(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب القرآن، باب ما جاء في الدُّعاءِ.
فجر الأربعاء 8 جمادى الأولى 1442هـ.
باب مَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ
568 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا، فَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي، شَفَاعَةً لأُمَّتِي فِي الآخِرَةِ".
569 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَدْعُو فَيَقُول: "اللَّهُمَّ فَالِقَ الإِصْبَاحِ، وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَناً، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حُسْبَاناً، اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ، وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ، وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي، وَقُوَّتِي فِي سَبِيلِكَ".
570 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ إِذَا دَعَا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّهُ لاَ مُكْرِهَ لَهُ".
571 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، فَيَقُولُ : قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي".
الحمد لله مُكرمنا بالشريعة الغرّاء، وصلى الله وسلم وبارك على خير من إليه دعا، عبدك المصطفى سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه ومن لدعوته وعى، وعلى آله وإخوانه من الأنبياء والمرسلين من أعلى الله لهم الدرجات ورفع، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
يقول سيدنا الإمام مالك -عليه رضوان الله تعالى- في هذا الباب: "باب مَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ"؛ وهو الطلب والسؤال من العليّ الأعلى مِن قِبَل عباده الذين تعبّدهُم بدعائه، من أهل أرضه وسمائه، فشرَع لعباده أن يداوموا على دعائه اعتمادًا عليه واستنادًا إليه وثقةً به، ومعرفةً بأن الأمر له، ولا يكون إلا ما شاءه جلّ جلاله؛ ومن هنا كان الدعاء هو العبادة، وكان مخّ العبادة، وأمَرَ به في كتابه بقوله: (..ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60]، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ..)، وليكن الدعاء عدّة كل مؤمن في سائر أحواله وشؤونه، اعترافًا بالعجز والضعف، وإقرارًا بالألوهية والربوبية للحق جلّ جلاله، وأنه لا يضرّه إلا ما أمر به ودبّره وقدّره جلّ جلاله.
أورد لنا حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبيّ المصطفى محمّد ﷺ أخبرنا أن الله خصّ كل نبيٍّ من الأنبياء بعظيم استجابةٍ لأمنيةٍ يتمنّاها لأمّته ويدعو بها، مع أنّ دعاء المؤمنين كلّه مستجاب، ولكن هذه دعوةٌ كبرى عظيمة لكل نبيّ خاصّة، يخيّره الله بأن يختار مسألةً وحاجةً كبيرةً عظيمة يُعطيه إياها، قال: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا"، وفي روايةٍ أخرى للحديث: "وقد تعجّل كل نبيٍّ دعوته في الدنيا"، قال: "فَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي، شَفَاعَةً لأُمَّتِي فِي الآخِرَةِ"؛ حرصًا منه على هذه الأمّة ومصيرها وحالها في المحشر، وهو الأرحم بها من أنفسها ﷺ، فخبأ هذه الدعوة.
وجاء أنه غير الدعوة الكبرى التي خبأها، خبّأ دعواتٍ أخرى وُعد الإجابة فيها، منها ما قال: أتاني آتٍ من عند ربي وقال: إنّ ربّك يقول لك إن لك ثلاث دعوات كبيرات مستجاباتٍ فسل، قيل لي: فما الأولى؟ قلت: اللهمّ اغفر لأمتي، وقيل لي: فما الثانية؟ قلت: اللهم اغفر لأمتي، فقيل لي: ما الثالثة؟ قال: فاختبأتها شفاعةً لأمتي في يومٍ يلوذُ بي فيه الناس حتى إبراهيم وموسى، ﷺ.
في يوم كلٌّ بذكرك يا محمد يصيح
صلوات ربي وسلامه عليه. قال: "فَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي، شَفَاعَةً لأُمَّتِي فِي الآخِرَةِ"؛ في أهم أوقات حاجتهم، وأصعب الأحوال عليهم، ويكونوا أحوج ما يكونون إليها، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبيًّا عن أمته. فأورَد لنا عنه ﷺ دعاءً كان يدعو به، وهو هذا الحديث الأول، وقد جاء في الصحيحين وغيرهما.
