شرح الموطأ - 137 - كتاب الزكاة: باب الزكاة في الدَّين

شرح الموطأ - 137 - كتاب الزكاة، باب الزكاةُ في الدَّين، من حديث السَّائب بن يَزيد
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الزكاة، باب الزكاة في  الدَّين.

 فجر الأربعاء 14 جمادى الآخرة 1442هـ.

باب الزَّكَاةِ فِي الدَّيْنِ

688 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ يَقُولُ: هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيِّن فَلْيُؤَدِّ دَيِّنهُ، حَتَّى تَحْصُلَ أَمْوَالُكُمْ، فَتُؤَدُّونَ مِنْهُ الزَّكاة.

689 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ فِي مَالٍ، قَبَضَهُ بَعْضُ الْوُلاَةِ ظُلْماً، يَأْمُرُ بِرَدِّهِ إِلَى أَهْلِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ زَكَاتُهُ لِمَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ، ثُمَّ عَقَّبَ بَعْدَ ذَلِكَ بِكِتَابٍ، أَنْ لاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ إِلاَّ زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهُ كَانَ ضِمَاراً.

690 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، أَنَّهُ سَأَلَ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَالٌ، وَعَلَيْهِ دَيِّن مِثْلُهُ، أَعَلَيْهِ زَكَاةٌ؟ فَقَالَ: لاَ.

691 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا فِي الدَيِّن: أَنَّ صَاحِبَهُ لاَ يُزَكِّيهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ، وَإِنْ أَقَامَ عِنْدَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ سِنِينَ ذَوَاتِ عَدَدٍ، ثُمَّ قَبَضَهُ صَاحِبُهُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ إِلاَّ زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ قَبَضَ مِنْهُ شَيْئاً، لاَ تَجِبُ فِيهِ الزَّكاة، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ سِوَى الَّذِي قُبِضَ تَجِبُ فِيهِ الزَّكاة، فَإِنَّهُ يُزَكَّي مَعَ مَا قَبَضَ مِنْ دَيِّنهِ ذَلِكَ.

قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَاضٌّ غَيْرُ الَّذِي اقْتَضَى مِنْ دَيِّنهِ، وَكَانَ الَّذِي اقْتَضَى مِنْ دَيِّنهِ لاَ تَجِبُ فِيهِ الزَّكاة، فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَكِنْ لِيَحْفَظْ عَدَدَ مَا اقْتَضَى، فَإِنِ اقْتَضَى بَعْدَ ذَلِكَ مَا تَتِمُّ بِهِ الزَّكاة، مَعَ مَا قَبَضَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ فِيهِ الزَّكاة.

قَالَ فَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَهْلَكَ مَا اقْتَضَى أَوَّلاً، أَوْ لَمْ يَسْتَهْلِكْهُ، فَالزَّكاة وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ مَعَ مَا اقْتَضَى مِنْ دَيِّنهِ، فَإِذَ بَلَغَ مَا اقْتَضَى عِشْرِينَ دِيِّناراً عَيْنا، أَوْ مِئَتَىْ دِرْهَمٍ، فَعَلَيْهِ فِيهِ الزَّكاة، ثُمَّ مَا اقْتَضَى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، فَعَلَيْهِ الزَّكاة بِحَسَبِ ذَلِكَ.

قَالَ مَالِكٌ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أنَّ الدَيِّن يَغِيبُ أَعْوَاماً، ثُمَّ يُقْتَضَى فَلاَ يَكُونُ فِيهِ إِلاَّ زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ، أَنَّ الْعُرُوضَ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لِلتِّجَارَةِ أَعْوَاماً، ثُمَّ يَبِيعُهَا فَلَيْسَ، عَلَيْهِ فِي أَثْمَانِهَا إِلاَّ زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الدَيِّن أَوِ الْعُرُوضِ، أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ ذَلِكَ الدَيِّن أَوِ الْعُرُوضِ مِنْ مَالٍ سِوَاهُ، وَإِنَّمَا يُخْرِجُ زَكَاةَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْه، وَلاَ يُخْرِجُ الزَّكاة مِنْ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ غَيْرِهِ.

