمة عامة الجيش، والخُمُس واجب في ذلك كله. وجاء أيضًا أن النَّبي ﷺ لم يخمّس السَّلب.
"سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ النَّفَلِ، هَلْ يَكُونُ فِي أَوَّلِ مَغْنَمٍ؟ قَالَ: ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الاِجْتِهَادِ مِنَ الإِمَامِ"، والسُّلطان وأمير الجيش "وَلَيْسَ عِنْدَنَا"؛ أي: في المدينة "فِي ذَلِكَ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ مَوقُوفٌ إِلاَّ اجْتِهَادُ السُّلْطَانِ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَفَّلَ فِي مَغَازِيهِ كُلِّهَا، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ نَفَّلَ فِي بَعْضِهَا يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الاِجْتِهَادِ مِنَ الإِمَامِ فِي أَوَّلِ مَغْنَمٍ، وَفِيمَا بَعْدَهُ"، على حسب ما يرى، هذا هو مذهب الإمام مالك عليه رحمة الله.
الله يملأنا بالإيمان واليقين، ويجعلنا في الهُداة المهتدين، الصَّادقين المخلصين، ويقينا الأسواء والأدواء والبلوى في كل سرٍّ ونجوى، ويحققنا بالتقوى، ويعيذنا من كل سوء أحاط به علمه والأُمّة، ويعاملنا بمحض الجود والرَّحمة، ويجعل هذا العام من أبرك الأعوام علينا وعلى الأُمّة أجمعين بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
22 مُحرَّم 1443