وهذا الحديث الثاني يقول: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَدْعُو فَيَقُول: اللَّهُمَّ فَالِقَ الإِصْبَاحِ، وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَناً"، فَالِقَ الإِصْبَاحِ؛ أي: مُنشئه ومُظهره وبادئه وبارئه. "فَالِقَ الإِصْبَاحِ" خالقه ومنشئه ومبدئه يفلقه عن الليل كما تنفلق النواة عن الحبة. فَالِقَ الإِصْبَاحِ مُبدئه ومُنشئه وخالقه ومظهره؛ أي: الصبح بنوره، "وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَناً"؛ يسكن فيه الناس ويخلدون إلى راحة أبدانهم لتنشط. "وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَناً"، كما قال سبحانه وتعالى: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا..)؛ أي: محسوبةً حسبانًا في حركتها وطلوعها وغروبها وسيرها (..وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا..) [الأنعام:96].
"اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ" فاعتنى بقضاء الديون لمكانها ولخطر إهمالها وتركها، والخطر الأكبر لمن يُنازل قلبه عند الاستدانة أنه يعيب، وأنه لا يقضي، وأنه يتملّص من القضاء، فهذا أشدّ ما يكون عليه الجزاء والحساب يوم القيامة والمؤاخذة؛ لأنه كان ينوي أن لا يؤدي الدين وأن لا يفي به، بخلاف من كان صادق العزم أن يقضي الدين؛ فإنه يُكرَم في الدنيا بالمعونة على القضاء وفي الآخرة بشريف المسامحة.
وهكذا الاعتناء بقضاء الدين الذي على الإنسان خصوصًا في حقوق العباد مهمٌ له، وضروري لنجاته في الآخرة، "اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ" ومن هنا كانوا لا يحبون أن يستدِينوا إلا لأمرٍ مهم، من نفقةٍ واجبة، أو من مصلحةٍ عامّة للأمة، أما لشيء فيه مظهر أو مفاخر من ضيافاتٍ أو غيرها أو زخرف في البيت وغيره، فلا يستدينون لشيءٍ من ذلك أبدًا، ويحذرون الدين لأجل ذلك، فهو دينٌ في غير محله! وقد يصعب عليه قضاءه في الدنيا ويطول عليه حسابه في الآخرة.
"والدَّين شين الدِّين" العيب في الدِّين هو الدَّيْن؛ إلا من استدان لمصلحةٍ عامة أو لضرورة يضطر إليها، فإذا استدان على الله من أجل الله كان الحقّ كفيلًا أن يؤدي عنه وأن ييسر له القضاء.
"اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ، وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ"؛ وهو الخوف من الفقر وسوء الحاجة إلى الناس أو ما يترتب عليه من امتداد العين إلى ما في أيدي الناس، فهو أمرٌ محذور يقطع صاحبه عن المسلك المبرور، ويعلق قلبه بغير العزيز الغفور، وهو الذي عبّر عنه ﷺ في حديثه الآخر بأن الغنى ليس بكثرة العَرَض ولكن الغِنى غِنى النفس؛ ليس بكثرة المال ولكن الغنى غنى النفس؛ فكذلك الفقر؛ الفقر فقر النفس كما أن الغنى غنى النفس. وفي الأدعية المأثورة: "اللهمّ اغنني بالافتقار إليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك"، فإن الفقر الأكبر: أن يستغني الإنسان بعقله أو بعلمه أو بماله أو بوسيلته أو شيءٍ عنده، يتخيّل أنه استغنى، (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [العلق:6-7]، فيقع في الطغيان، وهذا الفقر الخبيث، وخوف الفقر بقِلة الثقة برزق الرزّاق مرضٌ من أمراض القلوب يحبّه إبليس ويبني عليه مبانٍ في أفكار الإنسان وفي تصوّراته؛ حتى يُعيّشه في قلق، ويبعده عن الحضور في الأعمال الصالحة كلها من أجل خوف الفقر؛ فهو مرض خبيث قلبي يستخدمه إبليس ليلعب به على المؤمنين، ويخرجهم عن دوائر الإيمان.
