(229)
(536)
(574)
(311)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الصيام، باب ما جاء في صيام الذي يُصبح جُنُباً في رمضان، وباب ما جاء في الرخصة في القبلة للصائم، وباب ما جاء في التشديد في القبلة للصائم.
فجر الأربعاء 12 رجب 1442هـ.
باب مَا جَاءَ فِي صِيَامِ الَّذِي يُصْبِحُ جُنُباً فِي رَمَضَانَ
796 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ الأَنْصَاري، عَنْ أبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَنَا أَسْمَعُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُصْبِحُ جُنُباً وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ؟ فَقَالَ ﷺ: "وَأَنَا أُصْبِحُ جُنُباً وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ، فَأَغْتَسِلُ وَأَصُومُ". فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلَنَا، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ: "وَاللَّهِ إنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي".
797 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ زَوْجَي النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهُمَا قَالَتَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصْبِحُ جُنُباً مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلاَمٍ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ يَصُومُ.
798 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ يَقُولُ: كُنْتُ أَنَا وَأبِي عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، فَذُكِرَ لَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُباً أَفْطَرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ. فَقَالَ مَرْوَانُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَتَذْهَبَنَّ إِلَى أُمَّي الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، فَلَتَسْأَلَنَّهُمَا عَنْ ذَلِكَ، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَذَهَبْتُ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّا كُنَّا عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَذُكِرَ لَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُباً أَفْطَرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ. قَالَتْ عَائِشَةُ : لَيْسَ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَن، أَتَرْغَبُ عَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَصْنَعُ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لاَ وَاللَّهِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يُصْبِحُ جُنُباً، مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلاَمٍ، ثُمَّ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ. قَالَ: فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْنَا مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَا قَالَتَا، فَقَالَ مَرْوَانُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، لَتَرْكَبَنَّ دَابَّتِي، فَإِنَّهَا بِالْبَابِ، فَلْتَذْهَبَنَّ إِلَى أبِي هُرَيْرَةَ، فَإِنَّهُ بِأَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ فَلْتُخْبِرَنَّهُ ذَلِكَ. فَرَكِبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَرَكِبْتُ مَعَهُ، حَتَّى أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَتَحَدَّثَ مَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ سَاعَةً، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: لاَ عِلْمَ لِي بِذَاكَ، إِنَّمَا أَخْبَرَنِيهِ مُخْبِرٌ..
799 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أبِي بَكْرٍ، عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ زَوْجَي النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهُمَا قَالَتَا: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيُصْبِحُ جُنُباً، مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلاَمٍ، ثُمَّ يَصُومُ.
باب مَا جَاءَ فِي الرُّخْصَةِ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ
800 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ, أَنَّ رَجُلاً قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ فِي رَمَضَانَ، فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ وَجْداً شَدِيداً، فَأَرْسَلَ امْرَأَتَهُ تَسْأَلُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَدَخَلَتْ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهَا، فَأَخْبَرَتْهَا أُمُّ سَلَمَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، فَرَجَعَتْ فَأَخْبَرَتْ زَوْجَهَا بِذَلِكَ، فَزَادَهُ ذَلِكَ شَرًّا وَقَالَ: لَسْنَا مِثْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ اللَّهُ يُحِلُّ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَا شَاءَ، ثُمَّ رَجَعَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَوَجَدَتْ عِنْدَهَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ؟". فَأَخْبَرَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَلاَّ أَخْبَرْتِيهَا إنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ". فَقَالَت :ْ قَدْ أَخْبَرْتُهَا، فَذَهَبَتْ إِلَى زَوْجِهَا فَأَخْبَرَتْهُ، فَزَادَهُ ذَلِكَ شَرًّا وَقَال:َ لَسْنَا مِثْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، اللَّهُ يُحِلُّ لِرَسُولِهِ ﷺ مَا شَاءَ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ: "وَاللَّهِ إنِّي لأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ".
801 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضى الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ.، ثُمَّ ضَحِكَتْ.
802 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ عَاتِكَةَ ابْنَةَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، امْرَأَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، كَانَتْ تُقَبِّلُ رَأْسَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ صَائِمٌ، فَلاَ يَنْهَاهَا.
803 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا هُنَالِكَ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَهُوَ صَائِمٌ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَدْنُوَ مِنْ أَهْلِكَ فَتُقَبِّلَهَا وَتُلاَعِبَهَا، فَقَالَ أُقَبِّلُهَا وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ.
