شرح الموطأ - 21 - كتاب الطهارة: تتمة باب ما جاء في المسح على الخُفَّينِ، وباب العمل في المسح على الخُفَّينِ

شرح الموطأ - 21 - كتاب الطهارة، باب ما جاء في المسح على الخُفَّينِ، من حديث: (أن عبدالله بن عمر قَدِمَ الكوفةَ على سعد بن أبي وقاص..))
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في المسحِ على الخُفَّيْنِ، و باب العمل في المسح على الخُفَّيْنِ.

فجر الأربعاء 24 ذي القعدة 1441هـ.

باب مَا جَاءَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ

82 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَدِمَ الْكُوفَةَ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَهُوَ أَمِيرُهَا، فَرَآهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: سَلْ أَبَاكَ إِذَا قَدِمْتَ عَلَيْهِ، فَقَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ فَنَسِي أَنْ يَسْأَلَ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ، حَتَّى قَدِمَ سَعْدٌ فَقَالَ: أَسَأَلْتَ أَبَاكَ؟ فَقَالَ: لاَ. فَسَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ: إِذَا أَدْخَلْتَ رِجْلَيْكَ فِي الْخُفَّيْنِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ فَامْسَحْ عَلَيْهِمَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَإِنْ جَاءَ أَحَدُنَا مِنَ الْغَائِطِ ؟ فَقَالَ عُمَرُ: نَعَمْ وَإِنْ جَاءَ أَحَدُكُمْ مِنَ الْغَائِطِ.

83 – وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بَالَ فِي السُّوقِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ دُعِي لِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا.

84 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رُقَيْشٍ، أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَتَى قُبَاء فَبَالَ، ثُمَّ أُتِىَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، ثُمَّ جَاءَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى.

85 - قَالَ يَحْيَى: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ تَوَضَّأَ وُضُوءَ الصَّلاَةِ، ثُمَّ لَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ بَالَ، ثُمَّ نَزَعَهُمَا، ثُمَّ رَدَّهُمَا فِي رِجْلَيْهِ أَيَسْتَأْنِفُ الْوُضُوءَ؟ فَقَالَ لِيَنْزِعْ خُفَّيْهِ، ثُمَّ ليَتَوضَّأ وَلْيَغْسِلْ رِجْلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَنْ أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ فِي الْخُفَّيْنِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ بِطُهْرِ الْوُضُوءِ، وَأَمَّا مَنْ أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ فِي الْخُفَّيْنِ وَهُمَا غَيْرُ طَاهِرَتَيْنِ بِطُهْرِ الْوُضُوءِ، فَلاَ يَمْسَحْ عَلَى الْخُفَّيْنِ.

86 – قَالَ: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ تَوَضَّأَ وَعَلَيْهِ خُفَّاهُ، فَسَهَا عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ حَتَّى جَفَّ وَضُوءُهُ وَصَلَّى؟ قَالَ: لِيَمْسَحْ عَلَى خُفَّيْهِ وَلْيُعِدِ الصَّلاَةَ، وَلاَ يُعِيدُ الْوُضُوءَ.

87 - وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ غَسَلَ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ لَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْوُضُوء؟ فَقَالَ: لِيَنْزِعْ خُفَّيْهِ، ثُمَّ لْيَتَوَضَّأْ وَلْيَغْسِلْ رِجْلَيْهِ.

 باب الْعَمَلِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ

88 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّهُ رَأَى أَبَاهُ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، قَالَ: وَكَانَ لاَ يَزِيدُ إِذَا مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، عَلَى أَنْ يَمْسَحَ ظُهُورَهُمَا، وَلاَ يَمْسَحُ بُطُونَهُمَا.

89 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ كَيْفَ هُوَ؟ فَأَدْخَلَ ابْنُ شِهَابٍ إِحْدَى يَدَيْهِ تَحْتَ الْخُفِّ، وَالأُخْرَى فَوْقَهُ، ثُمَّ أَمَرَّهُمَا.

قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَقَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا برسالة مصطفاه، وبيان الحق والهدى على ما أحبّه وارتضاه، وصلى الله وسلم وبارك في كل لمحةٍ ونفسٍ على سيد الهداة والدعاة، عبده المصطفى محمّدٍ وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورسله لبراياه، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم، والملائكة المقرّبين، وجميع عباد الله الصالحين من كل من أحبّه الله، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

ويواصل سيدنا الإمام مالك -عليه رضوان الله- ذكر الأحاديث المتعلقة بمسح الخفين، وجاءنا عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي تعالى عنهما لما قدِما الكوفة وكان الأمير عليها سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله تبارك وتعالى عنه أحد المبشرين بالجنة، وكان رآه يمسح على الخفين فأنكر ذلك، وقلنا محل إنكار ابن عمر:

  •  إما أنه لم يبلغه أصلًا المسح على الخفين 
  • وإمّا أن يكون بلغه في السفر دون الحضر 

وأنه رأى سيدنا سعد في الحضر وهو أنه يمسح على الخفين، وأخبره أن ذلك مما جاء عنه عليه الصلاة والسلام وأنه رخّص للمقيم يوم وليلة، والمسافر ثلاثة أيام بلياليها، وعند انتهاء المدة لابد من تجديد غسل الرجلين. وقال له: "سَلْ أَبَاكَ" ليزول وهمك وشكك ولِتزداد علمًا، ولِتزداد طمأنينة، "سَلْ أَبَاكَ" عمر، فكان سيدنا سعد يعلم أن سيدنا عمر قد علم حكم المسح على الخفين في الحضر والسفر، فقال له: "سَلْ أَبَاكَ إِذَا قَدِمْتَ عَلَيْهِ، فَقَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ فَنَسِي أَنْ يَسْأَلَ عُمَرَ.." حتى جاء سيدنا سعد من الكوفة إلى المدينة المنورة "فَقَالَ: أَسَأَلْتَ أَبَاكَ؟ فَقَالَ: لا.." نسيت.. فسأله بعد ذلك فقال: له سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه: "إِذَا أَدْخَلْتَ رِجْلَيْكَ فِي الْخُفَّيْنِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ فَامْسَحْ عَلَيْهِمَا" ففيه ذكر شرط من الشروط لمن أراد المسح على الخفين.

 وقد قلنا أن الخفين لباس للرجلين:

  •  قويٌّ يمكن المشي عليه والتردد عليه في الحاجات 
  • يمنع نفوذ الماء 
  • يستر محل الفرض من الأصابع إلى الكعبين 

فما لم يكن كذلك فليس بخف ولا يجوز المسح عليه، والشرط أن يلبس الخفّين بعد كمال الطهارة عن الحدث يلبس الخفين.

  • فاشتراط اللبس بعد تمام الطهارة مذهب الأئمة الثلاثة 
  • وقال الحنفية: -وهم لايُوجبون الترتيب في الوضوء- لو غسل القدمين وأدخلهما الخفّين ثم أكمل أعمال الوضوء؛ بأن غسل الوجه واليدين ومسح الرأس وما إلى ذلك، ثم كان حدثه وهو لابس للخفّين وعلى طهارةٍ كاملة، عندهم جاز أن يمسح على الخفين.

 فاشترطوا كمال الطهارة عند الحدث الأول بعد لبس الخفين، وذلك أنهم لا يوجبون الترتيب، ويمكن طهارة بعض الأعضاء دون بعض، ويمكن تقديم الرجلين، فإذا غسل الرجلين وألبسهما الخفين ثم أكمل الوضوء قبل أن يحدث جاز عندهم أن يمسح على الخفين.

 وقال الأئمة الثلاثة: لا يجوز له أن يمسح على الخفين إلا إذا لبسهما بعد كمال الطهارة، فلا بد أن تكمل الطهارة ثم يلبس الخفين، ولهذا قالوا:

  •  لو غسل الرجل اليمنى في الوضوء في آخر وضوئه، ثم ألبسها خفها، ثم غسل اليسرى وألبسها خفها.. لم يجز له المسح؛ لأنه لبس خف اليمنى ولم تكمل الطهارة بعد، لبس خف الرجل اليمنى وهو لم يغسل بعد الرجل اليسرى؛ الطهارة لم تكمل فلا يصح ذلك. فإن استمر على ذلك حتى أحدث لم يجز له المسح على الخفين بل يجب أن يغسل الرجلين ثم يلبس الخفين وقد أكمل الطهارة.
  •  وإن نزع خف الرجل اليمنى بعد ذلك -وهو متطهر- ثم أدخلها؛ أرجعها إلى رجله، الآن أدخل الخفّين وهو على طهارة كاملة، فإذا أحدث ثم توضأ جاز له أن يمسح على الخفين.