692 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ دَيِّن، وَعِنْدَهُ مِنَ الْعُرُوضِ مَا فِيهِ وَفَاءٌ، لِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَيِّن، وَيَكُونُ عِنْدَهُ مِنَ النَّاضِّ سِوَى ذَلِكَ، مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكاة، فَإِنَّهُ يُزَكِّي مَا بِيَدِهِ مِنْ نَاضٍّ تَجِبُ فِيهِ الزَّكاة، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعُرُوضِ وَالنَّقْدِ إِلاَّ وَفَاءُ دَيِّنهِ، فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ، حَتَّى يَكُونَ عِنْدَهُ مِنَ النَّاضِّ فَضْلٌ عَنْ دَيِّنهِ، مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكاة، فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمدُ للهِ مُكِرمنا بشريعتهِ العظيمة العّلياء، وبأحكامِ دينه التي يَصلُح بها شأن المعاشِ والمعادِ والمحيا، وصلَّى الله وسلمَ وباركَ وكرَّم على عبدهِ المُجْتبى خاتم الأنبياءِ وسيدِ الأصفياء، سيدنا مُحمّدْ وعلى آلهِ الأطهار وأصحابهِ الأتقياء، وعلى مَنْ تبِعهم بإحسانٍ إلى يومِ وقوف الخلائقِ بين يديَّ الرَّحمن، وعلى آبائهِ وإخوانهِ مِنْ الأنبياءِ والمُرسلين مَنْ أعلَى اللهُ لهم القدرَ والمنزلة والشأن، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقربين، وعلى جميع عبادِ اللهِ الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين. 

ويواصل سيدنا الإمامْ مَالِكْ -رضي الله عنه- في موطئه ذكرَ الأحاديثُ المُتعلِقةِ بالزَّكاةِ، ويذكرُ "زَّكَاةِ الدَيِّن" في هذا البابِ الذي روى فيه: "أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ -رضي الله تعالى عنهُ- كَانَ يَقُولُ: هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ.." وأيُّ الأشهر  أرادَ سيدنا عُثمان عليه الرضوان؟ ما سمّى أيُّ شهر هو؟

  •  ذكرَ بعضهم أنهُ شهر رجبْ، وأنهُ كانَ وقت الحَولِ بالنسبةِ لمَنْ يُخاطبهم، ولهذا قال "هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ"
  • وجاءَ أيضًا أنهُ شهرُ الله المُحرّم،  "هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ"، ورجبْ شهر مِنْ الأشهرِ الحُرم.
  • وجاء في كتاب (الآثار) عن أبي حَنيفَة بسندهِ عن عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أنهُ كانَ يقول إذا حضرَ شهرُ رمضان: أيُّها النَّاس إنَّ هذا شهرُ زكاتِكُم قدْ حضرَ، فمن كانَ عليهِ دَيِّن فليقضهِ، ثُمَّ ليُزكيّ ما بقي.
  •  وهكذا جاء عندَ السَّرخسي في كتابه (المبْسوط) أنَّ سيدنا عُثْمَانَ خطبَ لرمضان وقال: ألا إنَّ شهرَ زكاتِكُم قدْ حضر، فمن كانَ لهُ مالٌ وعليهِ دَيِّن، فليحتسبْ مالهُ بما عليهِ ثم ليُزكيّ بقية ماله.

 قالَ استحب بعضُ أهلِ الورع، أن يُقدِّم الزكاة في كل سنةٍ بشهر، لِئَلا يكون مؤخرًِا عن رأس الحَولْ، لإنه إذا أخرجْ في شهرٍ معلوم ثُمَّ أخذَ يُقابل في مثلهِ، فإنَّ ذلكَ الشهر الذي هو مثيلُ ماضيه، يكون ذلك الشهر الثالث عشر، وقد أثنا عشر كمّلتْ، وهذا تأخير، فإذا أخرجْ في رجبْ فليُخرج ما يقابله في جُمادى الآخرة، والذي بعده في جُمادى الأولى، وهكذا يمشي مع السَنة؛ ولكن هذا ذكره أبو طالب المكيّ في قوت القُلوب، وهو عمل أهل الورع؛ ولكن يدخل مع ما تقدم معنا من الزَّكاة المُعجلة، والأختلاف فيها.