804 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَعْدَ بْنَ أبِي وَقَّاصٍ كَانَا يُرَخِّصَانِ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ.
باب مَا جَاءَ فِي التَّشْدِيدِ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ
805 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ كَانَتْ إِذَا ذَكَرَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ تَقُولُ: وَأَيُّكُمْ أَمْلَكُ لِنَفْسِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟
806 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ : قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَمْ أَرَ الْقُبْلَةَ لِلصَّائِمِ تَدْعُو إِلَى خَيْرٍ.
807 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ، فَأَرْخَصَ فِيهَا لِلشَّيْخِ، وَكَرِهَهَا لِلشَّابِّ.
808 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَنْهَى عَنِ الْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ.
الحمدُ لله مُكرمنا بشريعته المتينة، وأحكام دينهِ المُبينة، وصلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم على عبده المُصطفى، مَنْ جعله صفوته وأمينه، وعلى آله وأصحابه المُتحصّنين بحصونه الحصينة، وعلى مَنْ تبعهم بإحسان، فأقبلَ على الحق على الإقتداء في ظهوره وبطونه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين، الذين جعلهم الله سبحانه وتعالى للحق والهُدى خيرَ حصونه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقرّبين، وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين، وأرحمُ الرَّاحمين.
ويواصل سيدنا الإمام مَالِكْ عليه رحمة الله تعالى ذكرَ الأحاديث المُتعلقة بالصِّيام، وقال: "بابُ مَا جَاءَ فِي صِيَامِ الَّذِي يُصْبِحُ جُنُباً فِي رَمَضَانَ"، أي: يطلع عليهِ الفجر وهو لم يغتسل بعدُ، وجاء في هذا أقوال للعلماء أشهرها الذي عليه الأئمة الأربعة أنه يغتسل ويتمَّ صومه، كما دلت عليه هذه الأحاديث.
وعليه سيدنا علي، وابن مسعود وزيد بِن ثابت، وأبي الدَّرداء، وأبي ذر، وابِن عُمر، وابِن عباس، الصَّحابة رضي الله تعالى عنهم، وعليه جماعة فقهاء الأمصار من مختلف الأماكن، وأئمة الفتوى كالأئمة الأربعة رضي الله تبارك وتعالى عنهم وأرضاهم. ويُروى عن أبي هريرة رجوعه عن ذلك، وبقيَّ على قول أبي هريرة بعض التَّابعين، ثم أنقطع القائلون ببطلان الصَّوم، بأن يُصبح الصَّائم جُنبًا، وحصل بعدهم بعد ذلك إجماعٌ على أنه لا يُبطل الصَّوم.
ذكر لنا حديثَ: "أبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ" قالت: "وَأَنَا أَسْمَعُ" وهو يسأله عند باب الحُجرة، وفي روايةِ الإمام مُسلم: "مِن وراء الباب"، "يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُصْبِحُ جُنُباً وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ؟" يعني فهل يَصّح الصَّوم أو لا؟ "فَقَالَ ﷺ: "وَأَنَا أُصْبِحُ جُنُباً وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ" صلَّى الله عليهِ وصحبهِ وسلَّم وكفى به قدوة، قال: "فَأَغْتَسِلُ وَأَصُومُ" أي: فلَكَ فيَّ أسوة، وأجابهُ بالفعلِ لأن التعليم الفِعلي أبلغ، إذ تبيَّن للرجل أنّ النَّبي ﷺ كان يفعلهُ وقد أُمرنا باتباعه، وأنهُ سألَ عن مسألة فأجاب ﷺ بمثلِ ذلك مِنْ حالِ نفسه، وهذا يدل على أنَّ ُحكمهُ ﷺ في ذلك حُكم السائل.
"فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلَنَا، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ" كما يقرؤنَ في القرآن (لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ..) [الفتح:2] قال فغضب رسول الله ﷺ، لأنه إخباره له بفعله في جواب سؤاله الصريح، أنه ليس في شيء مِنَ الاختصاصات التي تخصصه ﷺ، وأنه في مجال التَّشريع، وفي مجال القدوة، فلا معنى لهذا الكلام الذي يذكرهُ هذا، وأنَّه ليس مثلنا في مقامه وقدره ومنزلته عند الله؛ ولكنه المُشرِّع لنا، والقدوة لنا ﷺ ، والمرجع إليه، ولا يُحمَلُ على الخصوصية في شيءٍ مِنْ أفعاله إلا ما وردَ فيه النص، وما لا فهو المُشرِّع الذي يجب أن يُتَبع. وَقَالَ: "وَاللَّهِ إنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ" في لفظ: "بالله"، ، "وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي" آللهم صلَّ عليه وعلى آله، وهو الأخشى مِنْ غير شك، وهو الأتقى بلا شك، صلوات ربي وسلامه عليه.