وإنما يجزئه إخراج خف اليمنى لأنه ادخلها قبل تمام الطهارة، ثم يرجع الخف إلى الرجل، ولا علاقة باليسرى فإنه أدخلها على طهارة كاملة. وقال ابن سريج من الشافعية: اليمنى واليسرى واحد؛ لابد ينزع الخفين معًا ويدخلهما بعد ذلك. 

على كلٍّ فالمعتمد عند الشافعية: إنما يلزمه أن ينزع خف اليمنى فقط، ثم يعيده وهو على الطهارة؛ ليكون لبس كل واحد من الخفين وهو على طهارة كاملة.

  •  فإذا لبس الخفين على غير طهارة، ثم توضأ وكان خفّاه واسعين، فغَسَل الرجلين والخفّان فيهما، فانغسلت القدمان، ثم أحدث ..أراد أن يتوضأ.. يُقال له لا تمسح على الخفينّ.. لماذا لا تمسح على الخفين؟ وقد كنت على طهارة كاملة؟ متى لبست الخفين؟ وأنت محدث! ما ينفع.. ما يصح لابد أن تلبسهما على طهارة كاملة، أما تغسل رجليك وسط الخفين وتقول كملت الطهارة! انزع الخفين والبسهما وأنت على طهارة كاملة.
  • وقال بعض الأئمة: يجوز أن يمسح على الخفّين؛ لأنه قد كملت طهارته، كما هو عند الحنفية. فإذا أحدث وهو على طهارة كاملة جاز له أن يمسح على الخفين ولا بأس أنه أدخلهما قبل الطهارة، لكن لم يُحدث أول حدث إلا وعليه خفّاه وهو على طهارةٍ كاملة، فحينئذٍ يجوز أن يمسح على الخفين.

يقول سيدنا عمر لابن عمر: "إِذَا أَدْخَلْتَ رِجْلَيْكَ فِي الْخُفَّيْنِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ" أي: الرجلان "فَامْسَحْ عَلَيْهِمَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَإِنْ جَاءَ أَحَدُنَا مِنَ الْغَائِطِ؟" أي: هذا المسح مختص بتجديد الوضوء أو للمحدث أيضًا؟ "فَقَالَ عُمَرُ: نَعَمْ وَإِنْ جَاءَ أَحَدُكُمْ مِنَ الْغَائِطِ" يعني: أنه يجزئه عن غسل الرجلين رخصةً من الشارع في تعليم رسول الله ﷺ لنا. وقد تقدم معنا ما ذكر الإمام أحمد بن حنبل: أنه رُوي عن أربعين من الصحابة حديث المسح على الخفين مرفوعًا وموقوفًا، وما جاء عن الحسن البصري أنه قال: حدّثني سبعون من أصحاب النبي ﷺ أنه مسح على الخفين.

 وذكر لنا بعد ذلك حديث عبد الله بن عمر في السوق، ففيه أن عبد الله بن عمر بعد أن ثبت عنده من إخبار سعدٍ وإخبار أبيه، وقد جاء في الرواية أن أباه سيدنا عمر قال: إذا حدّثك سعدٌ عن رسول الله ﷺ  فلا تسأل عنه غيره، إذا حدثك سعد عن شي عن رسول اللهﷺ فهو أهله ولا تسأل عنه غيره، يقول سيدنا عمر لعبد الله بن عمر. فلما ثبت عند عبد الله بن عمر ذلك صار هو يمسح على الخفين في الحضر كما جاءنا في هذا الحديث. يقول: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بَالَ فِي السُّوقِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ دُعِي لِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا." وفي هذا أنه أخّر المسح على الخفين، وكان بعد أن أحدث غَسَل وجهه ويديه ومسح رأسه، لم يمسح على الخفين. فهذا عند الإمام مالك محتمل لأمرين:

  •  إما أن يكون نسي؛ وقد تقدّم عند الإمام مالك أنه إذا نسي لا عليه، فليمسح الخفين ويصلي؛ لأن الموالاة واجبة عندهم.
  • وإن تعمّد فقد بطلت الموالاة فليُعد الوضوء.