"فَلْيُؤَدِّ دَيِّنهُ، حَتَّى تَحْصُلَ أَمْوَالُكُمْ، فَتُؤَدُّونَ مِنْهُ الزَّكَاةَ" فإذا كانَ على الإنسان دَيِّن، ومعهُ مال التِّجارة أو عينٌ مِنْ الذهب والفضة -وهي شيء مِنْ النقدْ- حال عليهِ الحَول، فهل يمنع دَيِّنه الزَّكاة؟ أما كانَ معه مِنْ مواشي تجبْ فيه الزَّكاة ونحوها:

  • فيجبْ عليه إخراج زكاة الماشية باتّفاق؛ ولا يمنعها أنهُ عليه دَيِّن.
  • أمَّا زكاةُ العين نفسها، وهو النّقود أو مال التِّجارة وعليه دَيِّن، قدْ يستغرقْ ماله؛
    • قال الشَّافعية: إنَّ الدَيِّن لا يمنع الزَّكاة مطلقًا، وأنهُ صارَ عليه دَيِّنان الآن، دَيِّن للخَلق، ودَيِّن للحقْ جلَّ جلالهُ، ودَيِّن اللهِ أحقُ بالقضاء، فيُخرجِ الزَّكاة ويُعطي للنَّاسِ ديُّونهم، وإن عجزَ فنَظِرةٌ إلى َميسرة. 

فأمّا زكاة الحبوب والمواشي ومثلها فلا تمتنع بوجود الدَيِّن عند الأئمة كلهم. وهكذا يقول الإمام مَالِكْ: مَنْ كانَ عليه دَيِّن يستغرقْ ماله مِنْ العينِ الذي عنده، فإن كانت لهُ عُروض يقضيّ مِنها الدَيِّن، وَجَبت عليهِ الزَّكاة ولمْ تمتنعْ، وإن لمْ يكنْ لهُ شيء آخر يقضيّ منهُ الدَيِّن سقطَ عنه الزَّكاة في هذا الحال.

وكذلك جاء مذهب الحَنفِية والحَنابِلة كذلك في أنه تجبْ على صاحبِ المال الذي عليه دَيِّن، الدَيِّن نفسهُ الذي هو في ذِمة الآخر، للمُديِّن الذي أعطاه الدَيِّن، تلزم فيه الزَّكاة. 

وإن كانَ الذي عليه الدَيِّن غنيٌّ مليء، يعني مرجو أداء دينه، وأيّ وقت يطلبهُ سَيُعطيهِ، وجبتْ عليهِ الزَّكاة، على رأس كل حَول؛ ولا يجوز لهُ تأخيرها، لأنه يمكنهُ طلبها منهُ في أيّ وقت. وإن كان مُعسِرًا أو كانَ مُماطلاً، أو كانَ جاحدًا للدَيِّن، فالزَّكاة أيضًا تجبْ، ولكن ما يلزمْ إخراجُها على الفور، ولكن إذا استلم، فإذا استلمَ الزَّكاة فيُعِدْ السّنين التي مضتْ ويُخرجْ زَكاتها، هكذا يقول الشَّافعية.

  •  وكذلك يقول الحَنفِية والحَنابِلة: الزَّكاة تَجبْ على صاحبهِ كلَ عام لأنه مال مملوك، وأنهُ لا يجبْ عليه إخراج الزَّكاة ما لمْ يقبضه.
  •  قال الشَّافعية: 
    • إذا كانَ مرجو أدائه وهو دَيِّنٌ على غنيّ ملئ وفيّ، سيُعطيه في أي وقت يطلبهُ، فيجبْ عليه يُبادِر بإخراج الزَّكاة.
    • وإن كان مُماطلاً، أو جاحدًا أو مُعسِرًا، فلا يَلزمه إخراج الزَّكاة حتى يستلمه فيحسبْ السّنين التي مضت ويخرج عنها الزَّكاة.
  • جاء عندَ المالكيِّة: لا زَكاةَ في مالٍ مدَيِّن إن كانَ المالُ عيَّنًا:
    • كانَ الدَيِّن عيَّنًا أو عرضًا
    • حالًّا أو مؤجلًا 
    • وليس عنده مِنْ العُروض ما يجعلهُ فيه.
    •  بخلاف إذا كان مالهُ حرثًا، أو ماشيةً، أو مَعدِنًا، فإن الزَّكاة في أعيانها فلا يُسقطِها الدَيِّن.