وفي هذا بيان أنَّ الأصل في أفعاله وأقواله: العموم والتَّشريع للأمة حتى يدلَّ النص على شيءٍ يختص به، كما جاء النص في الأزواج: (مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ..) [الأحزاب:38] وقال: (..خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ..) [الأحزاب:50] فدلَّ على الخصوصية، وما لم يدلّ على الخصوصية فيهِ النص فهو تشريعٌ لجميع الأمة، ورسولُ الله هو الأتقى والأعلم بما يُتّقى، والأحسنُ في الفعلِ والتركِ، صلوات ربي وسلامه عليه.
ثم ذكر لنا الحديث: "عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ زَوْجَي النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهُمَا قَالَتَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصْبِحُ جُنُباً مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلاَمٍ فِي رَمَضَانَ, ثُمَّ يَصُومُ." وهكذا جاء في الصَّحيحين، وذلك أيضًا أنَّ الاحتلامَ ممتنعٌ عنِ الأنبياء فيما كانَ برؤيةٍ أو تصويرٍ، وبحث بعضهم أنه يجوزُ الاحتلام بحق الأنبياء، بإمتلاء الأوعيةِ مِنْ دون رؤية ومن دونِ تصويرٍ ولا تلبيس، وأمَّا بالرؤية فذلك مُمتنعٌ في حق الأنبياء جميعًا، صلوات الله وسلامه عليهم، ولهذا تقول أنه: "يُصْبِحُ جُنُباً مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلاَمٍ فِي رَمَضَانَ" ثمَّ يَغتسل بعد طلوع الفجر ويُصلِّي ويستمر في صومِه ﷺ.
يقولُ: "عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كُنْتُ أَنَا وَأبِي عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ" يومئذٍ، هو وأبوهُ "عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ"، هشام بنِ المُغِيرة، هذا ولد في عهد النَّبي ﷺ، ولم يَروِ عنه، فقال: "كُنْتُ أَنَا وَأبِي عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ" الأموي، "وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ" في ذلك الوقت من جهةِ مُعاوية بِنْ أبي سُفيان، فذُكِرَ له، يعني ذكرَ لهُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وفي الرواية عند البُخاَري أنّ أباه عَبْدِ الرَّحْمَنِ أخبرَ مَرْوَانَ، ففيهِ:
أخبره: "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُباً أَفْطَرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ" وهكذا جاء عنه أنَّه قالَ: لا وربِّ هذا البيِّتِ ما أنا قلتُ مَنْ أدركَ الصبح وهو جُنبًا لا يصوم، مُحمدٌ وربُّ الكعبة قاله. واذا صحَّ ذلك فيُحملُ ذلك على النَّسخ، أنهُ نُسخَ. "فَقَالَ مَرْوَانُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَتَذْهَبَنَّ إِلَى أُمَّي الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، فَلَتَسْأَلَنَّهُمَا"؛
قال "فَذَهَبَ" يعني والده عَبْدِ الرَّحْمَنِ، و ذهب معه "وَذَهَبْتُ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا" وجاءَ في رواية النَّسائي: عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِنْ الحَارث قال: أرسلني مَرْوَان إلى عائشة فأتيتها، فلقيت غلامها ذكوان، فأرسلتُ إليها فسألها عن ذلك، فأتيتُ مَرْوَان فأَعتددتُ بذلك فأرسلني إلى أُمِ سلمة فأتيتها، فلقيتُ غلامها نافعًا فأرسلت إليها فسألها عن ذلك…. "ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّا كُنَّا عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَذُكِرَ لَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُباً أَفْطَرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، يَا عَبْدَ الرَّحْمَن، أَتَرْغَبُ عَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَصْنَعُ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لاَ وَاللَّهِ." لا أرغب أبدًا عن سُنَّة رسول الله، "قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يُصْبِحُ جُنُباً، مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلاَمٍ، ثُمَّ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَسَأَلَهَا"؛ يعني: أبوه عَبْدُ الرَّحْمَنِ، "عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ. قَالَ: فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْنَا مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ" أمير المدينة، "فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَا قَالَتَا، فَقَالَ مَرْوَانُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، لَتَرْكَبَنَّ دَابَّتِي، فَإِنَّهَا بِالْبَابِ، فَلْتَذْهَبَنَّ إِلَى أبِي هُرَيْرَةَ، فَإِنَّهُ بِأَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ" بجانب المدينة المُنورة، بوادي العقيق، فخرج ولقيَه، كانت لهُ أرضٌ هناك، فكان فيها، فجاءوا إليه فلم يجداهُ في الأرض ثُمَّ وجداهُ في ذي الحُليفة، قال: "فَلْتُخْبِرَنَّهُ ذَلِكَ. فَرَكِبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَرَكِبْتُ مَعَهُ، حَتَّى أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ" لم يجداهُ في أرضه مِنْ العقيق، ووجداه في ذو الحُليفة، قال: "فَتَحَدَّثَ مَعَهُ"؛ مع أَبَي هُرَيْرَةَ "سَاعَةً"، قال هذا مِنْ حُسن الأدب وتقديم التأنيس، ليس أول ما يراه يقول: يا أَبَا هُرَيْرَةَ أنت تقول كذا، جلس معه وتحدث، وبعدها أخبرهُ بالخبر، فكان هذا من حُسن الأدب، "فَتَحَدَّثَ مَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ سَاعَةً، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: لاَ عِلْمَ لِي بِذَاكَ" أنَّ النَّبي ﷺ يعني بِلا واسطة؛ ولكن معنى إذا عَائِشَةُ أخبرتك وأُمِّ سَلَمَةَ، فهنَّ أعلم برسول الله مني في هذه المسألة، وفيه الثبات أيضًا على العِلم حتى يأتيَّ الدليل الواضح، فيكون فيه الإِنصياعُ والإنقياد، لما وضَح وتعيَّن من الدليل.
وفي رواية مُسلم: قال: أن أَبَا هُرَيْرَةَ قال: أنهما قالتَاهُ؟ قالا: نعم، قال: هُما أعلم. وجاء أيضًا في رواية أي هي عَائِشَة أعلم برسول الله ﷺ منَّا. وهكذا جاءَ عن سَعيد بِنْ المُسيِّب، أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رجعَ عن فُتياه التي كان يفتي بها، أنَّ مَنْ أَصْبَحَ جُنُباً فَلا صَومَ له. فهذا الذي عليه الأئمة الأربعة، كما سمعت.
وأوردَ الحديث الآخر، "عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ زَوْجَي النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهُمَا قَالَتَا: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيُصْبِحُ جُنُباً، مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلاَمٍ، ثُمَّ يَصُومُ." ﷺ. والحديث أيضًا في الصَّحيحين، فأعاده المُصنف من أجلِ اختلافِ الشّيوخ الذّين روى عنهم في السّند، فذَكرَ هذا، وذكرَ هذا، وعلى هذا أيضًا يأتي نظير هذا مِنَ المسائل أنَّهُ:
ثُم قالَ: "بابُ مَا جَاءَ فِي الرُّخْصَةِ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ"؛ أي تقبيلُ زوجتهِ، ومن أهلِ العلمِ:
ففي روايةٍ عن الإمامِ أحمدْ الإباحة مُطلقًا، وفي كُتبِ الحَنَابِلة تُكرّهُ القُبلة ودواعي الوطء لمن تُحرّكهُ شهوتهُ، ولأنّهُ ﷺ نهى عنها شابًا ورخّصَّ لشيخ، في روايةِ أبي داود، وهكذا جاءَ وحرُمَ نحوَ لمسٍّ كقُبلةٍ إن حرّكت شهوةً خوف الإنزال؛ وإلاَّ فتركُهُ أولى. وهكذا جاءَ عن الإمامِ مَالِكْ كراهته، وعموم التَّقبيل يأتي فيه أحكامٌ:
وقد جاءَ أن رسول الله ﷺ قبَّلَّ سيدنا جعفر حين قدِمَ من الحبشة، قبَّلَّ بينَ عينيهِ، وعانقهُ ﷺ، وعبَّرَ عن سرورهِ وفرحهِ بِمجيئهِ، وقالَ: "مَا أَدْرِي بِأَيّهِمَا أَنَا أسَرّ: بِفَتْحِ خَيْبَرَ، أَمْ بقدوم جَعْفَر"، فوازى قدومه عليه بالفتحِ لخيبر لمكانتهِ عند رسولِ الله، ومحبةِ رسولِ الله ﷺ لهُ، رضيَّ الله عن جعفرِ الطَّيار. كانَ سيدنا عُمر بِنْ الخطَاب كُلَّما لقيَ ولدهُ عبد الله بْنِ جعفر يُسلمُ عليهِ يقولُ: السَّلامُ عليكَ يا ابنَ ذي الجناحين، السَّلام عليك يا ابنَ ذي الجناحين؛ فإنَّ الله أبدلهُ مكانَ يديهِ جناحين يطيرُ بهما في الجنةِ حيثُ شاءَ.