ولما تاب بعض الذي كان ينبش القبور لأجل سرقة الأكفان، فقال له الرجل الصالح -الذي تاب على يده-: كم نبشت من قبور؟ فذكر له عدد كبير.. قال: رأيتهم على القبلة أم حُوّلوا؟ قال: الأكثر رأيتهم حُوّلوا؛ صاروا مستدبرين للقبلة في قبورهم، قال: أتدري لمَ هذا التحويل؟ قال: لا، قال: لشكّهم في الرزق! كانوا يشكّون في الرزق من الرزّاق، فماتوا على الشكّ، فصُرفوا عن الملّة وحُوّلوا عن القبلة -والعياذ بالله تعالى- لم يصدقوا مولاهم في قوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا..) [هود:6] لم يصدقوا في قوله: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات:22-23]، وجند إبليس من الإنس يعملون كثيرًا على تقوية هذا المرض القلبي في الناس، ولا يزالون يخوفونهم بالفقر، كإبليس، (االشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) [البقرة:268]. وهم فيما يبثونه كذلك من أفكار يحثّون الشعوب والأمم على أن يشكّوا في الرزق، وأن لا يعتمدوا إلا على أسبابٍ حسيّة ماديةِ، وأن يخاف الفقر كل الخوف، أكثر من خوفهم من الله ومن الدار الآخرة والعياذ بالله! ويستجيب لهم كثير من المسلمين الغافلين الجاهلين الذين لم تتزكى نفوسهم، ولم تتطهّر قلوبهم ولم يثقوا بربهم جلّ جلاله وتعالى في علاه.
قال سيدنا الإمام الحداد: لو نادت السماء أن لا تمطر بقطرة، والأرض أن لا تنبت حبة، وجميع أهل تريم عيالٌ لي، لم أهتم بهم بعد قول ربي: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا..) وهكذا يفعل اليقين وطهارة القلب بأصحابه.
ويرون أن في الله عِوَض عن كل هالك. وشرف العباد كلهم، والمؤمن خاصة بصدق افتقاره إلى الله وفيه غناه، وأن يتيقن فقره إلى الرحمن في كل شأن، في حركته وسكونه، وعينه وحلقه وأنفه ولسانه ويده وعروقه محتاجٌ إلى الله، فقيرٌ إلى الله، وفي هواءه واستنشاقه فقيرٌ إلى الله، وفي نطقه ونطق لسانه فقيرٌ إلى الله؛ فهو في كل نظرٍ فقير إلى الله، وفي كل سمعٍ فقير إلى الله؛ فلو تحقّق فقره لانهالت عليه منوحات الحقّ جلّ جلاله الذي هو عند المنكسرة قلوبهم من أجله.
يقول: "وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ، وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي، وَقُوَّتِي فِي سَبِيلِكَ"؛ يعني: اجعلني منتفع ممتَّع بالسمع فلا تسلبه عني، ولا أستعمله في معصيتك، بل ممتَّعًا به؛ أسمع كلامك وخطابك والعلم والوعظ، وما يقرّبني إليك، "وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي" أسمع ذكرك وأسمع الدعوة إليك. "وَبَصَرِي" وأمتِعني به لأقرأ به كتابك، وأتأمل به آياتك في ملكوت السماوات والأرض، وأنظر به وجوه الصالحين، وأستعين به على المشي إلى المسجد وأماكن الخير، وعلى نفع أخواني وأهلي وأولادي وأصحابي… إلى غير ذلك من منافع البصر، طلب المتعة بالبصر، "وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي".
"وَقُوَّتِي فِي سَبِيلِكَ"؛ أي: قوة بدني، ما تعطيني من قوةٍ في فكر أو علم أو عقل أو جارحةٍ من الجوارح الظاهرة والباطنة، فأمتِعني بهذه القوة ولا تسلبها عنّي حتى أتمكن من حسن عبادتك، ومن الوفاء بعهدك، ومن نفع عبادك، "وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي، وَقُوَّتِي فِي سَبِيلِكَ".
وينبغي للمؤمن أن يعتني بالدعوات القرآنية ودعوات خير البرية ﷺ، ويكون له نصيب من الدعاء بها، فإنه الأعرف والأشرف والأعلم والأقوَم والأعظم، والغائِص على معاني ما يُطلب من الرب، وخير ما يطلبه العباد على لسان خير العباد، أكرم لسان طلبت من الرب وسألت، فينبغي أن نتشرف بحفظ أدعيةٍ من أدعيته فندعو الله بها، كما دعاه بها بلسانه العذب الطاهر الطيب ﷺ: اللهمّ فالق الإصباح، وجاعل الليل سكنًا، والشمس والقمر حسبانًا، اقضِ عنّا الدَّيْن، واغننا من الفقر، وأمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا في سبيلك؛ مستعملة في طاعتك، من جهاد وصلاة وقيام وصِلة رحم وقراءة قرآن، وخدمةِ للدين والمسلمين، "فِي سَبِيلِكَ" في سبيلك من جهادٍ، وأنواعٍ من البِر والصِلة والخدمة للدين والقيام في الليل، إلى غير ذلك مما هو في طاعة الله، "فِي سَبِيلِكَ"؛ قوّة مصروفة في سبيل الله فيما يرضي الحق جلّ جلاله.
