(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجنائز، باب ما جاءَ في دفن الميِّت.
فجر الثلاثاء 28 جمادى الأولى 1442هـ.
باب مَا جَاءَ فِي دَفْنِ الْمَيِّتِ
623- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَوَفَّى يَوْمَ الاِثْنَيْن، وَدُفِنَ يَوْمَ الثُّلاَثَاءِ، وَصَلَّى النَّاسُ عَلَيْهِ أَفْذَاذاً لاَ يَؤُمُّهُمْ أَحَدٌ، فَقَالَ نَاسٌ: يُدْفَنُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَقَالَ آخَرُونَ: يُدْفَنُ بِالْبَقِيعِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "مَا دُفِنَ نَبِيٌّ قَطُّ، إِلاَّ فِي مَكَانِهِ الَّذِي تَوَفَّى فِيهِ". فَحُفِرَ لَهُ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ غُسْلِهِ، أَرَادُوا نَزْعَ قَمِيصِهِ، فَسَمِعُوا صَوْتاً يَقُولُ: لاَ تَنْزِعُوا الْقَمِيصَ، فَلَمْ يُنْزَعِ الْقَمِيصُ، وَغُسِّلَ وَهُوَ عَلَيْهِ ﷺ.
624- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلاَنِ، أَحَدُهُمَا يَلْحَدُ، وَالآخَرُ لاَ يَلْحَدُ، فَقَالُوا: أَيُّهُمَا جَاءَ أَوَّلُ عَمِلَ عَمَلَهُ. فَجَاءَ الَّذِي يَلْحَد، فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
625- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ كَانَتْ تَقُولُ: مَا صَدَّقْتُ بِمَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ حَتَّى سَمِعْتُ وَقْعَ الْكَرَازِينِ.
626- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: رَأَيْتُ ثَلاَثَةَ أَقْمَارٍ سَقَطْنَ فِي حُجْرَتِي، فَقَصَصْتُ رُؤْيَايَ عَلَى أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قَالَتْ: فَلَمَّا تُوفِّي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَدُفِنَ فِي بَيْتِهَا، قَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: هَذَا أَحَدُ أَقْمَارِكِ، وَهُوَ خَيْرُهَا.
627- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ: أَنَّ سَعْدَ بْنَ أبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، تُوفِّيا بِالْعَقِيقِ، وَحُمِلاَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَدُفِنَا بِهَا.
628- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أُدْفَنَ بِالْبَقِيعِ، لأَنْ أُدْفَنَ بِغَيْرِهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُدْفَنَ بِهِ، إِنَّمَا هُوَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ، إِمَّا ظَالِمٌ فَلاَ أُحِبُّ أَنْ أُدْفَنَ مَعَهُ، وَإِمَّا صَالِحٌ فَلاَ أُحِبُّ أَنْ تُنْبَشَ لِي عِظَامُه.
الحمد لله مُكرِمِنا برسوله وبيانه، وبلاغه عن ربّه -سبحانه وتعالى- وإحسانه، وصلَّى الله وسلَّم وبارك وكرّم على ذلكم المجتبى المُختار، وعلى آله وأصحابه وأهل محبته من كُل من اقتدى به مخلصًا في سِره وإعلانه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين كانوا محل اصطفاء الحقّ -تبارك وتعالى- وائتمانه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
ويذكُر سيِّدنا الإمام مالك -عليه رضوان الله- في الموطأ بعض ما يتعلق بدفن المَيِّت، وأورد لنا حديث دَفْن نبيّنا ﷺ في المكان الذي توفي فيه من حُجرة عائشة -رضي الله تبارك وتعالى عنها-، ويقول: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَوَفَّى يَوْمَ الاِثْنَيْن"، وهذا محل إجماع بين عُلماء السّيرة والحديث والتاريخ أن وفاته كانت يوم الاثنين، وأنها كانت في شهر ربيع الأول، لكن هل الاثنين الأول أو الاثنين الثاني من شهر ربيع الأول؟ ولن يكون ذلك في اليوم الثاني عشر قطعًا؛ لأن حجّته ﷺ كانت يوم الجُمعة؛ فيكون اليوم التّاسع والعشرين من شهر ذي الحجة في العام الذي توفيَ فيه من عام حجة وداعه يوم الخميس، فمهما دخل شهر مُحرم بيوم الجُمعة أو يوم السبت، ومهما دخل شهر صفر بيوم السبت أو يوم الأحد أو يوم الاثنين، ومهما دخل شهر ربيع الأول بيوم الاثنين أو الثلاثاء أو الأربعاء؛ فلا يتأتى أن يكون الثاني عشر يوم الاثنين، سواءً قدّرنا الأشهر كُلّها ثلاثين أو كُلّها تسع وعشرين أو بعضها ثلاثين وبعضها تسع وعشرين؛ فلن يُصادف يوم الاثنين في ربيع الأول الثاني عشر أبدًا.