وهكذا إذا كانَ على وجهِ القُربى إلى الله لأجلِ دِين الذّي يُقبّلُ يدهُ مثلًا، أو علمهُ، أو شرفهُ، فذلكَ جائزٌ، بل يُسن تَقبيل الولد للمودّةِ على الرَّأسِ والجبهة، فقد "قبّل رسول الله ﷺ الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدًا" أنتم تقبّلون الصبيان؟ فما نقبّلهم، فنظر إليه رسول الله ﷺ ثم قال: "مَن لا يَرحم لا يُرحم". وقال: "وما أملِكُ لك أن نزَع الله الرَّحمة من قلبك" ففيهِ تَقبيلُ الأطفالِ رحمةً وشفقةً.
وجاءَ عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: ما رأيتُ أحدًا أشبَهَ سَمتًا ولا هديًا برسولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ فاطمةَ ابنته، قالت: وَكانَت إذا دخلَت على النَّبيِّ ﷺ قامَ إليها فقبَّلَها وأجلَسَها في مجلسِهِ، وَكانَ النَّبيُّ ﷺ إذا دخلَ عليها قامت له فتقبَّله وتُجلسه في مجلسِها.
فالمني يُبطلُ الصّوم بالاتفاقِ، والخلافِ في المَذي، فالرّواية عن الإمامِ أحمد، ومذهبِ الإمام مَالِك أنّهُ يُبطل الصّوم، إذا قَبّل زوجتهُ فأمذى، بَطلَ صومه. وقالَ أبو حَنِيفَة والشَّافعي: لا يفطر ولا يُبطلُ الصّومَ إلاَّ إذا أنزل، فإنْ خافَ الإنزالَ أو المحذورَ حرُّمَ عليهِ التَقبيل، فإن لم يخف محذورًا فهو جائز.
وذكرَ لنا: "عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَجُلاً قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ فِي رَمَضَانَ، فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ وَجْداً شَدِيداً"؛ أي: حزِنَ حُزنًا قويًا، خوفَ الإثم، فندمَ على ما ارتكبهُ، وفيه:
قالَ: "فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ وَجْداً شَدِيداً"؛ أي: حُزنًا بالغًا، "فَأَرْسَلَ امْرَأَتَهُ"إلى أهل بيتِ النَّبي ﷺ "تَسْأَلُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَدَخَلَتْ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ" أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، هند بنت أُمية، "زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهَا, فَأَخْبَرَتْهَا أُمُّ سَلَمَةَ" بجواز هذا الفعل، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، فَرَجَعَتْ" إلى بيتها، "فَأَخْبَرَتْ زَوْجَهَا بِذَلِكَ، فَزَادَهُ ذَلِكَ شَرًّا" مسكين، يعني من الخوف، قال وأنا مثلَّ النَّبي؟ّ هذا النّبي أملكَ النّاس لإربه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، "وَقَالَ: لَسْنَا مِثْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ اللَّهُ، يُحِلُّ" يعني: الحقَّ تعالى لرسولهِ ما شاءَ، "اللَّه يُحِلُّ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَا شَاءَ" أي: ما يشاءُ، كما أحلَّ لهُ القتالُ بمكةَ ساعة، وقال: "ثُمَّ رَجَعَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ" لتسألها، يعني: هل هذا الفعل مِمّا يُقتدى بهِ بالَنّبي أم هو خاصّ بهِ؟، "فَوَجَدَتْ" المرأة لما جاءت عندَ أُمِّ سلمة "رَسُولَ اللَّهِ ﷺ" جاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ ؟" تذهب وتأتي وتتُكلم ماذا عندها؟ فعَلِمَ أنَّها كانت عند أُمِّ سلمة ذهبت وجاءَ النَّبي ﷺ، فرجعت، فلما رجعت قالَ: أنظري ماذا عندها هذه المرأة، "فَأَخْبَرَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَلاَّ أَخْبَرْتِيهَا إنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ"؛ أي: وكفى بي قدوة والمقنع، "فَقَالَت: قَدْ أَخْبَرْتُهَا، فَذَهَبَتْ إِلَى زَوْجِهَا فَأَخْبَرَتْهُ" ثُمَّ كان مسكين هذا، عنده حُزن وذنب، "قالَ: لَسْنَا مِثْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، اللَّهُ يُحِلُّ لِرَسُولِهِ ﷺ مَا شَاءَ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ: وَاللَّهِ إنِّي لأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ"؛ يعني: محارمه وعقوباتهِ، وما يجبُ الاحتراز عنه، وما يُكرهُ مِنَ الأقوال والأفعال، فأنا القدوةُ العظمى لكم، صلَّى الله عليه وآلهِ وصحبهِ وسلَّم.