وعلمنا أن نلحّ على الله، ونجزم المسألة، ولا نتردد، يقول ﷺ: "لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ إِذَا دَعَا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ" كيف إن شئت؟ "اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ"، يقول: اللهم اغفر لي وجُد عليّ، وارحمني وانظر إليّ، هكذا كما جاء الحديث في الصحيحين وغيرهما. وفي موطأ الإمام مالك: "لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ إِذَا دَعَا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ"؛ يعني: لا فائدة في هذا التعليق؛ لأنه أصلًا ما يكون إلا ما شاء، و"لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ" يجتهد ويلح؛ لأن الله يحب الملحّين في الدعاء، ويكون واثقًا بالإجابة، "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة" بلا تردد، و"لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ" بلا تردد "فَإِنَّهُ -تعالى- لاَ مُكْرِهَ لَهُ" أصلًا!
أصلًا ما يكون إلا ما شاء، وما أراد.. هل سيحصل شيء من دون ما يشاء؟ لا يقل إن شئت، وهذا فيما تطلبه منه،
لكن أنت إذا ذكرت عزمك على شيء قيّده بالمشيئة لأنك لا تقدر على شيء إلا به، وهو الذي يوفقك له أو يصرفك عنه جلّ جلاله، فتقول: إن شاء الله، وأما فيما تطلبه منه فهو صاحب المشيئة، ولا يكون إلا ما شاءه، وهو صاحب القدرة المطلقة، أعزم في المسألة بلا تردد.. وهكذا.
ومنه ما يُطلب من المغفرة للأموات، ما يقول اللهم اغفر له إن شئت! وجرى على ألسنتهم المرحوم أو المغفور له إن شاءالله!.. وهل تكون مغفرة من غير إن شاء الله ومن غير مشيئة الله؟ أو رحمة من غير مشيئة الله؟ المعنى: المغفور له؛ الذي نطلب له المغفرة من الله؛ هذا معناه؛ ليس خبر، هل أنت تخبرنا؟ إيش عرّفك بالغيب؟ أنت تطلب من الله أن يغفر له، تقول فلان المغفور له؛ يعني الذي نسأل الله أن يغفر له، "لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّهُ لاَ مُكْرِهَ لَهُ".
وإنّ لله حكمة في تعجيل الإجابة أو تأخيرها، أو في صرف بلاءٍ مقابلها أو في ادّخار ثوابٍ لها؛ فلهذا لا تعجل، ولا تستعجل بطبيعتك يا ابن آدم، فإن عجلتك واستشعارك أنّه لا يستجيب يقطع عنك الإمداد، ويقطع عنك الإفضال. قال: "يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ"، فلا يزال الله يستجيب دعاءه؛
فهو مستفيدٌ على كل حال، فإذا عجل وقال: "قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي" انقضى عنه مدد الله، فصار دعاءه ما يستجاب، وما يترتب عليه الخير لقِلة أدبه مع الله؛ لأنه يريد أن إرادة الربوية وحكمتها تمشي على عقله الصغير، ومداركه الحقيرة اليسيرة! هذه شؤون ألوهية وربوبية، يقدّم ويؤخر بحكمة عظمى، أعلم بمصالح عباده، أعلم بمصلحتك منك ومن الخلق كلهم، فلا تعجل، بل ألِحّ واستمر في الدعاء واطلب، وكرّر الدعاء في المسألة مئة مرة ومئتين وثلاثمئة… ولا تسأم، ولا تيأس، واعلم أنك في كل دعوة مستفيد ومنتفع.
فإذا أجاب الله دعوة إنسان في مسألةٍ وأعطاه المسألة وقد دعا بها عشر مرات فيكون الاستجابة نتيجة واحدة من العشر، وبقية التسع يخبئها له عنده، أو يدفع بها عنه بلاء، ففيه فوائد كبيرة، فالداعي المُلِح على الله، المفتقر، رابح بكل دعاء يدعو به. ولهذا يقول أهل الجنة إذا تلاقوا في الجنة: (..إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور:26-28] هذا من أعظم ما حازوا به الخير؛ دعاء الحق، (إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ).
يا بَرّ يا رحيم، منّ علينا وقِنا عذاب السموم، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
09 جمادى الأول 1442