 وهكذا فهمنا مذهب الشَّافعية أنَّ المعتمد عندهم:

  • أنَّ الدَيِّن مطلقًا لا يُسقط الزَّكاة.
  • وهناكَ عندهم قول بإسقاط الزَّكاة بالدَيِّن.
  • وقولٌ أنه في النَّقدِ والعروض.

أمَّا ما أشرنا إليهِ مِنْ الماشية والحَرث والمعدِن وما إلى ذلك، فذلك بالاتفاق زكَّاته واجبة مهما كان عليه دَيِّن بالاتفاق.

وهكذا يقولون إنّ الدَّينَ مملوكٌ للدَّائنِ؛ لكنَّهُ ليسَ تحتَ يدهِ بل في ذمةِ صاحبهِ، وهكذا قالَ الأئمةُ الأربعة: أنه يتعلّقُ بِه زَكاة؛

  • فإنّ كان حالًا، وعلى غنيٍّ مليء وفيّ ويُؤدي الدَيِّنَ فيلزمُ فيهِ الزَّكاة مُباشرة عندَ حولِّ الحول.
  • وأمَّا بالنَّسبةِ للمُستدين فإنَّهُ يملِكُ ما قبضه إنْ مضى عليهِ حَول عليهِ زكاتهُ، وإن تَصرفَ فيه شيئًا أو باعه، فما عليهِ إلاَّ ما كانَ تحتَ يدهِ ممَّا اجتمعت فيهِ شروطُ الزَّكاةِ فليُزكهِ.

 ولكنَّ الدَّائن يملكُ مقدارَ الدَّين في ذمة هذا، غيرَ مُعَيّن، فإذًا يلزمُ المالكَ أيضًا الزَّكاةَ، وهو الدائن هل على الفورِ أو عندما يستلمُ؟ على التَّفصيلِ الذي ذكرناه. 

ثُّمَ أوردَ لنا حديثَ: "عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ فِي مَالٍ، قَبَضَهُ بَعْضُ الْوُلاَةِ ظُلْماً، يَأْمُرُ بِرَدِّهِ إِلَى أَهْلِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ زَكَاتُهُ لِمَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ، ثُمَّ عَقَّبَ بَعْدَ ذَلِكَ بِكِتَابٍ، أَنْ لاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ إِلاَّ زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهُ كَانَ ضِمَاراً."؛ معنى ضِمارًا: أي مال غير مَقدور على أخذهِ، ولا يُدرى أيتمكن منه أم لا، يعودُ إليهِ أم لا، فأوجبَ عليهِ زكاةُ سنةٍ واحدةٍ، وهذا مذهبٌ من المذاهبِ قالَ بهِ بعضُ الصَّحابةِ وبعضُ التّابعين؛ أنَّ عليهِ زكاةَ سنةٍ واحدة، فإنَّ مُلكه إياه كانَ فيهِ نقصٌ بسببِ جحودِ ذلكَ وإنكارهِ أو مماطلتهِ، فإذا استلمه فعليهِ زكاةُ سنةٍ واحدة مهما جاءَ بعدَ عددٍ من السِّنين.

"ثُمَّ عَقَّبَ بَعْدَ ذَلِكَ بِكِتَابٍ" آخر غيرَ الأول "أَنْ لاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ إِلاَّ زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ"؛ أي: زكاة سنةٍ واحدة، لِكونّهِ في مُلكِ الغيرِ، وأنَّهُ ليسَ تحتَ يدهِ؛ ولا يستطيع التَّصرفَ فيهِ، "إِلاَّ زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ" يعني: زكاةَ عامٍ واحدٍ، "فَإِنَّهُ كَانَ ضِمَاراً" غائب لا يقدر على أخذهِ، ولا يدري أيخرجْ أم لا.

وهكذا جاءَ في روايةِ ابِن أبي شيَّبة قالَ: أخذَ الوليد بِنْ عبد المَلِك مالَ رجلٍ من أهل الرَّقة -يُقالُ لهُ أبو عائشة- عشرينَ ألفًا، فألقاها في بيتِ المالِ، فلمَّا ولَّيَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ آتاهُ، جاءَ ولدْ الرَّجل من أهلِ الرَّقة، فرفعوا إليهِ أولاده المَظلمة، وكتبَ إلى ميمون: إدفع إليهم مالهم وخُذ زكاةَ عامهم هذا، فإنّهُ لولا أنّهُ كان مالاً ضِمارًا أخذنا منهُ زكاةَ ما مضى. فأمرَ أن يأخذْ منهُ زكاةَ عامٍ واحد.

  • وعليهِ يأتي مذهب الإمام مَالِكْ -عليه رضوان اللّٰه تباركَ وتعالى- عليهِ زكاةَ حول واحد، مثل قول عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
  • وما يرى الحَنَفِية وجوبَ الزَّكاة في هذا الضِمار الذي لا يُوثق؛ لأنّهُ ليسَ هناكَ مُلكٌ تام؛ ولكنّ إذا استردهُ يبدأُ الحَول؛ لأنّهُ كان لا يُعرف أيجيء أم لا يجيء.
  • وقالَ عمر بن عبدالعزيز كما قالَ الإمام مَالِكْ: تلزمُ زكاة عامٍ واحد.
  •  وعندَ الشَّافعية: إذا إستلمهُ عليهِ أن يُزكيَّ على الأعوامِ الماضية كُلّها على المعتمدِ، وقيلَ بقولِ مَالِكْ.

ثُم ذكرَ لنا: "سُؤال سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ،" سّئل "عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَالٌ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ، أَعَلَيْهِ زَكَاةٌ؟ فَقَالَ: لاَ."

  • وهذا خلافَ الأظهرعندَ الشَّافعِية: أنّ الزَّكاةَ لازمة.
  •  وإذا كانَ عليهِ دينٌ يستغرقُ العينَ التي معه، سقطتْ عنهُ الزَّكاةُ عندَ الحَنَفِية والمَالِكية والحَنَابِلة كذلكَ.

"قَالَ مَالِكٌ : الأَمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا"؛ أي: عندَ أهل المدينة، "أَنَّ صَاحِبَهُ لاَ يُزَكِّيهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ، وَإِنْ أَقَامَ عِنْدَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ سِنِينَ ذَوَاتِ عَدَدٍ، ثُمَّ قَبَضَهُ صَاحِبُهُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ إِلاَّ زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ قَبَضَ مِنْهُ شَيْئاً، لاَ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ سِوَى الَّذِي قُبِضَ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَإِنَّهُ يُزَكَّي مَعَ مَا قَبَضَ مِنْ دَيْنِهِ ذَلِكَ." قالَ أعطاهُ منهُ جزءٌ يسير دونَ العشرين مِثقال من الذَّهبِ، ودون المئتينِ درهم من الفِضةِ أعطاهُ إياهُ، يقولُ الإمامُ مَالِكْ: إن كانَ ما عندهُ أموالٌ أُخرى وعروض فما عليهِ زكاة فيهِ، وإن كان عندهُ أموالٌ أُخرى  يضُمُها فوقها ويُزكيّ على الكُل. 

"قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَاضٌّ" معنى ناضٌّ: يعني دراهم أو دنانير، يعني نقدْ خالصٌ، ناض، نضّةَ يعني تحولَ كُلهُ إلى ذهب أو وَرِق. "وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَاضٌّ غَيْرُ الَّذِي اقْتَضَى مِنْ دَيْنِهِ، وَكَانَ الَّذِي اقْتَضَى مِنْ دَيْنِهِ لاَ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَكِنْ لِيَحْفَظْ عَدَدَ مَا اقْتَضَى، فَإِنِ اقْتَضَى بَعْدَ ذَلِكَ مَا تَتِمُّ بِهِ الزَّكَاةُ، مَعَ مَا قَبَضَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ." فالذّي استلمه الآن ناقصَ؛ لكن قالَ يحفظُ كم استلمَ، فإذا استلم غيره يُضِيفه إليهِ، فإذا بلغَ النصابُ وجبتْ عليهِ فيهِ الزَّكاة يحسبُ الذي مضى. 

"قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَاضٌّ غَيْرُ الَّذِي اقْتَضَى مِنْ دَيْنِهِ" ما لهُ سِوى الذّي استوفى، "وَكَانَ الَّذِي اقْتَضَى مِنْ دَيْنِهِ لاَ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ" لأنه أقلَ من نصاب، "فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَكِنْ لِيَحْفَظْ عَدَدَ مَا اقْتَضَى"؛ يعني: الذَّي استوفاهُ وأخذهُ الآن كم، "فَإِنِ اقْتَضَى بَعْدَ ذَلِكَ" مقدارَ ما يتمُ بهِ الزّكاة مع ما قبضَ سابقًا، "فَعَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ" بمعنى أنّهُ يضمُ ما يُحصِّلهُ من الدَّين إلى ما حَصّلهُ سابقًا، فإذا فرَّقه عليهِ في خلال العامِ أعطاهُ كلَّ ساعةٍ جُزء ولكن مجموعه فيهِ الزّكاة، فعليهِ عندما يستلمُ أو يصِلُ ما استلمه إلى مقدارِ الزَّكاةٍ فعليهِ زَكاة.

"قَالَ فَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَهْلَكَ مَا اقْتَضَى أَوَّلاً، أَوْ لَمْ يَسْتَهْلِكْهُ، فَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ مَعَ مَا اقْتَضَى مِنْ دَيْنِهِ" ولو كان قد استهلكه فيُحسبُ مِنْ جُملة النِّصاب، فالزّكاة تجبُ عليهِ مع ما اقتضى من دَينهِ أولاً، "فَإِذَ بَلَغَ مَا اقْتَضَى عِشْرِينَ دِينَاراً عَيْنا، أَوْ مِئَتَىْ دِرْهَمٍ، فَعَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ، ثُمَّ مَا اقْتَضَى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِحَسَبِ ذَلِكَ"؛ لأنَّ النِّصاب قدْ تمَ، وأيُّ شيء يدخلُ بحسابهِ، يخرّج الزّكاةُ بحسابهِ وإن كان قليل. 

  • إذًا عندهُ الدَّين إذا استوفي متفرقًا لا تجبُ عليهِ الزّكاة حتى يتم النِّصاب.

 فإذا استوفى مثلاً في شهر محرم عشرَ دنانير، ثُم في رجب عشرة أُخرى، فلا تجبْ الزّكاة إلاَّ في رجب، ولو تلفت العشر التي استوفى في محرّم؟ نعم وإن تلفت، فكان استلم عشرة وهذه عشر صارت عشرين فعليه زكاة العشرين.

  • فإذا كان عند الاستيفاءِ الأول الذَّي في محرم، عندهُ من النِّصاب مقدارَ يجبُ فيهِ الزَّكاة.. تُضمُّ العشرة إلى ذلكَ النِّصاب ويُزكي معهُ، ثُمَّ إذا تمَّ النِّصاب في رجب كُلَّما استوفى بعدَ ذلكَ، من قليلٍ أو كثيرٍ تجبْ زكاته عندَ القبضِ، ما ينتظرُ النِّصاب، لأنَّ النِّصاب قدْ تمّ فيما ما مضى.

 وهكذا يذكرُ في مذهبِ الإمامِ أبيّ حَنيفَة أنواع الدُّيون: 

  1. ديَّن قوي، قال: قرض، وبدل مال تجارة، فكُلَّما قبضَ أربعينَ دِرهم يلزمه درهم.
  2.  ديَّن مُتوسط: وهو بدل مال لغيرِ التِّجارة، كالسَّائمة، فيجبْ عندَ قبض مئتين منه.
  3.  ديَّن ضعيف: وهو بدل غير مال، مِثل مَهر، مثل دية، مِثل بدل كِتابةَ، أو خُلُع، فلا تجبْ الزّكاة عندهم فيهِ إلاَّ عندَ القبضِ، عند قبضِ مئتين مع حَولانِ الحَول بعدَ القبض، فإذا بقيَّ المهر عند الزَّوج لم يُسلمهُ لزوجهِ ليسَ عليهِا شيء، هو دين عندهُ إلى أن تستلم، فبعدما تستلم إذا مرَّ عليهِ الحول والنِّصاب وجبتْ عليها الزّكاة، يسمونَّه دين ضعيف.