ولكن ذكره لهذه الرواية في موطئه دليلٌ على أنه:

  • إما قد يرى عدم الموالاة بين غسل الأعضاء ومسح الخفين، فيرى أن الخف أمرٌ يسير ويمكن أن لا يتصل بغسل بقية الأعضاء، كما يُشير إليه وضعه لهذا الحديث في هذا المكان.
  •  أو أن يحمل عبد الله بن عمر على النسيان، وأنه نسي، بعد ذلك ذكر لمّا دعوه للصلاة على الجنازة ذكر.

ثم قوله: "دُعِي لِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ.." فهل الجنازة في المسجد أو خارج المسجد؟ وهل مسح على خفّيه في المسجد أو خارج المسجد؟ الرواية محتملة، حين هو دخل المسجد نعم دُعي ليصلي على الجنازة.. الجنازة في الخارج أم وسط المسجد؟ الله أعلم! ومسح على الخفين.. خرج مسح على الخفّين خارج المسجد أم مسح وسط المسجد؟ فإن الطهارة وسط المسجد في غير المحل المعدّ لذلك، وما لم يكن في نحوها، يكره ما بين كراهة تنزيه أو تحريم، عند الإمام مالك: منع الوضوء في المسجد وغيره من الأئمة.. فكيف ذلك؟ وهو من المنهيات عن الوضوء وسط المسجد، إلا أن يكون حافظًا للماء في إناء لا يصل منه شيءٌ إلى المسجد أو أن يكون في موضعٍ معدٍّ لذلك. لكن المواضع المعدّة للوضوء في واقع بناء المساجد خارج المسجد، ما تكون وسط المسجد. وعلى كلّ الأحوال فهذا الاحتمال قائم.

ثم الجنازة كذلك، فإن من الأئمة من يقول: لا يجوز إدخال الميت إلى المسجد، فيجعلون الجنازة أمام المسجد وفي محل مفتوح إليه ثم يصلي الناس في المسجد لا بأس، لكن الجنازة نفسها لا يدخلوها المسجد كما هو عند الحنفية، ولكن تكون في مكان قبل المسجد؛ ولأجل هذا الخلاف إذا حضرت جنازة في تريم في أي مناسبة في مسجد آل باعلوي وأرادوا أن يصلوا عليها، وضعوها خارج المسجد من الجهة القبلية، وخرج الإمام فصلى عليها، الناس في المسجد، لكن الجنازة والصف الأول خارج المسجد خروجًا من الخلاف، فقد دأبوا أن لا يدخلوا إلى المسجد شيئًا مختلفًا فيه وفي جوازه.

 ثم قال: "..فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا" على الجنازة محتمل أن تكون خارج المسجد ومحتمل أن تكون داخل المسجد. ويقال: إنما أحدث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- الناحية القبلية من ناحية الجنوب في المدينة المنورة لأجل أن الجنائز إذا أُدخلت إلى الروضة صارت رجلا الميت إلى جهة الحجرة الشريفة، فلم يروا ذلك من الأدب، فجعلوا الجنائز أمام؛ حتى لا توازي رجلي الميت الرأس الشريف ومحل مدفنه ﷺ. وهذا مما عرف عن الصحابة من الأدب رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم. كيف والصدّيق وقف على الدرجة الثانية ولم يصعد إلى الثالثة في الخطبة أدبًا.. وقد كان ﷺ يصعد على الدرجة الثالثة في المنبر، فلمّا تولى الخلافة فخطب وقف على الدرجة الثانية أدبًا، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ورزقنا محبتهم ومتابعتهم وحشرنا في زمرتهم.

 ثم أورد لنا حديث: "سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رُقَيْشٍ، أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ.." كان هذا من صغار التابعين وأدرك سيدنا أنس بن مالك، وهو آخر الصحابة موتًا في البصرة، آخر من مات في البصرة من أصحاب النبي ﷺ: أنس بن مالك خادم النبي محمد عليه الصلاة والسلام. "أَتَى قُبَاء فَبَالَ، ثُمَّ أُتِىَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، ثُمَّ جَاءَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى." 