وجاءَ "عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضى الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ.، ثُمَّ ضَحِكَتْ"؛ مشيرة إلى أنها هي زوجته ﷺ. وجاءَ عن: "امْرَأَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، كَانَتْ تُقَبِّلُ رَأْسَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ صَائِمٌ، فَلاَ يَنْهَاهَا".
وعن "عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا هُنَالِكَ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَهُوَ صَائِمٌ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَة: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَدْنُوَ مِنْ أَهْلِكَ فَتُقَبِّلَهَا وَتُلاَعِبَهَا" وهو صائمٌ، فقصدت إفادته الحُكم في المسألة، وإلا معلومٌ أنهُ لن يُقبلُّها بحضرةِ عائشة ولا غيرها، ولكن أرادت أن تُبيّن المسألة لمَّا رأت أنّ النَّاسَ يضطربونَ فيها ولا يعرفونَ فيها الحُكم، وهي جاءت بالحُكمِ من مصدرهِ، "فَقَالَ أُقَبِّلُهَا وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ" فبيَّنت له المسألة فعلِمَ الحُكم.
وعن "أَبَي هُرَيْرَةَ وَسَعْدَ بْنَ أبِي وَقَّاصٍ كَانَا يُرَخِّصَانِ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ" أي: لمن لا تُحرّك شهوتهُ، ولا توقعه في المحذور.
ولِما جاءَ في البابِ الثّاني مِنَ التَّشْدِيدِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ" ثُم تقولُ السيدة "عَائِشَةَ: وَأَيُّكُمْ أَمْلَكُ لِنَفْسِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ" وفي لفظٍ: "وكانَ أملكُكم لإربهِ"، صلواتُ ربي وسلامهُ عليهِ
"قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ : قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَمْ أَرَ الْقُبْلَةَ لِلصَّائِمِ تَدْعُو إِلَى خَيْرٍ"؛ أي: إذا خافَ على نفسهِ فينبغي أو يجبُ أن يجتنبها.
و "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ، فَأَرْخَصَ فِيهَا لِلشَّيْخِ، وَكَرِهَهَا لِلشَّابِّ". وهكذا جاءَ عن بعضِ الأئمةِ. والتّمثيلُ بالشّيخِ والشَّابِ للغالب، ليستِ العبرة لمجرد الشَّباب ولا بمجرد الشَّيخوخة أو الشَّيبة، فقد يكون الشّيخُ قويُّ الشّهوة، ضعيفُ الإيمان، فلا يجوزُ لهُ أن يُقبّل، وقد يكونَ الشَّابُ إمّا ضعيفَ الشّهوة، وإمَّا قويَّ الإيمان ما تحركهُ القُبلة، أو لا يخافُ منها الوقوعَ في المحذور، فالحكمُ دائر مع العِلّة، وإنَّما التّمثيلُ بالشٌيخِ والشّابِ للتقريبِ أو للغالبِ واللهُ أعلمُ
جعلنا الله مِنْ أهلِ تقواهُ، ووفّر حظنا من هباتهِ وعطاياه، ومنحنا بالفضلِ عظيم رضاه، وأدخلنا في دائرةِ حبيبهِ ومصطفاه، وحشرنا معهُ يومَ القيامةِ، وجعلنا معه في دارِ الكرامة، وأعاذنا مِن كلِ موجبات الحسرة والنّدامة، ورزقنا الإخلاصَ لوجههِ الكريم وشهوده بمرآة هذا الحبيب العظيم ودوام الحضورِ معه، ورفعنا فيمن رفعهُ، وبارك لنا في رجب وفي شعبان، وبلّغنا رمضان وأعاننا على الصّيام والقيام، وجعلنا مِن خواص أهلهِ في عافية بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي ﷺ.
13 رَجب 1442