○ فتوفي ﷺ في الاثنين الأول أو الثاني من شهر ربيع الأول.
○ كما كانت ولادته يوم الاثنين.
○ ونزول الوحي عليه في ليلة الاثنين.
○ وليلة الإسراء والمعراج ليلة الاثنين.
○ وخروجه من مكة يوم الاثنين للهجرة.
○ ودخوله المدينة يوم الاثنين.
○ كذلك كان يوم لقائه ربّه يوم الاثنين.
وهكذا، على رواية أنه في الاثنين الأول من شهر ربيع الأول، جاءت رواية الليث بن سعد، وقال سُليمان التّيمي: لليلتين خلتا منه. وجاء أيضًا في كتاب (دلائل النُّبوة) للإمام البيهقي إلى سُليمان التّيمي: أن رسول الله ﷺ مرض لاثنتين وعشرين ليلة من صفر؛ كان أول يوم مرض فيه يوم السبت، وكانت وفاته يوم العاشر -يوم الاثنين-، لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول.
وهذا الذي اختاره الحافظ ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري): ما بين الثاني أو اليوم العاشر من شهر ربيع الأول، وإذا جاء اليوم الثاني يوم الاثنين؛ فالاثنين الذي بعده سيكون اليوم العاشر؛ فيكون دخول شهر ربيع الأول من ذلك العام بيوم السبت، فيكون السبت أوّل يوم من شهر ربيع الأول، بل يوم الأحد أول يوم، واليوم الثاني يوم الإثنين، فيكون يوم الأحد اليوم الثامن، ويوم الاثنين اليوم التاسع، على ما جاءت من الرِّوايات كُلها لا تتوافق مع ما جَزَم به كثير من أهل السّيرة أنه اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول.
ويقول: أخرج التِّرمذي في (الشّمائل) حديث أبي سَلَمَة بن عبد الرحمن بن عوف، قال: توفي رسول الله ﷺ يوم الاثنين، ودُفن يوم الثلاثاء؛ يعني: ابتداء التجهيز كان يوم الثلاثاء، ولكن ما كان دفنه إلا من آخر اللَّيل في ليلة الأربعاء؛ مساء الثلاثاء ليلة الأربعاء.
وبهذا قال بعضهم: أنه دُفِن يوم الأربعاء، وأكثر الرّوايات أنه يوم الثلاثاء. لمَّا كان يوم الثلاثاء في ليلة الأربعاء في آخر اللّيل من ليلة الأربعاء سمّاه بعضهم الأربعاء وسمّاه بعضهم الثلاثاء.
قالوا: عند بلوغ خبره عليه الصَّلاة والسَّلام، وذَكر هنا أن ذي الحجة كان أوله يوم الخميس باتفاق؛ لأن حجته وقعت يوم الجُمعة، بالاتفاق، قال: فمهما فُرِضت الشُّهور الثلاثة توام أو نواقص أو بعضها؛ لم يصحّ الثاني عشر وهو ظاهر لمن تأمّله. وفي صحيح البُخاري بوّب باب: (موت يوم الاثنين)؛ لا خلاف في موته ﷺ في يوم الاثنين.
وهكذا جاء في تاريخ الخميس، وليلة الأربعاء عليه الأكثر، ووراءه أقوال، فالقول الراجح: أن دفنه كان مساء يوم الثلاثاء، فهو المشهور عند جُمهور أهل السّيرة صلّى الله على سيّدنا مُحمَّد وعلى آله.
قال: فمنهم مَن صار عاجزًا عن النُّطق، عند بلوغه خبر الوفاة، ومنهم من صار ضعيفًا نحيفًا، وصار بعضهم مدهوشًا، وشكّ بعضهم في موته، فكانت بيعة سيِّدنا أبي بكر الصِّديق -رضي الله تعالى عنه- وسط هذه الدّهشات والاشتداد الذي حصل، ويُخافُ من هجوم الكُفّار وما إلى ذلك، فأقاموا الأمر بإقامة الخِلافة ورجعوا إلى النَّبي ﷺ وتجهيزه، وكان سيِّدنا عُمَر يُنادي: دعوا الجنازة لأهلها؛ أيّ دعوا آل بيته ﷺ يتولّون الأمر ويُرتّبون شأنه، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله.
فمجال اختلافهم في موته، وخوفهم من الوضع أن يضطرب وأن يُداهمهم جيشٌ من العدو؛ اشتغلوا بإقامة الخلافة وإقامة الإمارة بعده ﷺ؛ ليستقرّ أمر المُسلمين ثُم تم بعد ذلك تجهيزه ﷺ.
فمات يوم الاثنين، ودُفِن في جوف ليلة الأربعاء. "وَصَلَّى النَّاسُ عَلَيْهِ أَفْذَاذاً"؛ جمع فذّ، "لاَ يَؤُمُّهُمْ أَحَدٌ". جاء في رواية البيهقي: عن ابن عباس وابن سعد عن سهل بن سعد عن ابن المُسيِّب وغيره، أن النَّاس قالوا لأبي بكر: أنُصلي على رسول الله؟ قال: نعم. قالوا: كيف نُصلي؟ قال: يدخل قومٌ ويُكبرون ويُصلون ويدعون، ثم يدخل قومٌ فيُصلون ويُكبرون ويدعون فُرَادى.
وجاء أن النَّاس تدخل رِسْلًا فَرِسْلًا، يُصلون صفًا صفًا، ليس لهم إمام يُكبّرون، وعليّ -رضي الله عنه- قائم بحياله ﷺ يقول: السَّلام عليك أيُّها النَّبي ورحمة الله وبركاته، اللَّهم إنا نشهد أن قد بلَّغ ما أنزل الله، ونصح لأُمّته، وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمت كلمته، اللَّهم فاجعلنا ممَن يتبع ما أُنزل إليه، وثبّتنا بعده واجمع بيننا وبينه، فيقول النَّاس: آمين، ويدخل آخرون فيَصّطفون ويدعون، ويدعو لهم سيِّدنا عليّ مثل الدُّعاء ويخرجون، وهكذا لم يزالوا طيلة اليوم وعامّة اللّيلة حتى انتهوا من الصَّلاة عليه، الرِّجال ثُم الصِّبيان ثُم النِّساء جئن في اللّيل يُصلين عليه، دُفَع دُفَع، حتى كانوا انتهوا في جوف اللّيل، فخرجوا إلى دفنه صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم.
وتقول سيِّدتنا أُمَّ سَلَمَةَ وبعض أمهات المُسلمين: مَا صَدَّقْتُ أن رسول الله ﷺ توفي حتى سمعت المساحي من السّحر؛ آخر اللّيل، لما يرتّبوا قبره الشَّريف ﷺ.
فعلى كل حال، كما قال القاضي عياض: الصحيح الذي عليه الجُمهور: أنّ الصَّلاة عليه كانت صلاة حقيقية لا مُجرد الدُّعاء وإنما كانت فُرادى ليُباشر كُل واحد الصَّلاة عليه منه إليه.
إذا ورد فيه أمر، فيرتفع فيه الإشكال والتعليل: لمَ صلَّى عليه أصحابه ارسالًا أرسالًا ولم يُصلوا عليه جماعة واحدة.
ففرغوا من الصَّلاة عليه وأرادوا دفنه ﷺ، تكلموا في موضع قبره واختلفوا أين يُدفن؟ قال بعض الصَّحابة: "يُدْفَنُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ"؛ لأنه عنده روضة من رياض الجنَّة؛ فناسب دفنه عنده. وجاء في السيرة اختلافهم في دفنه ﷺ بين مكة أو المدينة أو القُدس أين ندفُنُه؟ "قَالَ آخَرُونَ: يُدْفَنُ بِالْبَقِيعِ"؛ المدفَن المعروف لأهل المدينة والذي كان يزورهم كُلَّ ليلة ﷺ. "فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: مَا دُفِنَ نَبِيٌّ قَطُّ، إِلاَّ فِي مَكَانِهِ الَّذِي تَوَفَّى فِيهِ"؛ المحل الذي توفي فيه.
ولهذا سأل سيِّدنا موسى ربَّه عند موته أن يُدنيه من الأرض المُقدسة؛ لأنه بعد موته ما يُنقل.. يُدفن في المحل الذي يموت فيه، وهذا من خصوصيات الأنبياء. أما غيرهم فلا يُدفن في المحل الذي مات فيه، وعامة النَّاس يموتون في بيوتهم، ما يُدفنون في بيوتهم؛ يخرجون بهم إلى المقابر وقد ينقلونهم من مكان. وسيِّدنا سَعْدَ بْنَ أبِي وَقَّاصٍ وسيِّدنا سَعِيدَ توفيا في العقيق ونُقِلَا إلى المدينة المنورة إلى بقيع الغرقد. وإنّما الأنبياء، المحل الذي يُحب الله أن يُدفن فيه، يقبض روحه فيه؛ ويُدفن في المكان الذي قَبَض روحه فيه، صلَّوات الله وسلامه عليهم. وكذلك كان قبر سيِّدنا يوسف؛ في المحل الذي قُبِضَ فيه، يُقال أنه في الفيوم من مصر.
ويُقال: أنّ سيِّدنا موسى بعد ذلك نقله إلى بيت المقدس، إلى فلسطين عند أبيه يعقوب. وجاء أيضًا: أن سيِّدنا عيسى -عليه السَّلام- يُدفَن في حُجرته ﷺ، فيوشك أن تقبض روحه هناك؛ والمعنى: أنه يكون في زيارته للنَّبي ﷺ زائرًا فتُقبض روحه عند القبر الشَّريف؛ عند رجليه ﷺ -جهة رجليه- فيُدفن هناك. لأنه لمَّا دفنوه ﷺ؛ يعني إلى جهة القبلة وخلفه سيّدنا أبو بكر الصِّديق وكان رأسه قريب من ظهره ﷺ في وسطه من خلفه، وقبروا سيِّدنا عُمَر فجعلوا رأسه عند منكبي أبي بكر الصِّديق؛ فصارت القبور هكذا، فبقي هذا محل يسع القبر عند رجليه ﷺ. فهذا الذي يُقبَر فيه سيِّدنا عيسى بن مريم - عليه السَّلام- على ما قال. لكن إذا عَلِمنا أن الأنبياء لا يُقبرون إلا حيث قُبِضوا؛ معناه: أنه يكون هناك في الزيارة من جهة رجلي الحبيب ﷺ وأن هناك تُقبَض روحه، فيُدفن في ذلك المكان. صلوات الله على سيِّدنا مُحمَّد وسيِّدنا عيسى والأنبياء والمُرسلين والملائكة المُقربين وجميع عباد الله الصَّالحين.
لمَّا دُفِن سيِّدنا أبو بكر كان يُظَن أن الحُجرة لن تتسع بعد ذلك إلا لقبرٍ واحد، وطلبه سيِّدنا عُمَر فأذِنَت السيِّدة عائشة وقالت: كنت أُعِدُّ المكان لنفسي، ولكن طيّبته لأمير المؤمنين، فلما قُبِر بدا مكان يسع قبر رابع، وعَدلَت السيِّدة عائشة عن أن تُقبر هناك، وقالت: لا أُزَكَّى دون أزواجه، فادفنوني مع أزواجه في بقيع الغرقد، فدفنوها مع أزواجه فَكُنَّ هناك تسع من أزواجه:
○ واحدة منهن ماتت في حياته فقبرها وهي سيِّدتنا زينب بنت خُزيمة.
○ والثمان بعد وفاته.
○ أما التاسعة التي بقيت بعد وفاته، فَقُبِرَت بجانب مكة المُكرمة وهي سيِّدتنا ميمونة.
○ والأولى أعظمهن وأكرمهن منزلة لديه سيِّدتنا خديجة ماتت قبل ذلك بمكة المُكرمة.
ففي الحَجون السيِّدة خديجة، وبجانب مكة قُبرت السيِّدة ميمونة، فبقية الإحدى عشر؛ تسع مقبورات في بقيع الغرقد في مكان واحد، وواحدة منهن ماتت في حياته وهي زينب بنت خُزيمة، وبقيتُهن بعد وفاته -بقية الثمان- فقُبِرن في نفس المكان في مكان واحد، تُقبَر واحدة إلى الثانية، أُمهات المؤمنين عليهن رضوان الله تبارك وتعالى.
قال: "فَحُفِرَ لَهُ فِيهِ"؛ في موضع الوفاة الشَّريفة في الحُجرة الشَّريفة. "فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ غُسْلِهِ" ﷺ؛ أرادوا تغسيله، "أَرَادُوا نَزْعَ قَمِيصِهِ" كدأبهم مع الأموات، فكان عادتهم في الغُسل يُنزع القميص عن الميت فلما "أَرَادُوا نَزْعَ قَمِيصِهِ فَسَمِعُوا صَوْتاً"؛ يسمعون صوت ما يرون شخص يقول: "لاَ تَنْزِعُوا الْقَمِيصَ" عن رسول الله ﷺ؛ "فَلَمْ يُنْزَعِ". وهكذا قالت السيِّدة عائشة: لمّا أرادوا غُسل ﷺ اختلفوا فيه، قالوا: ما ندري أنُجرّد رسول الله ﷺ من ثيابه كما نُجرّد موتانا؟ أم نُغسِّله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا؛ ألقى الله عليهم النّوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره، وكلّمهم مُكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن اغسلوا النبي ﷺ وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله ﷺ فغسَّلوه وعليه قميصُه؛ يصبّون الماء فوق القميص ويُدلكونه بالقميص؛ فغُسِّل ﷺ والقميص عليه. اللَّهم صلِّي على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه.
والذين تولوا غُسله:
وكان الذي يناوله الماء ويصب الماء:
وكان هؤلاء الذين حضروا غسله -عليه الصَّلاة والسَّلام-: عمُه العباس قائمٌ في ناحية، وسيِّدنا عليّ يتولّى الغُسل بنفسه، ويُساعده سيِّدنا الفضل بن العباس وقُثَم بن العباس. والقُثَم هذا هو المقبور في سمرقند من أرض روسيا في خُراسان، أين سمرقند من المدينة؟! والنَّبي توفي وهو لا زال في المدينة، إيش الذي أوصله إلى هناك! لولا همة الدّعوة، وأمانة التبليغ، ونشر الدّين؟ إيش يوصّل قُثم من المدينة إلى قبر في سمرقند، رضي الله تعالى عنه.
يقول: لمّا اجتمع القوم لغسل رسول الله ﷺ، نادى من وراء الباب أوس بن خولي الأنصاري -أحد بني عوف من الخزرج من أهل بدر- لعليّ بن أبي طالب: يا عليّ، ناشدتك بالله، حظّنا من رسول الله ﷺ، قال له علي: أدخل؛ فدخل فحضر ولم يلي من غُسله شيئًا، بل كان يحمل الماء. فأسنده على صدره وعليه قميصه، وكان العباس والفضل وقُثم يُقلبونه مع عليّ، وكان أُسامة وشُكران يصُبّان عليه الماء وأعيونهم معصوبة من وراء السَّتر، ثم لمّا كمُل غُسله وحفروا له القبر الشَّريف حيث قُبضت روحه الكريمة.
وكان في المدينة مشهورين في حفر القبور اثنان:
○ أحدهما يشق القبر؛ يعني ويضع اللَبِن من جوانب الميت ويُغطيه باللبِن.
○ والثاني يلحد؛ يبحث إلى جهة القِبلة من أسفل القبر من أرضية القبر، يضع الميت فيها ثم يسدُّ الفجوة.
فقالوا: أرسلوا إلى هذا وإلى هذا ويختار الله لرسوله ما شاء، "اللهمّ خر لرسولك"، وأرسلوا إليه فجاء الذي يُلحِد؛ فتولّى لحده ﷺ. ويُروى عنه أنه قال: "اللحدُ لنا والشَّقُ لغيرِنا"؛ يعني:
○ الأرض الصَّلبة كأرض المدينة يكون فيها اللحد.
○ والأرض الرخوة التي لا لحد فيها، وينهال التُّراب على الميت، يشقون؛ يجعلونه في أرضية القبر ويبنون عليه ويغطونه بعد ذلك، فإذا سقفوا عليه باللبن، أهالوا عليه التُّراب.
○ وطريقة اللحد في الأراضي الصلبة تُحفر في أسفل القبر، في أرضية القبر حُفرة إلى جهة القِبلَة يوضع الميت فيها، ثم تُسد باللبن، ويكون التُّراب في الأرضية التي ما فيها الجسد.
"اللحدُ لنا والشَّقُ لغيرِنا"؛ يعني الأراضي التي فيها ليونة في تربّتها فيشقّون، والأراضي الصّلبة القوية يَلحَدون. يقول سيِّدنا عُروة: كان بالمدينة رجُلان؛ يعني: حفّاران للقبور:
1- أحدهما: أبو طلحة؛ يُلحِد أو يَلحَد؛ منع يمنَعُ؛يلحَدُ؛ يعني: يحفُر بجانب القبر.
2- والآخر سيِّدنا أبو عُبيدة بن الجراح لا يَلحَد بل يشق؛ يحفر وسط القبر.
الأمران جائزان وما دام مشهوران في عهده ﷺ؛ يعني اطلع عليهما ولم يُنكر على أحد منهما. "فَقَالُوا: أَيُّهُمَا جَاءَ أَوَّلُ عَمِلَ عَمَلَهُ. فَجَاءَ الَّذِي يَلْحَد، فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ".
وجاء عند ابن سعد، اختلفوا في الشق واللحد، فقال المهاجرون: شُقوا كما يحفر أهل مكة، وقال الأنصار: الحِدوا كما يحفر بعضنا، ثم قالوا: "اللَّهم خِر لنبيك"، ابعثوا لأبي عُبيدة وأبي طلحة؛ أيُّهما جاء قبل الآخر فليعمل عمله، فجاء أبو طلحة الذي يَلحَد، وقال: والله إني لأرجو أن يكون قد خار لنبيه، أن كان يرى اللحد فيُعجبه. عن سعد بن أبي وقاص: "الحَدوا لي لَحْدًا وانصُبوا عليَّ اللَّبِنَ نَصبًا، كما فُعِل بِرسولِ اللَّهِ ﷺ"، كما رواه مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص: "الحَدوا لي لَحْدًا وانصُبوا عليَّ اللَّبِنَ نَصبًا، كما فُعِل بِرسولِ اللَّهِ ﷺ".
وهكذا يقول سيِّدنا النَّووي: أجمع العُلماء على أن اللحد والشّق جائزان، لكن إن كانت الأرض صَّلبة لا ينهار تُرابها فاللحد أفضل، وإن كانت رخوة ينهار فالشق أفضل. يكون قد عَلِم ﷺ حال الرَّجُلين في حياته ولم يُنكر على أحدٍ. وكما أن المعمول به في مكة هو الشّق، ولهذا قالوا الشّق، لذلك قال الأنصار: لا بل اللحد. لهذا فسّر بعضهم قوله: "الشق لغيرنا"؛ يعني: لغير أهل المدينة من الذين عندهم الأرض رِخوة.
ويقول: عن "أُمَّ سَلَمَةَ مَا صَدَّقْتُ بِمَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ حَتَّى سَمِعْتُ وَقْعَ الْكَرَازِينِ"؛ تعني: المساحي؛ أخذتها دهشة كما حصل بعُمَر. وقال سيِّدنا عُمَر: لم يمُت النَّبي! أي: كانت ما تُصَدِق ذلك؛ ما تميل إليه، وجماعة من الصَّحابة كانوا كذلك، وكان أشدُّهم سيِّدنا عُمَر كان يحمل السَّيف ويقول: مَنْ قال رسول الله مات؛ اضربُه بسيفي! حتى تلا عليهم أبو بكر الآيات، وتلوها من ورائه كأنما أُنزِلَت في ساعتها: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ…) [آل عمران:144]. (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) [الزمر:30]. وتقول السَّيِّدة عَائِشَةَ: ماعَلِمنا بدفن رسول الله ﷺ حتى سَمِعنا صوت المساحي ليلة الأربعاء في السَّحر. هذا أصح الأقوال.
وتقول السَّيِّدة عَائِشَةَ: أنها رَأَتْ "ثَلاَثَةَ أَقْمَارٍ" سَقَطْنَ فِي حِجْرَها، وقصَّت الرؤية على سيِّدنا أبي بكر فقال لها: إن صدقت رؤياك ليُدفننّ في حِجرَتك ثلاثة، ومرّت "فَلَمَّا تُوفِّي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَدُفِنَ فِي بَيْتِهَا، قَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ:" يا عائشة "هَذَا أَحَدُ أَقْمَارِكِ، وَهُوَ خَيْرُهَا"؛ أحسن واحد وأفضل واحد.. ففيه: أن تؤول الرُّؤية للقمر أو للشمس بعظيم القدر أو الإمام المُقدم، ثم توفي أبوها وقُبِر عندها، ثم توفي سيِّدنا عُمَر وقُبِر عندها؛ فكانت الأقمار الثلاثة. وهكذا كان سيِّدنا أبو بكر ممَن يُعبِّر الرُّؤيا، وكانوا يرَون لها منزلة، وهي جزءٌ من ست وأربعين جزء من النُّبوة كما أخبر ﷺ. "فَلَمَّا تُوفِّي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَدُفِنَ فِي بَيْتِهَا، قَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: هَذَا أَحَدُ أَقْمَارِكِ، وَهُوَ خَيْرُهَا" صلوات الله وسلامه عليه.
ثم ذكر وفاة سيِّدنا سَعْدَ بْنَ أبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدَ بْنَ زَيْدِ في العقيق وحملهما إلى المدينة،
فنُقِلا هؤلاء الاثنان لكثرة مَن في بقيع الغرقد من الصَّحابة قبلهم والمكان الذي كان يتعهّده ﷺ.
وأما قول "عُرْوَةَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أُدْفَنَ بِالْبَقِيعِ، لأَنْ أُدْفَنَ بِغَيْرِهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُدْفَنَ بِهِ"، لا لكراهة الدَّفن فيه -وهي البُقعة المُباركة- وقال: "إِنَّمَا هُوَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ" مدفون قبلي؛ لأنهم يستعملون النَّبش، "إِمَّا ظَالِمٌ فَلاَ أُحِبُّ أَنْ أُدْفَنَ مَعَهُ"، لعله يُعذَّب؛ فأتأذى، "وَإِمَّا صَالِحٌ فَلاَ أُحِبُّ أَنْ تُنْبَشَ لِي عِظَامُهُ." فكان يهاب أن يُقبر في البقيع من أجل ذلك، لا لكراهة البُقعة ولكن لأجل هذا المعنى الذي ذكره عليه الرِّضوان.
وأهل البقيع جيرانه عليه الصَّلاة والسَّلام، وهو القائل في حديثه الصَّحيح: مَنْ مات في أحد الحرمين كُنتُ له شفيعًا. فكيف بأهل جواره والذين كان يزور أوائلهم بحياته كُلَّ ليلة، صلوات ربّي وسلامه عليه.
حَشَرنا الله في زُمرته، وتوفّانا على مِلّته، وملأ قُلوبنا بمحبّته، وأكرمنا وأسعدنا وأتحفنا ومَنَّ علينا بمرافقته إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
30 جمادى الأول 1442