  • ثم إن المشهور من قول مالك: أن مدة المسح غير مقدّرة، 
  • وجاء عن الإمام مالك في رواية أشهب عنه: أنه يمسح المسافر ثلاث أيام ولم يتكلم على المقيم ويقول: أن الطهارة لم تتوقّت بوقت.
  •  والجمهور أنها موقتةٌ بتوقيت النبي ﷺ؛ 
    • فوقت للمسافر ثلاثة أيام 
    • وللمقيم يومًا وليلة 

فإذا انتهت الثلاثة الأيام أو اليوم والليلة والرجل متوضئ، وأراد أن يصلي.. انتهت أربعة وعشرين ساعة فهو في الساعة السابعة والعشرين من حين ابتدأ المسح؛ من حين ابتدأ الحدث أو المسح. فالمعتمد بداية الحدث؛ فأوّل حدث بعد لبس الخفين تبتدئ المدة منه، فإذا كان في الساعة السابعة أحدَثَ بعد أن لبس الخفين على طهارة كاملة في الفجر، فلما جاءت الساعة السابعة أحدَث، فله أن يمسح إلى الساعة السابعة في اليوم الثاني، فجاءت الساعة السابعة في اليوم الثاني وهو على طهارة قال: سأصلي، قل: لا تصلي! انتهى مفعول مسح الخفين.. قال: أنا على وضوء، وإن كنت على وضوء، اخرِج الخفّين واغسِل القدمين، اغسِل الرجلين وردّ الخفّين فيهما، وصَلِّ.. ثم إن أحدثت بعد ذلك، ابتدأت مدة المسح يوم وليلة للمقيم من حين الحدث، وثلاثة أيام للمسافر.

  • وجعل الحنابلة: أن المسح على الخفّين من المستحبات، وقالوا: إذا قد لبس الخفين على طهارة فالأفضل هو المسح على الخفين للاقتداء.
  • وهو عند الجمهور: رخصة من الشارع وليس هو الأفضل؛ يجوز أن يمسح، ويجوز أن يغسل القدمين

 قال الحنابلة الأفضل المسح أخذًا بالرخصة، و"إنّ الله يحبّ أن تؤتى رُخَصُه كما يحب أن تؤتى عزائمه"، ولكن في أحوالٍ يلزمه المسح على الخفين؛ كإذا خاف فوت وقت أو خاف فوات الوقوف بعرفة أو إنقاذ أسير ونحو ذلك.. بحيث إذا اشتغل بِنزع الخفّين وبالغَسل يفوته خلاص.. فهنا يجب عليك أن تمسح وتمشي حتى لا يفوتك الوقت وهكذا. 

علمنا جمهور الفقهاء في توقيت المسح على الخفين: يوم وليلة في الحضر، وثلاثة ايام في السفر، وقد جاء ذلك في أحاديث متعددة.

  •  ويقول الشافعية والحنابلة: إذا كان المسافر في سفر معصية فلا يمسح ثلاث ايام، إذا ذهب يخاصم واحد من أقاربه أو يقاطعه، أو سافر من أجل يشاهد مناظر محرمة، أو سافر لأجل يشرب مسكرات -نعوذ بالله-، فهذا في سفره معصية، فإذا مسح على الخف، له يوم وليلة فقط -حق المقيم- ما زاد عليه ممنوع وإن قال أنا مسافر.. مسافر من أجل أي قصد يا قليل الأدب.. يا قليل الايمان؟ تسافر من أجل تعصي الرحمن؟! فلا عبرة لسفرك هذا.. هكذا عند الشافعية والحنابلة؛ أن المسافر إذا كان في سفر معصية فلا يمسح إلا يوم وليلة فقط، وليس له رخصة المسافر.
  •  وهكذا سمعت قول المالكية
    • بأنه يجوز من غير توقيت ولو كان في سفر معصية. 
    • والقول الثاني: أنه للمسافر مقيّد بثلاثة أيام، وفي الحضر من دون توقيت.

 يقول لنا أنه: "سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ تَوَضَّأَ وُضُوءَ الصَّلاَةِ، ثُمَّ لَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ بَالَ، ثُمَّ نَزَعَهُمَا، ثُمَّ رَدَّهُمَا فِي رِجْلَيْهِ أَيَسْتَأْنِفُ الْوُضُوءَ؟" هو أكمل الطهارة ولبس الخفين، تمام.. قام نزع الخفين وبال، أو بال ونزع الخفين.. بعد ما نزع الخفين قال: الآن أتوضأ، ردّهما من أجل يمسح عليهما، قال سيدنا مالك: "لِيَنْزِعْ خُفَّيْهِ، ثُمَّ ليَتَوضَّأ وَلْيَغْسِلْ رِجْلَيْهِ،"؛ لأنه نزعهما ثم لبسهما وهو محدث، فما يمكن أن يمسح عليهما، بل ينزع خفّيه ويغسل رجليه ويلبسهما بعد ذلك. قال: "لِيَنْزِعْ خُفَّيْهِ، ثُمَّ ليَتَوضَّأ وَلْيَغْسِلْ رِجْلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَنْ أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ فِي الْخُفَّيْنِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ بِطُهْرِ الْوُضُوءِ، وَأَمَّا مَنْ أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ فِي الْخُفَّيْنِ وَهُمَا غَيْرُ طَاهِرَتَيْنِ بِطُهْرِ الْوُضُوءِ، فَلاَ يَمْسَحْ عَلَى الْخُفَّيْنِ"، معلوم وعليه الأئمة، إلا أنّا علمنا أن تمام الطهارة هذا هو الذي اختلفوا فيه؛ تمام الطهارة.

  فإذا كان سَلِس أو مستحاضة -حدث دائم- فقال: سألبس الخفين.. توضأ ولبس الخفين ثم أحدث وسيتوضأ ثاني مرة قال: أنا سأمسح على الخفين، وأنا أيضًا سأخفّف على نفسي من البرد.. وحدثه مستمر، ففيه قولان عند الشافعية: والأصح جواز ذلك؛ لأنه محتاج، فإذا انقطع السلس أو انقطع الحدث وهو متوضئ يجب عليه أن ينزع الخفين ويغسلهما؛ لأن كان ذاك للضرورة مغتفر له، فلما شُفيَ بحمد الله تعالى وجَبَ عليه أن ينزع الخفين ويغسلهما وإن كان متوضئًا.

"وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ تَوَضَّأَ وَعَلَيْهِ خُفَّاهُ، فَسَهَا عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ حَتَّى جَفَّ وَضُوءُهُ وَصَلَّى؟ قَالَ: لِيَمْسَحْ عَلَى خُفَّيْهِ وَلْيُعِدِ الصَّلاَةَ، وَلاَ يُعِيدُ الْوُضُوءَ."، توضأ وضوء كامل ونسي يمسح على الخفين، ثم قام وصلّى.. قال الإمام مالك: الصلاة يعيدها، عليه يمسح على الخفّين والصلاة يعيدها، أما الوضوء لا يعيده؛ لأنه كما تقدّم معنا أن من نسيَ المسح على الخفّين فهو مغتفر له الموالاة عند الإمام مالك، وقيل مطلقًا: لا موالاة بين الغسل والمسح على الخفين عند الإمام مالك. وعلى القول بوجوب الموالاة عنده: اغتُفر للناسي دون المتعّمد، "قَالَ: لِيَمْسَحْ عَلَى خُفَّيْهِ وَلْيُعِدِ الصَّلاَةَ، وَلاَ يُعِيدُ الْوُضُوءَ.".

"وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ غَسَلَ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ لَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْوُضُوء؟ فَقَالَ: لِيَنْزِعْ خُفَّيْهِ، ثُمَّ لْيَتَوَضَّأْ وَلْيَغْسِلْ رِجْلَيْهِ" وهذا الذي خالف فيها الجمهور الحنفية 

  • وقال الحنفية: أن غسل الرجلين صحَّ، فإذا أكمل الوضوء بعد ذلك وأحدث وهو لابس الخفّين على طهارة كاملة فيجوز أن يمسح عليهما 
  • قال الجمهور: لا، كما قال مالك:  "لِيَنْزِعْ خُفَّيْهِ، ثُمَّ لْيَتَوَضَّأْ وَلْيَغْسِلْ رِجْلَيْهِ." لأنه لما أدخل الخفّين لم تكن طهارته كاملة.

 

 باب الْعَمَلِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ

 

وذكر "العمل في مسح على الخفين" وكيفية المسح على الخفّين فقال: عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّهُ رَأَى أَبَاهُ" سيدنا عروة "يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، قَالَ: وَكَانَ لاَ يَزِيدُ إِذَا مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، عَلَى أَنْ يَمْسَحَ ظُهُورَهُمَا، وَلاَ يَمْسَحُ بُطُونَهُمَا." وهذا هو الواجب عند الأئمة: أن يمسح من أعلى الخف؛ ظاهر الرجلين، ولا يجب عليه المسح من أسفل الخف ولكنه سُنّة، كما يأتي عندنا في الرواية الأخرى. ولكن يجزئ مسح أدنى شيء من أعلى الخف. وفيه يروى عن سيدنا علي قال: "لو كان الدين بالرأي لقلت أن مسح أسفل الخف أولى من مسح أعلاه" ولكن الواجب مسح أعلاه فقط. ويُسنّ مسح أعلاه وأسفله معًا، كما يأتي في الرواية معنا قال: "لاَ يَزِيدُ إِذَا مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، عَلَى أَنْ يَمْسَحَ ظُهُورَهُمَا، وَلاَ يَمْسَحُ بُطُونَهُمَا".

و"عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ كَيْفَ هُوَ؟ فَأَدْخَلَ ابْنُ شِهَابٍ إِحْدَى يَدَيْهِ تَحْتَ الْخُفِّ، وَالأُخْرَى فَوْقَهُ.." فاليمنى فوق الخف من عند الأصابع، واليسرى من تحت الخف من عند الكعب، ثم سار باليمنى إلى أعلى الخف، وسار باليسرى إلى الأصابع؛ فالمعنى: أن هذه الأفضل؛ أفضل كيفية في مسح الخفين. إذا بلّ يديه بالماء يضع الأصابع مفرقة فوق أصابع الرجلين في أعلى الخف اليمنى، ويده اليسرى يجعل أصابعها مفرّقة عند الكعب، ثم يمضي باليمنى إلى عند الكعب، ويمضي باليسرى من عند الكعب إلى عند الأصابع مرّةً واحدة ولا يُسنّ التثليث في المسح على الخفين. وليمسحها مرة واحدة بهذه الطريقة: خطوطًا؛ يعني: الأصابع مفرّقة فيكون خطوطًا من أعلى الخف وأسفله، كما جاء عن ابن شهاب: "فَأَدْخَلَ ابْنُ شِهَابٍ إِحْدَى يَدَيْهِ تَحْتَ الْخُفِّ، وَالأُخْرَى فَوْقَهُ" اليمنى فوقه واليسرى تحته، "ثُمَّ أَمَرَّهُمَا." هذه إلى الإمام وهذه إلى الخلف. "قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَقَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ." فهو أفضل كيفية للمسحِ على الخفّين.

 أمّا شرب الماء أو القهوة أو أكل شي بالمسجد فلا كراهة في ذلك، وقد كان شغل ساداتنا أهل الصفّة وأكلهم في المسجد، ونومهم في المسجد، وشربهم في المسجد، فلا إشكال في ذلك. ويجب عليه إذا أكل في المسجد أو شرب أن يحافظ على المسجد فلا يرمي فيه فتات الطعام أو شيء مما يشوّش المسجد أو يستخفّ بحرمته.

 والمسح على الخفين في الوضوء فقط، فإذا أجنب أو إذا انتهت المدة أو انتزع الخف؛ فيبـطُل المسح على الخفين فيجب أن يغسل الرجلين. فهذه المبطلات للمسح على الخفين، أن ينزع الخف، قد مسح على الخفّين.. ثمّ خرّج الخف وردّه! اغسل رجليك ما يصح أن تصلّي؛ لأن الخفّين انتُزعتا أو إحداهما،

  • بنزع الخف 
  • أو بانتهاء المدة 
  • أو بالجنابة 

فإذا أجنب لا يمكن يمسح على الخفين ولا يجوز إلا أن يكون على طهارة كاملة وأن يغسل القدمين في الغسل من الجنابة، لا يجوز المسح على الخفّين. اقرأ كلام الإمام مالك لما سُئل عن علامة السنّي: الترضّي عن الشيخين -يقصد سيدنا أبو بكر وعمر-، ومحبة الختنين -سيدنا عثمان وعلي-، والمسح على الخفين؛ فإنه ينكره بعض المبتدعة، والله أعلم. 

ملأنا بالإيمان واليقين، وألحقنا بالصالحين، وثبّتنا على ما يحبّه منّا ويرضى به عنّا في كل حسٍّ وفي كل معنى، لا وكلنا بفضله إلى أنفسنا ولا إلى أحدٍ من خلقه، وتولّانا بما هو أهله في كل شأنٍ وحال وحين، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

28 ذو القِعدة 1441

تاريخ النشر الميلادي

18 يوليو 2020

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام