(535)
(608)
(379)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج، باب فِدية ما أصيب مِن الطَّيْر والوَحش، وباب مَن أَصاب شيئًا من الجراد وهو مُحْرِم.
فجر السبت 21 ذي الحجة 1442هـ.
باب فِدْيَةِ مَا أُصِيبَ مِنَ الطَّيْرِ وَالْوَحْشِ
1241- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ، وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ، وَفِي الأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ، وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ.
1242- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قُرَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إنِّي أَجْرَيْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي فَرَسَيْنِ، نَسْتَبِقُ إِلَى ثُغْرَةِ ثَنِيَّةٍ، فَأَصَبْنَا ظَبْياً وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَقَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِهِ: تَعَالَ حَتَّى أَحْكُمَ أَنَا وَأَنْتَ، قَالَ: فَحَكَمَا عَلَيْهِ بِعَنْزٍ، فَوَلَّى الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْكُمَ فِي ظَبْىٍ، حَتَّى دَعَا رَجُلاً يَحْكُمُ مَعَهُ. فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ الرَّجُلِ، فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ: هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ؟ قَالَ: لاَ. قَالَ فَهَلْ تَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي حَكَمَ مَعِي؟ فَقَالَ: لاَ. فَقَالَ لَوْ أَخْبَرْتَنِي أَنَّكَ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ لأَوْجَعْتُكَ ضَرْباً، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة:95] وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ.
1243- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَقُولُ: فِي الْبَقَرَةِ مِنَ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ، وَفِي الشَّاةِ مِنَ الظِّبَاءِ شَاةٌ.
1244- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: فِي حَمَامِ مَكَّةَ إِذَا قُتِلَ شَاةٌ.
1245- وَقَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، وَفِي بَيْتِهِ فِرَاخٌ مِنْ حَمَامِ مَكَّةَ، فَيُغْلَقُ عَلَيْهَا فَتَمُوتُ. فَقَالَ: أَرَى بِأَنْ يَفْدِيَ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ فَرْخٍ بِشَاةٍ.
1246- قَالَ مَالِكٌ: لَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ أَنَّ فِي النَّعَامَةِ إِذَا قَتَلَهَا الْمُحْرِمُ بَدَنَةً.
1247- قَالَ مَالِكٌ: أَرَى أَنَّ فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ عُشْرَ ثَمَنِ الْبَدَنَةِ، كَمَا يَكُونُ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقِيمَةُ الْغُرَّةِ خَمْسُونَ دِينَاراً، وَذَلِكَ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ.
1248- قَالَ مَالِكٌ: وَكُلُّ شَىْءٍ مِنَ النُّسُورِ، أَوِ الْعِقْبَانِ، أَوِ الْبُزَاةِ، أَوِ الرَّخَمِ، فَإِنَّهُ صَيْدٌ يُودَى، كَمَا يُودَى الصَّيْدُ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ.
1249- قَالَ مَالِكٌ: وَكُلُّ شَيْءٍ فُدِيَ، فَفِي صِغَارِهِ مِثْلُ مَا يَكُونُ فِي كِبَارِهِ، وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ دِيَةِ الْحُرِّ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَهُمَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ.
باب فِدْيَةِ مَنْ أَصَابَ شَيْئاً مِنَ الْجَرَادِ وَهُوَ مُحْرِمٌ
1250- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ رُجُلاً جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي أَصَبْتُ جَرَادَاتٍ بِسَوْطِي وَأَنَا مُحْرِمٌ. فَقَالَ لَهُ عُمَر: أَطْعِمْ قَبْضَةً مِنْ طَعَامٍ.
1251- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَأَلَهُ عَنْ جَرَادَاتٍ قَتَلَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ: تَعَالَ حَتَّى نَحْكُمَ. فَقَالَ كَعْبٌ: دِرْهَمٌ. فَقَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ: إِنَّكَ لَتَجِدُ الدَّرَاهِمَ، لَتَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ.
الحمد لله العليّ الحكيم، أرسل إلينا عبده المُصطفى بالمنهج القويم والصَّراط المستقيم، اللَّهم صلّ وسلِّم وبارك على سيِّدنا مُحمَّد أفضل الصَّلاة وأزكى التَّسليم، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار وكل مَن تبعهم بصدقٍ وإحسانٍ وقلبٍ سليم، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين أهل التَّكريم والتَّمجيد والتَّعظيم، وعلى آلهم وصحبهم وأتباعهم والملائكة المُقربين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
فيذكر سيِّدنا الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- الفِدية في مَن قتل شيئًا من صيد البَرّ وهو مُحرَّم أو قتله في الحرم، فإن في شريعة الله -تبارك وتعالى- تحريم الصَّيد البري في حرم الله -تبارك وتعالى- بحدوده وفي حرم رسوله صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم، ثم:
○ مَن أصاب وقتل شيئًا من الصَّيد في الحرم المكّي.. فعليه الفِدية.
○ أو في المدني.. فعليه الإثم ووجب عليه التَّوبة.
فتختص الفِدية بالحرم المكَّي. كذلك المُحرِم إذا أحرم بحج أو بعُمرة، وجب عليه ألا يقتل صيدًا، فإن قتل صيدًا، وجبت عليه الكفَّارة كما ذكر الله تعالى في كتابه.
ولمَّا كانوا مرة محرمين، خرجوا مع رسول الله ﷺ، أرسل الله إليهم من الصَّيد ما يمرّ بجانبهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ) [المائدة:94] وكانت تمر بجانبهم وهم مُحرمون، وهم يحتاجون إلى أكلها، وبعضهم لهم مدة لم يطعم لحمًا ولكن لا يمسّونها لأنهم مُحرمين (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) [المائدة:95] لا في حدود الحرم سواءً كان الإنسان مُحرمًا أو حلالًا، ولا خارج حدود الحرم إذا كان مُحرمًا بحج أو بعُمرة (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ)؛ عليه جزاء (مِّثْلُ مَا قَتَلَ)؛ مثل الذي قتل (مِنَ النَّعَمِ)؛ الإبل والبقر والغنم، (فجزاءُ مثلِ ما قتَلَ من النَّعَم) (فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ)؛ أي: عدلان يقولان أن هذا الذي قتلته يقابله من النَّعم كذا، (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ)؛ القيمة يخرجها؛ فيخرج قيمة ما يماثله من النَّعم، (أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا)؛ ينظر القيمة كم تساوي من الطعام إذا اشترى بها طعامًا؟ كم تأتي بأمداد؟ فيصوم بعدد الأمداد (لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ) [المائدة:95].
(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) [المائدة:96]؛ فصيد البحر حلال للمُحرِم مثل الحيوانات الأهلية أيضًا التي ليست من الصَّيد، وليست متوحشة؛ يجوز ذبحها للمُحرِم وفي الحَرَم، ولكن صيد ما كان من الوحش البرّي؛ فهذا حرام على المُحرِم وعلى مَن كان في الحَرَم، وفيه الفِدية، يتكلم عنها في هذين البابين: "باب فِدْيَةِ مَا أُصِيبَ مِنَ الطَّيْرِ وَالْوَحْشِ".
وذكر "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- قَضَى فِي الضَّبُعِ"، يقال: ضَبُع وقال: ضَبْع. فلغة قيسٍ بضم الباء ضَبُع، ولغة تميمٍ ضَبْع. قال: "قَضَى فِي الضَّبُع" أو في الضبْع "بِكَبْشٍ"؛ لأنه هو الذي يماثله من النَّعم، وهذا الضَّبْع اختلفوا في حِلّ أكله:
يُكره عند الإمام مالك.
ويحرم عند أبي حنيفة والثوري أكل الضَّبْع.
ويحِل عند الإمام أحمد، وكذلك في قولٍ عند الشَّافعية.
فمَن قتل ضبعًا فعليه:
○ أن يخرج كفَّارة إذا هو مُحرِم
○ أو قتله في الحرم وإن لم يكن محرمًا، فعليه أن يُخرج كفَّارة كبشًا مقابل الضَّبع.
والكبش؛ فحل الضَّأن.
○ ويقول الجمهور أيضًا: أن الواجب على مَن قتل ضبعًا أن يُخرج نعجة مقابل الضَّبع، فيتصدق بها لأهل الحرم. وهكذا:
فما قد سبق فيه القضاء في عهد الصَّحابة؛ يجب فيه ما تمّ القضاء به، وهكذا يقول الإمام الشَّافعي وعطاء وغيرهم.
يقول الإمام مالك: يستأنف الحكم فيه (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) على الأبد.
فقضوا في الضَّبع بكبش، قضى به سيِّدنا عُمَر، قضى به سيِّدنا علي وجابر وابن عباس، يقول سيِّدنا جابر: "أن النَّبي ﷺ جعل في الضَّبع يُصيبه المُحرِم كبشًا"، هكذا جاء في رواية أبي داوود وابن ماجة. وهكذا جاء عند الإمام أحمد: حكم رسول الله ﷺ في الضَّبع بكبش. وعند الإمام أبي حنيفة، أنه يُقوَّم الصَّيد في المكان الذي قُتل فيه أو في أقرب موضع منه، فيقوِّمه ذوا عدل، ثم هو مُخيّر في الفداء:
○ إن شاء اشترى به هديًا إن بلغت مبلغ الهدي.
○ وإن شاء اشترى به طعامًا وتصدّق به.
○ وإن شاء صام بعدد الأمداد.
فهذا عند الإمام أبي حنيفة وكذلك أبو يوسف. ولكن الذي قال الجمهور -ومنهما مُحمَّد من الحنفية والشَّافعي وغيرهم من الجمهور- قالوا: بل يلزم في الصَّيد إذا صاده المُحرِم أو صاده أي إنسان في الحرم نظيره ومثيله من النَّعم (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ). فإذًا الإمام أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف فسّروا (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) في تقويمه؛ أنه يُقوّم، كم قيمته في المكان الذي قُتل فيه؟ ثم يتخيّر صاحبه بين أن يشتري به هديًا إن بلغه، أو أن يصوم بعدد الأمداد، أو يُخرج القيمة طعامًا يطعمه الفقراء.
قال: "وَفِي الْغَزَالِ" -ولد الظبية إلى أن يقوى ويطلع قرناه "فِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ"؛ أي قضى بعنز؛ الأنثى من المعز، ويُجمع على أعنز وعُنُز، فإذا قتل غزالًا فعليه ذلك. فالغزال؛ اسم للصغير من ولد الظَّباء سواءً كان ذكر أو أنثى إلى أن يطلع قرناه، إذا طلع قرناه سمي ظبيًا، والذكر يسمى ظبي والأنثى ظبية، إذا قد طلع القرنان، قبل طلوع القرن، يقال له: غزال. فإذا قتل غزالًا،
○ فإن كان ذكرًا فعليه جدي.
○ وإن كان أنثى فعليه عناق.
وهكذا "وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ"، يقول الإمام النَّووي في (المناسك)، ويقول ابن حجر: عبّر به الشَّافعي في عدة مواضع من (الأُم): العنز والغزال، قال: ولكن أراد به الظَّبية الكبيرة؛ لأن الغزال في الأصل يُطلق على صغار الظِّباء قبل ما يطلع القرن، ثم إذا طلع القرن فالذكر ظبيٌ، والأنثى ظبية.
والعنز؛ أنثى من المعز لها سنة. فهذا العنز؛ الأنثى من المعز ما له سنة ودخل في الثانية.
"وَفِي الأَرْنَبِ"، قضى فِي الأرنب "بِعَنَاقٍ" إذا قتل أرنبًا؛ وجب عليه أن يُخرج عناقًا؛ وهو أنثى المعز قبل أن يبلغ الحول؛ قبل أن يبلغ السَّنة يُقال له: عناق. إذًا؛ ففي الأرنب عناق، وهو كذلك عند الإمام أحمد وعند الإمام الشَّافعي.
"وَفِي الْيَرْبُوعِ" إذا قتل الْيَرْبُوع من هذه الحيوانات السوداء، الدّويبة تشبه الفأرة، وذَنَبها طويل يشبه ذنب الهرة، ورجلاه أطول من يديه، يُقال له: يَرْبُوع. هذا يلزم فيه "بجَفْرَة"؛ الجفرة: الأنثى من ولد الضَّأن. وقيل: من الضَّأن أو من المعز. وقيل: من المعز فقط، فالصغير منها يقابل هذا اليربوع جفرة، هذا واجب الفِدية.
كذلك ذكر لنا في رواية أُخرى: "أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إنِّي أَجْرَيْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي فَرَسَيْنِ، نَسْتَبِقُ إِلَى ثُغْرَةِ ثَنِيَّةٍ، فَأَصَبْنَا ظَبْياً وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ" وقعنا عليه وقتلناه "وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَقَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِهِ: تَعَالَ حَتَّى أَحْكُمَ أَنَا وَأَنْتَ، قَالَ: فَحَكَمَا عَلَيْهِ بِعَنْزٍ"، قالوا له: عليك في الظَّبي عنز. "فَوَلَّى الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْكُمَ فِي ظَبْىٍ، حَتَّى دَعَا رَجُلاً يَحْكُمُ مَعَهُ" هكذا البدو يجيئون بكلام ويتعجبون.. يقول: جئت أسأله، راح يتخبّر واحد ثاني، ويحكّم معه واحد ثاني ما عرف يحكم هو! "فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ الرَّجُلِ، فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ: هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ؟" أخذت شيء من القرآن أو حفظت سورة المائدة، "قَالَ: لاَ. قَالَ فَهَلْ تَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي حَكَمَ مَعِي؟" الذي استدعاه يحكم معه "فَقَالَ: لاَ. فَقَالَ لَوْ أَخْبَرْتَنِي أَنَّكَ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ لأَوْجَعْتُكَ ضَرْباً"؛ أي: بكلامك هذا وأنت تقرأ الآية (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) اثنين لا واحد؛ يعني: لا بُد من عدلين يحكمان في ما يلزم من قتل صيدًا وهو مُحرِم أو في الحرم. قال: لكن ما دمت جاهل بدوي ما تعرف، وتعرف هذا الرجل الذي معي؟ قال: هَذَا الرجل "عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ". في رواية في المستدرك يقول: فعلاه بالدرّة. والثاني الذي معه قال: إني لم أقل شيئًا إنما قاله هو؛ يعني يريد أن يضربه فلم يضربه، ثم قال: إن الله -تبارك وتعالى- يقول في كتابه: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ)؛ اثنان (ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ)، وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ" الذي ما عرفته، أحد العشرة المُبشرين بالجنَّة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-. وهكذا فإذا قتل ظبيًا فعليه شاة.
وذكر: "عَنْ عُرْوَةَ: أَنَّه يَقُولُ: فِي الْبَقَرَةِ مِنَ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ" معلوم، وحمار الوحش كذلك. إذا قتل حمار الوحش، فعليه بقرة من البقر الأهلية يهديها إلى الحرم. "فِي الْبَقَرَةِ مِنَ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ، وَفِي الشَّاةِ مِنَ الظِّبَاءِ شَاةٌ"؛ يعني: إذا قتل ظبيًا فعليه شاة، هكذا وعند الحنفية القيمة كما سمعت عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وذكر: "عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ -رضي الله عنه-، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: فِي حَمَامِ مَكَّةَ إِذَا قُتِلَ شَاةٌ"، وهكذا جرى الحُكم من الصَّحابة في تشبيه الحمامة بشاة، فأطبق عامة الفقهاء من بعدهم على ذلك، وأن مَن قتل حمامةً في الحرم أو وهو مُحرِم؛ فعليه أن يذبح شاة. في حمام مكَّة إذا قُتل شاة، حمام مكَّة مخصوص بذلك، لتأكد حرمته وإلا فهو صغير بالنسبة للشاة.
○ فإذا صاد نعامة فعليه بَدنة.
○ وكذلك إذا قتل الفيل فعليه بَدنة.
○ أما حمار الوحش، بقر الوحش فعليه بقرة.
○ في الضَّبع وفي الظبي شاة كما سمعنا.
○ وحمام مكَّة فيه شاة، وكذلك عند الجمهور.
قالوا: وسبب حكمهم بالشاة في الحمامة أن ذلك بتوقيف بلغهم فيه عن النَّبي ﷺ. يقول الإمام النَّووي -عليه رحمة الله-:
أما الطيور فالحمام وكل ما عبّ في الماء -وهو أن يشربه مصًا بلا جرن-؛ يجب فيه شاة.
وما كان أكبر من الحمامة ومثلها فالصحيح أنه له حكمها.
وما كان أصغر ففيه القيمة. طائر صغير قتله أو صاده؛ ففيه قيمته؛ يخرج قيمته إما طعامًا وإما صيامًا بعدد الأمداد.
ذكر الإمام "مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، وَفِي بَيْتِهِ فِرَاخٌ مِنْ حَمَامِ مَكَّةَ، فَيُغْلَقُ عَلَيْهَا فَتَمُوتُ. فَقَالَ: أَرَى بِأَنْ يَفْدِيَ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ فَرْخٍ بِشَاةٍ." فالتسبب في قتل الصَّيد بمنزلة المباشرة؛ لمَّا حبسها وقفل عليها بلا طعام ماتت؛ فعليه الفِدية.
"قَالَ مَالِكٌ: لَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ أَنَّ فِي النَّعَامَةِ"؛ هذا الطير الكبير وهي تطير قليلًا، تشبه الجمل. أن في النَّعامة "إِذَا قَتَلَهَا الْمُحْرِمُ بَدَنَةً"؛ أي: جمل يخرجه مقابل ذلك.
"قَالَ مَالِكٌ: أَرَى أَنَّ فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ عُشْرَ ثَمَنِ الْبَدَنَةِ، كَمَا يَكُونُ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقِيمَةُ الْغُرَّةِ خَمْسُونَ دِينَاراً، وَذَلِكَ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ." فكذلك قاسَ الإمام مالك على أنه إذا كسر بيضة النَّعامة فعليه عُشر ثمن البَدنة.
"وَكُلُّ شَىْءٍ مِنَ النُّسُورِ، أَوِ الْعِقْبَانِ، أَوِ الْبُزَاةِ" أنواع الطَّير هذه "أَوِ الرَّخَمِ"؛ من أنواع الطَّير كذلك يشبه النِّسر، "فَإِنَّهُ صَيْدٌ يُودَى، كَمَا يُودَى الصَّيْدُ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ"؛ أي: ففيه الفِدية ولا يسلك به مسلك الحدأة ولا الغراب فهذه لا شيء فيها؛ لأنها تقتل في الحِل والحرم، أذِن النَّبي بقتلها في الحِل والحرم: الحية، والعقرب، والحدأة، والغراب فتقتل، والفأر تقتل ولو في الحرم؛ ولا فدية فيها.
"وَكُلُّ شَيْءٍ فُدِيَ، فَفِي صِغَارِهِ مِثْلُ مَا يَكُونُ فِي كِبَارِهِ، وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ دِيَةِ الْحُرِّ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَهُمَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ."
ثم ذكر: "مَنْ أَصَابَ شَيْئاً مِنَ الْجَرَادِ وَهُوَ مُحْرِمٌ" يقول: "أَنَّ رُجُلاً جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي أَصَبْتُ جَرَادَاتٍ بِسَوْطِي وَأَنَا مُحْرِمٌ. فَقَالَ لَهُ عُمَر: أَطْعِمْ قَبْضَةً مِنْ طَعَامٍ."، وهذا أيضًا مذهب الإمام مالك، "أَطْعِمْ قَبْضَةً مِنْ طَعَامٍ." لكن قالوا: إذا عمّ الجراد بحيث لا يستطيع دفعه واجتهد المُحرِم في التَّحفظ من قتله؛ فلا جزاء عليه لأجل الضَّرورة. وعن الإمام أحمد: يتصدق بتمرة عن الجرادة.
وذكر: "أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَأَلَهُ عَنْ جَرَادَاتٍ قَتَلَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ: تَعَالَ حَتَّى نَحْكُمَ. فَقَالَ كَعْبٌ: دِرْهَمٌ. فَقَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ: إِنَّكَ لَتَجِدُ الدَّرَاهِمَ"؛ معك دراهم كثير.. تقول لمن وقع في مثل هذا يُخرج درهم. "لَتَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ." فكيف تحكم على الجرادة بأن يُخرج مقابلها درهم؟ فأنكر تسامحه بالدراهم وإيجابها في غير موضعها، والله أعلم.
ثم يتحدث عن فدية الحلق قبل أن يحلّ له الحلق إذا كان مُحرمًا، قال تعالى: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) [البقرة:196]؛ أي: للمُحرم بالحج.
رزقنا الله حجّ بيته وزيارة نبيّه مرات كثيرة، في خيرات كبيرة ومِنن وفيرة وسيرٍ في خير سيرة، وعبادة لله على بصيرة، وجمع لشمل المُسلمين ودفع البلاء عنا وعنهم أجمعين وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
23 ذو الحِجّة 1442