"قَالَ مَالِكٌ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أنَّ الدَّيْنِ يَغِيبُ أَعْوَاماً، ثُمَّ يُقْتَضَى فَلاَ يَكُونُ فِيهِ إِلاَّ زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ، أَنَّ الْعُرُوضَ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لِلتِّجَارَةِ أَعْوَاماً، ثُمَّ يَبِيعُهَا فَلَيْسَ، عَلَيْهِ فِي أَثْمَانِهَا إِلاَّ زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ" استدلّ بقياسِ الدَّين على العرضِ المُحتكر، يعني: عدم القُدرة على النّماء يجمعُ بينهما، "وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ أَوِ الْعُرُوضِ، أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ ذَلِكَ الدَّيْنِ أَوِ الْعُرُوضِ مِنْ مَالٍ سِوَاهُ، وَإِنَّمَا يُخْرِجُ زَكَاةَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْه، وَلاَ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ غَيْرِهِ."

وقال: وقدْ قيلَ لأحمد وأنا أسمعه، أعطي دراهم، يعني في صدقةِ الفطر، قالَ أخافُ ألاَّ أُجزِئه خلاف سُنة رسولِ اللّٰه ﷺ، قيلَ لهُ قومٌ يقولونَ عُمر بِنْ عبدِ العَزيز، كان يأخذُ بالقِيمة، قالَ يدعونَ قولَ رسول الله ﷺ ويقولونَ قالَ فُلان! قال: فرضَ ﷺ صدقةَ الفِطرِ صاعًا من بر وصاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من شعيرٍ، فعندهما يجوز فيهِ مُقابل ذلكَ بالقيمةِ، بخلافِ مذهبِ الحَنَفِية.

"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَعِنْدَهُ مِنَ الْعُرُوضِ مَا فِيهِ وَفَاءٌ، لِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَيَكُونُ عِنْدَهُ مِنَ النَّاضِّ سِوَى ذَلِكَ، مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَإِنَّهُ يُزَكِّي مَا بِيَدِهِ مِنْ نَاضٍّ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعُرُوضِ وَالنَّقْدِ إِلاَّ وَفَاءُ دَيْنِهِ، فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ، حَتَّى يَكُونَ عِنْدَهُ مِنَ النَّاضِّ فَضْلٌ عَنْ دَيْنِهِ، مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ."، إذًا:

  • فعندهُ الدَّينُ يمنعُ الزَّكاة
  • وإذا لم يفضل عنده عن مُقابلة الدَّين مقدار تجبْ فيهِ الزَّكاة، فلا زكاةَ عليهِ.
  • فإذا كانَ مِنْ العروض أو مِنْ الأعيانِ ما يفي بالدَّين الذَّي عليهِ وزيادة على مقدار الزَّكاة فعليهِ الزَّكاة.
  • وإن لمْ يكنْ عندهُ من العروضِ، ولا مِنْ العينِ ما يفيء بقضاءِ الدَّينِ ومقدار تجبْ فيهِ الزَّكاة، فلا زَكاة عليهِ.

 هذا مذهبْ الإمام مَالِك عليهِ رضوان اللّٰه تعالى.

وعلِمنا مذهبْ الشَّافعية أنَّهُ لا يمنعُ الديَّن الزَّكاة مطلقًا، فالدَيَّنُ للخلقِ وإذا وجبتْ الزَّكاة فهو دَيَّنٌ للخالق، فعليهِ أن يقضيَ هذا وأن يقضيَ هذا، وباللّٰهِ التوفيق.

 اللّٰه يقضي ديِّوننا، ويُصلحُ شؤوننا، ويرعانا بعينِ عنايتهِ حيثُما كُنا، وأينما كُنّا في الحسِ والمعنى، بسرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

16 جمادى الآخر 1442

تاريخ النشر الميلادي

29 يناير 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام